الاجتهاد: وأَذِّنْ فى الناسِ بِالْحجِّ يأْتوكَ رِجالًا وعلَى كُلِّ ضامرٍ يأْتينَ منْ كُلِّ فَجٍّ عميق» – سورة الحج. / تظل طقوس الحج واحدة من أهم الممارسات الدينية للمسلمين فى جميع أنحاء العالم.
فهو أحد أركان الإسلام وأهم واجب دينى للمسلمين عبر التاريخ. يسافر الحجاج لمسافات طويلة ويتجمعون فى مواكب بالملايين فى مكة ليقوموا بمجموعة من الشعائر الرمزية التى تصور حياة أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام
وتعيد تمثيل الرسالة التوحيدية التى أرسلها الله للبشرية من خلال خاتم مرسليه محمد، صلى الله عليه وسلم.
عندما يذهب المسلمون إلى الحج يتذكرون المُثل الأخلاقية لإبراهيم وإسماعيل وهاجر، عليهم السلام. يتمتع الحج كرحلة روحية وكتقليد دينى حى بتاريخ طويل من التعقيد.
فى هذا الملف نحاول النظر عن قرب إلى هذا التعقيد
لنعرض بعض الجوانب المتنوعة للحج وتنظيمه على نطاق عالمى باعتباره ظاهرة دينية واقتصادية واجتماعية وسياسية، وكيف يمكن للحج أن يكون وسيلة لتشكيل الهوية والقوى الاجتماعية، ونرصد تأثيرالحداثة على التجربة الروحية وكيف أدت إلى تجزئة الدنيوى والروحى، وكيف شكلت تقاليد الحج دائما مواقع مادية فى ممارسات الاستهلاك والإنتاج.
نستكشف أيضا كيف دخل الحج فى صراع التنافس بين القوى الاستعمارية الكبرى بدافع درء المخاطرالكامنة لها فى الحج، الأمر الذى قادنا إلى إلقاء نظرة على قضايا مثل الصحة العالمية وتقاطع الأمراض المعدية والحج وكيف فرضت القوى الاستعمارية السلطة والوصاية على الحج وتنقل الحجاج بدعوى حماية الصحة العالمية.
يدور الحج حول اكتشاف الذات وإعادة بناء علاقة روحية سليمة مع الله يتطهر خلالها الإنسان من ذنوبه، ليبدأ من جديد بفرصة أخرى للقرب أكثر من الله، وثقافة الطقوس المرتبطة به تشير إلى الحالات أو المراحل الروحية التى يمر بها المسلمون أثناء الحج.
ومع ذلك، فإن هذه الروحانية ترتبط بثقافات مادية، شكلت سياقات تاريخية واجتماعية متغيرة، فالمصنوعات اليدوية والأشياء والجماليات والملابس وممارسات الاستهلاك التى صاحبت الرحلة إلى الأماكن المقدسة، وممارسات التقوى التى أتت جنبا إلى جنب مع التقاليد الحية تعمل كلها بمثابة تذكير بتقاطعات هذه الثقافة فى سياق حياة المسلمين.
وهذا يحلله كتاب «الحج الإسلامى فى العالم الحديث» تحرير باباك رحيمى، وبيمان إشجى، كاشفا كيف يتم اختبار الطقوس والممارسات والمؤسسات فى سياق رأسمالية عالمية لا هوادة فيها.ففى ضوء تنوع المجتمعات المسلمة عبر التاريخ، تضمنت ثقافة الحج هذه أيضا ممارسات متنوعة تراوحت بين أكثرها شعبية فى المناطق الحضرية إلى تلك المعروفة بالمناطق الريفية.
من نواحٍ عديدة، تعكس ممارسات الحج المتنوعة أيضا النضال الداخلى للمجتمعات المسلمة من أجل إعادة تعريف الإسلام من خلال الأداء التعبدى المشحون بالأهمية الروحية، وكيف يمكن لممارسات الحج ومرجعها الطقسى أن تصبح فضاءات لتحديد الهوية والمطالبات المتنافسة بالسلطة الروحية والدنيوية فى الحياة العامة.
