الاجتهاد: يعود تاريخ الحوزة العلمية كجامعة للدراسات الإسلامية إلى العام 448هـ 1056م وهو التاريخ الذي دخل فيه الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي مدينة النجف، على أن بعض الباحثين يرى أن مدينة النجف لم تكن تخلو من العلم والتجمعات العلمية قبل مجيء الشيخ الطوسي،
إلا أنه يمكن القول: إن العلم أخذ بالإزدهار في عصره، ومما يجدر ذكره أن عملية تلقي العلوم الدينية في النجف قد بدأت منذ القرن الثالث الهجري ووصلت إلى أوج إزدهارها في عهد عضد الدولة أحد الملوك البويهيين، حيث فسح المجال لرجال العلم المقيمين في النجف (1)،
غير أن الدراسات العلمية قد أخذت طابعها المنهجي على يد الشيخ الطوسي الذي – وكما تذكر المصادر – كان أول من فتح باب التدريس على طريقة الاجتهاد المتبعة اليوم في النجف، وهو أول من جمع من علماء النجف بين الحديث والفقه والأصول في مؤلفاته، وأوجد هيئة علمية ذات حلقات ومنذ ذلك الحين اخذت تَفِدُ على مدينة النجف أعداد كبيرة من طلاب العلم، ويذكر الشيخ محمد حسین المظفر إن عدد طلاب مدرسة النجف قبل الإحتلال الانكليزي للعراق يقدر بنحو عشرة آلاف طالباً (2).
ويذهب بعض الباحثين إلى أن حوزة النجف هي إمتداد لمدرسة الكوفة العلمية التي شيّدها الإمام علي “عليه السلام” وبلغت ذروتها في عهد الإمام الصادق “عليه السلام”.
ولم تكتسب الحوزة العلمية مكانتها في تاريخ الفكر الإنساني الشيعي بوصفها جامعة كبرى لتلقي العلوم الدينية وحسب فهي بالإضافة إلى دورها في إعداد وتهيئة الكوادر العلمية المتخصصة في علوم الدين تعتبر مركز الجهاز المرجعي العام الذي به يقود المرجع الأمة.
وبواسطة مجموعة من أساتذتها الكبار والكوادر الإدارية والخطابية فيها تتم عملية توجيه موقف الأمة الديني، ولا تقوم الحوزة بدورها العلمي هذا بمعزل عن الأحداث والمتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تعصف بالمجتمع الإسلامي، أي أن تلقي العلوم الدينية وتربية جيل من العلماء الدينيين لم يكن شاغلها الوحيد فهي تسعى إلى وضع منهجية لها أثرها في بناء شخصية الطالب فكرية وقيادية،
وعلى سبيل المثال أن «الزعامة الإسلامية في الفتيا والتدريس والإدارة في النجف لا ترتبط باي جهة سياسية مهما كان شكلها وإمكانيات الفقيه الشخصية من فكرية وقيادية هي التي تخوله نسنم هذه المكانة الرفيعة من الحوزة والوطن الإسلامي، حيث لا يُعين المرجع بمرسوم من مصدر رسمي ولا تأتيه هذه المكانة بطريقة الانتخاب من فئة معينة سياسية كانت أو حزبية وليس للدولة والجهاز الحاكم بها أي دخل في تعيينه (3) أو عزله، ولقد واصلت الحوزة العلمية دورها الريادي والتوجيهي، وأن الثقل المحوري لهذا الدور يتغير وفقا لتغيرات المرحلة.
وفي القرن الحالي حيث تعددت اشكال الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي، تعددت جهود المرجعية وأساليبها بين الفكر والسياسة والجهاد والفقه، ولقد كان الإمام الخوئي احد اکابر المراجع الشيعية التي تركت بصماتها على النظام الحوزوي وعلومه وتخصصاته، وبفقدانه تكون هذه الحوزة – وفي المرحلة الراهنة – قد تعرضت إلى خسارة هائلة، وإلى امتحان عسير لما للإمام الراحل من دور زعامي لا يمكن ملء فراغه إلا عبر جهود استثنائية ومشتركة للعلماء والمراجع العظام.
کتب أحد العلماء في عام 1950م مقالا عن الإمام الخوئي(قدس سره) قال فيه: «هو من أبرز العلماء والمراجع العليا الشهيرين، نال المرجعية في التقليد وحاز التفرد في التدريس وجمع بين أصناف العلم وقرن بين العلم والتقوى، وهو ممن لا نظير لجامعيته إلا في السلف الصالح من أساطين علمائنا وأعلام رجالنا».
وقال أيضا: «إن السيد الخوئي بلغ الإنفراد في التدريس بفضل علمه وبيانه وجمع بين أصناف العلوم وشدّة إنكبابه على الاطلاع والتتبع، وقرن بين العلم والتقى لأخذه بالعمل الصالح من وراء العلم، ونمسکه باتباع خطوات الدين(4).
علماؤنا ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) :
يمثل الإمام الخوئي (قدس سره) حلقة من حلقات القيادة الشرعية ورمزا من رموز مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تلك المدرسة التي وضع أسسها رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” وشخصها الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)، ولم نجد مدرسة فكرية إلّا وضعفت بتعاقب الزمان عليها إلّا مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي كانت كلما تطاولت القرون عليها زادتها أصالة وتجذراً في نفوس وضمائر اتباعها وفرضت على كل المسلمين إحترامها.
ولذلك لا يمكن أن نتناول شخصية الإمام الخوئي دون أن نفهم المنبع الذي نهل منه فقيدنا المعظم ونعلم الموقع الذي حدده الإسلام للفقيه.
جاء في الحديث عن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” أنه قال: اللهم إرحم خلفائي، قيل: ومَن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال : الذين يأتون من بعدي وسيروون حديثي وسنتي”، وهكذا الأئمة المعصومون الاثنا عشر ركزوا تلامذتهم الفقهاء محاور قيادية في مواقع الموالين والاتباع.
ثم اكتملت الصورة التي أرادتها مدرسة السماء للمؤمنين على يد خاتم الأوصياء بقية الله في الأرض حين منحهم شرف النيابة عنه فنصبهم علينا حججاً وحكاماً وأمرنا بتقليدهم كما ورد في روايات عدة عنه عجل فرجه(5) .
ثم أن الباحث المتتبع لا يجد نصاً واحداً يرشد الأمة لقيادة غير الفقهاء، هذا ما فهمته الأمة بعد بذل الأئمة المعصومون جهدا في تثبيت هذا المفهوم، ومع تمسك الأمة بعقيدتها التي تدعوها للطاعة لولاة الأمر تتصاعد مؤامرات الطغاة الذين لا يروق لهم إتباع الأمة للقيادة الشرعية لما لهم من أطماع في الملك والسلطان.
وقد جرئ صراع الشياطين مع كل القيادات الربانية بدءاً برسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم”، ومروراً بما عاناه الأئمة في عهد الأمويين والعباسيين ومثلهم عاش خلفاؤهم في عصر غيبة الإمام (6) .
إن وضوح الدليل الشرعي الذي يأمر الأمة باتباعهم يتبعه تخوف الظلمة وفزعهم من تلك الوجودات النورانية، فيحاولون إستمالتهم ولكنهم عندما يعجزون عن ذلك يلجأون للإرهاب الفكري والاعلامي حيث يسعى الظالمون إلى تشويه صورة القائد الشرعي وذلك بخلق وجودات لا تمتلك المؤهلات الشرعية للقيادة في محاولة لمحورة الناس حولهم من أجل أن يطفئوا ۔ کما يوهمهم غباؤهم – نور الله تعالى فيسعون للتآمر على القائد الشرعي وقتله فيرتفع هو عند الله درجات ويبوء الظالمون بالإثم ويبقى دمه يلاحقهم ويقض مضاجعهم، كما بقي دم حجر بن عدي يؤرّق ويقلق ويزلزل كيان معاوية.
هذا ما عشناه بعين الواقع مع القيادة النائبة في عصرنا، فقد حاول الطغاة استمالة الإمام الحكيم ولكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل الذريع. ولما رأوا خيبة أملهم تعمي أبصارهم وتسدّ منافذ النور في أعينهم وآمالهم سخروا كل طاقاتهم لتشويه صورة السيد والتشويش على شخصيته ولكنهم لم يفلحوا وارتدوا على أعقابهم خاسئين إلى أن إرتحل عن هذه الدنيا مظلوماً صابرا محتسباً، وقد اعدوا العدة من جديد مع السيد الشهيد الصدر (رض) ولكنهم تجرأوا على مقامه السامي وامتدت أياديهم القذرة إلى نحره الشريف وسالت دماؤه الزكية التي لم تزل تسأل عن الثأر.
ولكن غائرة الصدور انفجرت مع إنفجار النور في إيران الإسلام ولم يكتفوا بالأساليب الماضية التي استخدموها مع المراجع السابقين بل إتحدّ ظلمة العالم وناهبي الشعوب المستضعفة ليعلنوها حرباً ضروساً على الجمهورية الإسلامية وقائدها العظيم والمرجع الكبير آية الله الإمام الخميني (قدس سره) ولكنه (رض) وقف لهم بالمرصاد حتی مرّغ أنوفهم في الوحل إلا أنهم استخدموا أقذر واخبث الوسائل والمؤامرات والدسائس ضد الجمهورية الإسلامية إلى أن رحل الإمام مظلوماً منتصراً ولما نزل المؤامرات.
واخيراً لم يجد الطواغيت راحة وهم يرون المرجعية في النجف تمند جذورها إلى أقطار العالم وقلوب المؤمنين والمسلمين فيها ولا سيما وأن المرجعية الرشيدة وزعامة الحوزات العلمية بيد حفيد الإمام جعفر الصادق (عليهم السلام وإن وجودها لم يجعل النوم يهتدي إلى جفونهم المتقرحة، فلا بد من تطويق السيد الإمام الخوئي وفرض الرقابة عليه ومحاربته بالأسلحة النفسية واتباعه والهجوم بشراسة على طلاب الحوزة العلمية وعلمائها وتهجيرهم إلى خارج البلاد بحجة عدم عراقيتهم وتبعيتهم في الأصل إلى إيران بغية تفتيت الحوزة العلمية وليتفرّغوا لبقية الطلبة والعلماء العراقيين ليستبحوا دماءهم وليملأوا بهم السجون ولیشرِّدوهم عن وطنهم..
وهذا وغيره كثير قرّح قلب المرجعية وفؤاد الإمام الخوئي على كبر سنه وشيخوخته حتى تراكمت عليه الأحزان وألمّ به الهمَّ والغمَّ فماتَ کمداً.
إن هؤلاء المراجع العظام “الصدر، الخميني، الخوئي”، قد تعرضوا للظلم أيضا من بعض الأوساط التي يفترض أنها مؤمنة وحتى بعد أن انتقلوا إلى الرفيق الأعلى وإلى اليوم وهم عرضة للتجريح من قبل بعض هؤلاء، والسبب هو أن ذوق هذا الإنسان أو هذه المجموعة لا يتفق مع مسار هذا المرجع أو ذاك وهذه الظاهرة في الواقع نابعة من بساطة المنتقدین وسذاجتهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن السعي لتقويض هيبة “القيادة الشرعية”، منکر ومن أشد المنكرات، فكرامة المؤمن العادي عند الله أهم من الكعبة فكيف باعاظم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم” ونواب الإمام المنتظر، ويكفيهم فخراً أن أعداءهم ومحاربيهم أعداء الله ورسوله.
كما إن تمسكنا بقيادتهم نابع من إيمان بالعقيدة الإسلامية ومستند إلى حقائق علمية أثبتت التجربة صحتها وثبت أن الفقهاء العظام هم أقرب الناس لروح الشريعة وأبعد ما يكونون من الانحراف. فتاریخ الغيبة الكبرى يتحدى أن يجد الباحث موقفاً خائناً أو إنهزامياً أو إنحرافياً في قيادة العلماء العظام.
الهوامش
(۱) الكامل لابن الأثير ج 8 / 334.
(2) الكامل لابن الأثير
(3) النجف، جامعاتها ودورها القيادي : علي البهادلي 15 / 89.بیروت.
(4) مجلة الموسم العدد 6.
(5) أئمة أهل البيت “عليهم السلام” دورهم وحياتهم: الشهيد الصدر (رض).
(6) المصدر السابق .
المصدر: كتاب سيرة حياة الإمام الخوئي، دراسة عن حياته العلمية ونشاطاته الفكرية والاجتماعية في إطار الحوزة الدينية
المؤلف: أحمد الواسطي
عدد الصفحات: 120 صفحة
الناشر: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر التوزيع – إبداع للنشر
الطبعة الأولى 22013م – 1434هـ