الاجتهاد: من العجيب أن نرى معظم العلماء المسلمين – حتى الشيعة – الذين سعوا لدراسة شتى القضايا بدقة – قد غفلوا عن دراسة جذور وأسباب انحطاط الخلافة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، وفي فترة قصيرة جداً، إبان تسلط بني أمية على جميع مقدرات الإسلام والمسلمين، وكذلك لم يدرسوا بعناية أسباب وآثار ثورة الإمام الحسين”عليه السلام” واستشهاده، والتي تعتبر نتيجة لذلك الانحطاط الاجتماعي والحضاري للمسلمين. بقلم: آية الله السيد علي الحسيني الفرحي
مر على النهضة الحسينية المقدسة أكثر من ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن. وقد كُتبت طيلة هذه المدة المديدة كتب كثيرة حول هذه النهضة الدامية، ولكن المؤسف أنه لم يتجاوز أكثر ما كتب عنها إطار ملحمة بطولية، أو قراءة تاريخية للفاجعة، أو استنطاقاً لجوانبها العرفانية، أو تعبيراً عمّا يدور حول هذه الواقعة دون التوغّل في استکناه العوامل الواقعية، والنتائج الأساسية المترتبة عليها. والحقيقة المؤسفة هي: أن الأمة الإسلامية، وحتى الشيعة منهم التي تدين بالولاء للإمام الحسين “عليه السلام”، لم تتعب نفسها في التحقيق المعمق في طوايا هذه النهضة المقدسة التي تعدّ أهم قضية في التاريخ الإسلامي.
ويزداد أسفنا بملاحظة هذه الحقيقة، وهي أن نهضة الإمام الحسين “عليه السلام”، لها بُعد فقهي، يضاف إلى أبعادها السياسية، والاجتماعية، والإنسانية، والتاريخية، وهذا البعد الفقهي يتمثل في تصريح الإمام “عليه السلام” بالجهاد كما جاء في قوله “عليه السلام”(والجهاد في سبيله) (1) الجهاد الذي يؤدي كما صرّح الإمام “عليه السلام” إلى الاستشهاد والقتل حتماً. وهو قوله “عليه السلام”: (.. وأيم الله ليقتلونني..) (2)، الجهاد الذي يعتبر منهجاً للمسلمين جميعاً، كما في قوله “عليه السلام”: ( ولكم فيّ أسوةً حسنة…» (۳)
فمع وجود هذه التصريحات الثلاثة في كلمات الإمام الحسين “عليه السلام”, لابد من توضیح الظروف التي يجب فيها الجهاد في سبيل الله، برغم وثوق الشخص بأنه سوف يقتل، ليكون اُسوةً وقدوةً للمسلمين.
وبشكل عام، ما هي المبادىء التي اعتمدها الإمام الحسين “عليه السلام”؟ واعتمدها أبوها علي “عليه السلام” من قبله مع المنحرفين من المسلمين وحتى مع أدعياء القداسة؟ وما هي الأهداف المتوخاة من هذا الجهاد؟ وبأي شيء أو أشياء يتميز هذا الجهاد عن الجهاد مع المشركين؟
ومن جهة أخرى، أننا نعلم – من خلال قراءة موضوعية للتاريخ – أن هدف الأمويين من التسبب في فاجعة كربلاء لم يقتصر على قتل الإمام الحسين “عليه السلام” وعترة النبي “صلى الله عليه وآله وسلم”، بل الأهم من ذلك توجيه ضربة قاصمة للإسلام الحقيقي المتمثل بتلك العترة الطاهرة، كما صرح بذلك يزيد بن معاوية بن أبي سفيان حين ردّد قول الشاعر:
لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
لستُ مِن خِندِفَ إن لم أنتقم من بني أحمد ماکان فعل
وفي الوقت نفسه فقد جعل يزيد ومرتزقته الإسلام وسيلة لتحقيق مآرب الأمويين، وحوّلوه إلى آلة لتنفيذ المقاصد السياسية للحكومات الفاسدة.
ومن هنا لابدّ من التحقيق في أوضاع صدر الإسلام، لتتّضح لنا العوامل التي أدّت الى أن يسير الواقع الإسلامي إلى هاوية السقوط والانهيار حتى يكون وسيلة بيد يزيد وأمثاله، فيتحكموا في ظلّها بمقدرات الناس ودمائهم وأعراضهم، وأن يؤدّي الأمر إلى فاجعة كربلاء الرهيبة، على أساس أن يزيد أمير المؤمنين وأن الحسين خارج على الشرعية معاد للإسلام !!
ومن العجيب..
ومن العجيب أن نرى معظم العلماء المسلمين – حتى الشيعة – الذين سعوا لدراسة شتى القضايا بدقة – قد غفلوا عن دراسة جذور وأسباب انحطاط الخلافة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، وفي فترة قصيرة جداً، إبان تسلط بني أمية على جميع مقدرات الإسلام والمسلمين، وكذلك لم يدرسوا بعناية أسباب وآثار ثورة الإمام الحسين”عليه السلام” واستشهاده، والتي تعتبر نتيجة لذلك الانحطاط الاجتماعي والحضاري للمسلمين، وحتی أنهم لم يذكروا هذا البحث في أبحاث الجهاد، ولا في بحث الحكومة الإسلامية،
مع أن الإمام الحسين”عليه السلام” أكد في أحاديثه وخطبه ورسائله على ضرورة جهاد المنحرفين والعمل على تشكيل الحكومة الإسلامية، وقد بعث مسلم بن عقيل أيضاً إلى الكوفة لهذا الغرض وإصلاح مسيرة الإسلام والمسلمين، عن طريق أخذ البيعة من الناس للإمام الحسين وإخباره عن الامكانات المتوفرة وتمهيد الأرضية اللازمة لقدومه “عليه السلام” إلى الكوفة، وفي سبيل هذا الهدف وقعت أحداث المحنة جميعاً، من القتل والأسر، ثم السبي في الكوفة وكربلاء والشام ومناطق اُخر.
قد يقال: إن السبب في عدم محاولة علماء الشيعة تحليل نهضة الإمام الحسين “عليه السلام” وبيان خفاياها وعللها، هو أن الشيعة كانوا – عادةً – يعيشون في أجواء استبدادية ويرزحون تحت حكومات جائرة مناهضة للشيعة، ولذلك لم يتمكّنوا من دراسة البواعث والحقائق المرتبطة بنهضة الامام الحسين “عليه السلام”، لأن ذلك كون باعثاً على تحرك الشيعة وانتفاضتهم ضد حكوماتهم الجائرة. فلذا رأوا من الضروري – حفظاً لكيان الشيعة في الوسط الإسلامي باعتباره أقلّية متفرقة وغير ممثلة قانونياً في غالب الأحيان – اجتناب المسائل المثيرة والباعثة على اصطدامهم بمعارضيهم.
وسواء كان السبب في قلة التحقيقات والدراسات حول نهضة الإمام الحسين “عليه السلام” هو ما ذكرنا، أو كان هناك قصور أو تقصیر من بعض الأطراف المعنية، فإن الحقيقة المرة هي أن ماهية حركة الإمام الحسين “عليه السلام” لم تتضح للمسلمين بشكل أساسي و استدلالی، ولهذا فقد كانت هذه النهضة في نظر البعض تهدف إلى تشكيل الحكومة واستلام السلطة فقط، وفي نظر طائفة أخرى أنها من أجل الاستشهاد في سبيل الله فقط، ولدی جمع آخر أن الغرض منها هو حفظ النفس ودفع الخطر عنها فقط ، بالرغم من وجود شواهد كثيرة ستأتي تباعاً على أن نهضة الإمام الحسين “عليه السلام” لا تنحصر في بُعد من هذه الأبعاد الثلاثة المذكورة، بل تشتمل عليها جميعاً، وهي أبعاد لا ينفصل بعضها عن بعض، بل اجتمعت كلها في باطن هذه الحركة، من حيث أنها تشتمل على البُعد الظاهري، والبعد الواقعي، والبعد السياسي معاً، كما سيأتي، ويتضح من خطاب الإمام الحسين “عليه السلام” أيضاً.
ولابد من الالتفات إلى هذه الحقيقة؛ وهي أنه بالرغم من أن نهضة الإمام الحسين “عليه السلام” تعتبر حدثاً إسلامياً مهماً، ولكنها في الوقت نفسه حركة إنسانية ضد السلطات الفاسدة والجائرة، ومن أجل هداية ونجاة المجتمعات البشرية من التسليم والخنوع للظالمين، ولذلك وقعت موقع احترام الشخصيات الانسانية وأجيال البشرية، وأساسا فإنّ في اعتقادنا – نحن المسلمين – أن الثورات الإسلامية، وفي طليعتها ثورة الإمام الحسين “عليه السلام”، تتفق مع العقل والمصلحة الواقعية للإنسان، ولهذا يجب أن تدرس ثورة الإمام الحسين”عليه السلام” كمسألة إنسانية قبل أن تكون تعبّدية، وأن يتم تحليلها وفق الموازين العقلية مضافاً إلى الموازين الدينية، لكي تتضح أبعادها الأخلاقية وجوانبها الإنسانية البنّاءة أيضاً.
ضرورة الالتفات الأكثر إلى بعض الجوانب
ومن هنا يجب الالتفات إلى بعض الجوانب في حركة الإمام الحسين”عليه السلام” الدامية أكثر من غيرها، في اطار الاُسس الموضوعية التالية:
أولاً: إن هذه النهضة الدينية والإنسانية لا تعتبر تكليفاً خاصاً ولا وظيفة استثنائية للقائمين بها، بل هي تبلور لمبدأ الجهاد الإسلامي والمسؤولية الإنسائية، فهي لا تنحصر في عاشوراء وكربلاء فقط، بل تمتد على طول التاريخ في أوساط المصلحين ودعاة الحق ضد الظالمين وبأشكال مختلفة ومتفاوتة، غاية الأمر أنها حدثت على يد الإمام الحسين “عليه السلام” وأصحابه بشكل أكثر ظهوراً وعمقاً وجاذبية.
ثانياً: إن هذه النهضة العظيمة لم تكن منفصلة عما سواها من الأحداث والأمور السياسية والاجتماعية والثقافية، بل ترتبط بشكل أكيد بكثير من القضايا الأساسية من قبيل ماهية الدعوة الإسلامية، ونظام الحكومة الإسلامية، واضمحلال الخلافة الإسلامية، وانحطاط المجتمعات الإسلامية، وخاصة في الفترة السوداء للحكم الأموي، وكذلك ترتبط برؤية الإسلام إلى الموت والحياة، والجهاد والشهادة، والفرد والمجتمع، ووظائف الحكومات تجاه الأفراد والمجتمعات، ووظائف الأفراد والمجتمعات في قبال الحكومات، وكما ترتبط بمواضيع اُخر كثيرة، بل هي في الحقيقة انعکاس ونتيجة طبيعية لتلك الأمور ونظائرها.
ثالثا: إن هذه النهضة العظيمة لم تكن حادثة عابرة وفي إطار زمنيّ محدّد، بل تعتبر نقطه عطف مهمة في مسيرة الاسلام والأمة الإسلامية، إذ أدّت إلى حدوث تأثيرات عميقة في جميع جوانب الحياة والعقيدة، وأسهمت في خلق تحولات فكرية وسلوكية في حياة المسلمين وخاصة في توجيه الأفكار الثورية للمسلمين وتعبئتهم ضد الحكومات الجائرة.
ما ذكرنا من القضايا وهي نموذج لغيرها يدلنا على أن نهضة الإمام الحسين “عليه السلام” بعنوانها الشامل تعد جامعة فكرية وايديولوجية ترتبط بكثير من الأبعاد السياسية والإنسانية والتاريخية للإسلام، وفي الحقيقة أن الإمام الحسين “عليه السلام” يمثّل الفصل الأخير من أصحاب الكساء الخمسة، وهو – فضلا عن خصائصه العظيمة وسمانه الإنسانية – يرتبط في خطوطه العامة مع حياة محمد وعلي وفاطمة والحسن”عليهم السلام” وكل ما يرتبط بهم، وكذلك يعكس وجهة نظرهم تجاه أنصارهم ومعارضيهم، وبالتالي يكون خلاصة تامة ومرآة شاملة لجميعهم، ولهذا تستلزم معرفة نهضة الإمام الحسين “عليه السلام” دراسة الكثير من الظروف والأحداث المرتبطة بهم وبزمانهم – عليهم السلام .
ولهذا لا تكفي دراسة أبعاد نهضة الإمام الحسين “عليه السلام” من ناحية تاريخية محدودة بزمانها فقط، بل من الضروري أن تدرس ظروفها الزمانية، وجذورها التاريخية والاجتماعية، ونتائجها الهامة على الصعيدين العلمي والعملي ضمن التاريخ الكلّي لها.
المصدر: مقتطف من مقدمة كتاب ” النهضة الحسينية دراسة و تحليل ” لآية الله السيد علي الحسيني الفرحي.
عدد الصفحات : 628 صفحة
الطبعة : الاولى – 1427 هجرية
الناشر : مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت ( ع )
يهتم الكتاب بالاجواء الحساسة التي حدثت في صدر الاسلام بشكل موضوعي وخاصة الاجواء السیاسیة التي احاطة بامر الخلافة واختیار الخلفاء والتاثيرات العميقة التي ترکتها تلک الظروف في مختلف الجوانب، حيث يعتقد المؤلف ان حادثة كربلاء لها ارتباط وثيق بمسالة الخلافة والخلفاء ولولا هذه المسالة لم تقع حادثة كربلاء بهذه الخصوصيات حسب ماجاء في مستهل مقدمة الكتاب وهذا الموضوع تم تناوله بالتفصيل في الفصل الاول من الكتاب.
واما الفصل الثاني فقد تحدث فيه الكاتب بالتفصيل حول خصائص المجتمع الاسلامي في صدر الاسلامي وبالتحدید خلال فترة الخلافة، وقد حاول المؤلف الاهتمام بمستوى الموضوعات العقلية والنقلية من خلال ترابط ابحاثه، بحيث ان مواضيعه تشكل حلقات مترابطة وسلسلة متصل بعضها ببعض، ولكن مع هذا الحال تم عرض كل منها بشكل مستقل كي يتمكن القارئ الذي لاتسنح له الفرصة بمطالعة جميع فصول الکتاب ان يقرأ كل قسم منه بشكل مستقل …
في الفصل الثالث من الكتاب قدم الکاتب توضیحا حول حقيقة النهضة الحسينية وعللها والبحث في جوانبها المختلفة، في حين ان الفصل الاول والثاني يعالجان إرهاصات هذه النهضة.
اما الفصل الرابع يبحث في الغالب عن النتائج العملية والتطبيقية لواقعة عاشوراء حيث كانت منبعا واساسا لتحول ثوري كبير في المجتمع الاسلامي.
والفصل الخامس يتطرق فيه الكاتب الى النتائج العلمية والثقافية لنهضة الامام الحسين عليه السلام ..
ويمكن القول حسب رأي المؤلف بان هذه الفصول الخمسة للكتاب يمكن تصنيفها الى خمسة كتب اجتمعت في كتاب واحد، و ان أبحاث هذا الكتاب عرضت بشكل متسلسل في الفصول بحيث إن بعضها يكمل البعض الآخر .. ومن خلال تجوالنا في صفحات الكتاب توقفنا حول ما كتبه المؤلف بشأن أصالة البعد الإلهي في الانتفاض الديني لدی كل من يتبع النهج الحسيني ..
فهرس الموضوعات
مقدمة المجمع
مقدمة
الفصل الاول : بنو أمية ومسألة الخلافة الاسلامية
الفصل الثاني : تياران متضادان في المجتمع الاسلامي
الفصل الثالث : أسباب نهضة الإمام الحسين ( عليه السلام )
الفصل الرابع : كيف انتصرت نهضة الإمام الحسین ( عليه السلام )
الفصل الخامس : مدرسة الحسين ( عليه السلام )
تحميل الكتاب