التقليد

التقليد ودوره في تعميق الوعي في المجتمع.. الشيخ ماجد الطرفي

الاجتهاد: إن علوم الشريعة هي إحدى تلك الأمور التي يجب الرجوع فيها إلى أهل الخبرة والاختصاص والتبحّر واستنباط الأحكام منها، فإذا كان البناء على أنّ التقليد ليس كذلك؛ فهذا يعني أن يسعى كلّ إنسان لتحصيل علوم الشريعة بنفسه واستنباط الأحكام منها ليعمل بها ويبرأ بها ذمّته أمام الله – تعالى- من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وما شاكل ذلك، وهذا محال جزماً.

التّقلِيد في اللغة: مِن (قلّد)، والقلادة التي في العنق، ومنه؛ التقليد في الدين، وتقليد البُدنة، بأن يُعلق في عنقها شيء ليُعلم أنها هدي، – الهدي في الحج تشمل الأنعام الثلاثة البقر والغنم والإبل- وقيل: هو وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به ويسمى ذلك قلادة؛ ومنه؛ قلّد الأمر، أي ألزمه إياه.

والتقليد في الاصطلاح: إتباع الإنسان غيره فيما يقوله أو يفعله معتقداً حقيقته من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه،

والتقليد في عرف الفقهاء: هو قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل؛ وهو العمل المطابق لفتوى الفقيه الجامع للشرائط، وإن لم تستند اليها حين العمل، فتفعل ما انتهى رأيه الى فعله، وتترك ما انتهى رأيه الى تركه من دون تمحيص منك؛ كالطبيب الذي يلجأ اليه المرضى لمعالجة أمراضهم، والمهندس الذي يحتاجه الناس لبناء منازلهم، ومنهم ايضاً؛ عالم الدين الذي يكون بتخصصه بعلوم الدين، حجّةً لهم ومسؤولاً أمام الله بتقديم الأحكام الشرعية في مختلف شؤون الحياة بما يتطابق مع ما أنزله الله – تعالى- على نبيه الكريم، ولذلك نجد النّاس دائماً يلجؤون إلى علمائهم في كلِّ ما يشكل عليهم من الأحكام الشرعية، كأنما وضعوا عملهم في رقبته كالقلادة محملين إياه مسؤولية عملهم أمام الله.

نشأة التقليد في التراث الفقهي

يتساءل البعض عن أصل فكرة التقليد، أهي مستحدثة في الفقه الشيعي، أم أنه أصلٌ ثابت؟ وإذا كان من المسائل المستحدثة، فهل هو من المسائل الملزمة للمكلّف شرعاً في أعماله ومعاملاته؟

هذا السؤال، ربما يكون وارداً من الناحية المعرفية، بيد انه يصطدم بمسألة فطرية في نفس كل انسان يتعرض لمشكلة او يحتاج الى شيء يجهل السبيل إليه، فيضطر للرجوع الى صاحب الخبرة والتجربة أو من هو عالم بذلك الشيء، وهذه مسألة تبدو طبيعية وتلقائية في حياة الانسان، والقرآن الكريم يؤكِّد هذه المسألة الفطريَّة في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، (سورة النّحل: 43)، فأئمَّة أهل البيت، عليهم السلام، في بيانهم للأحكام الشرعية للنّاس ولأمور عقيدتهم، كانوا يتبعون أسلوب السؤال والجواب، أكثر من طريقة تركيز القاعدة الفقهيَّة والبيانات والمقالات التفصيلية، مما أوجد أرضيّةً خصبةً لظهور فكرة التّقليد.

إن علوم الشريعة هي إحدى تلك الأمور التي يجب الرجوع فيها إلى أهل الخبرة والاختصاص والتبحّر واستنباط الأحكام منها، فإذا كان البناء على أنّ التقليد ليس كذلك؛ فهذا يعني أن يسعى كلّ إنسان لتحصيل علوم الشريعة بنفسه واستنباط الأحكام منها ليعمل بها ويبرأ بها ذمّته أمام الله – تعالى- من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وما شاكل ذلك، وهذا محال جزماً؛ فمن العسير تكليف عامة الناس بطلب مرتبة الاجتهاد في الفقه، لأن هذا العمل يقتضي الوصول إلى بلوغ درجة الاجتهاد واستنباط الأحكام، وهذا يتطلب جهوداً مضنية، وتفرّغاً تاماً للدراسة والمباحثة لسنوات طويلة مما لا يقدر عليه الكثير من الناس بسبب انشغالهم في تحصيل أمور معاشهم.

