الاجتهاد: في النصف الثاني من القرن العشرين، مع الشيخ محمد مهدي الخالصي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد الشهيد محمد باقر الصدر، ينتقل التفكير بالدولة الى المدونة الفقهية، ولا يقتصر التبرير الفقهي على مشروعية تدوين الدستور، وانما يتمدد ويتسع، بنحو لاتكتسب معه الدولة مشروعيتها الاّ اذا أصبحت دولة اسلامية بشكلها ومضمونها.
بمعنى ان نظام الحكم والإدارة فيها ينبغي ان يكون منبثقا من الميراث الفقهي، وهكذا يكون نمط النظام الإقتصادي، وتداول الثروة، والنظام المصرفي، والنقدي، والتربوي،وكافة ما يتصل ببناء الدولة وترسيخها، من نظم وتشريعات وقوانين، ومؤسسات ومجالات متنوعة، ينبغي ان تستلهم الاحكام الشرعية التي تغتني بها المصنفات الفقهية، ويستنبط ما يستجد منها في إطار الاصول والأدلة والمدارك المقررة في الإستدلال الفقهي.
فظهرت طائفة من الكتابات تعالج هذه القضايا، وتتحدث عناوينها عن: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، وإقتصادنا، ونظام العمل وحقوق العامل في الإسلام، والنظام المالي وتداول الثروة في الإسلام، والبنك اللاربوي في الإسلام،…الخ.
ومما مهد الأرضية لهذا التفكير، طغيان المقولات والشعارات اليسارية الداعية للاقلاع عن الماضي، وتجاوز الموروث،واعادة النظر في الهوية السكونية الثابتة، والحرص على تخطي الثقافة الدينية، والانفتاح على العصر،واستعارة الحداثة ومعطياتها كما هي، من دون الاهتمام بالحساسيات الاعتقادية والاخلاقية والقيمية والعاطفية والنفسية الراسخة في المجتمع.
في مقاومة ذلك تفجر مخزون عميق لرموز الهوية ومكوناتها، وسعى بعض فقهاء مدرسة النجف للإحتماء بالموروث، واستدعاء الذاكرة، والحرص على اكتشاف صيغة بديلة لتنظيم الدولة وتسيير الحياة وادارة المجتمع، تستلهم الثروة الفقهية الواسعة والمتنوعة، وتسعى لإعادة بناء مكوناتها، وإغناءها برؤى تواكب العصر وتستجيب لرهاناته.
مضافا الى تشبع الفضاء الإسلامي في الخمسينيات من القرن العشرين بمفاهيم وآراء وشعارات الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية في باكستان، وحزب التحرير، وشيوع أدبيات هذه الحركات، وتداول مؤلفات ابي الأعلى المودودي، وسيد قطب، وتقي الدين النبهاني، المشبعة بأفكار ورؤى تتمحور حول (الحاكمية الإلهية، والدولة الإسلامية، والحكومة الإسلامية، والنظم الإسلامية،…) وتحكم على المجتمعات المعاصرة بالجاهلية، بما فيها المجتمعات الإسلامية، وتحاول ان تستعين بكل ما يعزز أفكارها وشعاراتها من احكام مبثوثة في مصنفات الفقهاء، وتشدد على ان الدولة الاسلامية فريضة شرعية، وضرورة مجتمعية، وهي الخيار والحل الوحيد المتاح للمسلمين للخروج من نفق التخلف، وان كافة الحلول المستوردة تجني على امتنا، ومن أجل أسلمة المجتمع لا سبيل لنا سوى أسلمة الدولة، ونظمها السياسية والادارية والاقتصادية والمالية والمصرفية والتربوية وغير ذلك.
كان الشيخ محمد الخالصي من أوائل الفقهاء الذين كتبوا عن (الحكومة في الإسلام) في مؤلف له يحمل هذا العنوان، وحاول صياغة تكييف فقهي لنمط حكومة تكون الأولوية فيها للفقيه، حسب تعبيره، في كتابه: (الإسلام سبيل السعادة والسلام) (الذي فرغ من تأليفه عام 1372 هـ،كما ورد في نهاية الكتاب)،
فذكر في الباب الحادي عشر، الذي عقده تحت عنوان (في الولاية والقضاء) في القسم الأول من هذا الباب، والذي خصصه للولاية، وتحديداً في الفصل الثاني منه (الولي في زمن الغيبة)، إلى أولوية الفقيه (ولم يقل ولاية الفقيه) في إدارة شؤون الحكم، فإن تعذر له ذلك قام به غيره من عدول المؤمنين.
حيث كتب: (وإنما صار الأعلم بأحكام الإسلام أولى بالحكم، لأن أحكامه هي الصالحة لإدارة البشر لا غير، وما سواها حيفٌ وجورٌ وشقاءٌ على البشرية، وقد أثبتت الأحكام الوضعية في هذا الزمان عجزها عن الإدارة وإقامة العدل وإفشاء المعروف، ولا يَصلح الناس ولا يربحون ما لم يطبقوا أحكام الإسلام… إذا لم يتمكن المجتهد (الجامع للشرائط) من الحكم العام، والقيام بأمر الأمة، صارت الولاية من الأمور الحسبية التي تجب على عدول المؤمنين، فإن لم يكونوا فعلى كل من قام بها، وإن كان فاسقاً ويجب تأييده وتحرم مخالفته، فيما لم يستلزم ظلماً أو خياناً أو إذعاناً لسلطان ملحد أو مشرك؛ لان حفظ النظام العام الذي هو من أهم الامور الحسبية متوقف على الولاية العامة).[1]
وهنا يستخدم الخالصي مصطلح الأحكام الوضعية في مقابل الأحكام الشرعية التي يشتمل عليها الفقه، فكل تشريع او قانون او حكم غير فقهي عاجز عن إدارة المجتمع وتنظيم الحياة، وهو منحى في التفكير بالدولة يرفض كما يبدو أية مقاربة لمفهوم الدولة ونظمها ومؤسساتها خارج المدونة الفقهية.
وفي أدبيات الإسلاميين يحيل مصطلح (التشريع الوضعي) الى التشريعات والقوانين والنظم التي وضعها الإنسان، بتوظيف عقله وجميع ما راكمته الخبرة البشرية، فيما يحيل مصطلح (التشريع الإلهي) الى ما هو مستقى من الفقه فقط.
في سنة 1954كتب الشيخ محمد مهدي شمس الدين (نظام الحكم والادارة في الاسلام(، وصدر في بيروت 1955، يتمحور الكتاب حول التدليل على ان الإسلام دين ودولة، وان الحكومة جزء من التشريع الإسلامي، وهي انما تتحقق بالنص وليس بإنتخاب او اختيار البشر، فيقول: (نحن في الاسلام نملك نظاما للحكم والادارة هو نظام محكم في ظل سلطة دينية وزمنية معا).
وفي هذا الكتاب يصرح بنفي المشروعية عن الديمقراطية، في سياق رفضه لما أسماه بعض الكتاب بـ(الديمقراطية الإسلامية)، فيكتب: (…فلا مشروعية للاسلوب الديمقراطي في اختيار الحاكم وشرعيته)، كذلك لايعترف بالتعددية السياسية، ويهجو مهمة الأحزاب السياسية، ويرى انها تمزق المجتمع وتقوده الى التشتت والفرقة، ويعتبر ذلك مرفوض دينيا وإسلاميا، فالأحزاب (توغر الصدور، وتحول دون ان تكون الأمة على معنى واحد، فالمطلوب الإعتصام بحبل الله، لا التفرق).
واستمر موقف شمس الدين هذا في المناداة بحكومة اسلامية، وتطبيق الشريعة، ومناهضة التعددية السياسية، ربما لثلاثة عقود، كما سنشير لاحقا. وحاولنا إستكشاف مدى توظيفه للمصطلح الفقهي السياسي في مؤلفه ألأول “نظام الحكم والإدارة في الإسلام”، من خلال إستقراء الكتاب في طبعته الثانية، الصادرة عن المؤسسة الدولية للدراسات والنشر والمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، في بيروت، سنة1411هـ / 1991م. فعثرنا في هذه الطبعة على مقدمتين للكتاب، الثانية منهما كتبت عام 1990، تبدأ من الصفحة (11) وتنتهي في الصفحة (15).
كما أن الكتاب أضيف إليه بحثان: الأول جديد، والثاني كتب في عام 1954، ولكن لم ينشر مع الكتاب في طبعته الأولى. أما البحث الأول (كُتب عام 1990)، فيقع ما بين الصفحتين (319-420). وإنما أشير إلى هذه الملاحظة من أجل الدقة في تأرَّخة ظهور هذه الاصطلاحات.
ثم إن ما يرد بعد أرقام الصفحات بين قوسين إنما يشير إلى عدد المرات التي تكرر فيها هذا الاصطلاح داخل تلك الصفحة.
دولة إسلامية: ص 46-135(3)-229(2)-231-235(2)-236-240-241-244-252(2)-263-281-390-391(3)-392(3)-393(2)-395-396(3)-397-407(2)-408(2)-411(4)-412(3)-413(3)-414(2)-415(2)-416-417-418-419-425(2)-450-451(2)-455-467(2)-469-470-471-475-477-478-479-480-486-488-490(2)-492(3)-493(3)-494-495-499-502(3)-503(3)-504(2)-511-528-536-539(6)-542-544(2)-545(3)-555(2)-567-577-584.
حكومة إسلامية:
ص35(2)-37-40(3)-41-42(2)-138-217-227-249-252-261-263(3)-264(2)-280-285-305-307-391-393-407-411-417-418-447(2)-451-455-460-468-477-480-492-499(2)-501(3)-505-511-547.
حكم إسلامي: ص 41-47-50(2)-51-76-390-391-402-407-408.
حكومة إلهية: ص 263(2)-281.
دولة إلهية: ص 204-280.
حكومة نبوية: ص 35-305.
سلطة دينية: ص 40(2)-455.
دولة سلطانية: ص 402.
حكومة دينية: ص 41.
يؤشر الحضور المكثف للغة الفقه السياسي وشيوع استخدام مصطلحاته الى تشبع المجال التداولي في النجف بالمفاهيم السياسية، وتغلغل فكرة الدولة في فضاء التفكير الفقهي وقتئذ، لدى شمس الدين وزملائه، في حلقات الدرس الشرعي في الحوزة العلمية في النجف. وبوسع الدارسين استخلاص عدة معطيات تضئ لنا منطق التفكير السائد في النجف، لو سعوا للحفر والتنقيب في نشأة وتطور استخدام المفردات السياسية في المدونة الفقهية النجفية.
في عام 1959 كتب السيد الشهيد محمد باقر الصدر نصا محدود التداول، أتاحه لأعضاء حزب الدعوة الإسلامية، بمثابة أصول ومصادر إلهام للدستور الإسلامي، يتضمن تسعة أسس، يتحدث في الأول منها عن المعنى اللغوي والإصطلاحي لـ (الإسلام)، والثاني عن أقسام (المسلم)، والثالث عن مفهوم (الوطن الإسلامي)، والرابع عن أنواع ( الدولة الإسلامية)، والخامس عن ماهيتها وحقيقتها، وكون (الدولة الإسلامية دولة فكرية)، والسادس عن (شكل الحكم في الإسلام)، والسابع حول (تطبيق الشكل الشوري للحكم في ظروف الأمة الحاضرة)، والثامن حول (الفرق بين أحكام الشريعة والتعاليم)، والتاسع هو توضيح ان (مهمة بيان أحكام الشريعة وتعيين القضاة ليستا من مهام الحكم).
وهذا النص بالرغم من أنه لا يتجاوز خمسة عشر صفحة، غير انه وثيقة بالغة الأهمية، لتعبيره الصريح عن البناء العضوي لمفاهيم الدولة الإسلامية، والتشديد على الصلة العضوية بين هذه المفاهيم والكتاب والسنة والموروث الفقهي، ولعلها أول محاولة مكثفة للبحث عن مناشئ دينية لمشروع الدولة ومؤسساتها، وتوطينها في الفقه الجعفري، ولا يتطلب التدليل على ذلك سوى مراجعة تلك الأسس، وملاحظة الحضور الدلالي الغزير لمصطلحات (الدولة الإسلامية،الحكومة الإسلامية،الوطن الإسلامي)، فقد تكررت 12 مرة في صفحة واحدة، ضمت الأساس الثالث[2].
واهتم الصدر بصياغة رؤية نظرية فقهية، حيال الإقتصاد في الجزء الثاني من كتابه الذائع الصيت (إقتصادنا) الصادر سنتي 1959-1960 في النجف، كما حاول ان يبلور موقفا فقهيا نظريا تجاه المعاملات المالية والنظام المصرفي وايداع النقود وتداولها، في كتابه (البنك اللاربوي في الإسلام) الصادر مطلع السبعينيات من القرن الماضي، مضافا الى اهتمامه بالنظرية السياسية في الإسلام، والأطر الدستورية الفقهية للدولة الإسلامية، في سلسلة تتكون من ستة كتيبات، صدرت عام 1979 مقارنة لإنتصار الثورة الإسلامية في إيران، عالج فيها المرتكزات الفقهية لدستور الدولة الإسلامية، وتناول من منظور قرآني فقهي شكل الحكومة الإسلامية، في (لمحة فقهية تمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية، وخلافة الإنسان وشهادة الأنبياء). هنا عالج المشروعية السياسية، باستدعاء نظريته الأولى في (الأسس)، التي تستند الى الشورى، ونظريته اللاحقة، التي أشار اليها في سنة 1974-1975 في تعليقته على كتاب
(منهاج الصالحين) قسم العبادات، ذيل المسألة 25، وفي رسالته العملية ( الفتاوى الواضحة)، التي تقول بولاية الفقيه التعيينية. فقد عمل على تركيب واعادة تكوين نظريتيه المشار اليهما، فجمع بين مبدأ الخلافة الإلهية للإنسان، ومبدأ إشراف مراجع الفقهاء الصالحين في نصه اللاحق (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء).
بقي الصدر وفيا لمنهجه في التفكير بمشروع الدولة، وأنظمتها، ومجالات عملها، وحقولها، ومهامها ووظائفها، في فضاء الفقه ومداراته، ورأى الدولة باعتبارها (ظاهرة نبوية) حسب تعبيره، من دون ان يبرهن على ذلك من مسيرة النبوات، او وقائع الحضارات والدول القديمة، بيد انه حرص على استجلاء المدلول الإجتماعي للنصوص، وإضاءة الطريق نحو فهم مقاصدي، لا يكف عن التفتيش عن روح الشريعة وأهدافها وقيمها العليا، كذلك سعى للارتقاء بالبحث الفقهي الى فقه النظرية، وحاول ان يستبطن الحالة النفسية للفقيه، ويكشف عن أثر القبليات والخلفيات والمسبقات في الإستنباط الفقهي[3].
[3] ــ الملاط، شبلي. تجديد الفقه الاسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم. بيروت: دار النهار للنشر، 1998م، ص45.
المصدر : قسم من مقالة بعنوان: مفهوم الدولة في مدرسة النجف/ عبد الجبار الرفاعي
تحيمل المقالة
مفهوم الدولة في مدرسة النجف عبد الجبار الرفاعي