CREATOR: gd-jpeg v1.0 (using IJG JPEG v80), quality = 82?

الثقافة الّتي أدّت إلى مقتل الوليّ / معهد المعارف الحكيمة للدراسات الدينية و الفلسفية

الاجتهاد: لماذا استشهد الحُسين (ع)، وليّ المجتمع المسلم عام 61 هجري؟

قد تكون الإجابة البديهيّة التي تجيبها هي: “إحياءً للإنسان والمجتمع”، ما يدفعنا للسؤال بطريقة أُخرى، وهي: لماذا كان المجتمع ميّتًا رغم حضور وليّه فيه؟ وما الذي أدّى إلى موته؟ وقد تجيب: “لأنّه كان خاضعًا لنظام حكمٍ جاهلٍ بحاجة الإنسان الروحيّة والمادية، وغير مبالٍ بتحقيقها له وتوفيرها بجعل الوليّ الحقيقيّ على رأس الحكومة”.

فيكون السؤال عندها: لماذا لم يكن نداء الوليّ للثورة ودعوته فطرة الناس لاستبدال النظام القمعيّ، كافٍ لاستيقاظ المجتمع المسلم ونهوضه؟ فرغم أنّ معظم الأولياء عبر الزمن ماتوا شهداء، لكن لا يجب أن يتبادر إلى أذهاننا أنّ طريقة الموت هذه، طبيعيّة حتى نقبلها أو نستسيغها.

لماذا؟ لأنّ الشهادة بحسب المفهوم والمعنى القرآني هي مرتبة يمنحها الله تعالى لمن قضى حياته مجاهدًا في سبيله في الميدان الذي كان تكليفُه العمل فيه، سواءً كان مجالًا عسكريًّا أو إعلاميًّا أو طبيًّا أو غير ذلك، شرط أن يكون عمله مواجهًا لعمل العدوّ، وأبرز مصداق لهذا الادّعاء أنّ آية الله الخميني وليّ المجتمع المسلم مات على فراش المرض، لكنّ الله جعله شهيدًا للناس، أي أنموذجًا لهم في القيادة والحكم والإدارة والحياة الطيّبة وفي إحياء المجتمع.

في مقاربة عاشوراء، لا بدّ أن نعتبر الانتفاع بوجهها الجلالي واجبًا علينا كوننا مسلمين وأحرار على الأقلّ بالقدر ذاته الذي ننتفع فيه من جماليّتها، فالإنسان يقصُر في انتفاعه على الجانب الجماليّ عندما يكون قد تعلّم من الجلال واستثمره في إصلاح أخطائه الاجتماعية والفردية.

في عملية بناء المشروع الإنساني الحضاري بقيادة الوليّ ومؤازرت، لا بدّ أن ينال المجتمع مرتبة الشهادة لا الوليّ فحسب، ممّا يعني أن يصبح المجتمع أنموذجًا يحتذى به في رفع شعارات القيَم الإلهيّة والعمل لجعلها نمط حياة المسلمين، ولا بدّ أن يصبح أنموذجًا في تطبيق توصيات الوليّ وإرشاداته في الأعمال التي ينبغي القيام بها للتغلّب على النظام القمعي وبناء دولةٍ إسلاميةٍ تتحقّق فيها القيم الإلهيّة المرجوّة، ونمط الحياة المأمول لدى الفطرة الإنسانية السليمة.

فهل كان موضع الخلل خروج الوليّ مع معرفته بعدم نصرة المجتمع للمشروع الإلهي؟ أو خروج الوليّ في ظرفٍ غير مؤاتٍ؟ كلّا، فعلى الوليّ الدعوة، وعلى المجتمع تلبية الدعوة، وعندما لا يلبّي المجتمع الدعوة عمليًّا بعد أن لبّاها كلاميًّا، يكون الخلل في المجتمع نفسه لا في الثورة أو ظرفها. وهنا نخلُصُ إلى سؤال: “لماذا لم يلبِّ المجتمع المسلم في المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، وسائر أنحاء العالم الإسلامي دعوة الوليّ للثورة؟”.

الحديث عن المجتمع المسلم يعني الحديث عن كيان مستقلٍّ يعبّر عن الروح الجمعيّة لهويةٍ مشتركة، وهي الهوية الإسلاميّة، ممّا يعني ذوبان الإرادات والطاقات والأهداف الفرديّة في مسارٍ واحد يحقّق هدف البناء الإنساني الحضاري، ويكون عامل تفعيل الإرادات، ووضع الأهداف الاستراتيجية والمرحليّة، ودفع الطاقات نحو الأعمال الفوريّة والعاجلة هي توصية الوليّ وهدايته على ضوء تشخيص كلّ فردٍ وجماعة ومبادرة ومؤسّسة لعملها المحدّد في إطار هذا الكيان واحد الهويّة. وبعد الاتفاق على أنّ عامل جمع الأفراد على اختلافاتهم الجغرافية واللغوية والبيئية في مجتمعٍ مسلم هو الوحدة حول طلب تحقيق نظامٍ اجتماعيٍ إسلاميٍّ عادل، يكون السؤال: “في حين فُرضَ على المجتمع المسلم نظامٌ جاهليٌ متجبّرٌ ظالم، فهل لم يكن المجتمع المسلم مريدًا للنظام الإسلامي البديل ولم يرَ فيه حياتَه الطيبة؟ وهل كان المجتمع المسلم منقسمًا بين فئتين، فئة تبغي تحقيق النظام الإسلامي، وأخرى راضية عن النظام الأموي المستكبر؟”.

كلا، كان المجتمع المسلم بأغلبه مريدًا للنظام الإسلامي الذي سيتحقق بعد انتصار ثورة الإمام الحُسَين (ع)، والدليل أنّ الثلاثين ألفًا من جنود يزيد لم يكونوا قد أتَوا لمواجهة صاحب الثورة، بل أراد معظمهم أن يكونوا متفرّجين على المعركة من غير أن يكون لهم دورٌ فعليٌّ في تغليب جبهةٍ على الأخرى.

لم تكن مشكلة عدم نصرة المجتمع المسلم لإمام زمانه عام 61 هجري مشكلةً معرفيّةً كالارتباك في تشخيص العدوّ، فمساوئ النطام الأموي كانت متفشّية في المجتمع المسلم على اتّساعه، أو مشكلةً في ضعف تحديد مواصفات الوليّ أو تشخيصه، فقد كان المجتمع المسلم على درايةٍ أنّ الحُسين (ع) سيسير بسيرة جدّه الرّسول (ص) في الحكم بعدالة وإصلاح اقتصاد المجتمع ومستواه العلمي والفكري، والإطاحة بالطبقيّة الاجتماعيّة وغير ذلك، لذا فإنّ الخلل قبعَ في الثقافة التي كانت محرّكة للمجتمع ومهيمنةً عليه، وهي ثقافة الجاهليّة، والّتي كان تغييرها أصعب من تغيير نظام الحكم القمعي نفسه.

لم تكن المشكلة الأساس في ثقافة البذخ والترف، ولا في ثقافة المجون والسّفور، بل كانت في ثقافة قيام الأفراد والجماعات والعشائر بالحدّ الأدنى من أجل تحقيق القيَم الأعلـى في المجتمع المسلم، فحين يؤمن الإنسان والمجتمع بمشروعٍ عظيمٍ لا بدّ أن يتحمّلا مستلزمات هذا الإيمان ومسؤوليّة تحقيقه عبر تطبيقه عمليًّا لا الإعجاب بمضامينه فقط، ممّا يعني قيام الفرد والجماعة بما يلزم لتحقيق مراحل المشروع ضمن دائرة التخصّص والقدرة.

غير أنّ الثقافة التي كانت سائدة هي ثقافة الحدّ الأدنى في النُّصرة، وإيكال خواص المشروع وقادته بالمسؤوليات والأعمال الصعبة، وكأنّ الموافقة اللفظية على مضامين المشروع وانتظار الغوث الإلهي، وتحقيق الفلاح الدنيوي يتمّ دون غرس الإنسان والمجتمع لفسائل الثورة في جميع الميادين الممكنة! وهنا يمكن الانتقال لركنٍ آخر من الثقافة الجاهليّة وهي ثقافة غياب معرفة القيمة الإنسانيّة وقدرتها في التأثير الاجتماعي في مسار حركة التاريخ.

فرغم كَون القيمة الإنسانيّة إحدى الشعارات التي رفعها الحُسين(ع) في وجه الحكومة الأمويّة التي كانت تستبيح قتل الأنفس باطلًا، إلّا أنّ ثقافة معرفة القيمة الإنسانيّة وموقعها في التأثير لم تكن منتشرة في المجتمع المسلم، والدّليل عدّ المسلمين وجودهم في كربلاء مع الوليّ أو بقاءهم في بيوتهم أمران سيّان، وعدّ القاضي شُريح شهادته الكاذبة بشأن سلامة سفير الحُسين هانئ بن عروة أمام الثوّار غير مغيّرة لمجرى الثورة، وغير مؤدّية لغلبة الباطل للحق، والدليل الآخر عدم رؤية الثائر الواحد أنّ التقليل من جيش مسلم بن عقيل ولَو بفردٍ واحدٍ سيؤدّي إلى المساس بالوليّ والتجرؤ عليه وأذيّته وحتى قتله.

يمكن معرفة خطر أركان هذه الثقافة، عبر التأمّل في حقيقة أنّها أدّت بالسيدة فاطمة الزهراء (ع) قرّة عين الرسول (ص) وكريمته ومخدّرته إلى أن تطرق بنفسها ووحدها أبواب المهاجرين والأنصار لتحثّهم على نصرة وليّهم الفعليّ. إنّ ثقافة الغفلة عن القيمة الإنسانيّة تؤدّي بالمجتمع إلى القعود عن السّعي لتحقيق الحياة الكريمة التي يستحقها رغم إيمانه باستحقاقه لها.

من أركان ثقافة الجاهليّة أيضًا عدم ملازمة الفعل للقول، ممّا يعني غياب الصدق والجديّة في تحقيق الأعمال الكبيرة والخطرة التي يراها الظالمون مستحيلة. كما أنّ من أركانها ترك تقديم الصعب الجلالي في مرحلة محدّدة من أجل المستدام الحَسن، أي ترك تحمّل المصاعب من أجل العاقبة الحسنة مضمونة التحقق.

تعدّ اليوم الثقافة التي تفرضها الحضارة الغربية المعاصرة على الكيانات الإسلاميّة مشابهة لثقافة الجاهليّة في الأركان، ممّا يستدعي أن يكون العمل على تثبيت أركان الثقافة الإسلاميّة ضمن برامج الهيئات الثقافية الإعلامية والأدبيّة في المجتمعات المسلمة والمقاوِمة، وضمن المناهج التربوية للمؤسسات الإسلاميّة، أي ينبغي تعميم ثقافة تحمل المسؤوليّة -دون تقسيم المجتمع إلى خواص يقومون بالأعمال، وعوام يتقاسمون غنائم الانتصارات-، وترسيخ ثقافة ملازمة الفعل للقول، ومعرفة القيمة الإنسانية وموقعية الفرد في التأثير، وثقافة معرفة التكليف وتطبيقه بجدّية ومتابعة، وثقافة إنفاق الوقت والمال والتخصص والجهد في سبيل كلّ ما يتطلّبه بناء الحضارة الإسلاميّة الحديثة، حتى ننتفع من جلال عاشوراء ونحوّلها إلى صورةٍ جماليةٍ عبر نصرة وليّ المجتمع عام 1447 هجري الإمام الخامنئي، ونقدّم للمجتمعات أنموذجًا ليس في قيادة الوليّ فحسب، بل في الكيفية التي ينبغي على المجتمعات والحركات المقاومة في غرب آسيا وشمال أفريقيا أن تتفاعل مع قيادة هذا الوليّ، عبر تطبيقنا لتوصياته على الصعيد الفردي والاجتماعي بما يتناسب مع القدرة والتخصص والرغبة، في سبيل تحقيق الحياة الطيبة لمستحقّيها، قبل أن تصل الأمور، إلى مقتل الوليّ المعاصر الذي يعمد إلى ترسيخ ثقافة الثورة نمطَ حياةٍ للمسلمين على الصعيد الشخصي والإداري والعلمي، على يد النظام العالمي المستكبر، وعلى مرأى العالم الإسلاميّ والحرّ، دون أن ينبس الأحرار ببنت شفة، بل أن يظلّوا كما ألف عامٍ مضى “متفرّجين”…

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky