الاجتهاد: قد دلت الروايات المستفيضة والمتواترة، أن الغاية من ظهوره”عليه السلام” وإقامة دولته هو التمهيد لرجعة آباءه، وأن ظهوره ودولته فاتحة لظهور آبائه برجعتهم إلى دار الدنيا مرة أخرى، وإقامة دولتهم ذات الشأن العظيم.
وبسبب هذا التغيب لحقيقة الظهور ودولة الإمام الثاني عشر”عليه السلام” سهل على كثير من الحركات والتيارات المنحرفة للأدعياء والدجّالين مسخ ماهية الظهور وماهية دولة العدل للإمام الثاني عشر.
قد كُتِبَ في ظهور الإمام الثاني عشر المهدي الحجة بن الحسن “عليهما السلام” كتب ودراسات وبحوث كثيرة، وتمّ بها تنقيح كثير من الأمور وتوضيح الرؤية وصقلها لجملة من الأحداث، إلا أنه يجدر تسجيل الملاحظة عليها بجملة من المؤاخذات والنقود البنيوية الرئيسية:
1 – إنّ معرفة حقيقة الظهور وحقيقة دولة العدل للإمام الثاني عشر “عليه السلام” لا تتمُّ بدون معرفة الغاية من الظهور، والغاية من الدولة.
إنّ غاية كل شيء هو أبين أمر في تعريف الشيء حتّى أنه قيل في علم المنطق: إن الأجزاء الركنية القوامية التي يتكون منها الشيء ليست بمثابة من الأهمية في تعريف الشيء بقدر تعريفه بغايته.
وقد دلت الروايات المستفيضة والمتواترة (1)، أن الغاية من ظهوره “عليه السلام” وإقامة دولته هو التمهيد لرجعة آباءه، وأن ظهوره ودولته فاتحة لظهور آبائه برجعتهم إلى دار الدنيا مرة أخرى، وإقامة دولتهم ذات الشأن العظيم.
فإذا تقرر ذلك فيتبين أن بحوث الظهور والدراسات حول ظهور ودولة الإمام الثاني عشر غُيِّبَ فيها ماهو لُبّ لُباب معرفتها، وماهو محور کنه حقيقتها، وبسط هذه النقطة بيّناها في مباحث کتاب ( الرجعة بين الظهور والقيامة)، وبسبب هذا التغيب لحقيقة الظهور ودولة الإمام الثاني عشر “عليه السلام” سهل على كثير من الحركات والتيارات المنحرفة للأدعياء والدجّالين مسخ ماهية الظهور وماهية دولة العدل للإمام الثاني عشر، فأخذوا يرسمون لها ماهیات ممسوخة عن أصل حقائق ثوابت الدين بتلاوین مارقة عن صبغة الدين الحنيف.
۲ – إن هذه الدراسات والبحوث جعلت نجوم ومحاور مسرح أحداث سنة الظهور، عبارة عن الخراساني واليماني والسفياني، بينها الظاهر من روایات مستفيضة أن محور محاور أحداث سنة الظهور هو حصول الرجعة في أوائل رجب، أي ستة أشهر قبل الظهور، وأن الذي يرجع عدد غفير من الموتى من المؤمنين، يكون لهم دور بالغ الخطورة في توازن معادلات الأحداث في سنة الظهور، لاسيما السبعة والعشرين نفر وفرد من أفراد الحكومة المركزية لدولة الإمام الثاني عشر، وهم الخلية المركزية في أصحابه الثلاثمائة وثلاثة عشر، ويقومون بدور تمهيدي عظيم رئيسي في العراق ثم في مكة.
ومن عظم هذا الدور هم وردت المقولة المستفيضة عن المعصومين “عليهم السلام”: «العجب كُلّ العجب بين جمادى ورجب»(2)، حتى أن أمير المؤمنين “عليه السلام” كان يرددها باستفاضة على منبر الكوفة، وكان الكثير من الجلساء تحت منبره يستحفونه السؤال عن سبب هذا التعجب، فيخبرهم بحصول رجعة للمؤمنين في ذلك الوقت، وأنه يكون لهم دور خطير في سنة الظهور في العراق، ثم في مكة، بل لم يأت في كلام أمير المؤمنين “عليه السلام” ذكر للحسني ولليماني وللسفياني بقدر ما كان يذكر العجب في رجب أو مابين جمادي ورجب مما يؤثر على مزيد اهتامه “عليه السلام” ، بما لهذه المجموعة الراجعة من دور خطير في مسرح الأحداث لسنة الظهور.
ثم روایات العجب روایات مستفيضة، منها ما عن الأصبغ بن نباتة قال: خطب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بالكوفة فحمد الله واثنى عليه ثم قال: «… فيا لهفي على ما أعلم، رجب شهر ذکر، رمضان تمام السنين، شوال يشال فيه أمر القوم، ذي القعدة يقتعدون فيه، ذو الحجة الفتح من أول العشر.
ألا إنّ العجب كل العجب بعد جمادي ورجب، جمع أشتات، وبعث أموات، وحديثات هونات هونات، بینهنّ موتات، رافعة ذيلها داعية عولها معلنة قولها، بدجلة أو حولها. ألا إنّ منّا قائماً عفيفة أحسابه، سادة أصحابه، يُنادى عند اصطلام أعداء الله باسمه واسم أبيه في شهر رمضان ثلاثاً، بعد هرج وقتال، وضنك وخبال، وقيام من البلاء على ساق، وإني لأعلم إلى من تُخرِج الأرض ودائعها، وتُسلّم إليه خزائنها، ولو شئت أن أضرب برجلي فأقول: أُخرُجي من هاهنا بيضاً ودروعاً…)(3).
وكذلك خطب علي “عليه السلام” بعد انقضاء النهروان، فقال: «ذلك أمر الله وهو كائن وقتاً مريحاً، فيا ابن خيرة الإماء متى تنتظر، أبشر بنصر قريب من ربّ رحیم، فبأبي وأمي من عدة قليلة، أسماؤهم في الأرض مجهولة، قد دان حينئذٍ ظهورهم، يا عجباً كل العجب بين جمادى ورجب، من جمع أشتات، وحصد نبات، ومن أصوات بعد أصوات»، ثم قال: «سبق القضاء سبق »(4).
3 – إن هذه الدراسات والبحوث تركز على شخوص الحسني واليماني والسفياني والتدقيق في أشخاصهم وشخصيتهم وخصوصياتهم الشخصية، مع أن الأهم بحسب الروايات في الأحداث ليس أشخاص الثلاثة وغيرهم ممن ذُكِرَت أسماؤهم في أحداث سنة الظهور، بل الأهم هو بيان طبيعة المناهج الثلاثة وطبيعة المسار والمنطلق العقائدي والفكري والفقهي لكلّ من التيارات البشرية الثلاثة.
وبيان المنهج لهذه التيارات أعظم في ميزان البصيرة وقواعد صحّة الرؤية من شخوص الأشخاص، فبوصلة البحث في دراسات الظهور أخذت منحى صورياً بدل أن تدخل في عمق الأسباب المؤثّرة في الأحداث وحقيقة القوى الفاعلة في التيارات، ومن ثمّ ورد في الروايات أنّ الحسني واليماني والسفياني وإن كان من المحتوم إلا أنه يمكن وقوع البداء في الثلاثة.
وإمكانية البداء فيها له عدة تفسيرات وتأويلات قد تقدم بعض منها، إلا أننا نضيف في المقام تأويلاً آخر، وهو الإشارة إلى ما نحن فيه من أهمية المنهج وخطورته للتيارات الثلاثة بدرجة تفوق شخوص الأشخاص الثلاثة.
وإن أشخاص الثلاثة لاينحصر بهم وقوع مسرح الأحداث، بل المناهج الثلاثة في التيارات البشرية هي العمدة في التأثير في أحداث سنة الظهور، فالبحث في المنهج والمسلك وشعارات کل راية من الرايات الثلاث هي أعظم وأخطر بدرجة بالغة عن الحديث عن الأشخاص، فكم حصل تغييب للباب ويتركّز على سطح الأمور.
والباب هو التفسير المنطقي العقائدي الفقهي لكل تیار كي يكون المؤمن على بصيرة قواعد الموازين ولا تلبس عليه اللوابس في كيفية تحمل المسؤولية والوظيفة، ومن ثَم وقع التركيز على سطح الأمور في تلك الدراسات والبحوث مما مهد الأرضية لخداع جملة من الأدعياء والدجالين لتقمُّص صورة هؤلاء الثلاثة، فغُيّب الوعي بالمنهج الذي هو قوام البصيرة واستُبدل واختُزل في أساء لأشخاص وشخوص.
4 – إن بلورة العقيدة المهدوية بالإمام الثاني عشر “عليه السلام” وظهوره ودولته تَمّ صياغتها وقولبتها بعيداً أو تغيباً عن ماهية منهاج آبائه کالمنهاج العلوي والفاطمي والحسني والحسینی وبقية الأئمة، فصار البيان لماهية الظهور ومشروع الدولة للإمام الثاني عشر – هذا البيان – مبتوراً عن لُبّه الحقيقي ومجتثّاً عن جذوره الأصلية، وكأنما منهج الحسين “عليه السلام” مُغيَّب لونه في منهج الظهور وإقامة دولة الظهور.
وكذلك منهج أصحاب الكساء، بل الأعظم منهج سيد الأنبياء الذي هو السيد الأكبر وإمام الأئمة “عليهم السلام”، ومن ثَم سهل على الأدعياء والدجالين المدّعين للمهدوية إبداء منهج مهدوي مناقض للمنهج الحسيني ومغيّب فيه منهج أصحاب الكساء وثوابت و محکمات القرآن العظيم، كُلّ ذلك بسبب البلورة المبتورة لحقيقة العقيدة بالإمام الثاني عشر “عليه السلام” ومشروعه العظيم.
الهوامش
(1) إنّ روایات الرجعية المتواترة تضمن الكثير منها أنها تبدأ عند نهاية دولة ظهور المهدي “عليه السلام”، وأنّه أول فاتح لدولة آل محمد ” صلى الله عليه وأله وسلم” التي لا تزول إلى يوم القيامة. وهو معنى اسم (المهدي)، وإنما يقوم به آباؤه بعده أعظم، ويترتب على ما يقوم به “عليه السلام”.
(2) مناقب آل أبي طالب ۲: ۱۰۸؛ الفتن للمروزي: ۱۳۱.
(3) کنز العمّال 14: 594 و 595 / ح ۳۹6۷۹
(4) ينابيع المودة 3: 434/ ح 4.
المصدر:كتاب ” فقة علامات الظهور – تأليف الشيخ محمد السند البحراني (الرافد للمطبوعات)
يمكنكم تحميل الكتاب (هنا)
الرجعة