الاجتهاد: يتسنّى لنا أن نتعرّف على عدد من الأساليب المعلومة في دعوة الناس إلى الإسلام من خلال السيرة النبوية العملية وفي ضوء آیات قرآنية كثيرة.
وأوّلها وأكثرها أصالة هو الأسلوب القائم على أساس «الهداية الفكرية» للناس عبر الاستدلال وتعزيز روح التفكر والتعمق في أنفسهم.
وأُنتُهج هذا الأسلوب في مرحلة مكة كلّها بقوة. وما دعوة القرآن المكررة أيضا إلى التأمّل والتَدَبّر، وتوصية النبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” أن يدعو “بالحكمة والموعظة الحسنة” ويجادل «بالتي هي أحسن» إلّا آية على مواصلة هذا المسير حتى الأخير.
واستطاع النّبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” بهذا الأسلوب أن يدعو عدداً غفيراً من الناس إلى الإسلام. ورضي أهل المدينة بالإسلام عن طريق التعرف على هذه الدعوة، ونشر الآيات القرآنية بنحوٍ محضٍ حتى اشتهر القول:«فُتحت المدينة بالقرآن»(۱).
وعندما بلغت الغزوات والسّرايا ذروتها، كانت الدعوة الإسلامية متواصلة وتوجّه خالد بن الوليد إلى اليمن من أجل دعوة أهلها، ولمّا لم يعمل شيئاّ بُعث الإمام علي “عليه السلام ” لذلك، وبدعوته أسلم كثير من سكّانها(2).
ونقل ابن سعد أنّ رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلّم” بعث خالد بن الوليد في موضوع فتح مكّة لدعوة بني جَذية إلى الإسلام لا لقتالهم «داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه مقاتلًا».
بيد أنّه قاتلهم وأسر منهم جماعة. فتبرّأ النبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” من فعله الشّنيع هذا، وبعث عليّاً “عليه السلام” لِيَدِيَ مقتوليهم ويجبر ما فات منهم(3).
وأصبح موضوع الدعوة إلى الإسلام أصلاً مسلّماً به في «فقه الجهاد» منذ بداية الحرب.
وسئل الإمام السجاد “عليه السلام” عن كيفية الدعوة إلى الإسلام قبل بداية الحرب، فقال:
تقول: بسم الله الرحمن الرحيم. أدعوكم إلى الله عز وجل وإلى دينه، وجماعه أمران: أحدهما معرفة الله عز وجل والآخرالعمل برضوانه . وإنّ معرفة الله عز وجل أن يُعرَف بالوحدانية والرّأفة والرحمة والعزة والعلم والقدرة والعلوّ على كل شيء وأنّه النافع الضّارّ، القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير؛ وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجلّ، وما سواه هو الباطل. فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»(4).
وعلى هذا الأساس لم يحقّ للمسلمين جهاد المشركين إلا بعد دعوتهم إلى التوحيد والنّبوّة (5). والتزم بهذا الأمراء الذين عيّنهم النّبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” إلّا من شذّ منهم كخالد – وقد تقدّم ذكره(6) (7) ولمّا دخل الإمام عليّ “عليه السلام” منطقة قبيلة مذحج باليمن على رأس كتيبة قوامها ثلاثمائة بوصفهم أول جيش إسلامي، دعا الناس إلى الإسلام في البداية فأجابوه بالنّبل والحجارة. فنظّم جيشه وهاجم المشركين فقتل منهم عشرين، ثم وقف مرّة أخرى ودعاهم إلى الإسلام أيضاً فأجابوه وبايعه عدد من رؤسائهم على الإسلام(8).
وجاء في كتب الحديث في باب الجهاد باب بعنوان (دعاء العدوّ) ونقلت فيه مطالب من السيّرة النبويّة في هذا المجال. منها أنّ النّبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” حين بعث معاذاً إلى اليمن، أمره أن يدعو أهل الكتاب إلى التّوحيد، فإذا استجابوا، يدعوهم إلى الصّلوات اليوميّة، ثم صيام شهر رمضان. وإذا قبلوا ذلك كلّه يطلب منهم دفع الزكاة(9).
ومنها أنه “صلى الله عليه وآله وسلّم” دعا بني قُريظة إلى الإسلام قبل قتالهم(10). وهكذا فعل في غزوة بني المصطلق التي كانت مع جماعة من قبيلة خزاعة. ونُقل عن بُريدة الأسلمي (11)، أن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلّم” حين كان يؤمّر أميراً على جيش أو سريّة يوصيه في خاصّة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم يقول له: “اغزوا باسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تغُلُّوا ، ولا تقتلوا وليداً، إذا أنت لقيت عدوّك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال. فأيّتهن ما أجابوك منها، فاقبل منهم، وكفّ عنهم، وادعهم إلى الإسلام.
فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن هم أبوا أن يتحوّلوا من دارهم إلى دار المهاجرين، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام، فسلهم إعطاء الجزية . فإن فعلوا فاقبل منهم، وكفّ عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم»(12).
ونلحظ أن أمر القرآن الصّريح هو قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعلَمُونَ (13). حتى في ذروة تشدّد المسلمين على المشركين بعد إعلان البراءة في السّنة التاسعة للهجرة.
ولمّا أُتي بأسري إلى النّبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” سأل من معهم: أعرضتم عليهم الإسلام؟ قالوا: لا، قال: خذوهم إلى مأمنهم، ثم تلا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا · وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (14).
ومهما يكن من شيء فإنّ الدعوة قائمة على أساس هداية الناس إلى التوحيد. من هنا وقبل كل شيء كان هدف النّبيّ “صلى الله عليه وآله وسلّم” تعريف الناس بالتوحيد والنّبوة. وكانت قريش في عداد من عرض “صلى الله عليه وآله وسلّم” عليهم الإسلام وتلا لهم آيات القرآن سنين متمادية.
فإذا سُلّ سیف غضب المسلمين عليهم فإنّ قرابة ثلاث عشرة سنة قد مضت على الدعوة الفكرية والإرشاديّة. مع هذا لمّا كان الهدف هدايتهم أوّلًا، وأنّ المشركين لبثوا عمراً في الشّرك ثانياً ، ومن الطّبيعي أنّ الانتقال يتطلّب تدرّجاً وصبراً، فقد كان “صلى الله عليه وآله وسلّم” مستعداً أن يتلمّس الطّرق السّلميّة بعد ممارسة شيء من الضغط على المشركين.
من هنا كان “صلى الله عليه وآله وسلّم” يقبل أصل المداراة والتّعامل السّلميّ بنفس السرعة التي يقبل فيها الحرب. وعلى هذا الأساس قبل صلح الحديبية إبّان تفوقه على المشركين.
وفي مستوى المداخلات الفكرية لم يهتمّ المشركون بالاستدلال والفكر، کما لم يرغبوا في حرب الإسلام إلى جانب ذلك. ومورست معهم سياسة «تأليف القلوب» الّتي تمثّل نوعا من التواضع لتلطيف قلوبهم.
وهذه السياسة لا تعني أداء الأتاوة والخنوع كما لم يكن باعثها الخوف من المشركين (15)، بل كانت لترغيبهم في الإسلام إذ كانوا على الشرك، ولا يمكن أن نتوقّع منهم تطوراً آنيّاً أو نعدّهم جميعاً من أتباع المعقولات.
ونقل عن الإمام العسكري “عليه السلام” في ذيل الآية الكريمة (وَقُولُوا لِلنَّاس حُسناً) (16) أنّ النّاس عامّة سواءً المؤمنين وغيرهم. فالقول للمؤمنين بالبشاشة، ولغيرهم من المخالفين بالمداراة ليدينوا بالإسلام (17).
ويقوم هذا التعامل التّأليفيّ على أساس الآية القرآنية الكريمة الّتي جعلت سهماً من الزّكاة للـ ” مُؤَلِّفَةِ قُلُوبهمْ (18).
وهؤلاء من الكفار الذين يُخصّص لهم مالٌ من أجل دعوتهم إلى الإسلام والجهاد مع المسلمين، وفي المرحلة التالية يُساعَد المسلمون الضعيفو العقيدة لكسب قلوبهم(19).
ويضاف إلى الزكاة أن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلّم” دفع مبلغا طائلًا من خمس غنائم حنين التي كانت له خاصّة بوصفه حاكم المسلمين إلى الكفّار والمسلمين الجدد.
وذكرت المصادر التاريخية فهرسها مع أسماء المؤلّفة قلوبهم(20). وأشهرهم كبراء قریش كأبي سفيان وأبنائه الذين لم يُسلموا إلا في فتح مكة، بل إنّ بعضهم لم يُسلم حتى بعد الفتح بمدة. واعترض عدد من المسلمين على الخطوة النَّبويَّة المذكورة، فقال “صلى الله عليه وآله وسلّم” في جوابهم: “إني أُعطي الرجل وأدَع الرجل، والذي أدعه أحبّ إلي من الذي أُعطيه. أُعطي أقواماً لما في قلوبهم من الجزع والهلع وأكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى
والخير»(21).
وكانت مداراته “صلى الله عليه وآله وسلّم” كأصلٍ من الأصول قد نالت اهتمامه على طول عصير الهجرة. وانتهج هذه السياسة وهو في بداية الطريق على الرغم من إرجافات المنافقين الكثيرة .
وفي الوقت الذي كان يسيطر فيه على الأوضاع لم يتعامل مع هؤلاء بشدةٍ وعنفٍ. إذ كان يخشى أن يقال: محمّد يقتل أصحابه، لأن المنافقين كانوا في الظاهر مع المؤمنين على أيّ حال.
بيد أن رأي النّبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” على أساس التكاليف الشّرعيّة والقرآنيّة لم يكن بعيداً عن النظرة الواقعيّة، فقد كان يهبّ إلى قتال العدو بقوة في الحالات اللازمة.
علماً أن العدوّ المذكور هو العدو الذي لا يُؤمل هداه عن طريق الفكر والمداراة. وهو المقصود بقوله تعالى عند دعوة المؤمنين إلى الجهاد: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(22).
الهوامش
(۱) فتوح البلدان : ۷، إشارة إلى قدوم مصعب بن عمير المدينة قبل هجرة النبي “صلى الله عليه وآله وسلّم” إليها ودعوة أهلها إلى الإسلام بالقرآن
(۲) حول ارسال الإمام “عليه السلام” إلى اليمن، انظر : الطبقات الكبرى ۲: 337؛ أنساب الأشراف ۱: 384؛ نهج البلاغة، صبحي الصّالح : 463 ، 464 .
(3) الطبقات الکبری 14۷:۲ .
(4) فروع الکافی ۱: 337؛ التهذيب ۲: 4۷
(5) مستدرك الوسائل ۱۱: ۳۱. (ولا تقاتلوهم حتى تحتجّوا عليهم بأن تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والإقرار بما جاء به من عند الله). وانظر : دعائم الإسلام ۱: 269، ۲۷۰
(6) ذهب خالد مرة أخرى إلى إحدى الطوائف. فقالوا له: «صبأنا صبأنا» مكان أن يقولوا أسلمنا. مشيرين بتلك الكلمة إلى اعتناقهم الإسلام. إذ إنّ المشركين كانوا يدعون من أسلم صابئاً. مع هذا هاجمهم خالد وقتل منهم جماعة. ولما وافي النّبيّ”صلى الله عليه وآله وسلّم” وأخبره بما صنع قال: «الّلهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد» ، انظر : المصنف ، عبد الرزاق ۲۲۱:۵، ۲۲۲.
(7) الطبقات الکبری ۲: 16۳.
(8) الطبقات الکبری ۲: ۱۷۰.
(9) المصنف، عبد الرزاق ۲۱6:۵
(10) نفسه.
(11) أنساب الأشراف ۳4۱:۱
(12) المصنّف، عبد الرزاق ۲۱۸:۵ – ۲۲۱ : سبل الهدى والرشاد ۲۳۱.۱۷:6
(13) التوبة : 6
(14) الأحزاب: 45 ، 46، حياة الصحابة 1 : 166.
(15) قطع الخليفة الثاني سهم هؤلاء فيما بعد إذ كان يتصوّر أن الإسلام ما عاد يخشى سطوتهم!
(16) البقرة : ۸۳. وقيل إن الآية المذكورة لم تُنسخ بآية الجهاد. إذ يتسنّى، مع قبول الجهاد، دعوة العدو إلى الإسلام قبل ذلك بالكلام الحَسَن. انظر: مجمع البیان ۱۵۰:۱ (17) تفسير الإمام العسكري عليه السلام” : ۱4۲؛ مستدرك الوسائل ۲6۰:۱۲
(18) التوبة : 60
(19) تحرير الوسيلة ۳۳6:۱
(20) انظر : مختصر تاریخ دمشق ۱۷:۵
(21) المعرفة والتاريخ 1: ۳۳۰. وقال للأنصار : «أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ » انظر: المصنف، ابن أبي شيبة 14: ۵۲۳، 524.
(22) الأنفال: 22 ، 23
المصدر: الصفحة 580 من كتاب سيرة سيد الأنبياء والمرسلين محمد “صلى الله عليه وآله وسلم” جامع المحامد كلها. لفضيلة حجة الإسلام الدكتور رسول جعفريان، نقله إلى العربية: الدكتور علي هاشم الأسدي. الناشر: مجمع البحوث الإسلامية.