وإذن؛ يبدو الأمر مطلباً عقلائياً تفرضه سيرة العقلاء ومرتكزاتهم في عودة عامة الناس الى ذوي الاختصاص في الفقه، وهذه السيرة حجّة أكدتها الشريعة المقدّسة؛ لذا على المكلف الذي ليست له القدرة على استنباط واستخراج الأحكام الشرعية، أن يقلّد المجتهد القادر على ذلك.

وقد كان الناس في زمان المعصومين، عليهم السلام، ومنذ أيام رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وإلى نهاية الغيبة الصغرى للإمام المهدي – عجّل الله فرجه – يرجعون إليهم، عليهم السلام، في كلّ مسائلهم الشرعية، ولم يلزمهم الشرع بأن يتخصّصوا في كلّ شيء؛ بل كانوا يأذنون لأصحابهم بأن يلجأ بعضهم إلى بعض في الأمور الشرعية وغيرها، وهذا بحد ذاته هو التقليد.

بل تراهم يرجعون في كلّ أمر يجهلونه ولا يعرفون العمل فيه إلى ذوي الاختصاص والخبرة، من الذين رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار يرجع بعضهم إلى بعض في الأمور الفقهية والعقائدية وغيرها؛ فإن الشارع المقدّس لم يردعهم عن هذه السيرة؛ بل أظهروا، عليهم السلام، إقرارهم لأصحابهم على ذلك، إضافة إلى ما جاء في القرآن الكريم الذي يشير إلى نفوذ الاجتهاد وأحقية تقليدهم.

الأدلة على أحقية فتوى المجتهد

ما جاء بهذا الخصوص في القرآن الكريم، فقد استدلّ الفقهاء على أحقية الاجتهاد وحجّية فتوى المجتهد، وعلى صحّة تقليد الناس له في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ المُؤمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ﴾، (سورة التوبة: 122)، فأوجب الله تعالى على طائفة من الناس التفقّه في الدين، وهو يشمل الاجتهاد وتحصيل الحجّة على الأحكام حينما يقول ﴿وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم﴾، وطلب من آخرين الحذر العملي من إخبار المنذرين، وهو يشمل التقليد.

وقد جعل السيِّد الخوئي – قدس سره – هذه الآية أدلَّ على جواز التقليد منها على حجّيّة خبر الواحد، وإلا فما معنى التفقّه والإنذار ووجوبهما؛ وهنا يذهب السيّد الخوئي وغيره من العلماء الأفاضل إلى المعنى الخاصّ للتقليد، بمعنى جواز العمل وفق رأي الغير.(1)

وكذلك من الأدلة التي يؤكدها القرآن الكريم بخصوص الرجوع إلى أهل الخبرة – التقليد – قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، (سورة النّحل: 43) والتي تشير للرجوع إلى المعصومين، عليهم السلام، ومن ثمّ إلى وكلائهم من العلماء المخوّلين، ابتداءً من رواة الأحاديث الشريفة، من المعاصرين للأئمة، عليهم السلام، وإلى يومنا هذا الذي يتمثل بعلمائنا الكرام.

وأما ما جاء في روايات المعصومين، عليهم السلام، وهي على طوائف ثلاث:

الأولى: الروايات الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين من الرواة، كقول الصادق، عليه السلام: «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» مشيراً إلى زرارة، وقوله: «نعم، بعد ما قال الراوي: أفيونس بن عبد الرحمن ثقة، نأخذ معالم ديننا عنه»، وقوله: «عليك بالأسدي» يعني أبا بصير، وقوله: «عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدُّنيا» إلى غير ذلك.(2)

الثانية: الروايات التي أعطت مواصفات عامَّة لهؤلاء الأشخاص، وأمرت بالرّجوع إلى من توجد فيه هذه الصّفات، كما في مقبولة عمر بن حنظلة، قال: سألت الإمام جعفر الصادق، عليه السلام: عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل لهم ذلك؟ قال، عليه السلام: «… ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً،…».(3)

الثالثة: روايات المعصومين، عليهم السّلام، التي يأمرون بها بعض أصحابهم بالجلوس في المسجد وإفتاء الناس، كالرواية الواردة بحقّ أبان بن تغلب، قال له أبو جعفر الباقر، عليه السلام: «اجلس في المسجد وافت الناس، فإنّي أُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك»، وكذا أحد الرواة يسأل الإمام الرضا، عليه السلام، عن يونس بن عبد الرحمن: «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ قال: نعم».(4)

منها حديث الإمام الصّادق، عليه السلام، يصغي إلى أحد شيعته من الفقهاء، وهو يشرح طريقته في الإفتاء، والإجابة على المسائل الشرعيّة وفقاً لمبدأ التقية (الحذر والحيطة من الضّرر)، يقول، سلام الله عليه، لمعاذ بن مسلم من أصحاب الباقر، عليه السلام، كما عدَّه الشيخ الطوسي: «بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي النّاس. قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد، فيجيء الرَّجل، فيسألني عن الشّيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم، أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرَّجل، أعرفه بمودَّتكم وحبّكم، فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرَّجل، لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك.. وهنا يجيبه الإمام، عليه السلام، قائلاً: اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع»؛ فدلَّ ذلك على إقراره، عليه السلام، للمـــــــعنى المراد مــــن التقليد.(5)، وكـــذا في رواية أحمد بن الفضل الكناسي.(6)

وعلى العموم؛ جمعاً بين الطوائف الثلاث من الروايات التي أقر بها مختلف العلماء الأفاضل، هو الأخذ برأي الغير، وجعله طريقاً موصلاً إلى الحكم الشَّرعي عندما يكون خافياً على المكلّف، وإلا فأيّ معنى للإرجاع، إذا لم يكن رأي المرجوع إليه حجّةً يمكن الركون إليه؟

فإن أهميَّة التّقليد في الشؤون الدّينيّة من المسائل المهمة، وكون ذلك متوافقاً مع الطّبع البشريّ، إذ من العسير تكليف العوام جميعهم بطلب رتبة الاجتهاد، فهذا مُحال؛ لأنّه قد يؤدّي إلى انقطاع الحرث والنّسل، وتعطيل الحِرَف والصنائع، فيؤدِّي إلى خراب الدّنيا.

عموما أن التّقليد كتعبيرٍ عن ظاهرةٍ عامَّة، يعنى رجوع الجاهل إلى العالم، نرى أنّه يكاد لا يخلو مجتمع من المجتمعات منه، مهما علا شأن المجتمع الحضاريّ، من علماء وجهَّال. فالجهّال يرجعون إلى علمائهم، والمجتهد هو المتخصّص في الشؤون الدينيَّة، فلا بدَّ إذاً من الرّجوع إليه؛ إذ ليس بالإمكان تكليف العوام بالقيام بدورهم للوصول إلى المعرفة التفصيليَّة لكلّ ما يمتّ إلى شؤونهم الدينيّة، وأن الله تعالى لا يكلف الناس ما لا يطيقون ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، (سورة البقرة: 286)، ذلك لأنَّ طبيعة المجتمع البشريّ الذي خلقه الله تعالى تقتضي توزيع الأعمال والأدوار، كلٌّ حسب اختصاصه وقدراته.

المجتمع مهما كانت قيمته الحضارية والثقافية لا يستطيع أن ينهض أفراده بالاستقلال بالمعرفة التفصيلية بكل ما يتصل بحياتهم بل لابد أن يكون في كل مجتمع علماء ليرجع الناس اليهم في معرفة أمورهم كل حسب اختصاصه؛ على اعتبار ان من طبيعة الإنسان فطرياً له حب الاطلاع والمعرفة؛ فعلى هذا الأساس بنيت مسألة التقليد، لزيادة العلم والمعرفة ولتمشية أمور حياتهم بالشكل الصحيح وابتعادهم عن تكريس الجهل والأمية الدينية والثقافية، لكي يزيد الناس وعياً في تمشية أمور دينهم ويضيء لهم طريق المعرفة بالأحكام الشرعية والأدبية وحتى الأخلاقية وغيرها من الأمور التي يحتاج إليها كل إنسان ليصل إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة.

المصدر: شبكة مزن الثقافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky