السيد جواد الخوئي

السيد جواد الخوئي: الوحدة الإسلامية هي الأساس لمواجهة التحديات

الاجتهاد: السيد جواد الخوئي في مؤتمر الحوار الإسلامي الإسلامي في البحرين: من أخطر التحدّياتِ التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم تحدي الاستقرار الاجتماعي والأخلاقي؛ إذ إنَّ غياب الاستقرار يُحِيلُ التطلع إلى الوحدة إلى مُجرَّدِ شعارٍ، ويجعَلُ التفكير فيها أمَلًا بعيد المنال./ لم تَغِب الحوزة العلمية عن قضايا الأمة العربية والإسلامية، فقد كان لها مَواقِفُ مُشْرِفةٌ تُجاهَ فِلسطين، وليبيا، والجزائر وغيرها من بلدان العالمِ الإسلامي

انطلقت فعاليات مؤتمر الحوار الإسلامي الإسلامي في الفترة من 19-20 / شباط 2025 وتحت شعار “أمة واحدة ومصير مشترك” بدعوة من مشيخة الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مملكة البحرين ومشاركة أكثر من 400 شخصية من العلماء والقيادات الإسلامية والمفكرين من كافة الدول الإسلامية.

تضمنت الجلسات العلمية الخمس تأكيدًا على أهمية المؤتمر في تعزيز وحدة المسلمين تحت مظلة الإسلام، مؤكدين على إرساء قيم المواطنة والعيش المشترك.

السيد جواد الخوئي: القضية الفلسطينية هي قضية الأمة جمعاء
السيد جواد الخوئي: نؤكد على أهمية الاستقرار الاجتماعي والأخلاقي
وندعو إلى تعزيز مفهوم المواطنة المتساوية في الدول الإسلامية
كما أن الوحدة هي السبيل لتحقيق التنمية المستدامة

وفي ما يلي كلمة السيد جواد الخوئي في هذ االمؤتمر:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبِهِ المُنتَجَبِينَ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أصحاب السماحة والفضيلة، الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبَرَكاتُهُ

في البَدْءِ، أَوَدُّ أَن أُعرِبَ عن خالص شكري وامتناني لمَشْيَخَةِ الأَزهرِ الشَّرِيفِ، وعلى رأسها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيِّبِ، على مبادرتهم الكريمة التي تمثلتْ في الدعوة لإقامة هذا المؤتمر الإسلامي الكبير الذي حمل عنوان (أمَةٌ واحدةٌ ومصيرٌ مُشترك) والتي تعكس اهتمامًا عميقًا بجمع كلمة المسلمين تحتَ مِظَلَّة الإسلام الجامعة، لقد كانت هذه المبادرة بإقامة هذا المؤتمر المبارَكِ تجسيدًا لرُوحِ المسؤولية في تعزيز الحوارِ البَنّاء بينَ علماء الأمة وتوطيد أواصر الوحدة والتفاهم.

وأتوجه بالشكر الجزيل إلى مملكة البحرين، حكومةً وشعبًا، على احتضانها هذه التظاهرة الإسلامية الكُبرى، وهي التي فَتَحَتْ ذِراعَيهَا وَصَدَرَهَا الرَحْبَ لعلماء الإسلام، ليُسهموا معًا في بحث قضايا الإنسان.

والشكر موصول إلى مجلس حكماء المسلمين، وأصحاب الرأي والبصيرة من أهل السماحة والفضيلة لا سِيَّما الإخوة في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مملكة البحرين.

أيُّها الجَمعُ الكريمُ
إِنَّ الإسلام العظيمَ قامَ على دِعامتين راسختين: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، فكلمة التوحيد هي وثاق قوي يجمعُ المذاهب المتفرقة إلى الدين الواحد، ويَصهَرُ الطوائف المُتكثِرة في بوتقة الإلهِ الواحد، وهي كلمـة تَجمَعُ ولا تُفرّقُ، تُوجَدُ الصفوف ولا تَشُقُّ.

