أنسنة الدين عندي بمعنى “انسانية ايمانية، وايمانية انسانية”، وهي لا تتطابق و”الانسانية غير الايمانية” التي يتحدث عنها بعض المفكرين في الغرب والشرق، وتتمحور فيها الأنسنة على مركزية الانسان، وتفضي إلى نسيان الله وتأليه الانسان. / السلفية بوصفها نمطاً في التفكير والتعبير والسلوك شائعة في كل الأديان والثقافات، لكنها اجتاحت بشكل مريع الحياة الدينية لعالم الاسلام في هذا العصر
الاجتهاد: د. عبدالجبار الرفاعي؛ الكاتب و المفكر العراقي تحدث في حوار مع صحيفة المدى العراقية عن “أنسنة الدين” و هي برأیه نمط حضور لـ”الإله الروحي الأخلاقي” في حياة الانسان. وكذلك بمعنى “انسانية ايمانية، وايمانية انسانية”، وهي لا تتطابق و”الانسانية غير الايمانية” التي يتحدث عنها بعض المفكرين في الغرب والشرق، وتتمحور فيها الأنسنة على مركزية الانسان، وتفضي إلى نسيان الله وتأليه الانسان. كما اشار الرفاعي إلى نمط تفكير ضد التاريخ وضد “الانسانية الايمانية”، وهي السلفية التی تتشبث دائماً بمقولات لا زمانية لا مكانية لا تاريخية، لذلك تقاوم بشدة كل تساؤل، وتناهض أية دعوة للمراجعة والنقد والغربلة والتمحيص.
والیکم نص الحوار
كيفَ تفهمون فكرة أو مصطلح “الأنسنة”.. “أنسنة الدين” ثقافياً ودينياً وإنسانياً؟
يحيلنا مفهوم “أنسنة الدين” إلى تحديد ما نريده من “الانسان والدين”، إذ يختلف مفهوم “الانسان” وهكذا مفهوم “الدين” حسب السياقات التي نفهمها في فضائها، والمرجعيات التي يحيل إليها، والرؤية للعالم التي نتبناها.
ربما يشي استعمال مصطلح “أنسنة الدين” بتفسير وضعي للدين، يفهم الدين بوصفه ظاهرة ينتجها الانسان، وهو كما اشتهر تفسيره لدى مجموعة من الفلاسفة والمفكرين والعلماء الغربيين، إذ قدموا تفسيرات وضعية متنوعة للدين، كان فيها الدين لديهم تعبيراً عن اغتراب الانسان الكوني، أو خوفه، أو جهله، أو أنه ضرب من المرض النفسي”الوهم”، أو أنه مرحلة من مراحل تطور الوعي البشري يغادرها المجتمع لحظة ينتقل إلى رتبة أنضج وأكمل من الوعي، أو أنه تبرير للاضطهاد والتعسف في التوزيع والاستغلال الاقتصادي الذي تتعرض له الطبقة العاملة ومن ثم تخديرها. هذه التفسيرات وغيرها تنزع إلى فهم الدين وكأنه بمثابة الفقر أو الجهل أو المرض أو غير ذلك من الظواهر السائدة في الاجتماع البشري، بينما يتطلب الدين تفسيراً أبعد مدى مما ذهبت اليه كل تلك التفسيرات.
الانسان هو الكائن الوحيد في هذا العالم الذي لا يكتفي بوجوده الخاص، لذلك يعمل دائماً على توسعة ذلك الوجود وإثرائه، من هنا يحتاج كل شخص لما يتخطى ذاتَه المحدودة، وبقطع النظر عما يعتقد به، سواء أكان أيديولوجيا، أم ميثولوجياً، أم فكرة، أم أمة، أم أثنية، أم بطلاً، أم وطناً، أم ملحمة، أم سردية، وغيرها، هي كلها تنتمي إلى المتخيل الذي تنسجه كل جماعة لنفسها، ويتحقق فيه كل فرد ينتمي اليها، فيشعر أن وجوده الفردي يترسخ بمزيد من الوجود. بمعنى أن لدى كل فرد حاجة اضافية للوجود عابرة لوجوده الشخصي المحدود، تتسع لها كينونته تبعاً لسعيه للحضور في العالم، وتلك الحاجة لا تقف عند حد مادام يسعى للاغتراف من وجود مطلق لا محدود.
الدين هو المثال الأوضح والأعمق للمكون الأنطولوجي الذي يمثل أغزر منبع يستقي منه المتخيل، ويصوغ شكل وجوده، ويتكرس به وجود الكائن البشري الذي ينتمي لذلك المجتمع.
أما الانسان فهو الكائن الأغرب والأعمق والأعقد في هذا العالم، وعلى حد تعبير نيتشه: “إن كل انسان اعجوبة فريدة”. الكائن البشري بطبيعته عميق جداً، ومتناقض أحياناً، يتغلب غالباً في طبيعته وحياته الشر على الخير. الحروب والصراعات لم تخلص هذا الكائن من الشر الذي يعبث في العالم. ربما ليس هناك دواء أنجع من الحب وإثراء الحياة الروحية والأخلاقية يخفض الآثار الفتاكة للشر. وربما لا سبيل لتخفيف آلام الكراهية، ولا وسيلة لتقليل النتائج المرعبة للنزعة التدميرية لدى الكائن البشري سوى المزيد من الاستثمار في الحب، سواء بالكلمات الصادقة أو المواقف الأخلاقية أو الأفعال الجميلة، والاصرار على تجرع الصفح والغفران رغم مراراتهما.
منذ فجر الوعي البشري شغلت الانسان أسئلة مازالت وستلبث تتكرر كل يوم، تتمحور حول: المبدأ، والغاية، والمصير.كل هذه الأسئلة تنشد اكتشاف حقيقة الكائن البشري ومعنى حياته ومآلاته، والعالم الذي يسكن فيه، وماوراء هذا العالم.
في ضوء هذ الفهم للانسان والدين فما أعنيه بـ”أنسنة الدين”، ليس هو ما يذهب إليه بعض المفكرين من أن الدين ينبغي أن يُدرس كأية ظاهرة بشرية مقطوعة الصلة عمّا عدا البشر، ولا تبرير أو تفسير لوجودها وتطورها خارج عوالم البشر العينية، وكأن الدين كما أية ظاهرة بشرية يمكن أن نفهمها في اطار ما نفهم سواها من ظواهر.
لا أتمنى أن يتبادر الى الذهن مما ذكرت أني أدعو لدراسة الدين وفهمه خارج اطار العقل والعلم والمعرفة والخبرة البشرية، ذلك أن أيّ فهم بشري لا يتحقق خارج ذلك. كذلك لا أريد أن أذهب إلى القول بتصويب كل دين والإعلان عن أن كل دين مصدره وحياني غيبي، بل أريد القول إن الدينَ توقٌ بشري أنطولوجي عميق للروح كي تلتحم بمطلق يكرّسها ويسمو بها، سواء كان هذا المطلق هو الله، أو مطلق تنسجه المخيلة كما أشرنا. وهذا التوق هو ما يفسّر لنا ما لا يقبل التفسير المنطقي من تفشي صور زائفة للمطلق، يستلهمها كثيرون كدوافع مجنونة في العمليات الانتحارية، وإنتاج الأوهام والخرافات.
“أنسنة الدين” التي أدعو لها هي نمط حضور لـ”الإله الروحي الأخلاقي” في حياة الانسان، وبكلمة أخرى هي “تدين انساني روحاني أخلاقي”، لا يقطع الصلة بالله ويجعل الدين ظاهرة بشرية خالصة، مثلما لا يتجاهل الطبيعة البشرية، ويتعاطى مع الانسان وكأنه روح مجرد فقط، وانما يوظف كل المعطيات المتاحة للعلم والمعرفة والخبرة في الفهم الصحيح لهذه الطبيعة، وهو كما يسعى لتأمين احتياجاتها الجسدية في سياق هذا الفهم، لا ينسى احتياجاتها العابرة للجسد من حاجة لمعننة الحياة، وتنمية القدرة على التغلب على القلق الوجودي، وتزويد الانسان بما يخفف عنه آلام الحياة ويشفيه من مواجعها، ويخلصه من التشاؤم والعدمية في عالمه البشري الذي تتكشف له فيه على الدوام مواقف تشي بالعبثية واللامعنى.
أنسنة الدين عندي بمعنى “انسانية ايمانية، وايمانية انسانية”، وهي لا تتطابق و”الانسانية غير الايمانية” التي يتحدث عنها بعض المفكرين في الغرب والشرق، وتتمحور فيها الأنسنة على مركزية الانسان، وتفضي إلى نسيان الله وتأليه الانسان.
ضرورة اقتران الانسانية بالايمان يعود إلى أن الكائن البشري لن يستغني عن الحياة الروحية، لذلك كثيراً ما يقود نسيان الله إلى ضياع الكائن البشري، وتخبطه في روحانيات مستلبة زائفة لا تخلو من وثنيات وخرافات غرائبية، وممارسات هي أقرب للسحر والشعوذة، كعبادة البشر وتأليههم، أو الانصياع لضروب من روحانيات عبثية، والشغف ببعض أنواع الارتياض العنيف، أو اعتزال الحياة والهروب من الأوطان إلى غابات وكهوف وزوايا نائية، والتسليم الأعمى لدجالين ومشعوذين يزعمون أنهم مُلهِمون حاذقون في إيقاد جذوة الحياة الروحية.
أما ضرورة اقتران الايمان بالانسانية فيعود إلى الحاجة للخلاص من القراءة الخرافية للنصوص الدينية والقراءة العنيفة لهذه النصوص. القراءة العنيفة تفتك بالانسان وتهدر كرامته، وتبدد الايمان، والقراءة الخرافية لا تخلو من وثنية، وكل وثنية لا تهدر كرامة الانسان، وتبدد المضمون الروحي الأخلاقي للدين فحسب، بل يحتجب معها الله عن العالم، وتنتصب بديلاً عنه تعالى أوثان تتعدد بعدد تلك الخرافات، وهذه الأوثان ليست إلاّ آلهة زائفة تستعبد الانسان، بعد أن تشل عقله، وتمزق روحه، وتبذر حقوقه، وتحجبه عن الإله الرحماني الأخلاقي.
مفهوم التدين في “الانسانية الايمانية” غير التدين المستلبة فيه إنسانية الانسان. أما الايمان في “الانسانية الايمانية” فهو الايمان الحر الذي يقترن فيه الايمان والتدين دائماً بالحرية وليس بالاسترقاق والعبودية. في “الانسانية الايمانية” يكون إيماني حيث تكون حريتي، أي أن الصلة بالله هنا صلة عضوية لا تتأسس على الرضوخ والانسحاق وإهدار الكرامة البشرية، بل تتأسس على الحريات والحقوق البشرية.
الدفاع عن الله في “الانسانية الايمانية” يبدأ بالدفاع عن كرامة الانسان، وصيانة حقوقه، وحماية حرياته. إذ لا يمر الطريق إلى الله إلاّ عبر احترام الانسان ورعايته وتكريمه.
الانسانية الايمانية يتحد فيها مسار الايمان بمسار حماية كرامة الانسان واحترام حقوقه وحرياته، بل أن الايمان إنما يتحقق ويتكرس فيها بالغيرة والشفقة على الانسان. إنها أنسنة للانسان بحمايته من لا انسانية الانسان، وتحرير الانسان من تعصب وعدوان وعنف الانسان.
الانسانية الايمانية يحيل معناها إلى أن “الله واحد، وأيضاً الانسان واحد”، لذلك يكتسب الانسان حقوقه الطبيعية من كونه انساناً لا غير. وعلى هذا الأساس يبتني مفهوم المواطنة التي ينبثق منها استحقاق كل مواطن لحقوقه المدنية والسياسية. في سياق هذا الفهم تكتسب المساواة قيمتها من كونها مساواة لا غير. وتكتسب الحرية قيمتها من كونها حرية لا غير. وتكتسب المحبة قيمتها من كونها محبة لا غير. وتكتسب الرحمة قيمتها من كونها رحمة لا غير. ذلك أن المساواة والحرية والمحبة والرحمة قيم كونية عابرة للمعتقدات والأثنيات والثقافات والهويات، والزمان والمكان، والتاريخ والجغرافيا.
ولو لم يستمد الكائن البشري حقوقه من كونه انساناً، وانما يستمدها من انتمائه إلى هوية وثقافة خاصة، وقتئذ يتضخم ماهو لاإنساني ليبدد ماهو انساني. الأيديولوجيا لا تعبأ كثيراً بإنسانية الانسان عندما تُعلي عليها الهوية والحقوق الثقافية الخاصة، فتنقلب الهوية في مفهومها إلى لاإنسانية تُسجَن فيها القيم الانسانية الكونية.
ما دوافع وأسباب حاجتنا كاجتماع ديني لإعادة تسليط الضّوء على مسألة “إنسانية” الدين الإسلامي، أو إعادة اكتشاف جذره القيمي الإنساني مع كونه تأسّس -في عمقه الذاتي وأصالته الموضوعية- على قيم ومبادئ إنسانية استجابت لها وآمنت وأدانت بها أمماً وشعوباً وحضارات إنسانية كثيرة على مدى التاريخ كله؟
– كان النص الديني المؤسس في الاسلام وما زال، كما هي نصوص الأديان الأخرى، ملهماً لسلسلة من التأويلات والتفسيرات المختلفة، التي أفرزتها العصور المتوالية للاجتماع الاسلامي، وما استبدّ فيها من صراعات الاستحواذ على السلطة السياسية والدينية، وأنماط الثقافات الموروثة لدى الشعوب المسلمة، وطبيعة الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتقاليد المتداولة لديها.
تراكم عبر الزمان كم هائل من التأويلات والتفسيرات التي نسميها علوماً أو معارف إسلامية أو تراثاً إسلامياً، وأضحت منجماً يموّن الحياة الدينية في الاسلام بكل ما تتطلبه. وغيبت تلك التأويلات والتفسيرات بالتدريج القرآن الكريم، وغرق التلامذة والأساتذة في الحواضر والمدارس والحوزات الدينية في طبقاتها المتراكمة. معظم الدارسين نسوا أن كل هذه القراءات هي هوامش وشروح واجتهادات في فهم النص، وهي ليست إلاّ تمثلات بشرية للقرآن تنتمي للتاريخ، حدودها الزمان والمكان واللغة وثقافة المجتمع، وكل ما كان يسود العصر الذي أُنتجت في فضائه.
“نسيان الانسان” ظاهرة استبدت في حقول عديدة من تراثنا، نراها في الكثير مما أنجزه المحدّثون والمفسرون والمتكلمون والفقهاء وغيرهم، وساعدت هذه الظاهرة في تكريس قراءة عنيفة مغلقة للنصوص، لا تنفي الانسان باسم الله فقط، بل تنفي الحياة باسم الآخرة، وتنفي العمران البشري باسم الاستخلاف، وتنفي الروح باسم التكليف، وتنفي الأخلاق باسم الفقه، وتنفي الحريات باسم العبودية لله، وتنفي حقوق الانسان باسم حقوق الله، وتمحو الصورة الروحانية الأخلاقية الجمالية لله باسم العودة للسلف ومحاربة البدع والمستحدثات.
السلفية بوصفها نمطاً في التفكير والتعبير والسلوك شائعة في كل الأديان والثقافات، لكنها اجتاحت بشكل مريع الحياة الدينية لعالم الاسلام في هذا العصر. لم تتوقف الدعوة السلفية عند المؤسسات الدينية ورجال الدين، بل تبناها بعض المفكرين والباحثين المعاصرين في عالم الاسلام، ممن برعوا في دراسة وتوظيف الاتجاهات والمناهج والمقولات الجديدة في الفلسفة والعلوم الانسانية وعلوم التأويل، بغية تبرير السلفية والعمل على اغواء الشباب وفتنتهم بها.
السلفية على الضد من “الانسانية الايمانية”، ذلك إنها نمط تفكير يعاند التاريخ، ويظل يكرر ما كان كما كان. تتشبث السلفية دائماً بمقولات لا زمانية لا مكانية لا تاريخية، لذلك تقاوم بشدة كل تساؤل، وتناهض أية دعوة للمراجعة والنقد والغربلة والتمحيص. “الانسانية الايمانية” تواكب الواقع، وتصغي لإيقاع حركة التاريخ، وتسعى لإنتاج نمط ايمان يتناغم وذلك الايقاع، وتدين يخلص المتدين من الاغتراب عن عصره ومحيطه. ولا تنجز ذلك إلاّ بعبور الماضي، والخلاص من صور الإله العنيف الدموي المحارب.
اكتشافُ المنابع الانسانية في الدين محاولةٌ لإحياء الصورة الروحانية الأخلاقية الجمالية لله، والتحرر من كل الصور النمطية للإله العنيف الدموي المحارب التي أنتجتها العصور المختلفة، وأضحت فيها صورة الله تُختزل في سلطة غاشمة مستبدة لا يهمها الانسان، لذلك ألغت الحدود بل دمجت الايمان بالله بطاعة السلطان والرضوخ له، فاقترنت صورةُ الايمان والتدين باسترقاق السلطان للبشر، وعدم الاكتراث بكرامتهم وحرياتهم وحقوقهم.
رسوخ تلك الصورة وتفشيها في مقولات كلامية وفتاوى فقهية أسهم بتشكيل أرضية لولادة داعش وشقيقاتها اليوم، وستتناسل على الدوام منها داعشيات. ومازال الكثير من شباب المسلمين لا يعرفون عن الاسلام سوى ما كتبه أولئك المؤلفون الذين رسموا صورة الله بألوان الدم والقتل المثيرة الصادمة.
باعتبار أنّ الإنسان غاية الدين ومحور الفاعلية الحضارية، ما مواقع الأنسنة في الفكر الديني (الإٍسلامي) على مستوى التشريع والخطاب الفكري، وعلى مستوى منظومات الحقوق الفردية والمجتمعية؟ ثم أليس لفكرة الأنسنة (أنسنة الدّين) بحدّ ذاتها تلك الفاعلية العملية والميدان الخصب للتقريب بين العلوم الإنسانيَّة والعلوم الشَّرعيّة؟!!.
– ليس بوسعنا إنقاذ النزعة الانسانية في الدين من دون تجسير العلاقة بين علوم الدين و علوم ومعارف الانسان المختلفة، ففي الأديان الوحيانية فضلاً عن سواها لا يتحقق أي دين منها خارج فضاء حياة الكائن البشري وأنماط تعاطيه مع ما حوله وأساليب عيشه، لذلك نجد كل تمثلات الأديان أرضية بشرية تتجسد في سلوك الانسان ومنجزاته ومكاسبه المتنوعة، وترتسم في تجليات إبداع عقله، وما ترتوي به أشواق قلبه، وما تسكن به روحه.
لكننا لم نزل حتى اليوم نرفض بشدة توظيف تلك العلوم في دراسة وتحليل وتفسير الظواهر والتعبيرات الدينية في الحياة الشخصية والاجتماعية، ونتهم أية محاولة تدعو أو تعمل على ذلك بالمروق عن الدين. المؤسف أنه لم تقتصر هذه القطيعة على علوم الدين بل تسربت إلى كافة مجالات حياتنا الأخرى الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
الطلاق الذي ورثناه في عالم الاسلام منذ عصور الانحطاط بين علوم الدين وعلوم الدنيا كما يسميها القدماء، وما تركته الاتجاهات النصوصية للمحدثين والظاهريين والاخباريين سنة وشيعة، والمواقف المناهضة للتفكير الفلسفي والكلامي في الإسلام، قادنا إلى دروب مسدودة يكرر فيها حاضرُنا ماضينا، فلا نبدأ خطوة فيها إلاّ حيث ننتهي ولا ننتهي إلاّ حيث نبدأ.
هذا الطلاق ولّد انطواءً وحساسية سلبية حيال العلوم والمعارف والخبرات البشرية الكونية أوهمتنا بالاكتفاء بما لدينا، وألا حاجة لنا بكل ما يبدعه الانسان، وبمرور الزمان تحولت هذه الحساسية إلى ممانعة مرضية غاطسة في اللاوعي الجمعي، تبرز أحياناً على شكل فوبيا حيال كل ما لا نعرفه وما لم نألفه في ميراثنا من قبل مما يبتكره ويكتشفه غيرنا. ويعود إلى تلك الممانعة المرضية الكثير من إخفاق عالم الاسلام وضآلة مساهمته في إنتاج ما يتناسب وحجمه الديمغرافي في الفلسفة والعلوم والمعارف المتنوعة الحديثة. وإلا بماذا نعلل هذا الاخفاق الحضاري؟ وكيف نفهم التهافت بين الشعور بالتفوق على الأديان والثقافات الذي يغذينا به تراثنا من جهة، والعجز عن الاسهام في صناعة ماهو جميل وخلّاق في العالم اليوم من جهة أخرى؟
وكيف نفسّر الغياب شبه التام لما يقارب مليار ونصف المليار انسان عن أعياد نوبل منذ أكثر من قرن، بينما تحضر مجتمعات صغيرة أخرى بكثافة وفاعلية في هذه الأعياد؟
ولعلنا نعثر في تلك الممانعة المرضية على معظم العوامل الكامنة خلف إجهاض مبادرات تحديث التفكير الديني في الاسلام منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، وبلوغها غايات لا تتطابق ومنطق البدايات وربما تنقضها أحياناً.
تستند مرجعية الدين إلى مجموعة قيم ونصوص معيارية ثابتة، تبنى عليها وتنشأ في ضوئها تجارب دينية تاريخية.. كثيرون يميّزون ويفرقون بين صورة الدين الأصلية كما تمثله قيمه الذاتية القارّة، وبين ممارسات وأفعال الأتباع والمريدين، في رأيكم: هل من الصحيح والمنطقي والعقلاني والشرعي الفصل والتمييز بين مساحة الدين ومساحة التدين في علاقة الدين بالفرد والمجتمع طمعاً في أن يرتبط الناس بجوهر الدين بدل ارتباطهم بأنماط وتجارب دينية كامنة في الماضي وفي التاريخ، قد تكون لها سلبياتها وتعقيداتها وتجاربها المكلفة رمزياً ومادياً، خاصةً على مستوى ما نعيشه اليوم من هذا الدمج وعدم الفصل (المقصود!!) بين “إنسانية” الدين كقيمة ذاتية وبين سلوكيات من يدّعي تمثيله والنطق باسمه من تيارات وجماعات التكفير والتطرف والإرهاب الديني؟
– أعترف أن التمييز الذي نشدّد عليه صعب جداً بين الدين بوصفه ظمأً أنطولوجياً متجذراً في كينونة الكائن البشري، وحضور الدين وتمثلاته في حياة الفرد والجماعة الذي يحلله صديقنا المفكر المصري عبدالجواد ياسين بوصفه “تديناً”، ذلك أن حضور الدين في حياة الكائن البشري ليس سوى ما يظهر في الأفعال والمواقف المتنوعة لحياته، فكيف نفصل بين الانسان وفعله ومواقفه التي لا يحضر إلاّ بها في العالم.
تكرر هذا التمييز كثيراً بصياغات عديدة في أدبيات عصر النهضة، ومازلنا نبرر به كل سلوك خطأ يصدر عن شبابنا تجاه المجتمعات الأخرى حتى اليوم، فكلما صدر فعل لا أخلاقي ولا إنساني من شاب مسلم في الغرب والشرق نقول هذا فعل لا يمثلنا، ونبرر ذلك بالقول المكرر: إن “الدين غير المتدينين”، وإن “الاسلام غير المسلمين”. طالما ناقشني تلامذتي وبعض الشباب المتدين حول السلوك المتوحش للارهابيين المسلمين مثل انتحاريي داعش وغيرهم، ممن ينهلون من أعلام وفقهاء ومتكلمين ما زال ميراثهم حيّاً فاعلاً مؤثراً في تربية وتنشئة وتثقيف الشباب، تبجلهم وتحرص على نشر آثارهم جماعات ومؤسسات كبيرة، ويتخذون مؤلفات أولئك الأعلام وكتابات تلامذتهم أمس واليوم مرجعية لهم. وحين كنت أجيبهم بذلك الجواب المستهلك: “الدين غير التدين”، و”الاسلام غير المسلمين”، غالباً ما يسكتون، غير أن سكوتهم يشي باعتراض أقسى من الكلام، كما تلمح اليه النظرات الساخرة لعيونهم.
لا يمكننا وضع حدود صارمة بين الدين والتدين، ذلك أنه لا يوجد دين خارج حياة الانسان وتفكيره وتعبيره وسلوكه. الدين يتجسد عبر التاريخ في حياة الفرد والمجتمع تبعاً لطبيعة العمران “حسب تعبير ابن خلدون”، ولا يستقل عن ثقافة البشر وطبائعهم.
هنا ينبغي أن نعود إلى التعرف على أنماط تفسيرات النص الديني التي هي أولى أشكال تمثلات الدين في حياة الانسان، وهي المنبع الرئيس الذي تستقي منه سلوكيات ومواقف المؤمنين بالدين، ولا شك في أنها بأسرها تفسيرات تنتمي إلى إسلام التاريخ.
تلك التفسيرات رسمت صورتَها الخاصة لله المحاكية لكل ظروف وملابسات الحياة السائدة في زمان ومكان وبيئة معينة، وهي غالباً صورة تُشرّع كل أشكال مناهضة العقل وقمع الايمان الحر، ومصادرة الحقوق والحريات، وتكرس أنواع الاستبداد والعبودية المعروفة في تاريخ مجتمعات عالم الاسلام.
وبمرور الزمان لا تمسي تلك التفسيرات للنص المقدس مقدسة فقط تستعصي على المراجعة والنقد والغربلة، بل غالباً ما يمسي مفسّر النص مقدساً أيضاً لا يخضع للمساءلة فيما يقول ويفعل. وهي ظاهرة بشرية عامة لا تختص بالنص الاسلامي المقدس، وانما استبدت في كل الأديان عبر التاريخ، لكن استطاعت بعض الأديان مثل المسيحية الحد منها، والعمل على التمييز وعدم الخلط بين مكانة مفسّر النص الديني والنص نفسه، إذ بدأت تعمل على وضع كل منهما في نصابه، منذ أن بدأت مع حركة الاصلاح الديني وتواصلت حتى الفاتيكان الثاني ١٩٦٢ – ١٩٦٥، لكنها للأسف مازالت ماثلة في عالم الاسلام حتى اليوم.
هنا تظهر الحاجة ماسة لتوظيف العلوم والمعارف والخبرات البشرية في قراءة وفهم النص المقدس، بغية اختراق الطبقات الكثيفة المتراكمة عليه عبر الزمان، والعمل على تحيينه واستحضاره، ليجيب عن أسئلة عصرنا، ويصغي لرهاناته، ويواكب إيقاع مشكلاته. وهي مشكلات فشلت الصورة النمطية لله المتوارثة من عصور الاستعباد في حلها، لذلك ينبغي أن نعمل على حضور صورة الله المغيَّبة عن العالم، تلك الصورة التي تنشد الحق والخير والرحمة والحب والجمال والسلام.
في ضوء هذه الصورة يمكن أن يظهر في حياتنا نموذج تدين لا يخاف العقل، ويتصالح مع كل زمان ومكان. تدين لا يطلب من المسلم مواجهة العالم الذي يعيش فيه وإعلان الحرب على البشرية، ولا يتمسك بمنطق أحادي يرفض كل تطور. تدين ليس مريضاً بشيزوفرينا من الآخر، تدين ليس حذراً أو وجلاً من مكاسب الغير في العلوم والمعارف والتكنولوجيا المتنوعة.
حاوره: نبيل علي صالح
عبد الجبار الرفاعي
مفكر وكاتب عراقي، متخصص في الفلسفة الإسلامية وله رؤية فلسفية حول الإصلاح ومناهج التفكير الديني. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ومستشار تحرير لمجلات ودوريات متعددة، يرأس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عا 1997 وحتى الآن. أصدر سلسلة كتاب “فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد”. من بين كتبه: “الاجتهاد الكلامي”، و”مقاصد الشريعة “وفلسفة الفقه” و”فلسفة الدين”، و”علم الكلام الجديد”، و”إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين”.