يمكن أن يساعد ذلك فى فهم كيفية تعامل المسلمين مع التغيرات ومحاولة الحفاظ على الممارسات والتقاليد الدينية فى العصر الحديث «عصر الرأسمالية العالمية»، الذى ينظرإليه على أنه العصر الذى «يواجه فيه الدين تسليعا متزايدا فى سوق المنافسة المعيارية». فمثلا يعتبر الحجاج الأمريكيون أكثر ثراءً من الغالبية العظمى من مسلمى العالم الذين ينضمون إليهم فى أداء مناسك الحج، وهذا يجعل تجربة الحج الأمريكية مميزة، ناهيك عن كونها استثنائية ماديا فى أحيان كثيرة.
وسيلة لتشكيل الهوية والطبقية
بالإضافة إلى كون الحج وسيلة لتشكيل الهويات الإسلامية فهو أيضا وسيلة لتشكيل القوى الاجتماعية. بالإضافة أيضا إلى الطرق العاطفية التى يخضع لها الحجاج للتغيير فى العلاقات الاجتماعية، ومن المفارقات أن مثل هذه التغيرات الاجتماعية التى تتفاقم تعمل من خلال الهويات المتقلبة بالفعل على ترسيخ الحقائق الاجتماعية للحجاج.
الديناميات الاجتماعية لأداء فريضة الحج لها أبعاد مختلفة، ولكنها بشكل عام، مرتبطة بعوامل دنيوية، يستلزم الكثير منها ممارسات طبقية، بهدف اكتساب مكانة اجتماعية أو ازدهار مادى، خاصة عند العودة من الحج، حيث تعد المغادرة والعودة إلى المنزل أمرا أساسيا للحاج. إن الحاج العائد يكتسب التقوى من خلال شبكة العلاقات الاجتماعية بدرجات متفاوتة خاصة بالمنطقة التى يعود إليها، وكيف يتم استقبال الحاج العائد من قبل العائلة والأصدقاء،الجيران وزملاء العمل. إذا كان الحاج لديه الوسائل المالية والاجتماعية للقيام بذلك، فسيسهل عليه اكتساب المكانة المتميزة والهيبة والتأثير الاجتماعى.
منذ النصف الثانى للقرن العشرين، مرت منزلة الحج بنوع مختلف من التغيير فى شكله بمرحلة ما بعد الاستعمار، اكتسب الحج رأس مال رمزيا جديدا ليس بسبب مشقة السفر، كما كان واضحا فى حقبة ما قبل القرن التاسع عشر، ولكن بسبب التأثير الاجتماعى، والقدرة على تجاوز البيروقراطية والعمليات التنظيمية التى تتراوح بين الحصول على جواز سفر أو تأشيرة، أو حجز تذكرة الطيران والفنادق.
رأس المال أيضا أمر بالغ الأهمية لتجربة السفر فى الحج. يستلزم الحج وضعا اقتصاديا يعزز بدوره الروحانية للفرد.فى سياقه الحديث، أعيد بناء رأس المال فى صورة اجتماعية ناشئة حول العلاقات والمكانة.
حداثة تربط الدينى بالمادى
حداثة الحج لم تنفصل تقريبا عن تجربة الحداثة فى سياقاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المختلفة، فالسمات الفريدة للحج الحديث لا تزال تندمج مع العالمية التى أدت إلى تفاهمات متنوعة حول التدين، والتجربة الحديثة، بما تنطوى عليه من تحديات لكيفية تخيل الدين فى الحياة اليومية، تستلزم تجزئة الدنيوى والروحى، على الرغم من عدم تضاؤلها، ومع الوصول السريع الذى يجلبه السفر الجوى عبر القارات، يمكن أن يتحول الحج إلى تجربة سياحية استهلاكية بالقرب من موقع مقدس، بالنسبة للكثيرين، وساعد على ذلك البناء المستمر لمراكز التسوق الراقية والفنادق الفخمة والأماكن الترفيهية فى مكة حول الكعبة.
وشكلت تقاليد الحج دائما مواقع مادية فى ممارسات الاستهلاك والإنتاج، فتبادل الهدايا التذكارية تعمل أيضا كشكل من أشكال الثقافة المادية، فى إنتاج الهويات الاجتماعية القائمة على الطبقة والنوع والعرق.
ساهم فى ذلك التقاء الحج والأنشطة الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالبازارات المؤقتة والدائمة، حيث كانت المنطقة المجاورة لوجهات الحج مناسبة للحجاج للانخراط مع شبكة المعاملات الاقتصادية.
اقتصاد الهدايا التذكارية التى يشتريها الحاج ليعود بها إلى وطنه يؤكد التشابك بين الاجتماعى والدينى مع الاقتصاد.
ظاهرة متعددة الأبعاد
عن الجوانب المتنوعة للحج وتنظيمه على نطاق عالمى باعتباره ظاهرة دينية وثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية؛ يأتى كتاب «الحج فى الإسلام» تحرير إريك تاجلياكوزو، وشوكت م. توروا، الذى يساعد فى بناء سرد للحج نفسه.
يدمج ذلك السرد التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والدين، من عصور ما قبل الإسلام إلى أيامنا هذه. بما فى ذلك يقدم نظرة ثاقبة على قضايا مثل الصحة العالمية وتقاطع الأمراض المعدية والحج.
تبدأ الرحلة الاستقصائية للكتاب بتاريخ الحج وتطوره، وتحديد جذوره فى العصور القديمة، قبل ظهور الإسلام، وتتبع نسبه إلى آدم، ويصف أشكال الحج الأخرى التى كانت سائدة فى جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية فى أواخر العصور القديمة من خلال التحقق من النقوش على الحجارة والجدران.
وعلاقة مكة العميقة بطقس تضحية إبراهيم عليه السلام بولده إسماعيل. فالحج يعد ممارسة تذكارية سنوية بتضحية إبراهيم عليه السلام ورضائه واستسلامه لأمر الله، وتحمل زوجته السيدة هاجر المشقات فى الأوقات الصعبة.
بين البر والبحر..تنافس على طرق الحج
ويوضح الكتاب أيضا ارتباط الممارسة الدينية للحج بالشئون السياسية ويستكشف تاريخ النزاعات بين القبائل العربية ويتتبع تطورها. ويرصد مشاريع الطرق الممتدة إلى الحجاز من أجزاء مختلفة من الإمبراطوريات على مدى تاريخ الحج. وسبب تفضيل الحج عن طريق البر لأنه يتفق أكثر مع التقاليد الإسلامية وفق ما جاء فى القرآن الكريم كما فى سورة الحج: «وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»، أى يأتوك ركبانا على كل ضامر أى بعير من كل مكان.والذى اتفق عليه معظم المفسرين بأن الحج راكبا أفضل من باب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه توجه للحج راكبا، لذا كان السفر البرى ولا يزال فى صميم ممارسات وطقوس الحج خاصة عند التوجه من مكة إلى جبل عرفات.
الملايين يبتهلون سنويا على جبل عرفات
بعد تطويرالسفن البخارية وإمكانية السفر بحرا سمح ذلك للحج إلى مكة المكرمة إلى يتخذ مكانا كجزء من مشروع الحداثة العالمى. إذ استغرق السفر بالبواخر وقتا أقل من السفر برا وتكلفة أقل، وبعد إمكانية السفر جوا بالطائرات أصبحت الطريقة التى يسافر بها الحجاج تعتمد أكثر على وضعهم الاجتماعى.كانت تكلفة الرحلة البرية حتى مرتفعة على قطاع كبير من الحجاج مثل المزارعين والحرفيين والأغلبية كانوا مسنين.
فى منتصف القرن الثامن عشر كانت التكلفة الإجمالية للرحلة بالقافلة حوالى 200 قرش، أكثر من قيمة سعر شراء منزل بدمشق فى ذلك الوقت حيث كانت قيمته حوالى 175 قرشا.
بينما قلل النقل البحرى والجوى تكلفة ومدة الرحلة لكن التحولات الاقتصادية المصاحبة للاستعمار والحداثة بوجه عام دفعت الطبقات الفقيرة والوسطى من الحجاج إلى الاقتراض وبيع جزء من ممتلكاتهم لتغطية نفقات الحج.
وفى العصور الوسطى كان التنافس بالسيطرة على طرق الحج مجالا للصراع على النفوذ والسلطة، سواء تلك التى تمر من مصر أو الحجاز أو بلاد الشام، لذا كانت طرق الحج تتعرض للهجوم من قبل أعداء الخلافة والحكام المسلمين، الأمر الذى دفع الكثير من الحكام والخلفاء المسلمين لشق الطرق الآمنة للحج وتأمين قوافل الحج بل وقيادتها بأنفسهم فى بعض الأحيان، حيث كانت رعاية الحج تلعب دورا لا يستهان به فى تعزيز وترسيخ سلطة الخليفة، كما كان يضفى ذلك قدرا من التواضع والتقوى على سلطة الحاكم.
فى قلب صراع القوى الاستعمارية
وفى القرنين التاسع عشر والعشرين، تحركت الدول الإسلامية بقوة لإدارة الحج ودخلت فى المنافسة القوى الاستعمارية الكبرى مثل بريطانيا وهولندا، وروسيا، بدافع درء المخاطرالكامنة لها فى الحج والسيطرة على رأس المال السياسى الذى يمكن كسبه.
وكان انتشار الأمراض الوبائية، وتداول الأفكار الداعية للتحرر ومناهضة الاستعمار يتصدران تلك المخاطر بالنسبة للقوى الاستعمارية التى أنشأت شركات شحن للسيطرة على الحج وحاولت بشكل متزايد تركيز الحجاج على سفن محددة، برفقة مراقبين وأطباء تابعين لها.
بحلول أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان نصف الحجاج يأتون إلى مكة عن طريق البحر، حيث كان السفر البحرى أرخص، خاصة بعد ثورة البخار التى بلغت ذروتها وافتتاح قناة السويس.
واحتكرت البحرية الأوروبية المسيطرة على المحيط الهندى شركات الشحن التى نقلت الحجاج من آسيا إلى الحجاز.
ونافست القوى الاستعمارية على طرق الحج والتجارة لتعظيم سيطرتها وسلطتها، ففى عام 1887، من بين 135 سفينة تنقل الحجاج إلى جدة،
كانت 53 منها إنجليزية و15 هولندية، وبحلول عام 1923، احتكرت السفن البريطانية نقل 74 % من الحجاج، فى حين احتفظت السفن الهولندية بـ20% من الحجاج، وتقاسم الآخرون النسبة الباقية، فيما أحجمت فرنسا عن دخول هذا السوق بل وفرضت قيودا على حركة الحجاج فى الدول التى احتلتها خوفا من المخاطر الصحية والسياسية.
العلاقة بين الحج والصراع الاستعمارى
وفى كتابه «مكة تحت الحكم الاستعمارى: العثمانية العربية والحج من المحيط الهندي». يقول مايكل كريستوفر لو كانت منطقة الحجازخاضعة للإمبريالية لفترة طويلة، على الرغم من أنها كانت اسما تحت السيادة العثمانية لقرون، إلا أنه من المفارقات أن الإمبريالية البريطانية فى القرن التاسع عشر هى التى أجبرت إسطنبول على محاولة تعزيز سيطرتها على المنطقة.
يضع كريستوفر لو الحجاز كمكان بين عالمين إمبراطوريين، ويوضح كيف أدى صعود الحكم الاستعمارى الأوروبى على الأراضى الإسلامية إلى تغيير علاقات الدولة العثمانية بالبلاد الاسلامية، وكيف كان المسلمون الهنود المقيمون فى الحجاز يمثلون حصان طروادة البريطانى من خلال اكتساب الجنسية البريطانية وقدم هؤلاء المسلمون الأجانب ذريعة للقوى الأوروبية الاستعمارية مثل بريطانيا وروسيا للتدخل فى شئون الأماكن الإسلامية المقدسة.
حجاج يخيمون فى ضواحى مكة عام 1880
فبريطانيا، التى شاركت فى بناء قناة السويس وحراستها كانت قلقة بشأن التطرف الإسلامى كما كانت متعطشة لإمبراطورية أكبر. وهكذا حرصت على أن يكون لها موطئ قدم فى الحجاز، مقدمة حجة ذات شقين: أنه كان من واجبها حماية رعاياها هناك وأن العثمانيين ليسوا حكاما شرعيين، لأن عرب قريش فقط هم من يستطيعون المطالبة بهذا.
وتم التعامل مع الحج فى عصر السفن البخارية على أنه تهديد أمنى محتمل للأنظمة الاستعمارية الأوروبية، بما فى ذلك الهند البريطانية وإندونيسيا الهولندية والجزائر الفرنسية وآسيا الوسطى الروسية. وكانت الدول الاستعمارية تخشى من مكة باعتبارها مكانا لاجتماع المنفيين المناهضين للاستعمار والخارجين عن القانون أو منفذا للدعاية الإسلامية المؤيدة للعثمانيين. بينما اتبعت بريطانيا وروسيا برامج مراقبة، وطورتا بمرور الوقت أيضا إستراتيجيات أكثر تعقيدا تهدف إلى كسب ود رعاياهما المستعمَرين المسلمين من خلال تقديم أنفسهم كميسرين ورعاة، وحتى حماة للحج.
يُظهر انخراط الإمبراطورية البريطانية الطويل فى الحج أنه على الرغم من أن مزيجا من المخاطر الأمنية الطبية والسياسية قد وفر بعض الدوافع الأولية لتعميق مشاركتها فى الحج، إلا أن المسئولين البريطانيين أصبحوا على دراية بمرور الوقت بالاحتياجات الطبية والقانونية والمالية للرعايا الهنود وغيرهم من المسلمين البريطانيين الذين يسافرون إلى الحجاز أو يعيشون فيه.
هذا الاهتمام الإثنوغرافى والعملى الجاد بالتفاصيل اليومية للحج أعاد تشكيل السياسة البريطانية تدريجيا. تم استبدال التخيلات المعادية للإسلام من التخريب المناهض للاستعمار، أو على الأقل تلطيفها، بمخاوف أكثر واقعية وملحة بشأن الوقاية من الكوليرا، وتحقيق المكاسب من تنظيم السفر والشحن بالسفن البخارية، والتمثيل القنصلى.
وبالتالى، بدلاً من التركيز فقط على استئصال التهديدات الأمنية المحتملة، بدأ المسئولون بإعادة تركيز اهتمامهم على إدارة وتنظيم حج البواخر. ومن خلال هذه العملية شكل قيام بريطانيا بإدارة بيروقراطية الحجّ على نطاق الإمبراطورية تحديا متزايدا لشرعية السلطان والخليفة العثمانى باعتباره الوصى الوحيد على الأماكن المقدسة الإسلامية والحجّ.
فى هذه العملية، وقع الحجاز والحجّ فى شرك صراع غير متكافئ بين الادعاءات المتنافسة التى تؤلب على سيادة الخلافة العثمانية على الحرمين (مكة والمدينة) والسلطة الروحية على المسلمين من غير العثمانيين الذين يعيشون فى ظل الحكم الاستعمارى ضد القوة التكنولوجية والعسكرية والدبلوماسية والقانونية للإمبراطورية البريطانية، وهى دولة غير مسلمة.
لم تكن بريطانيا أبدا الحامى «الخيِر» للحج كما تدعى. ودائما ما وجه حساباتها حرصها على استمرار الحكم الإمبراطورى ورغبتها بالحفاظ على هيبتها بالعالم الإسلامى.
على الرغم من ذلك النفاق فقد أجبرت الدولة العثمانية على الدفاع عن نفسها بطرق لم يكن من الممكن تصورها سابقا، وإعادة النظر بشكل أساسى فى الحجاز والحجّ على أنهما مساحات معرضة للخطر، وحتى شبه استعمارية.
تماما كما ادعت القوى الأوروبية منذ فترة طويلة أنها تحمى رعايا الإمبراطورية العثمانية المسيحيين من الاستبداد والعنف، فقد ادعت تلك القوى الحق فى حماية رعاياهم المستعمرين المسلمين وحتى أقدس طقوس الإسلام من الفساد العثمانى وعدم الكفاءة وسوء الإدارة.
نظرا لظهور أزمات مثل الكوليرا والحجر الصحى وتنظيم السفن البخارية وضوابط جوازات السفر والتمثيل القنصلى كمسائل ذات أهمية عالمية ومصلحة للإمبراطوريات الإستعمارية. ولم تكن البواخر تحمل الحجاج وجوازات السفر والأوبئة فحسب، بل شبح الإمبريالية القانونية والتدخل الاستعمارى أيضا.
على مدى نصف قرن تقريبا من خمسينيات القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، أفسح خوف الهند البريطانية من الحجّ باعتباره ناقلا للتخريب المناهض للاستعمار الطريق تدريجيا إلى حماية إدارية وقانونية وطبية متطورة بشكل متزايد على بواخر الحجّ فى وقت مبكر من ثمانينيات القرن التاسع عشر، ووجدت الإمبراطورية العثمانية نفسها فى مأزق غير مسبوق.
ظل السلطان – الخليفة صاحب السيادة الشرعية المسئول عن إدارة وحماية الحج البرى. ولكن مثلت الوصاية على بواخر الحج عصرا جديدا من مجالات الحكم أجبر السلطان – الخليفة على تحمل عبء مزدوج: كان على الدولة العثمانية أن تواصل واجباتها التقليدية وممارسات الوصاية وأن تنسق فى الوقت نفسه إدارتها للحج مع القوى الاستعمارية المتنافسة المتحكمة فى البواخر والعازمة على تقويض الشرعية العثمانية.
الوصاية بدعوى حماية الصحة العالمية
بسبب تفشى وباء الكوليرا المتكرر بين الحجاج خلال العقود الماضية، أصبحت إدارة الحجّ وتنقل الحجاج موضوع تدقيق دولى.
تم تصنيف الحجاج على أسس عنصرية وتمييزهم على أنهم فئة خطيرة من مسافرى ما قبل الحداثة، مما يتطلب ممارسات وثائقية جديدة ومراقبة طبية مستمرة وفرض قيود على تنقلهم وسفرهم.
جعلت السفن البخارية الحج فى متناول الحجاج المتواضعين. كان حجاج المحيط الهندى يمثلون ما يقرب من نصف الوافدين عبر المحيط فى تسعينيات القرن التاسع عشر.
وكان الهنود هم الناقلين الرئيسيين للكوليرا. فى عام 1865، قضت الكوليرا على ما بين 15 – 30 ألف حاج من إجمالى 150 ألفا. كان حجاج الهند مصدر الوباء. انتشر الوباء على نطاق واسع مع عودة الحجاج إلى منازلهم مما أدى إلى فقدان أكثر من 200 ألف من أمريكا الشمالية وأوروبا.
ومع تفشى وباء الكوليرا عقد العديد من المؤتمرات الدولية منذ عام 1851 وحتى عام 1885، استهدفت تلك المؤتمرات بشكل صريح الحجاج. فى عام 1866 عقد المؤتمر فى القسطنطينية بعد تفشى وباء الكوليرا فى مكة، سيطر العداء بين الأوروبيين الغربيين ومندوبى الدول المسلمة فى المؤتمر وأدى للاحتجاج الشديد لممثلى الدول الإسلامية على اقتراح فرنسى بالمقاطعة الشاملة وفرض العزلة على الحجاز وبالتالى احتجاز الحجاج بدون مؤن غذائية ودوائية ووسائل انتقال كافية.
لاحتواء الوباء من خلال أنظمة المراقبة والاستجابة للطوارئ العابرة للحدود. وكان الهدف من وراء ذلك عزل أوروبا عن كل التعاملات مع العادات الشرقية التي تعتبرها غير مثقفة وغير صحية.
لذا فإنه لاحقا فى مؤتمر دولى عقد عام 1929 فى بيروت كانت التوصية بضرورة التطعيم الإلزامى ضد الكوليرا والجدرى، تلا ذلك فرض العديد من القرارات والقيود على تنقل الحجاج، وبذلك مارست الهيئات الدولية والقوى الاستعمارية الإمبريالية المختلفة التمييز والسلطة والوصاية على الحجّ بدعوى حماية الصحة العالمية.
فى السنوات الأخيرة، ظهر الحج مرة أخرى فى النقاشات المتعلقة بالصحة العالمية.
فى 2009، برزت المخاوف بشأن دور رحلة الحج والاختلاط بين الحجاج فى انتشار فيروس أنفلونزا الخنازير، وفى 2012 و2013، كانت هناك شائعات حول تفشى متلازمة الشرق الأوسط التنفسية أو متلازمة ميرس خلال الحجّ مما أثار قائمة كاملة من الاحتياطات تم نشرها بكثافة من قبل منظمة الصحة العالمية، وتكرر الأمر أيضا أخيرا خلال تفشى وباء فيروس كورونا المستجد، حيث تم تعليق ووقف الحج لأول مرة منذ عقود لتتم إعادته تدريجيا العام الماضى مقتصرا على أعداد محدودة للغاية وهذا العام بأعداد أكبر وسط احتياطات صحية صارمة.
وعلى الرغم من سجل المملكة العربية السعودية المثير للإعجاب فى إدارة الحجّ وتأمين الحجاج، إلا أن أشباح عقود الكوليرا المظلمة لا تزال باقية ولا تزال دروسها قائمة. ورغم كل ذلك أيضا سيظل مئات الآلاف من الحجاج يرغبون دائما فى أداء فريضة الحجّ بغض النظر عن المخاطر.
المصدر: الأهرام