أما توحيد الكلمة فهو الذي يَلمُ شَتات الرأي، ويَشعَبُ ما تَصدَّعَ من وحدةِ القولِ فتُصبِحُ الأمَةُ صَفًّا، مُتماسكًا، قويًا، تتكاملُ مُكوّناتُهُ برَعْمٍ تَعدُّدِ مَشارِيها .
وعلى هذا الأساس الرباني، جاءَ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)

وقد أكَدَ القرآن الكريمُ هذا المبدأ في قوله تعالى : (( َوتَعاوَنُوا على البر والتقوى ولا تَعاوَنُوا على الإثم والعدوان). وهو أمرٌ صريح بضرورة التماسك والاعتصام بوحدة الدينِ والقِيمِ المُشتركة والتعاون على البر والتقوى، وهل هناك أعلى قيمةَ مِمَّا يُوجَدُ كلمةَ الْأُمَـةِ ويَجْمَعُ شَتاتَها ؟

إنَّها دَعوة إلى حوارٍ قائمٍ على الاحترام، وحفظ إنسانية الإنسان بصفته مَخلُوقًا مُكَرَّما، له من الحُقوقِ ما يستحق به الاحترام، ومن الكرامة ما يستوجب الرعاية.

ومن هذا المُنطلَقِ جسَّدَ الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلامُ المَثل الأعلى بعد رسولِ اللهِ في احترامِ حُقوقِ الإنسانِ، مُستمِدًّا مَبَادِئَهُ من القرآنِ الكريم، ومن تعاليم رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ.
كان، عليهِ السلامُ، يقولُ في كلماته المشهورة بوَصفِ الخَوارِحِ : “إخوتُنا بَغَوا علينا”. فهوَ لم يَنزَعْ عن أعدائِهِ صفةَ الأُخْوَة في الدِينِ، برَغمِ اتَّسَاعِ رُقعَةِ الْخِلَافِ العَقَدِيَ وبِرَعْمِ أنَّ هذا الخلاف دفَعَهم إلى رفعِ السيفِ في وجهِ خليفةِ رسولِ اللهِ وَإِمامِ افْتَرَضَ اللهُ طَاعَتَه.

ومِنْ حِلمِهِ المُذهِلِ مع مُعارِضِيهِ، ما رُوي عن ابن الكواء الذي كان من رؤوس الخوارج، إذ قراً خلفَهُ في الصلاة: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولتكونَنَّ من الخاسرين ). ومع أن الآية كانت تعريضًا بالإمام عليه السلام، إلا أنّهُ صبرَ وأَتَمَّ صــلاتَهُ، ورَدَّ بآيـةٍ أخرى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).

هذا هو الإسلام الذي نُريد أن تُظهِرَهُ للعالم؛ إسلام الرحمة والإنصاف، لا إسلام التفرقة والظُّلم.

دور حوزة النجف الأشرف والأزهر الشريف في تعزيز الوحدة الإسلامية

ومن هنا كانت حوزة النجف الأشرفِ، ولم تَزَلْ – كمـا الأزهر الشريف وباقي مؤسساتنا المُخلِصة لدينها ونبيّها – منارة للوحدة الإسلامية، وراعية لها قولًا وعَمَلًا.

وكانتْ ولا تزال رائدة العلم والجِهادِ، تَجمَعُ بينَ سيفِ المَيدانِ وقلمِ البَيانِ، فهي التي أَذكَتْ جَذوةَ الجهادِ ضد الاحتلال في مطلع القرن الماضي، فشحَذَتِ النفوس قبل السيوف، وطعَنَتْ بالسِنانِ قبل اللسان.

ويَشْهَدُ المسلمون وغيرهم من المسيحيين والإيزيديين والكورد بدورها الفاعِلِ، فهي القلبُ النابِضُ الذي يَضُخُ دماءَ المَعُونةِ والمَعنويّاتِ لجَسَدِ العراقِ المُتعدِّدِ الْأَطيافِ فَتَمنَحُهُ الحياة والقوة والنشاط.

كذلك لم تَغِب الحوزة العلمية عن قضايا الأمة العربية والإسلامية، فقد كان لها مَواقِفُ مُشْرِفةٌ تُجاهَ فِلسطين، وليبيا، والجزائر وغيرها من بلدان العالمِ الإسلامي في كلِ صَوبِ وحَدْبٍ، وأصدرَتْ فتاوى صريحةً تَدعَمُ حركات التحرر ومقاومةِ الظُلمِ، وهي مواقفُ خَطَّتْها قوافي شعرائها ودوّنَتْها صفحات التاريخ. فهي مشكاة النور التي لا تنطفى ، وكانت وما زالتْ مُنفتحةً على آراء جميع الإسلامية في الفقه والعقائدِ والأصولِ ، وها هي آراء العلماء من شتّى الْمَذاهِبِ المذاهب حاضرة في دُرُوسِها ومناهجها، وكم ترك علماؤها من شروح وحواش على كتب الأصول والنحو والمنطق ممّا سَطَّرَتْهُ يَراعُ علماءِ المَذاهب الإسلامية المُختلِفة ممّا جعَلَها واحةً علميةً تتّسِعُ للجميع، ومِظَلَّةً فكريةً تُسهِمُ فِي صِياعَةِ مستقبَلِ الْأَمَةِ الإسلامية.

وأما مواقفها العملية في التقريب بين مَذاهِب المسلمينَ ومَد جُسور التواصل بينهم ففي العصر الحديث، دعا السيّد المرحوم حسين البروجردي، المَرجِعُ الأعلى للمسلمين الشيعة في عصره، إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكانت دعوتُه نَواةً لتأسيس دار التقريب” في القاهرة.

وأما دارُ العِلمِ للإمام الخوئي في النجف الأشرف، فقد جعلتِ الحِوار والتقريب رسالتها الأولى، وأقامَتْ مؤتمرات وزياراتٍ عديدة للتعايش السلمي على أساس أنَّ رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) تَجْمَعُنا ولا تُفَرَّقُنـا وكان ثمرة ذلك مؤتمر {مُلتقى علماءِ الإسلامِ تحتَ مِظَلَّةِ المَبْعَثِ النبوي في النجف الأشرف في عام ۲۰۲۳ بمشاركةِ مُختلِفِ المُؤسسات الدينية وتُلَـةٍ من كبار الشخصيّاتِ المُؤثرة في الواقع الديني والاجتماعي في العراق، فضلا عن شبكة العلاقات الواسعة التي نسجَتْها المؤسسة مع مختلف الهيئات الدينية والشخصيات العلمية في العالم العربي والإسلامي ، وتفخَرُ المؤسسة بعمقِ صِلتِها بالأزهر الشريف التي تُوجَـتْ بـأُولى ثمارها في زيارة الإمام الأكبر الشيخ محمد السيد طنطاوي إلى مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية في لندن في عام ٢٠٠١.

وبرغمِ ما تَعرَّضَتْ له من تشويه ومُحاولات للتضييق، وتهديد بالقتل والترهيب بَقِيَتْ وَفيّةً لرسالتها، واستمرَّتْ في الدفاع عن مبادئ السلام والتقريب.

ولعل تاريخها الزاخر حافل بالمواقِفِ المُشرِفةِ، ونَستذكرُ هنا زيارة السيد الشهيد العمّ عبد المجيد الخوئي (رحمه الله) إلى مملكة البحرين قبل أكثر من عشرين عامًا، حيثُ استقبل بحفاوة من قِبَل جلالة الملكِ، وقد جاءتْ زيارته في إطار الإعداد لمؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية، في مسعى لتعزيز رُوحِ الوحدة والتسامح بينَ أبناء الأُمة.

لكنَّ الأقدار شاءَتْ أن يُغتال السيد الخوئي غَدْرًا وهو في طريقه لنشر رسالة التسامح والوحدة، ومع ذلك، لم تتوقف مسيرته النبيلة عن تحقيق رؤيتِهِ، فَعُقِدَ المؤتمَرُ في عام ۲۰۰۳ في البحرين بالشراكة مع مؤسسة الإمام الخوئي.

في هذا السياق، وهو الحديث عن وحدة الكلمة بين المسلمين بجميع طوائفهم يحضُرُنا الحديث عن المرجع الديني الأعلى الإمام السيّد علي السيستاني (دامَ ظِلُّه)، الذي قدَّمَ للعالم الإسلامي نموذجًا يُحتذى به في التسامح واحترامِ الْآخَرِ، عَبر مواقفِهِ التي اتسمَتْ بالحِكمةِ وبُعدِ النَظَرِ، وأسهَمَتْ في حفظ النسيج الاجتماعي والوطني للعراق.

من أبرز المواقفِ التي أكَدَتْ حرص السيّد المرجعِ الأعلى للشيعة في العالمِ دَعَواتُهُ المُتكرّرة سواءً أكانتْ في بياناتِهِ أم في مُجْمَلِ لقاءاتِهِ مع مُختلفِ القادةِ الدينيِّينَ داخِلَ العراق وخارجه إلى وحدة المسلمينَ ونَبذِ الخِلافِ العَقَدِي، ودعوتُهُ المستمرة إلى التركيز في القَواسِمِ المُشتركةِ بينَ المذاهب الإسلامية، والابتعاد عن إثارة المَسَائِلِ الخلافية التي قد تُؤدّي إلى التنازُعِ والتفرقة حتى نقل القاصي والداني عنه كلمته الواعية (لاتقولُوا إخواننا السنة، بل قولُوا أنفسنا)، وفي سياق الحثّ على وحدة الكلمة يقول ،دامت بركاتُهُ إبَانَ الأَزمات التي تَطالُ المسلمين هنا أو هناك:

تمر الأمة الإسلامية بظروف عصيبةٍ وتُواجِهُ أَزَماتٍ كُبرى وتحدّياتٍ هائلةً تَمَسُّ حاضِرَها وتُهدّدُ مستقبلها، ويُدرك الجميعُ، والحال هذهِ، مدى الحاجةِ إِلى رَصَ الصفوفِ ونَبذِ الفُرقةِ والابتعاد عن النَعَراتِ الطائفية وتجنُّب إثارة الخلافات المذهبية، تلك الخلافات التي مضى عليها قُرونٌ مُتطاولة، ولا يبدو سبيل إلى حلها بما يكونُ مَرضِيًّا ومقبولًا لدى الجميع، فلا ينبغي إذا إثارة الجدل حولها خارج إطارِ البحث العلمي الرصين، و لاسيّما أنّها لا تَمَسُّ أُصول الدين وأركان العقيدة؛ فإنّ الجميع يؤمنون بالله الواحد الأحد وبرسالة النبي المصطفى صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وبالمعاد و بكون القرآن الكريم الذي صانَهُ اللهُ تعالى من التحريفِ مع السُنّة النبوية الشريفة مصدرًا للأحكام الشرعية وبمودَةِ أهل البيت عليهِمُ السلام، ونحو ذلك مما يَشترِك فيها المسلمون عامة ومنها دعائم الإسلام: الصلاة والصيام والحج وغيرها.

فهذه المشتركاتُ هي الأساسُ القويم للوحدة الإسلامية، فلا بد من التركيز فيها لتوثيق أواصر المحبّةِ والمَودَةِ بينَ أبناء هذهِ الأَمَةِ، ولا أَقَلَّ من العمل على التعايش السلمي بينَهم مبنيا على الاحترامِ المُتبادَلِ وبعيدًا عن المُشاحَناتِ والمُهاتَراتِ المذهبية والطائفية أيا كانت عناوينها. وقد أبدى دامت بركاته موقفًا حازمًا في حماية حقوق الأقليات الدينية عندما اجتاحَ تنظيم داعش مناطق واسعةً من العراق، داعيًا إلى الوقوفِ صَفًّا واحدًا لحماية الجميع، بغَضَ النظر عن دينهم أو مذهبهم. وقد كان لهذا الموقف الأثر الكبير في توحيد الصفّ الوطني ولعلَّ بيانَه الذي أصدره إبّانَ الفِتَنِ الطائفيةِ أَشْهَرُ من أَن يُنسَى، يقولُ دام ظله:

إنني أُكرِرُ اليومَ نِدائي إلى جميع أبناء العراقِ الغَيارى من مُختلِفِ الطَّوَائِفِ والقوميات بأن يَعُوا حَجمَ الخطّرِ الذي يُهدّدُ مستقبل بلدِهِم، ويتكاتفوا في مواجهته بنبذ الكراهية والعُنف واستبدالهما بالمحبّةِ والحوار السلمي لحلّ كافة المشاكل والخلافات. كما أُناشِدُ كلَّ المُخلِصِينَ الحريصين على وحدة هذا البلد ومستقبل أبنائه من أصحاب الرأي والفكر والقادة الدينيّينَ والسياسيين وزعماء العشائِرِ وغيرِهِم بِأَن يَبذُلُوا قُصارَى جُهودِهِم في سبيلِ وَقْفِ هذا المسلسل الدامي الذي لو استمرَّ، كما يُريدُهُ الأعداءُ، لأَلْحَق أبلغَ الضَرَرِ بوحدةِ هذا الشعب ولعَاقَ لَأَمَدٍ بِعِيدٍ تحقَّقَ آمَالِهِ في التحرر والاستقرار والتقدم، وأَذكَرُ الذين يستبيحون دماء المسلمين ويسترخصونَ نفوس الأبرياء لانتماءاتهم الطائفية بقول النبي الأعظم صلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ فِي حَجَّةِ الوداع : ( ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, ألا لِيُبلغ الشاهدُ الغائب)

وبقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ: (من شهِدَ أَنْ لا إلهَ إلا الله وأن محمدًا رسولُ اللهِ فقد حقَّنَ مَالَهُ ودمَهُ إلّا بحقِهِما وحسابه على اللهِ عزَّ وجلَّ) وبقولِهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ: (مَن أَعانَ على قتلِ مسلمٍ بشطر كلمةٍ ِلقِيَ الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ مكتوبًا بينَ عينَيهِ: آيس من رحمة الله.

أهمية ترسيخ قيم المواطنة والعيش المشترك في المجتمعات الإسلامية

أيُّها الحُضور الكريمُ
تتوالى التحديات التي تواجه الإسلام كهويّة جامعة والمسلمين كأمّةٍ وشعوب، مما يفرِضُ علينا الاستعداد لمواجهتها بكل ما نملك من عَزمٍ وعِدَةٍ، سواء بسواعد القوة أم بأقلام الفكر، وفي هذا السياق، لا تجد الأمة الإسلامية في مواجهة هذه التحديات إلا سندها الراسخ في إرثها العلمي وتُراثها المعرفي الذي يُؤهَلُها لخوض هذهِ المعاركِ الفكرية والعقدية بعزم وثقة.

ولعل من أخطر التحدّياتِ التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم تحدي الاستقرار الاجتماعي والأخلاقي؛ إذ إنَّ غياب الاستقرار يُحِيلُ التطلع إلى الوحدة إلى مُجرَّدِ شعارٍ، ويجعَلُ التفكير فيها أمَلًا بعيد المنال، ومن هنا، تتحمل المؤسسات الدينية والحواضِنُ العلمية مسؤوليات جسيمة تتمثل في صياغة خطاب ديني مُعتَدِل، وإبراز معاني الأُخْوَةِ والمَودَةِ بين المسلمين نظريا وعمليا وتعميق الشُّعور بالمُواطَنَة لدى الأفراد المُنتمِينَ لأوطانِهِم؛ إذ إنّها اليومَ من أبرز المفاهيم الحديثة التي تُسهم في تعزيز الوحدة المجتمعية وتأصيلها، حيث أضحى هذا المفهوم قاعدة قانونيةً راسخة في أغلب الدول. وهي تعني أنَّ جميع الأفراد الذين يعيشونَ ضِمنَ حُدودِ دولةٍ مُعيَّنةٍ يتمتَّعونَ بحقوق مُتساوية ويخضعون لواجباتٍ مُوحدة، تحتَ مِظَلَّةِ دستور وقوانين عادلة ومُنظّمة.

فإن غياب هذا المفهوم أو عدم تطبيقه بصورة حقيقية في بعض البلدان أو إِنَّه يُصنِّفُ الناسَ المُنتمين لبلدانهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة يُبقي تلك المجتمعات عالقةً في صراعات داخلية قائمة على التفرقة والتمييز، سواء على أساس قومي أو ديني أو مذهبي، ومِن ثُمَّ، تُصبِحُ هذهِ المجتمعات غير قادرة على تحقيق الانسجام الاجتماعي، مما يُؤدّي إلى استمرار حالتي الفرقة والاضطراب.

إنّ الحديث عن الوحدة في ظِلِ غيابِ المؤسَّساتِ والقوانين التي تُعزِّزُها يُعَدُّ أَقرَبَ إلى الشِعاراتِ منه إلى الحُلولِ الواقعية، فالوحدة لا تتحقَّق بمجرَّدِ تَكرار الخُطَبِ الداعية إليها أو الاستناد إلى النصوص الدينية فحسب، بل تحتاج إلى بناء هياكل مؤسسيةٍ تُرسَخُها، وإلى سَنّ تشريعات واضحةٍ تُنظِمُها، وإِذا لم تُتَّخَذْ مِثلُ هَذهِ الخُطُواتِ العمليةِ، فَسَيَظُلُّ المجتمعُ يَعيشُ تناقُضًا حادا بينَ المَبادئ الدينية التي تَحُثُ على الوحدة والتعاوُنِ، والواقع المأساوي الذي يَرزَحُ تحتَ وَطأة الانقساماتِ والنزاعات.

إلى جانب التحدّيات المؤسسية والقانونية، تُعَدُّ الثقافة المجتمعية عاملا رئيسًا في تعزيز الوحدة أو تقويضها، ويبرُزُ في هذا السياق غيابُ ثقافةِ التسامُحِ وَقَبولِ الْآخَرِ كواحدٍ من أهم عوامل التشردمِ داخل المجتمعات الإسلامية، فانتشار التعصُّبِ والتشدُّدِ الفكري يُنتِجُ بيئةً اجتماعيةً مُفعَمةً بالانقسامات والصراعاتِ، ممّا يُبعِدُ الأمَةَ عن تحقيق الوحدة المنشودة. إن تحقيق الوحدة في الأمة الإسلامية ليس خيارًا، بل هو واجبٌ ديني وأخلاقي يَستمِدُ جُذوره من النُصوص القرآنيةِ والسُنّة النبوية، ويُصبح هذا الواجبُ أكثر إلحاحًا في العصر الحالي الذي تراجعتْ فيهِ مكانة الأمة على الساحة الدولية؛ إذ تُصنَّفُ دُوَلُها ضِمنَ فِئَةِ الدُوَلِ النامية أو العالم الثالث، وتحتل مراتب مُتأخِرَةً فِي مُؤشّراتِ التقدُّمِ العلمي والتنمية المستدامة.

وفي هذا السياق، تبرز الوحدة الدينية كأحد أهم الجوانب التي يجب التركيز فيها، فالقيم الدينية الصحيحة، إذا تمَّ غَرسُها في النفوس وتطبيقها في الواقع، تكون قادرة على بناء مجتمعِ مُتماسك ومُترابِط، يمتلك القدرة على تجاوز عوامل التفرقة والاحتراب، ويُعِيدُ للأمة الإسلامية مكانتها ودورها الحضاري.

وإنَّ اجتماعكم هذا وحضوركم المُبارَكَ يُمثَلُ بارقة أمل في ترسيخ أواصر المحبة وبناء الوحدة التي تحتاجها الأمة أكثَرَ من أي وقت مضى، ونتطلع بشوق لعقد مؤتمرٍ آخَرَ في النجف الأشرف بكل حفاوة وترحيب.

مسؤولية الأمة تجاه القضية الفلسطينية وما يعانيه الشعب الفلسطيني 

وإنّي إذ أُبارك هذه الجهود الكريمة وأُثني على هـذه النفوس الطيبـة التي تحملت مسؤوليتها تجاه أبناء الأمة، أُذكِّرُ الجميع بمسؤوليته الشرعية والأخلاقية تُجاهَ ما يُعانِيهِ إخوتُنا الأعِزَاءُ في فلسطينَ المُحتلة من انتهاك للكرامة وسفك للدماء على مدار أكثر من سبعة عقود، وهيَ جَـرائمُ يَضِيقُ اللسان عن وصفِ بشاعَتِها وتَعجَزُ الكلمات عن إدانَتِها بما تستحق.

سادتي الكرام
إن أهمية هذه المؤتمرات تكمُنُ في أنّها فُرصة لتلاقي العقول والقلوب علـى مائدة الإسلام، حيثُ نَبحَثُ عن قواسمنا المُشتركة، ونترك خلافاتِنا برُوحِ الإخاءِ؛ لنَبني معا مستقبلًا يَليقُ بأمتِنا الإسلامية.

أسألُ الله تعالى أن يُوفِّقَنا لما فيه الخيرُ ، وأن يحفظ أُمَتَنا الإسلامية من كـلّ سوءٍ، إنّه سميعُ الدعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky