الخطيب-الحسيني

الخطيب الحسيني ودوره في تكوين العقل الشيعي / فضيلة الشيخ حسن تراب

الاجتهاد: كربلاء هي العنوان الأبرز شيعيَّاً وكما قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه الله: “الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء” فكربلاء لها دور عظيم في تصحيح المسيرة الإسلامية, وشهر محرم مناسبة متفردة في كل شيء فلها جاذبية خاصة تحظى بمشاركة كبيرة وزخم من التفاعلات والمجتمع في أقصى حالات التهيؤ والاستعداد النفسي والجسدي وكل الامكانات مسخرة لإحياء هذه المناسبة, فلا بد أن يستثمر هذا الاقبال الذي لا يتكرر في ايصال الرسالة الحسينية للعالم.

ومن أبرز البرامج التي تنتشر عالميا في هذه شهر محرم الحرام هي المجالس الحسينية التي تعقد لمذاكرة قضية سيد الشهداء عليه السلام, وهذه المجالس ليس وليدة اليوم بل هي من أقدم البرامج الحسينية حيث كان الائمة يعقدونها في بيوتهم ويشجعون عليها, وقد أثرت المجالس الحسينية في بناء الشخصية الشيعية عبر الخطاب الذي تقدمه.

ومن هنا أخذ الخطيب الحسيني موقعه من هذه القضية فعلى المستوى الديني والاجتماعي تفرد بدور فاعل ومؤثر, لكن للأسف نلاحظ في الفترة الاخير واعني منذ سقوط نظام البعث وحتى اليوم انحدر مستوى الخطاب الحسيني بشكل حاد وانعكس ذلك على الجماهير مما أدى الى نفور شريحة كبيرة من الشباب عن هذه المجالس واستغلال هذه الانحدار اعلاميا لإسقاط كربلاء والدين بشكل عام بنظر المستضعفين.

وفي هذا المقال سأتعرض الى الملاحظات رصدتها منذ سنوات لأهم المنابر الحسينية ذات التأثير الواسع في العالم وسأحاول اختصار بعض النقاط التي لابد من معالجتها في المنبر الحسيني متمنيا أن تأخذ هذه الملاحظات بعين الرعاية والمسؤولية.

_ الخطاب

الخطاب للأمة فهو يلبي حاجتها ويحل أزماتها, وعلينا أن نعي هذه المعادلة حيث أن فلسفة الشرائع التي جاء بها الأنبياء هي لمعالجة ازمات المجتمع والا لكان الدين شرعة واحدة, وليس الأمر كذلك, فالشرائع متعددة ومتغيرة بحسب حاجات المجتمع فحركة المجتمع تغير القوانين دائما, وفي هذا الوقت نعيش تغيرات كبرى وانفصام في الأجيال على كافة المستويات مازال الخطاب الديني يجر بالمجتمع الى الرجعية ولا يقدم له احتياجاته ويحل له الأزمات التي تعصف به,

فلابد من أن يلامس الخطاب أزمات الأمة ونمط تفكيرهم وفهمهم للأمور لا أن تطرح المسائل من غير رعاية لها وفهم لتواليها ونتجاهل مرتكزات المجتمع الذي نعيش فيه, وعلينا أن نعلم بأن قضية الأمام الحسين عالمية فلها بعد خاص وآخر عام حيث أنها تختص بالشيعة في بعد عقائدي وأيضا لها رسالة للإنسان بشكل عام فهي تستهدف اصلاحه ونشر العدل والقيام بالقسط,

ولابد أن يلحظ ذلك أيضا في الخطاب الحسيني, ولكن نلاحظ خطاباً هابطاً ورجعياً لا يناسب عالمية القضية بل ينفر منه الطليعة المثقفة من الشيعة وينتشر هذا الخطاب في الغالبية العظمى لأهم المجالس الحسينية, وباختصار هي:

أولا: التركيز على المأساة, لا خلاف على مظلومية سيد الشهداء وأهل بيته عليهم السلام وليس فيه ما ينكر حيث أن الجاني دون جريمته, لكن هنالك اسراف كبير في شرح المأساة وتناولها حتى أصبح المنبر عبارة عن مجالس للنياحة والبكاء فتغاضينا عن فلسفة هذا الحزن والدوافع التي لا بد أن يأسس لها ذلك الأسف على تلك الفاجعة فأصبح الإرشاد والتوعية على هامش المجالس, ونلاحظ أن صوت الخطيب وقدرته على استدرار دموع الناس باتت علامة جودته وليس علمه ومنطقه.

ثانيا: الكرامات والمعاجز, تلك المفاهيم استثناء في حياة الأئمة فنحن نعتقد بهم لا على أساس تلك الكرامات والمعاجز فنحن لم نشاهدها عيانا واذا ما اعتقدنا بها فلتسليمنا, فايماننا بهم لعلمهم الذي تفردوا بهم ولم يجتمع في غيرهم, فأين ذلك العلم في منابرنا؟!

فضلا عن أن هذه الكرامات والمعاجز نفس الأئمة حذروا من طرحها على الناس في كثير من المواضع فهي لخواص شيعتهم وأصحاب المنازل والدرجات كما أن بعض اصحاب الائمة ارتاب في تصديقها فكيف بشبابنا الذين آمنو بالأئمة حبرا على ورق, ألا ينبغي أن ترعى قدرتهم واستيعابهم وللأسف الكثير من المحبين لأهل البيت يستهزؤون بتلك القصص ويسخرون منها في الاعلام, لذا لا بد أن يراعي الخطيب جمهوره والاعلام ويذكر لهم ما يعظم أهل البيت في قلوبهم وعقولهم من خلال عرض معارفهم ومواقفهم العلمية والأخلاقية لا أن يسرد لهم معاجز غير قابلة لفهمهم وتحملهم وأشبه ما تكون بالحكايات الكارتونية بالنسبة لهم.

ثالثا: المبالغات, فالكذب للحسين كالكذب عليه, فنلاحظ بعض الخطباء يطرح الكثير من المواضيع الصحيحة مع حشو من المبالغات التي تخرج القضية من حقيقتها الى الخرافة, كالمبالغات التي يسردها بعض الخطباء عن عدد القتلى الذين وقعوا بسيف أبي الفضل العباس عليهم السلام فيذكر أعداداً قد لا تتحقق فيما اذا نفجر صاروخ بينهم فكيف تتحقق لقتال بالسيف؟!

رابعا: الاولويات, حيث أن هنالك أولويات يجب أن تلاحظ في الخطاب الحسيني وأن تأخذ مساحتها المطلوبة, لا أن تتحدث عن مواضيع قد تعتبر من الترف العلمي إن عد مثل هذا الحديث علميا, فمثلا بعض الخطباء استمعت اليهم وهم يتحدثون في محاضرة كاملة عن أن السيدة زينب أفضل أم الأنبياء؟! وآخر يتحدث عن نجاسة وطهارة دم الحسين عليه السلام, وآخر عن جد علي الأكبر لأمه وأنه كان من كبار الشعراء قبل الاسلام.

خامسا: الحديث المشوه, وهذه ايضا من الأزمات الكبيرة في الخطاب حيث يعتمد البعض على نصوص غير معتبرة بل لا يمكن اعتبارها فسمعت أحدهم يقول أن تربة قبر الحسين أفضل من عرش الله تعالى, ولا يقتصر الأمر على ذلك بل هنالك كتب عن قضية الامام الحسين عليه السلام شأنها هو سرد هذه الأخبار المشوهة والتي تحمل تعارضها في ذاتها.

سادسا: الخرافات, بعض المنابر قائمة على القصص الشخصية والمنامات والأوهام والتي في بعض مواردها تضحك الثكلى وتجعل من القضية الحسينية موضعا للسخرية, وفي جانبها الآخر هي عبارة عن قضايا شخصية فردية لا يمكن الاستفادة منها بحال وتوجيهها للمجتمع كقاعدة.

هذه بعض الظواهر مع بعض الشواهد وبشكل مختصر جداً, والمرجو أن يتخذ الخطاب الحسيني حيز العلم والمنطق العقلي الذي يترقبه المجتمع, وليس في منطق أهل البيت عليهم السلام ما هو على نقيض العلم والمنطق ولكن ما يفسد الأمر هو اسلوب الخطيب وبيانه, وسبب ذلك هي آلية صناعة الخطيب التي لم تخضع لرقابة وعناية كافية من المؤسسة الدينية, وسنتطرق لذلك في الفصل القادم.

_ الخطيب

الخطيب هو رأس مال الفكرة, والخطابة موهبة كما أنها معرفة عميقة وهي من أرقى القيم الكمالية التي يتصف بها الإنسان, مضافا لذلك كله أن الخطابة الحسينية احتلت موقعا محوريا في التبليغ الديني فالخطيب أكثر تأثير في المجتمع من الفقهاء ومن الكتب لأنه في تماس دائم ومباشر مع المجتمع,

كما أن الخطيب يفرغ عن لسان الإسلام, ولا أبالغ إن قالت بأن الخطباء هم من شكل الوعي الديني وبنى شخصية وعقلية الفرد الشيعي, ففساد الخطيب أو صلاحه ينعكس على المجتمع بشكل واضح, فهنالك مسؤولية كبيرة في آلية صناعة الخطيب وتحضيره لهذه المهمة العظيمة, وهنا ألاحظ بعض النقاط الصريحة في مراحل إعداد الخطيب الحسيني من الصناعة وحتى الاصدار.

أولا: الخطيب في الحوزة.

ومن صميم الواقع سأتحدث, لم يكن هنالك تخصصات في الحوزة فيما مضى فقد كان المرجع خطيبا وفقيها وفيلسوفا وشاعراً ومؤرخا لكن في القرون المتأخرة وبالتحديد عندما اقتصرت الحوزة على مباحث الفقه والأصول تم فرز الطلاب وتباينت التخصصات بين التحقيق والأستاذية والاجتهاد والخطابة, وأصبح الخطيب أقل حظوة بين أولئك, فغالبا ما يتم فرز الطلاب الفاشلين الغير قادرين على الاجتهاد او التحقيق ليصبحوا خطباء وأيضا يشار للخطيب بنظرة دونية حتى هذه اللحظة, علما أن بعض الخطباء أشمل معرفة وأكثر تأثيرا إلا أنه لا يحظى بالعناية اللائقة وحتى على مستوى بناء الخطيب لا ينال رعاية علمية خاصة بل يتم تسهيل عملية انفصاله عن الركب العلمي فلا يطالب بدراسة اكثر من المقدمات العلمية,

وهذه النظرة ساعدت الكثير ممن يطمع بالمال والوجاهة أن يتوجهوا للخطابة فهي مورد جيد للاسترزاق وللحصول على الواجهة الاجتماعية ولا تحتاج الكثير من التعب فالمطلوب هو صوت جميل ودراسة سنتين في الحوزة ليصبح العلامة الخطيب الفلاني.

ثانيا: معاهد الخطابة.

عندما يريد الطالب أن يتفرغ للخطابة الحسينية يلجأ للمعاهد المختصة فما الذي يجده, دروس مكثفة في الأطوار والمقامات وتجويد الصوت وتمارين على أساليب النعي, وحفظ الاشعار والمقاتل, وهنالك دروس مختصرة وسطحية جدا في تفسير القرآن والحديث والتأريخ, فضلا عن عدم وجود ضابطة لقبول الطلاب في تلك المعاهد.

وهذه ثغرات كبيرة في صناعة الخطيب الحسيني كما أنها منشأ الخطاب الهابط ولكي نرتقي بالمنبر الحسيني ونستثمر شهر محرم الحرام علينا أن نسعى لصناعة جيل من الخطباء أكفاء من خلال اعدادهم وتأهيلهم علميا ونفسيا وضمان حقوقهم الاجتماعية وتأمين مواردهم الاقتصادية ليكون خطابهم حرا قويا, وأن تحسن الحوزة العلمية نظرتها للخطيب وتعطيه من المكانة ما للمجتهد ولا تسمح لكل من هب ودب أن يرتقي هذا المنبر العظيم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky