الشعائر الدينية

الشعائر الدينية وانطباقها على المراسم الحسينية .. سماحة الشيخ محمد السند

الاجتهاد: من العناوين والموضوعات المهمة التي كثر الحديث والجدل حولها ـ وفي مناسبات كثيرة ومواطن عدّة ـ هو موضوع الشعائر والطقوس والمراسم الدينية، وتطبيقاتها المختلفة،

كمظاهر إحياء المواليد، ومراسم الاحتفالات والمناسبات الدينية العامّة، والاحتفاء بأيام الإسلام الخالدة، كذكرى المبعث النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، وذكرى يوم المباهلة، وواقعة الغدير، وإحياء المراسم الحسينية، والاهتمام بالأماكن الجغرافية والآثار المكانية الخالدة وعمارتها، والاختلاف إليها وزيارتها والتبرّك بها، سواء التي ضمت بين جنباتها الأجساد الطاهرة للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ، والأنبياء والأولياء والصالحين، أو التي شهدت مواقع ومناسبات إسلامية مشهورة، كموضع غزوة بدر، وموضع غدير خمّ، وغار حراء، والمساجد التي تشرفت بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته فيها، وما شابه ذلك.

لقد دخلت بعض مفردات هذه الشّعائر الدينية ـ أو جميعها ـ كأحد أبرز مواضع الخلاف المذهبي والطائفي، وكذلك أصبحت معياراً للدخول في الإسلام أو الخروج منه، واتُهمت على أساس الإيمان بها وممارستها طوائف عديدة بالشرك أو الكفر أو الزندقة، لاسيما شيعة أهل البيت عليهم السلام الذين تحملوا الكثير في سبيل إحياء شعائر أهل البيت عليهم السلام ، والتبرك بآثارهم وزيارتها وعمرانها.

فبحث الشعائر من الأبحاث المهمة والحساسة؛ لوقوعها في دائرة الجدل والأخذ والرد، وكثرة ما يثار حولها من إشكالات وتساؤلات، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى؛ فإن مسألة الشعائر الدينية لم تبحث بالتفصيل كقاعدة كلامية أو فقهية سوى ما يذكر هنا وهناك بشكل متناثر وفي أبواب فقهية متعددة؛ فلذا كان من الضروري تسليط الضوء على هذه القاعدة، وبيان حقيقتها وحكمها وحدود موضوعها، ومعرفة المجال الفقهي الذي تنتمي إليه، والتعرف على أدلتها الشرعية، ومن ثُمَّ تطبيقها على الشعائر والمراسم الحسينية التي تُعدّ الفرد الأبرز والأهم من بين أفراد وتطبيقات الشعائر الدينية.

حقيقة الشعائر الدينية

لقد تقرر في علم الفقه وأصوله أنّه لمعرفة حكم من الأحكام، لا بدـ أولاًـ من بيان موضوع ذلك الحكم ومتعلّقه، وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحكم وجوباً، أو الفعل اللازم تركه إذا كان حراماً، وبيان الموضوع يبدأ أولاً من بيان المعنى الموضوع له في اللغة، ومعرفة حدوده وقيوده، وهل أنّ الشارع تصرّف بهذا الموضوع، فنقله عن معناه اللغوي إلى معنى جديد ـ وهو ما يعبر عنه بالحقيقة الشرعية ـ أم أنّه أضاف له قيوداً جديدة، أم تركه على حاله؟

وهذا البحث يكتسب أهمية كبيرة في الأبحاث الفقهية؛ لأنه في أي مبحث فقهي ينبغي دراسة العناوين الواردة في ألسنة الأدلة لمعرفة الحال، وهل أنّها باقية على وضعها اللغوي، أو أنّ الشارع تصرّف فيها، وأصبحت لها حقيقة شرعية؟ وسبب أهمية البحث هو أنه: إذا كان العنوان باقياً على وضعه اللغوي؛ أمكن التمسّك بإطلاق معناه اللغوي، وأمّا إذا نُقل من قبل الشارع إلى معنى آخر، وحقيقة معيّنة جديدة، فيجب لمعرفة تلك الحقيقة الاعتماد على ألسنة الأدلة الشرعية، وليس لنا الرجوع إلى الوضع اللغويّ الأوّليّ.

وقد ذكر علماء الأصول أنّ العناوين التي ترد في الأدلة، ولم يدلّ دليل على كونها نُقلت إلى معنى آخر; فهي باقية على معناها اللغويّ.

وبما أن مفردة الشعائر واردة في لسان عدد من الأدلة الشرعية، كالآيات القرآنية وغيرها من الأدلة؛ فينبغي تقرير مفاد هذا الموضوع وحدوده وقيوده وما يشترك معه في الحقيقة، فنبدأ بدراسة الشعائر لغةً واصطلاحاً في المفهوم العرفي، وفي أقوال العلماء.

معنى الشعائر في اللغة

وردت لفظة: الشعيرة والشعار والشعائر في كتب اللغة؛ فقد قال الفراهيدي في العين: ((وتقول: أنت الشعار دون الدثار. تصفه بالقرب والمودّة، وأشعر فلان قلبي هماً، أي: ألبسه بالهم حتى جعله شعاراً للقلب.

وشعرت بكذا أشعر شعراً… ومنه: ليت شعري، أي: علمي، وما يشعرك، أي: ما يُدريك.

ومنهم مَن يقول: شعرته، أي: عقلته وفهمته…

والمشعر: موضع المنسك من مشاعر الحج… وكذلك الشعارة من شعائر الحج، وشعائر الله: مناسك الحج، أي: علاماته))[1].

فالشعائر عند الخليل مفردها شعارة وشعيرة، ثم يضيف: (والشعيرة أيضاً: البدنة التي تهدى إلى بيت الله، وجمعت على الشعائر، تقول: قد أشعرت هذه البدنة لله نسكاً. أي: جعلتها شعيرة تهدى، ويقال: إشعارها أن يجأ أصل سنامها بسكين، فيسيل الدم على جنبها، فيعرف أنها بدنة هدي)[2].

وقال ابن فارس: ((الشعار: الذي يتنادى به القوم في الحرب؛ ليعرف بعضهم بعضاً، والأصل قولهم: شعرت بالشيء إذا علمته وفطنت له، وليت شعري، أي: ليتني علمت… ومشاعر الحج مواضع المناسك، سميت بذلك؛ لأنها معالم الحج. والشعيرة واحدة الشعائر، وهي أعلام الحج وأعماله))[3].

وقال الجوهري: ((والشعائر: أعمال الحج، وكل ما جعل علماً لطاعة الله تعالى… والمشاعر: الحواس… وأشعرته فشعر، أي: أدريته فدرى))[4].

وقال الزجّاج في شعائر الله: ((يعني بها جميع مُتَعبّداتِ الله التي أَشْعرها الله، أَي: جعلها أَعلاماً لنا، وهي كل ما كان من موقف أَو مسعى أَو ذبح، وإِنما قيل: شعائر لكل علم مما تعبد به؛ لأَن قولهم: شَعَرْتُ به. علمته؛ فلهذا سُمّيت الأَعلام التي هي مُتَعبّداتِ الله تعالى شعائر))[5].

ومن خلال كلمات هؤلاء اللغويين، يمكننا الخروج بنتيجة مفادها: أنّ موارد استعمال مفردة الشعيرة والشعار هي موارد الإعلام الحسّي، والإفصاح بطريقة حسيّة شاخصة عن معنى أو حكم أو سلوك معيّن، وهو ما نسمّيه بالشعار أو الشعيرة، وإن جعلها بعض اللغويين مرتبطة بمناسك الحج خاصة.

وقد تُضافُ الشعائر إلى لفظ الجلالة الله، فنقول: ((شعائر الله))، كما في قوله تعالى: {ذلكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب}[6]، وقد تضاف إلى المذهب، فيقال: شعائر المذهب، وتضاف إلى الحسين عليه السلام ، فتسمّى بالشعائر الحسينيّة، وقد تضاف إلى الدين، فتُعرف باسم شعائر الدين، وشعائر الإسلام.

وهذه الإضافات ما هي إلاَّ تفريعات وتطبيقات لنفس القاعدة الواحدة.

موضوع الشعائر في أفق العرف

إنّ موضوع الحكم كما يبحث عنه في أفقه اللغوي؛ لبيان معناه الذي وضع له اللفظ، وموقف الشارع من هذا الوضع، كذلك هناك مرحلة يمرّ بها موضوع الحكم، وهي ما يعبّر عنه بالوجود الخارجي للموضوع في أفق العرف والعقلاء، وما يعتبرونه ويقننونه في هذا الصدد، والذي يعدّ هذا التقنين العرفي هو الموجد والمحقق للموضوع في الخارج، وهو بمثابة الوجود التكويني للموضوع في ذهن العرف.

لكن هذا التقنين والتطبيق العرفي للموضوع يمكن أن تطاله يد التشريع الإلهي بالتغيير أو التضييق أو التوسعة، كما حصل لبعض الموضوعات الشرعية، مثل موضوع الطلاق الذي لم يتدخل الشارع في حقيقته ومعناه اللغوي، وإنّما تصرّف في وجوده العرفي، فرفض بعض الصيغ المحققة له عند العرف، كقول الزوج: طلقت امرأتي، أو أطلّقك، وغيرها، وأقرّ ألفاظاً وصيغاً خاصة، مثل: أنت طالق، بصيغة اسم الفاعل.

وأمّا إذا لم يتصرف الشارع في موضوع الحكم في هذه المرحلة، فالقاعدة الأولية تقتضي أن يبقى على وجوده عند العرف والعقلاء، وهو بمثابة الرضا به الإمضاء له.

وفي محلّ البحث، فإنّ موضوع الشعائر الوارد في عموم بعض الأدلة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}[7]، وقوله عزوجل : {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[8]، وغيرها من الآيات، والتي يظهر منها أنّ الشارع لم يتصرف في مرحلة التطبيق الخارجي لموضوع الشعائر، فما يختاره عرف المتشرعة ويتسالمون عليه من سلوك ما، أو ممارسة فعلية، أو ما يحتفون به من مَعْلَمٍ جغرافي أو رمزي، فيتفشَّى وينتشر ويتمُّ تداوله واستعماله، ويُجعل تبياناً وعلامة وإعلاماً حسياً لمعنى من المعاني الدينية، يكون من مصاديق الشعائر وتتجسّد فيه ماهيتها، فالشعيرة والشعار علامة وضعية حسية، لها نوع من الاقتران والربط والعلقة الاعتبارية ـ عند العرف والعقلاء ـ بينها وبين معاني واعتبارات دينية خاصة؛ لغرض إبرازها والاحتفاء بها.

الشعائر وعلاقتها بمناسك الحج

إنّ مفردة الشعائر ـ كما هو واضح ـ قد وردت في آيات عديدة، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}[9]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلَائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}[10]،

وكان سياق الحديث في هذه الآيات عن مناسك الحج وأفعاله وما يرتبط به؛ مما جعل بعض العلماء من أهل السنة يذهب إلى أنّ الشعائر مختصة ببعض مناسك الحج أو جميعها، ولا تشمل هذه القاعدة بقية الأبواب الفقهية، بل ورد عن ابن عباس، أنّه قال: ((إنّ الشعائر مناسك الحج))[11]، وخصّها أبو عبيدة، والزجاج بالهدايا المشعرة لبيت الله الحرام[12]، فيما ذهب الماوردي والقاضي أبو يعلى إلى أنّ الشعائر هي أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة[13].

ولكن هذا الرأي لم يكن سديداً؛ لأن مجرد وجود قرينة السياق لا تصلح دليلاً فيما لو وجد ما يعارضها من أدلة واستظهارات؛ ولذلك ذهب بعض العلماء من أهل السنة إلى أن قاعدة الشعائر لها دائرة أوسع من مناسك الحج وما يرتبط به،

ففسّر عطاء شعائر الله بأنها جميع فرائضه، فقال ـ حين سئل عن قوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ} ـ: ((حرمات الله: اجتناب سخط الله، واتباع طاعته، فذلك شعائر الله))[14]، وارتضى ابن جرير الطبري ما ذهب إليه عطاء من توجيه وتفسير؛ لأن الشعائر حسب رأيه هي المعالم؛ فيكون معنى الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تستحلوا ـمعالم الله، فيدخل في ذلك مناسك الحج وغيرها من حدود الله وفرائضه، وحلاله وحرامه؛ لأن كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أمارات بين الحق والباطل، يعلم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه، ولا حجة لمَن يرى التخصيص[15].

وذهب إلى التعميم الحسن البصري، فعدّ الشعائر دين الله كله[16]، وقال القرطبي في معناها: ((وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أَشعر به وأُعِلمَ… فشعائر الله أعلام دينه))[17].

وأمّا علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، فلم يقيد القاعدة منهم سوى الشيخ النراقي قدس سره في عوائد الأيام[18]، فكل مَن تعرّض إلى الحديث عن القاعدة قال بعموميتها، كالشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس سره الذي ذهب إلى أنّ قبور الأئمة قد شعّرت، فهي من الشعائر، فتجري عليها أحكام المساجد[19]،

ومن الذين عمموا الشعائر الشيخ صاحب الجواهر قدس سره ؛ حيث ذهب إلى التعميم عند حديثه حول حرمة تنجيس الأضرحة المقدسة والمصحف ووجوب تطهيرهما، فقال: ((وهو جيد فيهما، وفي كل ما عُلم من الشريعة وجوب تعظيمه وحرمة إهانته وتحقيره))[20]، ويتبين كذلك تعميم الشعائر من فتوى الميرزا النائيني قدس سره في مسألة الشعائر الحسينية، والتي عبر عنها بأنها شعائر الله، واستدلّ لها بآية: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[21]،[22]،

ويظهر من السيد الحكيم قدس سره عدم تخصيصه الشعائر بباب معين؛ وذلك عند الحديث عن الشهادة الثالثة أشهد أنّ علياً وليّ الله في الأذان والإقامة؛ حيث مال إلى وجوبها، لا من باب أنها جزء من الأذان، بل من باب أنّها أصبحت شعاراً للمذهب ورمزاً له، قال: ((بل ذلك ـ في هذه الأعصارـ معدود من شعائر الإيمان ورمز التشيع؛ فيكون من هذه الجهة راجحاً شرعاً، بل قد يكون واجباً، لكن لا بعنوان الجزئية من الأذان))[23].

هذه باقة من أقوال العامة والخاصة، تثبت بأن الشعائر لا تختص بمناسك الحج أو العبادات، وإنما لها شمول لكلّ الأحكام والأمور الدينية، وما يمكن أن يقال في توجيه التعميم وتكييفه صناعياً: هو ما تقدّم من أنّ الشعيرة والشعار قاعدة تمثّل الجانب الإعلامي والإعلائي لفعل أو سلوك عبادي، فهي صفة عارضة طارئة على ذلك الفعل، لا أنها عينه، فهي مثل ما لو قلنا: الإنسان أبيض، والإنسان قائم. فالبياض والقيام ليست هي الماهية النوعية للإنسان، بل هي من عوارضه التي يمكن أن تزول عنه، فموضوع الشعائر أمر ثانوي آخر غير موضوع الفعل أو السلوك نفسه، فلا اتحاد بينهما من جهة الموضوع.

من هنا؛ لو أريد أن تكون الجنبة الإعلامية سمة بارزة لبعض مناسك الحج فلا يعني أنّ الشعائر هي الأفعال والمناسك نفسها، كما قد يفهم من قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[24]، بل هذه المناسك والأفعال من تطبيقات المعنى العام لموضوع شعائر الله، ومن الآية المتقدمة نفسها يمكننا فهم عدم انحصار الشعائر في مناسك الحج، بقرينة مِنْ التبعيضية الدالة على كون الشعائر أعم من أعمال الحج، كما توجد روايات تُبيِّن افتراق الشعيرة في البُدْن، عن وجوب أصل البدن أو غيرها من أنواع الهدي، منها: ما يدل على استحباب أن يكون الهدي أقرن سميناً، فعن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام أنه سُئل عن الأضحية، فقال: «أقرن، فحل، سمين، عظيم العين والأذن))[25]، وهو نوع من أنواع تعظيم شعائر الله، ومن الروايات ما دل على أن يكون الهدي مما حضر عرفة[26]، وفيه من الدلالة على التبليغ والدعاية والترويج لفريضة الحج ما لا يخفى.

فالشعيرة ـ من حيث الحقيقة والموضوع والمتعلّق ـ تختلف عن الأفعال الأصلية للعبادة كمناسك الحج مثلاً.

نعم، سمّيت مناسك الحج مشاعر دون غيرها من العبادات؛ من جهة أنّ الحج يمثّل مؤتمراً عالمياً ومكاناً واحداً يجتمع فيه المسلمون من كل لونٍ وعرقٍ ولغةٍ، فيصبح كلُّ ما يمارسونه من أعمال ـ بصفتها المجموعية ـ يحوي جانباً إعلامياً يُبيِّن عظمة هذا الدين، ويُظهر سمة المحبة والأُلفة بين أفراد الأمة الإسلامية.

خصائص وسمات الشعائر الدينية

من خلال ما تقدم من أبحاث، ظهرت بعض سمات وخصائص هذه الشعائر الدينية، مثل كونها تمثّل فقرة الإعلام في الفقه والدين الإسلامي، وكذلك ظهر أنّ معنى الشعائر ووجودها اتّخاذي واعتباري، أي: حسب اتّخاذ العرف واعتباره، فقبل أن يتواضع عليها العرف والمتشرعة ويتخذوها، لا تكون شعيرة ومشاعر، بل تتخذ شعيريّتها بعد أن تنتشر وتتفشَّى ويُتداول استعمالها، وتصبح بشكل رسمي شعيرةً وشعائر، ويشملها عموم الآيات المتقدمة: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}, و{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ}،

وقد بقيت عدة سمات وخصائص امتازت بها الشعائر الدينية، يمكن إجمالها في النقاط التالية:

أولاً: إنَّ الشعائر تتضمّن في متعلّقها سمة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين، وهي تختلف عن جهة الإعلام والنشر ـ وإن كانت هي إحدى نتائجه ـ وهذه السمة موجودة في لسان الأدلّة أيضاً، كقوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شعَائِرَ اللهِ}، فالتعظيم هو العلوّ والرفعة والسموّ، وكذا في{لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ}، أي: لا تبتذلوها، ولا تستهينوا بها.

ثانياً: إنّ مسألة إقامة الشعائر وتعاهدها والمداومة عليها وإحيائها، لا تخصّ القيادة الدينية والمرجعية وأجهزتها فحسب، وإنّما تضطلع بمهمة إقامتها جميع طبقات وشرائح المجتمع الإسلامي؛ فلذا ناسب إدراجها في باب الفقه الاجتماعي، من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تندرج تحت الفقه السياسي أو غيره من الأبواب.

ثالثاً: إنّ وجود الشعيرة متقوم بالوضع والاعتبار، فهي علامات موضوعة لمعانٍ معيّنة، وهذه العلاقة التي تنشأ بينها وبين ما وضعت له، بعضها يكون شديداً؛ بحيث تكون علاميّة هذه الشعيرة عليه واضحة لدى كل الأذهان، وبعضها تكون علاميّته معروفة في مكان معين وعند طائفة من الناس، أو شريحة من الشرائح، وهذه الخصيصة للشعائر الدينية مؤثرة في أحكامها من حيث التعظيم وعدم الاستهانة.

رابعاً: إنّ الشعائر الدينية بما أنها علامة على معان دينية سامية، وهذه المعاني يختلف بعضها عن البعض الآخر قدسيةً وتعظيماً؛ فتختلف الشعائر الدالة على هذه المعاني تبعاً لذلك، فمثلاً: الهاتِكُ لحرمة الكعبة يُحكَم عليه بالارتداد والقتل، بخلاف الهاتك لحرمة المسجد الحرام؛ فلا يحكم عليه بالكفر[27]، وهذا الاختلاف في الحكم بين الكعبة كشعار، وبين المسجد الحرام كذلك، من أوضح الأدلة على ما ذكر في المقام، فالشعائر تختلف في الأهمية والمنزلة بحسب المعنى الذي تدلّ عليه، وهذا بدوره يؤثر على تعظيم هذه الشعائر.

خامساً: مصداق عناوين الشعائر الدينية يجب أن يكون مصداقاً مُحلّلا في نفسه بالحلّية بالمعنى الأعمّ، الشاملة للمستحبّ والواجب والمكروه والإباحة الخاصّة، في مقابل خصوص الحرمة.

ويستدلّ العلماء على أنّ المصداق لا بدّ أن يكون مُحلّلا بالمعنى الأعمّ، من جهة أنّ الأمر الشرعيّ بطبيعة عامّة، كالصلاة، والزكاة، والاعتكاف، والشعائر، يُستفاد منه التخيير العقليّ أو الشرعيّ في تطبيق الطبيعة الكلّية على المصاديق، وهذا التجويز والتخيير من الشارع ـ في تطبيق هذا المعنى العامّ على المصاديق ـ يتناول حتّى المصاديق المكروهة، ولا مانع من ذلك، مثل: الصلاة في الحمّام، والصلاة في المقبرة، والصلاة في الأرض السبخة مثلاً، وهي وإن كانت مكروهة، إلاَّ أنّها صلاة سائغة ومشروعة[28].

نعم، لا ريب في أنّ هذا التطبيق لا يتناول الخصوصيّات المحرّمة؛ حفظاً ورعاية للتوفيق بين أغراض الأحكام الشرعيّة، فزيارة القبور في نفسها بما هي شعيرة من الشعائر ـ لو كان فيها ضرر يسير في نفسها ـ لو شك في أنه هل فيها عنوان مفسدة ذاتيّة أو لا؟ في حالة الشكّ وعدم وجود الدليل نُجري أصالة البراءة، ثمّ بعد ذلك نستدلّ بالعنوان الثانويّ، وهو إحياء الشعائر، فيحصل الجمع بين الجنبَتين، كما إذا أراد المكلّف أن يُصلّي الصلاة الواجبة التي لها حكم أوّليّ وشكّ في غصبيّة المكان، فيجري البراءة أوّلاً، ثمّ يقوم بأداء الصلاة؛ فيكون مصداقاً للواجب.

حكم الشعائر الدينية

يتكون الدليل الشرعي عادة ـ كما قُرِّر في علم الفقه وأصوله ـ من ثلاثة أركان:

الأول: الموضوع، وهو ما يمثل قيود الحكم.

الثاني: المحمول، وهو الحكم الشرعيّ، تكليفياً كان أم وضعياً، كالوجوب، أو الحرمة، أو الملكيّة، أو غير ذلك.

الثالث: متعلق الحكم، وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحكم وجوبياً، أو الفعل اللازم تركه إذا كان الحكم تحريمياً.

ويمكن توضيح ذلك بمثال: فلو جاء دليل مفاده: إذا زالت الشمس فصلِّ، نلاحظ وجود الأركان الثلاثة المشار إليها، وهي: الموضوع: وهو زوال الشمس الذي جُعِل قيداً للحكم. والمتعلّق: وهو صلاة الظهر نفسها. والمحمول، أي الحكم: وهو الوجوب في المثال.

وكذلك الأمر في مسألة الشعائر الدينية، فموضوع دليلها هو الشعائر بما لها من جنبة إعلامية حسية لمعنى من المعاني الدينية، أو فعل من الأفعال العبادية، وقد تقدم الحديث عنه. ومتعلّق دليلها هو التعظيم إن جُعِل الحكم هو الوجوب، أو التهاون إن جُعِل الحكم الحرمة.

وأما حكم الشعائر الدينية، فهو إمّا وجوب تعظيمها وإحيائها، أو حرمة تحليلها والاستهانة بها.

وهذا الحكم في قاعدة الشعائر ليس متحداً مع الأحكام الأولية للأفعال العبادية، التي يراد تشعيرها وإظهار الجنبة الإعلامية لها ـ كما يتخيل البعض ـ وإنما له ملاكه الخاص، فهو حكم أولي وليس ثانوياً.

نعم، يتصادق مع حكم آخر في وجوده الخارجي، كما في بعض مناسك الحج كالهَدي مثلاً، فهي من جهة من شعائر الله؛ فيجب تعظيمها، ومن جهة هي فعل عبادي، لها وجوبها الخاص الذي ينبع من ملاك ومصلحة خاصة.

ثم إنّ وجوب إقامة الشعائر وإحيائها وجوب كفائي متوجه إلى كافة أفراد المجتمع وطبقاته وفئاته، ويسقط عن الباقين إذا تكفّلت به مجموعة أو شريحة من الشرائح الاجتماعية، بما يحقق إقامة الشعيرة ـ وانتشارها ـ الأهداف المرجوة منها، من إعلاء شأن الدين وإعزازه، وترسيخ تعاليمه في نفوس المجتمع المسلم، وإظهاره بمظهر القوة والهيبة في نفوس أعدائه من الجاحدين والكافرين[29].

أدلة الشعائر الدينية

استُدِل للشعائر الدينية بعدة ألسنةٍ وطوائف من الأدلة، وهي:

الطائفة الأُولى: الأدلة المتضمنة للفظ الشعائر وما يرادفه

وهي الآيات التي ورد فيها عموم لفظ الشعائر أو ما يرادفه، وهي:

1ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ، وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ، وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}[30].

2ـ قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[31].

3ـ قوله عزّ وجل: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}[32].

وقد أدرَج كثير من العلماء قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ…} ضِمن آيات الشعائر أيضاً، مع أنّه لم يرد فيه لفظة الشعائر، والسبب هو: أن حرمات الله تعطي معنى شعائر الله[33]، ولا يعدّ ذلك قياساً.

وهذه الآيات الشريفة تدلّ على محبوبيّة ورجحان التعظيم لشعائر الله، وهي من أوضح الآيات على إثبات المطلوب.

وهناك آيات أخرى لها دلالة على تعظيم الشعائر، وعدم التهاون في إقامتها وتشييدها، مثل قوله عزوجل : {والبُدنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[34]، وهنا وردت مِنْ تبعيضيّة، فيكون المعنى: أنّ البُدن من مصاديق الشعائر، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَوَّفَ بِهِما}[35]، وغيرهما من الآيات.

الطائفة الثانية: الأدلة التي يستفاد منها الجانب الإعلامي وإعلاء الدين

وهي الأدلّة التي لم يرد فيها لفظ الشعائر، وإنما هي أدلّة عامّة ومطلقة، يظهر منها جانب الإعلام والإعلاء للدين؛ ما جعل بعض العلماء والمحقّقين يذهب إلى استفادة حكم الشعائر منها[36]، وهي:

1ـ قوله عزوجل : {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[37]، ومن سياق الآيات التي قبلها ـ كآية: {قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}، وآية: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُم وَرُهْبانَهُم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ}ـ يفهم أنّ الآيات بصدد بيان مسألة وجوب الجهاد، وضرورة المعرفة الحقّة والتوحيد ونشر الدين وتبليغه، ثمّ بعد ذلك تُبيّن الآية ذاتها أهميّةَ النور الإلهيّ، ومحاولات أعداء الدين إطفاء ذلك النور، ولكنّ الله سبحانه وتعالى كتب على نفسه إحباط تلك المحاولات الشيطانيّة، ويأبى سبحانه إلاَّ إتمام النور ونشر الصلاح والهدى، ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: هو نور الله سبحانه، وهو بدل لفظ الشعائر في آية {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ}، ونور الله سبحانه وتعالى عامّ يشمل جميع الأحكام..

والمتعلَّق: هو النشر والتبليغ والبيان؛ وهو بدل التعظيم في تلك الآية.

والحكم: هو وجوب النشر أو حرمة الإطفاء والكتمان.

فيكون هذا الدليل ـ كقضيّة شرعيّة ـ مرادفاً للآية الشريفة: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ…}.

2ـ قوله عزوجل : {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال}[38].

وبملاحظة الآيات السابقة لهذه الآية من سورة النور، وهي: {وَلَقَدَ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * اللهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأرْض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَة مُبَارَكَة زَيْتُونَة لاَّ شَرْقِيِّة وَلاَ غَرْبِيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُور يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ} يظهر من سياق هذه الآيات، أنّ المراد من لفظة فِي بُيُوت هي البيوت التي فيها نور الله، والمراكز التي تكون مصادر إشعاع للدين، ومحالّ نشر الهداية والحق، وبيان أحكام الدين الحنيف.

وهذه البيوت، شاء الله وأراد أن تُرفع وتُكرّم، وأن تُبجّل وتُحترم، وينبغي أن يستمر ويدوم فيها ذِكرُ الله وعبادته وطاعته.

فهذه الآية من سورة النور، مرادفة لآية تعظيم الشعائر، ولآية: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ}، فالآية الشريفة تدلّ على وجوب نشر ورفع كلّ موطن ومركز ومحلّ يتكفّل ببيان أحكام الله، وتعاليم رسالة السماء، المكنّى عنه في الآية الشريفة بنور الله.

ومن ذلك يظهر أنّ الشعائر لا تَختصّ بباب دون آخر، فهي لا تختصّ بمناسك الحجّ، ولا بالعبادات، وإنّما تشمل كلَّ ما فيه نشرٌ لأحكام الدين، وتعمّ جميع ما به بيان وتبليغ للمعارف الإسلاميّة المختلفة.

3ـ قوله تعالى: {إنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنّا لَهُ لَحَافِظُون}[39].

هذه الآية تدلّ على أنّ حفظ الدين وحفظ ذكر الله سبحانه، وكذلك حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله الذي هو قوام الدين، وحفظ ذِكر أهل البيت عليهم السلام الذين هم العِدل الآخر للقرآن، كلّ ذلك يُعتبر من الأغراض الشرعيّة العليا للحقِّ سبحانه وتعالى[40].

4ـ قوله تعالى: {وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفروا السُفلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[41].

وتقريب الاستدلال بهذه الآية: أنّ كلّ ما يؤول إلى إعلاء كلمة الله سبحانه، وإذلال وإزهاق كلمة الكافرين، فهو من الأغراض الشرعيّة والمقاصد الدينيّة[42].

5ـ قوله عزّ من قائل: {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِريِنَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[43].

إنّ لسان هذه الآية يوضّح بُعداً آخر في حقيقة الشعائر; فإنها تتضمّن في متعلّقها جنبة أخرى، ألا وهي جنبة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين، وهذه غير جهة الإعلام، وإن كانت هي إحدى نتائج الإعلام والنشر والإنذار.

وهناك آيات أخرى يمكن إدراجها في هذه الطائفة من الأدلة تركناها روماً للاختصار.

الطائفة الثالثة: الأدلة التي يستفاد منها مطلوبية البث والإعلان في أبواب خاصة

قد استُدلّ أيضاً على قاعدة الشعائر الدينية بما ورد في الأبواب الخاصّة من الأدلّة، مثل الأدلّة الخاصّة في مناسك الحجّ، أو الأدلّة الخاصّة في الشعائر الحسينيّة وغيرها، كقول النبيّ صلى الله عليه وآله: «يا عليّ، مَن عَمّر قبورَكم وتعاهَدها، فكأنّما أعانَ سليمان بن داود على بناء بيت المقدس»[44]، وقول الصادق عليه السلام : «رحِم الله عبداً أحيى أمرنا»[45].

وما ورد عن زينب عليها السلام ، عن أمّ أيمن، عن رسول الله صلى الله عليه وآله ـ في حديث طويل في المصائب التي تحل بأهل البيت عليهم السلام ، لا سيما في كربلاء ـ قال صلى الله عليه وآله في ذيل الحديث فيما يخص مَن يقيمون شعائر أهل البيت عليهم السلام من الشيعة: ((ثم يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء، يكون عَلَمَاً لأهل الحق، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتَحُفُّهُ ملائكة من كل سماء مائة ألف ملك في كل يوم وليلة، ويصلون عليه ويسبحون الله عنده، ويستغفرون الله لمَن زاره، ويكتبون أسماء مَن يأتيه زائراً من أمتك متقرباً إلى الله تعالى وإليك بذلك، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم…))[46].

وكذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما سألته فاطمة عليها السلام عمّن يقيم العزاء للإمام الحسين عليه السلام بعد أن أخبرها بقتله، فقال: ((يا فاطمة، إنّ نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة))[47].

وهذا اللسان الثالث من الأدلّة هو عبارة عن أحكام خاصّة في الموارد الأخرى، التي مفادها هو عين مفاد الشعائر، من لزوم البثّ والإعلان.

فبناء على ما تقدّم، من أنّ المتشرّعة إذا اتخذوا شيئاً ما شعيرةً وعلامةً على معنى ديني سامٍ أو حكم من الأحكام العالية، وأصبحت بالتبادل والاتفاق ـ شيئاً فشيئاً ـ شعيرةً وشعاراً على ذلك المعنى الديني؛ فتكون مصداقاً جديداً لموضوع شعائر الله ـ أو ما يؤدي معناها ـ الوارد في الأدلة؛ فيلزم تعظيمه وتعاهده وإحياؤه.

وقد يثار إشكال في وجه ما توصلنا إليه من نتيجةٍ، ويدّعى أنّ الشعائر الدينية أمور عبادية جَعْلُها بيد الشارع.

دعوى توقيفية الشعائر الدينية

قد يذهب البعض إلى أنّ الشعائر أوامر الله ونواهيه، بمعنى أنها أحكامه، فلا بدّ أن تكون بيده سبحانه وتعالى، فكيف يوكَّل تشريعها إلى غيره؟! {إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ للهِ}[48]، وكذلك يظهر من أدلة الشعائر أن جَعْلَها بيَدِ الله سبحانه، كقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[49].

ثم إنّ جعل الشعائر بيد العرف يؤدّي إلى اتّساعها وتراميها؛ ما يسمح للمتشرّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر حسب ما يرون، وهذا يستلزم تشريع دينٍ جديدٍ وفق ما تُمليه رغبات المتشرّعة وخلفيّاتهم الذهنية والاجتماعية!

الجواب

وللإجابة عن هذه الدعوى يمكننا بسط الكلام ضمن عدة مقدمات، يتضح الجواب من خلال استعراضها:

المقدمة الأولى: إن ألسنة الأدلة ـ كما مرّ معناـ مختلفة ومتنوعة، ولا ينحصر موضوعها في الشعائر الدينية التي قد يدّعى أنها حقيقة شرعية اخترعها الشارع، فهناك ألسنة أخرى أخذت فيها عناوين ذات حقيقة عرفية لغوية تكفي في إضفاء الشرعية عليها، كَلِسانِ بثّ نور الله وإعلاء كلمته، ولسان الدعوة لإحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ، ولسان أهمية تشييد قبور أهل البيت عليهم السلام ، وحكم العقل بلزوم تعظيم الشعائر المنسوبة لله عزوجل ؛ لأنه يصبّ في مجال تعظيم الله تعالى.

المقدمة الثانية: إنّ التخيير، تارة يكون شرعياً؛ وذلك في حال نصّ الشارع عليه، وأخرى يكون عقلياً؛ وذلك فيما لو أمر الشارع بطبيعة كلّية أو معنى عام، من دون أن يخصص امتثاله بزمان أو مكان أو ظروف معيّنة، فيدرك العقل أنّ الشارع قد خوّل المكلّف في تطبيق الطبيعة على أيّ فرد شاء، ومثل هذا التطبيق لا يعدّ تشريعاً وبدعة؛ لأن المكلّف لا يتعبَّد بخصوصية الفردية كي يُعدّ تجاوزاً لما رسمه الشارع، وإنما يتعبّد بالمعنى العام والطبيعة الموجودة في الفرد، ومن ثَمَّ عُدَّ ممتثلاً، والشعائر من هذا القبيل؛ فالمطلوب تعظيم ما فيه شعار وإعلام وإعلاء لدين الله سبحانه وتعالى.

المقدمة الثالثة: إنّ الحكم الشرعي في قاعدة الشعائر الدينية هو حكم أولي ناتج من ملاك ومصلحة أولية وليست ثانوية.

نعم، إن موضوع الشعائر هو عنوان طارئ ثانوي يطرأ على موضوع حكم من الأحكام الشرعية، عندما يراد أن يصبح من علامات الدين وشعيرة من شعائر الله عزوجل ، كما لو أصبح القيام احتراماً للقادم بعد أن لم يكن كذلك، فذات القيام ليس احتراماً، وإنما طرأ عليه وتصادق معه عنوان الاحترام، وأما الحكم بالاحترام، فهو حكم أوليّ ذو ملاك أوليّ، فلا يعد استثنائياً وطارئاً بالنسبة للقيام.

فالعنوان الثانوي ينقسم إلى عنوان ثانوي في الحكم، وآخر في الموضوع. والفارق بينهما: أن الأول ذو ملاك ثانوي، وبالتالي يكون الحكم فيه استثنائياً، كالحرج والضرر، ومن ثَمَّ عندما تطرأ مثل هذه العناوين تُغيّر الحكم الأولي أو تزاحم ملاكه، بينما الحكم في الثاني أوليّ منبثق عن ملاك أوليّ، فلا يعدّ حكماً استثنائياً طارئاً، وإنما موضوعه طارئ، كما يحصل في حالات اجتماع الأمر والنهي.

فما يحصل من مستجدات ومستحدثات بعنوان أنها مصاديق لشعائر الله عزوجل ، فهي عناوين طارئة، وليست أحكاماً ثانوية جديدة جاء بها المتشرعة، ولا مانع من أن تكون دائمية، ما دام حكمها أولياً قد حكم به الشارع.

نعم، لا بد في الفعل المستحدث أن يكون حلالاً في نفسه وقبل أن يتعنون ـ كما بيّنا في خصائص الشعائر ـ بعنوان الشعيرة، وأما إذا كان حراماً، فإن الأمر الشرعي بالطبيعة، لا يتناول الخصوصية المحرمة.

أما ما ادُّعي: من أنّ ترك الباب مُشْرَعَاً للعرف والمتشرعة في استحداث شعائر جديدة، يستلزم اتساع الشريعة وتبدّل معالمها وشكلها.

فيمكن المناقشة فيه: بأن التضخم والتوسع، إن كان يصبّ في صالح تجذير الشريعة وتثبيتها، ونشر وبثّ تعاليم الدين وتعميمها وإعلائها، فهو أمر مطلوب ومرغوب فيه، وإن كان التوسّع يعني زوال ثوابت الشريعة وضروراتها، فلا شك هو أمر مرفوض وغير مقبول، فالمستحدث في حقل الشعائر إنما يمكن قبوله فيما لو كان يساهم في حفظ الشريعة وثباتها وإحيائها وإعلائها.

وأما ما قيل: من أنّ جعل الشعائر بيد العرف والمتشرعة سيؤدي إلى فتح باب التشريع. فهذا القول يمكن أن يكون وجيهاً لو كان للمتشرعة حق التشريع، والحال ليس كذلك؛ فهم لم يمارسوا سنّ قانون أو تشريع، وإنما مارسوا التطبيق المأذون به شرعاً، وهو أمر لا بد منه في أي قانون؛ لأنّ القانون مهما فُصّل على يد المقنّن، إلاَّ أنه لا يمكن أن يكون جزئياً من كلّ جهة؛ ومن ثَمَّ تبقى بعض جهاته عامة كلّية تنظيرية، وهي المنطقة التي خُوّل المكلف فيها أن يطّبق على المصداق الذي يشاء، ومن دون أن يتعبّد بالخصوصية.

الشعائر الحسينية

إنّ من أبرز مصاديق وأفراد وتطبيقات الشعائر الدينية هي ما يعبر عنها بالشعائر والمراسم الحسينية، التي تقام في ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه في عاشوراء، بعد أن ارتُكِبَتْ في حقهم أبشع جريمة عرفها تاريخ الإسلام؛ لوجود ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسبطه وسيد شباب أهل الجنة، والصفوة من أهل بيته، وخُلّص أصحابه النجباء في الواقعة الدامية.

إنّ أهمية الحديث عن الشعائر الحسينية ـ من مجالس ومواكب ومراثٍ ومسيراتِ حزن وغيرها ـ ينطلق في واقعه وحقيقته مما ترمز إليه هذه الشعائر بوصفها علامة، ألا وهو نهضة الإمام الحسين عليه السلام بكل ما تحمله من أهداف سامية وغايات نبيلة، وما لها من أبعاد عديدة جعلت منها قضية الإسلام الأولى، التي أعادت لهذا الدين رونقه وحيويته، بعد أن كاد يفقدها بتسلّط يزيد وأذناب بني أمية على مقاليد السلطة، وتصرفهم بمقدرات أمة محمد صلى الله عليه وآله.

فمن ثَمَّ؛ كان لا بد ـ من الناحية المنهجية ـ الحديث عن بعض جوانب المعنى الذي ترمز إليه الشعيرة، وهو نهضة الحسين عليه السلام ولو بشكل موجز؛ إذ لعل من نافلة القول لأمثالنا الحديث عن هذه النهضة الإصلاحية العظيمة التي لم تستطع البشرية ـ لحد الآن ـ أن تدرك كنهها، أو تسبر أغوارها العميقة، وتفهم أهدافها أو غاياتها.

فعلى صعيد أهداف النهضة الحسينية يتشعب الكلام وتتكثر فروعه، فقد تجلت أهداف النهضة الحسينية بعدة مظاهر وصور، يمكن الوقوف عليها من خلال حركة الإمام الحسين عليه السلام ، ومجمل شعارات الثورة وخطاباتها، ومن هذه الأهداف:

أولاً: الإصلاح الاجتماعي، فالحسين عليه السلام بما يمثله من حامٍ وحارس لهذا الدين الحنيف، رأى الأمة سائرة نحو الانحراف والسقوط الاجتماعي؛ نتيجة تسلط الظالمين والطغاة، وانزواء الخيرين والصالحين عن مواقع التغيير والإصلاح؛ فصار لزاماً عليه أن يطلق صرخة الإصلاح المدوية، والتي ما زال يتردد صداها حتى يومنا هذا؛ وذلك في قولته المشهورة: ((… وإني لم أخرج أَشِراً ولا بَطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خَرَجْتُ لطَلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكَر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب عليهما السلام …))[50].

فعلى ضوء كلمة الإصلاح الواردة في كلام الإمام عليه السلام نفهم أنّ المعروف يشمل كلا بعديه الفردي والاجتماعي، كما يعمّ المعروف الفكريّ والعقديّ والاقتصاديّ والسياسيّ والحقوقيّ وغيره. والمنكر كذلك، بل وكلّما هو مبغوض شرعاً، فإنّه يتناول كلّ المحرمات في كلّ الأبواب، والمعروف يتناول كلّ الأوامر الشرعيّة وجوباً وندباً ورجحاناً.

ثانياً: الدفاع عن الإمامة الإلهية لأهل البيت عليهم السلام والاعتراض على متقمصيها والغاصبين لها بدون وجه حقٍ، وهو ما جاء في كلامه عليه السلام حينما دعاه الوليد بن عتبةـ وهو في المدينةـ لبيعة يزيد، فقال عليه السلام : «إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة))[51].

وهو ـ بهذا الاعتراض وهذه الإدانة ـ يعترض ويدين كل مشروع الخلافة الخاطئ، الذي كانت نتائجه أن يعتلي شخص مثل يزيد ـ بهذه المواصفات ـ منصب الخلافة وإمرة المسلمين، وفي الوقت نفسه، فإن إباءه عليه السلام لبيعة يزيد، ونكيره لخلافته يؤدي إلى نوع من التبليغ والنشر لمفهوم الإمامة والدعوة إلى إمامتهم عليهم السلام .

فمن ثَمّ؛ كانت نهضته عليه السلام بشكل بارز مَعلَماً لإمامتهم وولايتهم الإلهيّة الحقّة.

ثالثاً: السعي لإقامة الحكومة الإلهية عبر استلام الخلافة عند توفر الظروف ووجود الناصر، فعندما بايعه أهل الكوفة، وأرسلوا إليه الكُتب للقدوم إليهم، واستنصروه، أصبح من الواجب إجابتهم؛ لأنّ المعصوم عليه السلام إذا وَجد مَن ينهض به بمقدار العُدّة الكافية والعدد وجب عليه النهوض، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: «أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ، أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ))[52].

وهذا الهدف من نهضة الإمام الحسين عليه السلام ، إنّما وقع له عليه السلام بعد معرفة أهل الكوفة والعراق بامتناعه وإبائه عن بيعة يزيد، فوجدوا فيه الأمَل للتخلّص من يزيد وظلمه، ولإرساء قواعد العدل، وتشييد بنيانه، لكن هذا الهدف لم يكن هو السبب الوحيد للنهضة، كما تخيّل بعضهم؛ لأنّ هذا السبب ارتفع وانتفى في كربلاء بعد مواجهة أهل الكوفة للحسين عليه السلام .

مضافاً إلى أهداف وغايات أخرى للنهضة الحسينية، كالدفاع عن نفسه وأهل بيته، وكذلك من أهدافها إعطاء أمثولة في الإباء والعزة والكرامة، وعدم الخنوع والاستسلام والذل للظلم والعدوان، مهما كان العدد قليلاً والعُدة بسيطة، فالموت بعزة وشرف أعلى وأشرف من الحياة بذلّ وهوان ((وإني لا أرى الموت إلاَّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاَّ برما))[53]، وقال عليه السلام : ((ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: السلة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهرت، ونفوس أبية، وأنوف حمية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام))[54].

هذا، وهناك غايات وأهداف أخرى كثيرة للنهضة الحسينية، يدركها الباحثون والعلماء، وأخرى لم يدركوها بعد، وستبقى هذه النهضة على مر الدهور والأزمان نبعَ عطاءٍ دائم لكل القيم والمبادئ لا ينقطع أبداً؛ فإن نهضة الحسين عليه السلام بعبارة أكثر اختصاراً هي: بعث للإسلام من جديد.

إنّ المحافظة على تلك الأهداف والغايات السامية وإبقاءها خالدة في ضمير الأمة، ولضمان استمرارية تأثيرها وتفاعلها في المجتمع المسلم، إنّما يتحقق في ظلّ مراسم وطقوس وممارسات مختلفة وواعية، تحكي معالم هذه النهضة وتبرز جوانبها، وتعمل على إحيائها بشتى الطرق والوسائل الحسية، فتكون ـ بحق ـ علامة على نشر وإعلان وبثّ مبادئ وأهداف ورسالة هذه النهضة الإصلاحية المباركة.

فالشعائر الحسينية التي يقوم بها ـ ويواظب على إحيائها وتجددهاـ الموالون لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، تلفت وتذكّر بتلك الغايات التي نهض الحسين عليه السلام من أجلها، كما أنها تأتي لتربّي المجتمع الشيعي على روح المقاومة والرفض للظلم والاستبداد؛ حتى أصبح هذا الرفض سمةً من سمات أتباع أهل البيت عليهم السلام .

وتبقى الشعائر الحسينية على الدوام شاهد إدانةٍ للخط المناوئ لأهل البيت عليهم السلام ، وتفصح عن عدم شرعيته.

ولا يمكننا ـ كذلك ـ إغفال أنّ الشعائر الحسينية ترجمة عملية حية لمودة أهل البيت عليهم السلام وموالاتهم، على ما جاء بها القرآن الكريم، والتي تعني في وجهها الآخر التبرّي من أعدائهم وظالميهم وجاحدي فضائلهم.

أدلة الشعائر الحسينية

لا تعاني الشعائر الحسينية شحة في مجال الغطاء الشرعي والأدلة الدالة على رجحانها ومشروعيتها، فعلاوة على ما ذكرناه من عمومات الشعائر الدينية التي تشمل ـ بلا شك ـ الشعائر الحسينية، فهناك أكثر من عموم يختص بالشعائر الحسينية يمكن الاستناد إليه:

الدليل الأول: عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لقد ذكرنا في البحث السابق أنّ من أهمّ أغراض الشعائر الحسينيّة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبراز الإمامة الحقّة التي تعتبر من أصدق موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور الاعتقاديّة.

إذن؛ فأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتناول هذا الباب، ويمكن أن تكون دليلا وبرهاناً عليه، مثل قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[55]، فتقديم هذه الأمة وتفضيلها على سائر الأمم من الأوّلين والآخرين هو نتيجة إقامة هذه الفريضة.

وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحقق بإقامة الشعائر الحسينيّة بأوضح المظاهر؛ لأنّ الأغراض والغايات التي تنطوي عليها النهضة الحسينيّة لا بدّ أنّها تنتهي ـ بالتالي ـ إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي منها تجديد إنكار كلّ مظاهر الانحراف السارية في المجتمع، وإقامة كلّ معروف غُفل عنه أو هُجِرَ من حياة الأمة الإسلامية على الصعيدَين السلوكي والعَقَدي.

وكذلك المحافظة على استمرار سلوكيّة المعروف وتطبيقه في المجتمع، مع الالتزام في نَبذ المنكر وإنكارهِ. فهي نوع من حالة الصحوة والسلامة والتوبة الدينيّة، من خلال مواسم ومراسم الشعائر الحسينيّة.

الدليل الثاني: أدلة الولاية والتولي والمودة لأهل البيت عليهم السلام

وردت آيات قرآنية صريحة في وجوب التولي والمودة لأهل البيت عليهم السلام ،كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[56]، وقوله تعالى: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[57].

والمودّة تعني المحبّة الشديدة التي تلازم الإبراز والظهور، ومن صورها التأسّي بهم، والفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم.

ويمكن ـ كذلك ـ الاستدلال بآيات التبرّي أيضاً، مثل قوله عزّ وجل: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}[58]، ولا ريب في أنّ هذه الآية تشمل أعداء أهل البيت عليهم السلام ممّن هتك حرمة النبيّ صلى الله عليه وآله والدين فيهم؛ فينبغي إظهار البراءة وعدم الموالاة لمن حادّ الله ورسوله، ومثل قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً}[59]، وغير ذلك من آيات التولي والتبرّي الكثيرة التي لا ريب في أنّها تشمل ما يقام من مراسم وشعائر في ذكرى عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام ، فالأسى والتألّم لمصابهم، والحزن لحزنهم هو نوع من التولّي لهم والتبرّي من أعدائهم، وكشْفٌ عن التضامن معهم والوقوف في صفّهم.

الدليل الثالث: عنوان إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام

حثت بعض النصوص الروائية على إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ، كما في الحديث القائل: ((رحم اللهُ مَن أحيى أمرنا))[60].

وهذا العنوان قد طُبِّق على إحياء العزاء الحسينيّ، ومذاكرة ما جرى على أهل البيت عليهم السلام من مصائب؛ فيتناول بإطلاقه الشعائر الحسينيّة، سواء المرسومة في زمنهم عليهم السلام أو المستحدثة في الأزمنة اللاحقة.

و هذا المعنى قد ورد في مصادر معتبرة، كبعض كتب الشيخ الصدوق قدس سره ، وكتاب الدعوات للراونديّ قدس سره ، وكتاب المحاسن للبرقيّ قدس سره ، وبصائر الدرجات للصفّار قدس سره ، وكتاب المزار لابن المشهديّ قدس سره ، وقُرب الإسناد للحميري القمي قدس سره ، والمُستطرفات في السرائر لابن إدريس الحليّ قدس سره ، ومصادر أخرى يمكن العثور عليها بالبحث والتتبع. و أنّ هناك عشرين طريقاً لهذه الروايات[61].

الدليل الرابع: العمومات الحاثة على زيارة قبور الأئمة عليهم السلام وتعميرها

إنّ النصوص الواردة في باب الشعائر الدينيّة تتضمن الحثّ على زيارتهم وتعمير قبورهم وتعاهدها، ويتّضح من ألفاظ وأسلوب الزيارة أنّها نوع ندبة ومأتم يقيمه المؤمن؛ ليستذكر خلال فترة الزيارة، ما جرى عليهم من مصائب، كما جاء في زيارة الإمام الحسين عليه السلام : «السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله، السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره… أشهد أنّ دمَكَ سكَن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّةُ العرش، وبكى له جميعُ الخلائق، وبكَت له السماواتُ السبع والأرضونَ السبعُ، وما فيهنّ وما بينهنّ»[62].

وقوله: ((وأشهد أنك ومَن قُتل معك، شهداء أحياء عند ربك ترزقون، وأشهد أن قاتلك في النار))[63].

وجاء في زيارات أمير المؤمنين عليه السلام : «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أنت أول مظلوم وأول مغصوب حقه))[64]، وقوله: «أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. وأشهد أن الذين سفكوا دمك واستحلوا حرمتك ملعونون…»[65].

وهذه المضامين والعبارات التي تفصح عنها هذه الزيارات، نوع ندبة ورثاء لهم، وإعلان وبثّ ونشر لما حصل في حقهم من الظلم والانتهاك، الذي هو انتهاك للدين وطعن بما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، وكذلك فيها إعلاء لشأنهم وإعزاز لحقهم، وتقدير وعرفانٌ لما قدموه في سبيل الله تعالى، وتقديمهم على أنهم القدوة والأسوة المثلى في سلوك طريق الحق والهداية، فسلام على أهل بيت النبوة يوم ولدوا ويوم استشهدوا ويوم يبعثون أحياء. ونسأل الله أن يرزقنا محبتهم وخدمتهم وإحياء شعائرهم في الدنيا، وشفاعتهم وجوارهم في الآخرة.

وهناك أبحاث أخرى عديدة في موضوع الشعائر الحسينية لعلنا نوفق إلى الـتطرق لها في مقالات أخر إن شاء الله تعالى.

الهوامش

[1] الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين: ج1، ص251.
[2] المصدر نفسه.
[3] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ص194.
[4] الجوهري، إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية الصحاح: ج2، ص698 ـ 699.
[5] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج4، ص415.
[6] سورة الحج: 32.
[7] سورة المائدة: 2.
[8] سورة الحج: 32.
[9] سورة البقرة: 158.
[10] سورة المائدة: 2.
[11] الجصاص، أحمد بن علي، أحكام القرآن: ج2، ص376.
[12] ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، زاد المسير: ج2، ص232.
[13] المصدر نفسه.
[14] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان: ج6، ص72.
[15] المصدر نفسه: ج6، ص74.
[16] ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، زاد المسير: ج2، ص232.
[17] القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن: ج12، ص56.
[18] النراقي، أحمد بن محمد مهدي، عوائد الأيام: ص31.
[19]كاشف الغطاء، جعفر بن خضر، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء: ج2، ص147.
[20] الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: ج6، ص98.
[21] سورة الحج: 32.
[22] السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ج1، ص46.
[23] الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى: ج5، ص545.
[24] سورة الحج: 36.
[25] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج 14، ص109.
[26] المصدر نفسه.
[27] روى الشيخ في التهذيب، عن الحسن بن محبوب، عن أبي الصباح الكناني، قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمداً؟ قال: يضرب رأسه ضرباً شديداً. ثم قال: ما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمداً؟ قال: يقتل<. الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج5، ص469. [28] اُنظر: الحكيم، محسن، منهاج الصالحين: ج1، ص204. الخوئي، أبو القاسم، منهاج الصالحين: ج1، ص148. [29] اُنظر: السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص23. [30] سورة المائدة: 2. [31] سورة الحج: 32. [32] سورة الحج: 30. [33] قال السيد الخوئي قدس سره في بحث الطهارة: >إذا كان تنجيس المشاهد وترك تطهيرها موجبين لهتكها، فلا إشكال في هذه الصورة في أنها كالمساجد يحرم تنجيسها، وتجب الإزالة عنها؛ لأن المشاهد كالصفا والمروة من شعائر الله، ولا إشكال في أن هتك الشعائر حرام، وهو منافٍ لتعظيم حرمات الله سبحانه<. الخوئي، أبو القاسم، كتاب الطهارة: ج2، شرح ص312. وقال الشيخ الصالحي المازندراني قدس سره : >لا إشكال في حرمة تنجيس المشاهد ووجوب الإزالة عنها، إذا لزم من التنجيس وترك الإزالة هتك حرمتها؛ نظراً إلى أن الهتك حرام قطعاً؛ والدليل عليه هو أن المشاهد كالمساجد من حرمات الله وشعائره التي لا بد أن تعظم، على ما جاء في قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ…}، وقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}<. الصالحي المازندراني، إسماعيل، مفتاح البصيرة في فقه الشريعة: ج3، ص94. وقال السيد البجنوردي قدس سره : >فكل ما هو محترم عند الله ـ ومن علائم الدين ـ فهو من حرمات الله ومن شعائره عز وجل<. البجنوردي، محمد حسن، القواعد الفقهية: ج5، ص295.
[34] سورة الحج: 36.
[35] سورة البقرة: 158.
[36] ومن هؤلاء العلماء: الميرزا القميّ قدس سره ضمن فتواه في كتاب « جامع الشتات » حول الشعائر الحسينيّة، والسيّد اليزديّ قدس سره صاحب العروة في فتواه، والسيّد جمال الدين الگلبايگانيّ قدس سره . السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: هامش ص34.
[37] سورة التوبة: 32.
[38] سورة النور: 36.
[39] الحجر: 9.
[40] من إفادات سماحة العلامة الشيخ محمد السند دام ظلّه الوارف في أبحاثه حول الشعائر الدينية المدونة في كتاب الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص37.
[41] سورة التوبة: 40.
[42] من إفادات سماحة العلامة الشيخ محمد السند دام ظلّه الوارف في أبحاثه حول الشعائر الدينية المدونة في كتاب الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص37.
[43] سورة النساء:141.
[44] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص176.
[45] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص135.
[46] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: هامش ص444. وعنه المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج28، ص59 ـ 60.
[47] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص293.
[48] سورة يوسف: 40.
[49] سورة الحج: 36.
[50] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.
[51] ابن طاووس، علي بن موسى بن جعفر، اللهوف على قتلى الطفوف: ص17.
[52] نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص50.
[53] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.
[54] ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان، ص50. ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة: ج3، ص249 ـ 250.
[55] سورة آل عمران: 110.
[56] سورة التوبة: 119.
[57] سورة الشورى: 23.
[58] سورة المجادلة: 22.
[59] سورة الأحزاب: 57.
[60] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص135.
[61] السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص213.
[62] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص364.
[63] المصدر نفسه: ص383.
[64] الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص745.
[65] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص378.

 

المصدر: مؤسسة وارث الأنبياء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky