الاجتهاد: «البراءة من المشركين» شعار ألزم الإمام الخميني (قدس سره) حجاج بيت اللّه الحرام برفعه وترديده في مواسم الحج في محال اجتماع الحجيج.
وقد أثار رفع الشعار المذكور حساسية السلطات السعودية واعتبرته أمراً منافياً للمظهر العبادي لفريضة الحج، فمنعت منه، مما أدى في بعض السنين إلى حدوث مصادمات شديدة بين سلطات الأمن السعودي وجموع المتظاهرين المرددين لذلك الشعار تسببت في استشهاد عدد كبير منهم، وتعطل نتيجة ذلك الحج من إيران مدة ثلاث سنين.
لكنّ القيادات الدينية والسياسية في إيران لم تتراجع عن موقفها، وأصرت على إحياء هذا الشعار وترديده في مواسم الحج المختلفة إلى وقتنا الحاضر.
وأثار موقف القيادات الدينية، وعلى رأسها موقف الإمام الخميني (قدس سره) المتمثل في رفع الشعار المذكور، والإصرار على ترديده في مواسم الحج مع ما اكتنف ذلك من تصريحات توحي بأنه واجب عبادي وسياسي، وتعطيل الحج بسبب ذلك تساؤلات في الأوساط العلمية حول حكم (البراءة من المشركين) ونوعه سواء في ذلك التكليفي والوضعي.
معنى البراءة:
البراءة في اللغة: الانقطاع وخلوص الشيء من الشيء، ومفارقته، والتباعد عنه ابتداء أو بعد اتصافه به، وكينونته فيه[1]، يقال: برئ وبرا الرجل من المرض، يبرا برءا وبرءا: سلم وعوفي[2]. ومنه البراءة من العيب والنقص بمعنى السلامة منهما.[3] والبراءة من الدين والضمان بمعنى خلو الذمة والعهدة منهما[4]، والاستقراء من البول والمني والحمل وغيرها بمعنى طلب الخلو والخلاص منها[5].
ومن ذلك أيضاً مباراة الزوجة والشريك بمعنى مفارقتهما[6]، ومنه أيضاً البراءة من الرجل بمعنى التباعد منه، وانقطاع ما بينهما من العلاقة والعصمة[7]. ولازم ذلك عدم الاعتراف بحق له عليه.
وإما البراءة عند الفقهاء فلا تخرج عن المعاني والاستعمالات اللغوية المذكورة.
وعلى أية حال فالمراد من (البراءة من المشركين) يجب أن يحمل على الاستعمال اللغوي الأخير، أي بمعنى التباعد منهم وانقطاع ما بينهم وبين المسلمين من العلاقة والعصمة، وعدم الاعتراف بحق لهم على المسلمين[8] أو على التباعد عن عقائدهم وتعاليمهم المنحرفة الفاسدة وعدم الاعتراف بشيء، منها[9].
رأي الفقهاء في حكم البراءة من المشركين:
لم يعهد من الفقهاء بشكل عام إلى زمان الإمام الخميني (قدس سره) التعرض لبيان حكم البراءة من المشركين، لا بما هي فعل مستقل غير مقيد بزمان ومكان وأفعال مخصوصة، ولا بما هي فعل خاص مقترن بفريضة الحج بالنحو الذي تناوله الإمام الخميني (قدس سره) بخطاباته، وطبقه الحجاج المسلمون في مواسم الحج المختلفة؛ إذ إن كتب الفقهاء الفتوائية (الرسائل العملية) والاستدلالية (كتب البحوث والدراسات) ـ سواء المختصة بالمذهب أو المقارنة له بسائر المذاهب خالية من التعرض لشيء من ذلك وان ربما تضمنت نقل قصة نزول سورة براءة، ونحو تبليغها المشركين بمناسبة بيان حكم الهدنة مع الكفار والمشركين أو غيره.
لكن المقطوع به أنّ البراءة من المشركين بصورتها المطلقة ـ وان لم يتناول الفقهاء حكمها بالذكر ـ لا شك في وجوبها عند عموم الفقهاء، بل لابد أن تكون مسلمة عندهم؛ لوضوح عدم جواز إقرار المسلمين شيئا من عقائد المشركين وتعاليمهم المنحرفة خصوصا بعد اكتمال الدين وتمام النعمة، وخاتمية الرسالة، وانسداد باب تشريع الأحكام، وعدم المقتضي لثبوت علاقة أيمانية بين المسلمين والمشركين أو حق مترتب عليها، بعد عدم ما يجمعهم عقائديا بالمسلمين، واختلافهم في جميع الأصول العقائدية بما فيها الأيمان باللّه وتوحيده.
وإنما تركوا التعرض لذلك في كتبهم لوضوحه وعدم مناسبة تقتضي التعرض.
وأما الإمام الخميني (قدس سره) فكتبه الفقهية ـ فتوائية كانت أو استدلالية ـ ومنها كتب المناسك أيضاً خالية من بيان حكم البراءة من المشركين، فلم يرد لها في شيء منها ذكر. وما ورد ففي الخطابات والبيانات السياسية والتوجيهية التي لم يجر التعامل معها على أنها بيان للحكم الشرعي، ولو الحكم الشرعي السياسي؛ إذ لبيان الحكم الشرعي قنواته الخاصة المعروفة.
ومن هنا فقد يشكك في استفادة حكم من ذلك، لكنا أيمانا منا بأنّ الفقيه حين يصدر أمرا معينا، ويلزم الناس بالعمل بموجبه فإنه وان خرج عن دائرة نطاق بيان الأحكام الشرعية، ودخل في إطار الخطابات السياسية والتوجيهية لابد أن يكون مستندا إلى أساس ودليل شرعي اعتمده في استفادة ذلك الأمر، فنحن ـ في بحثنا هذاـ نحاول من خلال مراجعة كلمات السيد الإمام الخميني (قدس سره) الواردة في موضوع البراءة من المشركين التعرف إلى ما يمكن أن يستفاد منها، ثم نسعى لاحقا صب ما نستفيده من كلماته في القوالب الفقهية، لنخطو في المرحلة الأخيرة نحو العثور في مجموع الأدلة على ما يصلح أن يكون دليلا لصدور ذلك الأمر.
نظرة في خطابات الإمام الخميني (قدس سره) وبياناته:
تعرض الإمام الخميني (قدس سره) في بياناته وخطبه السياسية للبراءة من المشركين، ولزوم إعلانه أو الإجهار بها في موسم الحج مرات وكرات، لكن ما يمكن أن يكون له كشف عن الحكم الشرعي ونوعه منها محدود، نورده فيما يلي:
1 ـ قال الإمام الخميني (قدس سره) في بيان له إلى حجاج بيت اللّه الحرام في العام (1403) الهجري المصادف للعام (1983) الميلادي ما نصه: «نتلو في سورة التوبة التي أمر بتلاوتها في الاجتماع العام بمكة قوله تعالى: ﴿وَأذان مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾[10]، إنّ إعلان البراءة من المشركين في موسم الحج هذا إعلان سياسي عبادي أمر به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)[11]».
2 ـ وقال في بيان آخر له إلى الحجاج في العام (1405) الهجري المصادف لسنة (1985) الميلادية: «لقد وجدـ بحمد اللّه والمنة ـ شعب إيران وسائر الشعوب الإسلامية طريقهم، وأحاطت جموع حجاج بيت اللّه الحرام من إيران وسائر الدول الإسلامية بالمسجد الحرام مركز ثقل الإسلام ومهبط ملائكة اللّه عز وجل، ومحل هبوط الوحي بغية إحياء مراسم الحج العبادية السياسية، والعمل بواجبهم الإلهي والقرآني في إعلان البراءة من المشركين الذي نفذه الرسول الخاتم (صلى اللّه عليه وآله) في الحج الأكبر بواسطة سيدنا علي بن أبي طالب سلام اللّه عليه»[12].
3 ـ وفي العام التالي كان للإمام الخميني (قدس سره) إلى الحجاج بيان آخر قال فيه مشيرا إلى كتاب اللّه سبحانه وتعالى:
«علينا أن نعلم أنّ حكمة هذا الكتاب الأبدي الخالد الذي نزل لإرشاد البشر من كل قوم ولون، وفي كل قطب وقطر وإلى قيام الساعة هي إبقاؤه المسائل الحياتية المهمة ـ سواء ببعديها المعنوي أو المادي ـ حية، وإفهامه[ مخاطبيه] إن مسائل هذا الكتاب أبدية لا تختص بزمان أو مكان، وان قصد إبراهيم وموسى ومحمد عليهم وعلى آلهم السلام ليس مختصا بزمان خاص، ونداء البراءة من المشركين ليس مختصا بوقت خاص، بل هو أمر خالد… يلزم حجاج بيت اللّه الحرام في هذا التجمع الجماهيري العام والسيل البشري العارم الجهر بأعلى أصواتهم بنداء البراءة من الظالمين»[13].
4 ـ وجاء في بيان آخر له إليه م في العام الذي تلاه، وهو العام الذي حدثت فيه فاجعة الحرم المكي، وقتل بها العديد من الحجاج المتظاهرين بإعلان البراءة على يد قوات الأمن السعودي: «إعلان البراءة من المشركين ـالذي يعد من أركان فريضة الحج التوحيدية وواجباتها السياسية ـ يجب أن يقام بأبهى صورة، وأعظم جلال على شكل تظاهرات ومسيرات….
وعلى الحجاج المحترمين من الإيرانيين وغيرهم المشاركة ـ وبتنسيق تام مع المسؤولين في بعثة الحج ـ في جميع المراسم المقامة، وإطلاق نداء البراءة من المشركين، وملاحدة الاستكبار العالمي، وعلى رأسهم أمريكا، قرب بيت التوحيد…
حاشا لخلوص وله الموحدين أن يحصل بغير إبداء كامل التنفر والانزجار للمشركين والمنافقين، وأي مكان أليق من الكعبة، بيت الأمن والطهارة الذي وضع للناس، لينبذ فيه ـ عملا وقولا ـ كل تعد وظلم واستغلال واستعباد ورذيلة وسوء فعل، وتحطم فيه أصنام ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ﴾[14] في تجديد ميثاق ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾[15] وإحياء ذكرى أعظم حركة سياسية قام بها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في العمل بـ﴿وَأذان مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر﴾[16] فان سنة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وإعلان البراءة[من المشركين] لا يبليان بمرور الأيام»[17].
5 ـ وفي خطاب له في مسؤولي الحج والزيارة قال: «أساساً البراءة من المشركين هي من واجبات الحج السياسية التي بدونها لا يكون حجنا حجاً»[18].
6 ـ وفي بيان له بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لفاجعة مكة وهو بيانه الأخير في الحج حيث توفي بعدها قال: «مسلّم أن الحج الذي لا روح ولا حركة ولا قيام فيه… الحج الفاقد للبراءة.. الحج الذي تنعدم فيه الوحدة ولا يعبر عن هدم[صروح] الكفر والشرك ليس حجا…
على جميع المسلمين أن يبذلوا قصارى جهدهم لتجديد حياة الحج والقرآن الكريم، وردهما إلى عرصة حياتهم..
نحمد اللّه عزوجل على ثباتنا في عهدنا وميثاقنا الذي عاهدنا به رب الكعبة، وبنائنا أسس البراءة من المشركين بدم آلاف آلاف الشهداء من أعزائنا[19]..».
والمتحصل من مجموع كلماته وضم بعضها إلى البعض الأخر أنّ إعلان البراءة من المشركين عند الإمام الخميني (قدس سره) واجب عبادي سياسي مستفاد من القرآن والسنة، ولا اختصاص له بزمان معين، وأنّه من أركان فريضة الحج التوحيدية وواجباتها السياسية التي بدونه لا يكون الحج حجاً.
لكن تطبيق حصيلة كلمات الإمام الخميني (قدس سره) على القواعد والضوابط التخصصية الفقهية، وصبها في قالب فني فقهي يستدعي تبيين الوجوه المحتملة لأمره بإعلان البراءة من المشركين، ثم ترجيح بعض هذه الوجوه على أساس ما توحي به كلماته وبياناته وما تدل عليه الأدلة الشرعية منها.
والوجوه المحتملة لأمر الإمام الخميني (قدس سره) عبارة عن:
الأول: أن يكون أمره (قدس سره) معبراً عن حكم شرعي مستفاد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
الثاني: أن يكون أمره (قدس سره) تطبيقاً ومصداقاً لحكم شرعي كلي ثابت بدليله.
الثالث: أن يكون أمره (قدس سره) معبراً عن حكم حكومي أوجبته المصلحة العامة للمسلمين.
الوجه الأول: الأمر بإعلان البراءة من المشركين حكم شرعي:
يمكن أن يكون أمر الإمام (قدس سره) بإعلان البراءة من المشركين في موسم الحج وعند اجتماع الحجيج كاشفاً عن حكم شرعي ثابت بدليله. وهذا الحكم يمكن تصويره على نحوين على الأقل:
أولهما: أن يكون الحكم المذكور حكماً تكليفياً بوجوب البراءة من المشركين مستقلاً عن مناسك الحج وإن اقترن زمانا بها، فهو لا يقتضي عده ضمن المناسك الواجبة للحج ولا يقتضي تركه بطلانها وان عد معصية.
ثانيهما: أن لا يكون الحكم المذكور حكما تكليفياً مستقلا عن المناسك، بل ضمنيا، يجب بوجوبها، ويسقط بسقوطها، ويكون الأمر به أرشادا إلى ذلك.
ومقتضى هذا النحو من الحكم بطلان الحج بتركه سواء في ذلك فرض شرطا في فريضة الحج أو جزءا وشطرا لها.
وسواء كان الحكم المذكور بالنحو الأول أو الثاني فان الدليل وكيفية الاستدلال عليه لا يختلفان إلا في استظهار كون طلب الشارع البراءة من المشركين دالاً على الوجوب في النحو الأول وكونه إرشاداً إلى الجزئية أو الشرطية في النحو الثاني.
لكن لما كان احتمال إرادة النحو الثاني في الأدلة وكلمات الإمام الخميني (قدس سره) ضعيفاً جداً فسنحاول صبّ اهتمامنا في صياغة الأدلة ومناقشتها على الأول.
وكيف كان فيمكن أن يستدل على وجوب إعلان البراءة من المشركين في موسم الحج بالكتاب الكريم؛ وهو قوله تعالى في سورة التوبة (براءة): ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أربعة أشهر وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأذان مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إليهمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأشهر الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[20].
وتقريب الاستدلال أن يقال: إن الأذان كما صرح به أهل اللغة في كتبهم ومعاجمهم اللغوية هو رفع الصوت والنداء للإعلان والإعلام، والمنادى على ما نصت عليه الآية هو عموم الناس، والمنادى به هو أن اللّه بريء من المشركين ورسوله، وزمان النداء هو يوم الحج الأكبر. وقد وقع النداء المذكور بالصيغة المشار إليها في الزمن المعين موردا لطلب الشارع، فيجب.
ويشهد لهذا الوجه بكلا نحويه الاستقلالي والضمني استناد الإمام الخميني (قدس سره) في أمره إعلان البراءة من المشركين إلى آيات البراءة من الكتاب وأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الإمام علياً (عليه السلام) بتنفيذه مضافاً إلى وصفه الإعلان المذكور بأنه واجب عبادي وأنّه من أركان الحج. وأن الحج الفاقد للبراءة ليس حجاً وأنّه لا اختصاص له بزمان معين.
لكن وجوب إعلان البراءة من المشركين لا ينحصر توقف إثباته على هذه المقدمات المعدودة، بل لابد من إضافة جملة من المقدمات الأخرى إليها، منها:
المقدمة الأولى: إثبات كون النداء المذكور وقع مورداً لطلب الشارع، فلو أمكن أن يقال بأنّ الآية بصدد الإخبار لا إنشاء الطلب لم يثبت الوجوب المطلوب.
المقدمة الثانية: أن الطلب المذكور طلب وجوبي لا طلب دال على مجرد الرجحان.
المقدمة الثالثة: إن المكلف بأداء الفعل المذكور جماعة المكلفين لا شخص بخصوصه.
المقدمة الرابعة: أن التكليف المذكور متكرر حيث يجب الإتيان به في موسم الحج كل عام.
وجميع هذه المقدمات بحاجة إلى تنقيح.
المقدمة الأولى: مطلوبية إعلان البراءة
أما بالنسبة إلى المقدمة الأولى وهي كون إعلان البراءة من المشركين فعلاً مطلوباً إيقاعه في الخارج من قبل الشارع المقدس فيمكن الاستدلال عليه بعدة أدلة منها:
الدليل الأول: أن الطلب وإن لم يرد بلفظ صريح في الآيات المذكورة، لكن لابد من كونه مقصوداً للشارع، لكون الأمر دائر في صدور لفظ بأمر أو شيء من لافظ عاقل إرادة أما الإخبار عنه أو طلبه ولا ثالث، والأول منتف لانتفاء موضوعه لعدم وقوع هذا الإعلان في الخارج قبل نزول الآية كي يكون إخباراً عنه، فيتعين كونه مطلوباً.
لكن الاستدلال المذكور غير تام لاحتمال كون الشارع بصدد الأخبار لكن لا عن وقوع البراءة والإعلان عنها خارجاً، بل عن كون الآيات النازلة بشخصها براءة وإعلان كما في كل ما يكون شخص الشيء محكوماً بحكم معين نحو العناوين المعرفة مثل (كتاب الصلاة) و (مسجد المصطفى (صلى اللّه عليه وآله) و(مدرسة العترة (عليهم السلام) و(المعاهدة الفلانية) و (المكتب الكذائي) وغير ذلك مما تعورف على جعله معرفاً عن الشيء، فإنّ جميع هذا يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هذا، ويكون المشار إليه في جميع هذه الموارد هو المحكوم بتلك العناوين والتسميات، واسم الإشارة ليس إلاّ أداة لتعيين المشار إليه وتنبيه المخاطب إليه لا أكثر، فالمقصود أنّ هذه الآيات التي هي قيد التلاوة بالفعل براءة من المشركين وإعلان من اللّه ورسوله عنها اليوم.
الدليل الثاني: إنّ الذي يفهمه العرف من صدور لفظ شيء من احد هو طلب تحصيله، فلو قال احد (ماء) فإن الذي يفهمه العرف من ذلك طلبه إحضار الماء لديه.
لكن هذا الاستدلال يمكن أن يناقش بعدم اطراد ذلك في جميع الموارد، بل هو تابع لظهور حال المتكلم والقرائن الحالية والمقالية المحتفة بكلامه، فلو شرب المريض دواءه ثم قال: (علقم) لم يفهم أنّه يطلب إحضار العلقم عنده، بل المراد إخبار الحضور بأنّ طعم الدواء مر كالعلقم، رغم أن هذا الاستعمال مجاز وتشبيه وحمل للفظ على غير معناه الحقيقي، وأنّ الأقرب في الاستعمال إرادة معناه الحقيقي لا المجازي، لكن وجود القرينة الحالية وهي شربه الدواء صرفت كلامه إلى إرادة المعنى المذكور.
الدليل الثالث: تتميم الاستدلال المتقدم بالقول بأنّ ظاهر حال المولى العرفي عند تكلمه مع العبد أنه في مقام المولوية والسيادة، وهو يقتضي طلب الشيء لا الأخبار. فكذلك المولى الشرعي.
وهذا الاستدلال أيضاً غير تام؛ لعدم ثبوت ظهور من هذا القبيل في كل كلام المولى بحيث يحمل على الطلب عند الشك بين كون المقصود له الطلب أو الأخبار.
نعم، لو أحرز الطلب وشك في كونه في مقام المولوية أو غيره، أمكن التمسك بظهور حال المولى في كونه في مقام المولوية لا الإرشادية مثلاً.
الدليل الرابع: أن يستفاد من شأن نزول الآيات أن اللّه سبحانه وتعالى في مقام الطلب فيها، إذ ورد أنها حين نزلت أمر النبي (صلى اللّه عليه وآله) أبا بكر أولاً بإبلاغها الناس ثم أرسل علياً (عليه السلام) خلفه ليأخذها منه معللاً بنزول جبرئيل (عليه السلام) عليه بأنه «لا يبلغها عنك إلا رجل منك» فإنّ كل ذلك شاهد على أنها واردة في مقام الطلب، إذ لو كانت في مقام الأخبار لم يكن ثمة ما يدعو إلى الأمر بإبلاغها أصلاً.
لكن ما ذكر قابل للمناقشة أيضاً بأنّ ما ورد بشأن نزولها وإن كشف عن طلب وتكليف بإبلاغها، لكن الطلب المذكور لم يعلم استفادته من الآيات ذاتها، بل قد يكون ببلاغ من خارجها، فلا تلازم بين الأمرين، بل الظاهر أن ذلك هو المتعين؛ لما ورد في كلام المفسرين من كون (براءة) خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هذه، و(أذان)عطف عليها.
قال الشيخ الطوسي: «ويحتمل رفع براءة وجهين:
احدهما: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف وتقديره هذه الآيات براءة.
والثاني: أن يكون مبتدأ وخبره الظرف في قوله (إلى الذين).
والأول أجود؛ لأنه يدل على حصول المدرك كما تقول لما تراه حاضراً: حسن واللّه، أي هذا حسن»[21].
وبهذا المضمون قال كثير من المفسرين[22].
الدليل الخامس: ذكره بعض المفسرين للآيات من أن لها دلالة على الأمر والطلب، قال الشيخ الطوسي: «وقوله (عاهدتم) إنما جاء بلفظ الخطاب؛ لأن فيه دلالة على الأمر بالنبذ إلى المشركين برفع الأمان، ولولا ذلك لجاز عاقدنا؛ لأن معاقدة النبي (صلى اللّه عليه وآله) إنما هي عن اللّه عزوجل»[23].
وقال في بيان معنى الأذان وإعرابه: «وقال الفراء والزجاج: إنما ارتفع؛ لأنه عطف على قوله: (براءة).وقيل: معناه عليكم أذان؛ لأن فيه معنى الأمر»[24].
وقال الطبرسي في الآية ﴿وَأذان مِّنَ اللّهِ﴾: «الوجه في رفعه ما ذكرناه في براءة بعينه، ثم الجملة معطوفة على مثلها…
والجملة الأولى إخبار بثبوت البراءة، والجملة الثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت من البراءة الواصلة من اللّه ورسوله إلى المعاهدين والناكثين لجميع الناس»[25] وبمضمونها عبارات بعض المفسرين[26].
لكن يعارض ما ذكروه هنا ما تقدم في مناقشة الوجه الرابع من وجوه الاستدلال من أن «براءة» و«أذان»خبران لمبتدأين محذوفين تقديرهما: هذه الآيات، ومع وجود مثل هذا التفسير للآية كيف يمكن القول بأنّه متضمنة لمعنى الأمر والطلب؟ !
نعم، يمكن أن يتجه القول بدلالتها على الطلب إن قيل بما أشار إليه الشيخ الطبرسي (رحمه اللّه) في عبارته المتقدمة من تضمن الآيات المذكورة تقديرا مفاده «عليكم» أو «لزمكم» لتكون «براءة» أو «أذان» مبتدأ مؤخراً لعليكم لا إلى الذين عاهدتم من المشركين، كما تقدم احتماله وجها لتفسير الآية، أو فاعلاً للزمكم، وتكون (من اللّه ورسوله) متعلقة بالوجوب لا بالبراءة، لكنه خلاف الظاهر.
المقدمة الثانية: وجوبية الطلب
بعد تسليم دلالة الآيات على الطلب فيمكن أن يستدل على كون طلب الأذان وإعلان البراءة من المشركين هو طلب وجوبي ـ بمعنى أنّه لازم لمن ثبت في حقه فلا يجوز له التخلف والتفصي عنه ـ بأحد بيانين:
البيان الأول: ما تقدم في كلام الشيخ الطبرسي من وجود تقدير في الآية هو «عليكم» أو «لزمكم» أذان من اللّه ورسوله بالبراءة، وظاهرهما الوجوب بلحاظ دلالتهما اللفظية.
البيان الثاني: ما يمكن أن يقال: من أن الطلب مع عدم الترخيص فيه يقتضي الوجوب إما بحكم العقل كما يذهب إليه الميرزا النائيني أو لأن شدة الشيء من سنخه بخلاف ضعفه كما يذهب إليه المحقق العراقي، أو لأنه مساوق لسد جميع أبواب العدم بخلاف الاستحباب كما يظهر من كلمات الشهيد الصدر (قدس سره) أو لغير ذلك على ما هو المقرر في كلماتهم في بحث دلالة الأمر على الوجوب.
والمناقشة في ذلك ـ بأنه مرتبط بصيغة الأمر وإطلاقها مما لا علاقة له فيما نحن فيه؛ لعدم ورود دال لفظي على الطلب في الآية ليتمسك بإطلاقه في استفادة الوجوب ـ غير صحيحة؛ لأن الظاهر أن النكتة في استفادة الوجوب من الطلب ثبوتية وراجعة إلى المعنى لا اثباتية لترتبط باللفظ وأن الإطلاق المتصور هنا هو عدم المقيد للطلب المرخص في تركه وإن كان لبياً.
المقدمة الثالثة: المكلف بالوجوب
واضح أنّ الآيات ـ على فرض كونها بصدد طلب إعلان البراءة من المشركين ـ لم تصرح بالمكلف بهذا التكليف فيمكن أن يكون شخصاً معيناً كالنبي (صلى اللّه عليه وآله) كما يمكن أن يكون عموم أفراد المجتمع، فهي فاقدة للدلالة اللفظية على ذلك.
ومن هنا يمكن أن يستدل على كون وجوب إعلان البراءة من المشركين متعلقاً بعموم الناس. بالقول بأنّ توجه الخطاب في الآيات ابتداء إلى عموم أفراد المجتمع الديني كما يظهر جليّاً من ضمير الخطاب الوارد بصيغة الجمع في الآيات في كلمات مثل (عاهدتم) و(ينقصوكم) و(يظاهروا عليكم) و(فأتموا) و(فاقتلوا) وغيرها، فإن المستفاد في مثل ذلك منه العموم المجموعي، لا ألاستغراقي أو البدلي.
ومقتضى وحدة السياق في البراءة والأذان تعلق هذين التكليفين بعموم الأفراد أيضاً لا بفرد خاص أو جماعة معينة.
غير أنّه يمكن أن يناقش في الاستدلال المذكور بمناقشات:
المناقشة الأولى: إن ضمير خطاب الجمع الوارد في الآيات الكريمة وإن كان ينفي توجه التكليف إلى شخص بخصوصه كالنبي (صلى اللّه عليه وآله) لكنه لا ينفي توجهه إلى جماعة خاصة هي الجماعة المشكلة لأفراد مجتمع ذلك الزمان، لأنهم المقصودون بضمير الخطاب.
وقد يرد على هذه المناقشة:
أولاً: بالقاعدة الأصولية المعروفة من أن الخطاب لا يختص بالمشافهين بل يعمهم وغيرهم لوجوه ذكروها في محلها أهمّها: أنّ الخطاب إنما يختص بهم إذا لوحظ المخاطبون بما هم أفراد خارجيّون، وإما إذا لوحظوا بما يحملون من صفة أخرى ككونهم مسلمين أو مؤمنين أو غير ذلك كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ…﴾ و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ…﴾ فالخطاب لا يختص بهم، بل يعم كل من كان على تلك الصفة في الحال أو الاستقبال كما هو مقرر في علم الأصول[27]، ومعه تكون شاملة للموجودين في زماننا هذا.
لكن يلاحظ على الرد المذكور أنّ الآيات أشارت إلى عهود كانت معقودة بين المسلمين والمشركين، وأنها إنما نزلت لنبذها وتحليل المسلمين منها، وقد خاطبت هذه الآيات المسلمين على أنهم هم المعاهدون فيها، ومن الواضح أن تلك العهود عهود خارجية ذات مشخصات فردية، وكذلك الأطراف الداخلة فيها من المسلمين والمشركين وغيرهم، وما كان كذلك يستحيل أن يكون كلياً، أو أن يتمثل بغيره أو ينطبق عليه. وإذا تعلق الحكم بالأطراف مورد الخطاب لم يكن لشموله لغيرهم من سبيل، فيختص بهم وحدهم، ولا يعم غير مسلمي ذلك الزمان.
وبعبارة أخرى: إنّ العبارة تضمنت تقييد البراءة بقيد خارجي يجعلها غير قابلة للانطباق إلا على الأطراف الداخلة فيه زمان النزول.
وقد يجاب عن ذلك بأنّ المقصود من عدم الاختصاص المذكور القول بأنّ البراءة من قبل اللّه ورسوله جاءت عامة لنفي مشروعية أي عهد بين المسلمين والمشركين سواء ما ثبت بينهم في الماضي أو يثبته في الحال أو الاستقبال. والتعبير بصيغة الفعل الماضي جاء بلحاظ انعقاده وإبرامه؛ فإن العهد والميثاق لا يكونا عهداً وميثاقاً كذلك إلا بعد التمامية والانعقاد، وما قبلهما ليس كذلك، بل من مقدماتهما، ولا معنى للتبرؤ من مقدمات العهد والميثاق، وسلب المشروعية عنها؛ فلذلك فرض العهد والميثاق تامين، ولوحظا منعقدين، فرغ من تماميتهم أو انعقادهما، ليصدق عنوانا العهد والميثاق، ويصح التبرؤ منهما وسلب المشروعية عنهما.
وضمير الخطاب الوارد في الآيات ناظر إلى جماعة المسلمين من وجد ومن هو موجود أو سيوجد، فكأن اللّه سبحانه وتعالى قال: يا أيها المسلمون المتواجدون على طول التاريخ في الماضي والحاضر والمستقبل كل عهد عاهدتم به المشركين أو ميثاق أبرمتموه معهم فليس بمشروع في الإسلام، وأنا ورسولي منه بُرآء.
لكن الجواب المذكور غير تام، إذ قد فرض للعهود المذكورة أجلاً معيناً أمده أربعة أشهر من حين الإعلان للبراءة مما يعني إرادة عهود خارجية محددة، وإنما فرض الأجل المذكور لإنهاء العمل بموجبها من الطرفين، وبدء تنفيذ قرار البراءة، فلو كان المراد من العهود أي عهد وإن كان مفروض الوقوع في المستقبل لم يكن ثمة معنى لتأجيل سلب المشروعية عنه بالأجل المفروض، مع فرض تقدم حكم البراءة على انعقاده بما يزيد على تلك المدة وذلك الأجل بزمان طويل، بل المفروض أن يقع مسلوب المشروعية من حين انعقاده، فلابد أن يكون المراد من البراءة من العهود في قوله تعالى: ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم﴾ العهود المنعقدة قبل نزول النص المذكور، وبه تتحول القضية والحكم الوارد فيها إلى قضية خارجية.
ثانياً: بأنّ ظاهر الآيات وإن كان دالاً بالمطابقة على ورودها بخصوص معاهدات خاصة ومعاهدين معينين، لكنها تدل بالالتزام على براءة اللّه ورسوله من كل عهد وميثاق للمسلمين مع المشركين سبق زمان النص أو ضارعه أو لحقه؛ لما سلف منّا بيانه من أنّ المقصود إزالة ما بين المسلمين والمشركين من علائق وتعهدات تحول دون جهادهم، وتمنع من مقاتلتهم، وتفرض لهم عصمة وحصنا في الدم أو العرض أو المال، وهذا ما تدل عليه الآيات بوضوح حيث رتبت على ذلك جواز أخذهم وقتلهم والترصد لهم بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأشهر الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ﴾[28].
وليس من المعقول أن تنهي الآيات المذكورة العهود والمواثيق السابقة على نزول النص ويتبرّأ اللّه ورسوله منه أومن التزام المسلمين بها، ثم يسمح بوقوع عهود ومواثيق أخرى بين المسلمين والمشركين بعد ذلك ولا يتبرّأ منها، فالنص دال بالمطابقة على نبذ العهود والمواثيق السابقة على النص، وإبطال تأثيرها، وإيقاف العمل بها خلال مدة أقصاها أربعة أشهر، وبالالتزام على إبطال كل عقد وعهد بين المسلمين والمشركين وسلب المشروعية عنه سواء تقدم على النص أو ضارعه أو تأخر عنه، فالسابق على النص يصير باطلاًً بعد انتهاء اجل الأربعة أشهر من إعلان البراءة أو الأجل المفروض في متن العقد إن كان مؤجلاً، والمضارع له أو المتأخر عنه يقع باطلاً وغير مشروع من حين انعقاده.
وهذا الرد أيضاً يمكن أن يناقش فيه:
أولاً ـ بأنّ فرض وجود ملازمة بين تبرؤ اللّه ورسوله من عهود المشركين ومواثيقهم في زمان وتبرؤهما منها في الأزمنة اللاحقة على ذلك غير ثابت، إذ ما من موجب لهذه الملازمة؛ ولا دليل عليها إلا ما يحكم به العقل من أن دفع الشيء أولى من رفعه، وهو مع كونه مشكوك الثبوت أصلاً إنما يصدق بالنسبة إلى الشيء الواحد، لا مثل الاتفاقيات والمعاهدات الواقعة بين طرفين والتي تتغير بتغير الظروف والأحوال؛ إذ يمكن أن يقال: بأنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ابرم معاهدات في ظرف اقرها اللّه عليه لكونها تصب في مصلحة الإسلام والمسلمين، فلما وجدها بعد أمد قد تحولت إلى حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام وقوة المسلمين نقضه أو تبرا من الالتزام بها.
ثم أنّ تغيرت الظروف والأحوال فاقتضت المصلحة عقد عقود ومعاهدات مماثلة للأولى في زمان لاحق فعل، ثم إن تحولت كالأولى لُغيت وهكذا، خصوصاً وإننا لا نقر البداء والنسخ من اللّه سبحانه لما سبق إلا بمعنى الدفع لا الرفع، أي زوال المصلحة المقتضية للحكم الأول وعروض مصلحة جديدة عليه، وإلا فإنّه لو فرض بقاء الحكم الأول على المصلحة السابقة لما كان موجباً لارتفاعه، وليس يقدح ذلك في طريقة الشارع بعد فرض أن المراد من نقض العهد هنا هو إنهاء العمل بالعهود والعقود والاتفاقيات غير المحددة بأجل أو زمان، فان التأبيد في مثلها غير مقصود لا للمتعاقدين ولا متبان عليه من قبل العقلاء، فتكون جائزة يلتزم به كل طرف ما دام الطرف الآخر بها ملتزما، فان أراد إنهاء العمل بها انذر الآخر وأمدّه أمداً حتى يتخذ الترتيبات اللازمة لذلك، وليس المراد نقض العهود المحددة بأجل وزمان والطرف الآخر ملتزم بها، فانه مما لا يتماشى وقوله تعالى: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾.
لكن المناقشة المذكورة غير صحيحة بلحاظ أنّ الظاهر من آيات البراءة هو جعل حكم شرعي بحق المسلمين يلزمهم بإنهاء العقود والعهود المبرمة مع المشركين غير المحددة بزمان معين. والحكم الشرعي وإن أمكن نسخه بحكم آخر تقتضيه المصلحة زماناً ما، لكنه إن لم يدل دليل على نسخه وإبطاله يبقى ثابتاً ساري المفعول وينطبق عليه ما نقل عنه (صلى اللّه عليه وآله) من القول بأنّ حلال محمد (صلى اللّه عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة[29].
والمفروض في حكم البراءة أنه لم يأت ما يدل على نسخه وإبطال العمل به مع انتهاء عصر التشريع، فيجب أن يبقى نافذا إلى يوم القيامة كذلك.
نعم، لو استفيد من آيات البراءة أنّ الحكم الوارد فيها والمستفاد منها حكم حكومي لا شرعي لم يكن ما يوجب التقيد والتعبد به في كل حال وزمان، بل يكون ذلك راجعاً للحاكم وللولي ليبتّ فيه بحسب ما يؤدي إليه تشخيصه للمصالح والظروف الحاصلة في زمانه.
والمفروض أنّ الاستدلال منعقد لإثبات أنه حكم شرعي يجب العمل به ولا يجوز التخلف عنه، لا أنه حكم حكومي تابع لتشخيص الحاكم، فالمناقشة غير تامة.
وثانياً: إن الجوامع الحديثية والمصادر التاريخية وكتب التفسير اتفقت على أن المكلف بإعلان البراءة هذا كان النبي (صلى اللّه عليه وآله) وأنه كلف أبا بكر به أولاً بعد أن ولاّه أمارة الحجيج، وأن جبرئيل هبط بعد مسير أبي بكر على النبي (صلى اللّه عليه وآله) فأبلغه أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، فبعث بعلي خلفه ليأخذ منه سورة براءة ويؤذن في الناس في محال اجتماعهم.
وقد أحصى العلامة الأميني في كتابه الغدير من نقل الواقعة من أهل السنة في كتبه ومصنفاته فبلغوا 73 رجلاً، وذكر عدداً كبيراً من الروايات في ذلك[30].
فإن التعبير الذي نزل به الروح الأمين (عليه السلام) على النبي (صلى اللّه عليه وآله) يدل بوضوح على أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) كان هو المكلف بإعلان البراءة وما من احد مكلف به غيره.
نعم، روي عن أبي هريرة أنه كان إذا صوت علي (عليه السلام) نادى هو مكانه، كما روي بمناداة غيره أيضاً لكنه مناف لما نزل به جبرائيل ولما فعله النبي (صلى اللّه عليه وآله) من اخذ براءة من أبي بكر، إلا أن يراد أن يكون الإعلان والأذان بإمرته، فلا ينافي مناداة غيره به، لكن الروايات المذكورة لم تثبت من غير طرق أهل السنة[31]
المقدمة الرابعة: تكرارية التكليف
يمكن الاستدلال للمقدمة الرابعة بتقريبين:
التقريب الأول: إن المستفاد من الآيات الكريمة وجود تكليفين احدهما البراءة من المشركين بنبذ عهودهم ومواثيقهم التي قطعوها للمسلمين استناداً إلى قوله تعالى: ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
والأخر: إعلان البراءة المذكورة كل عام في موسم الحج استناداً إلى قوله الآخر: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾.
وظاهر عطف الأول على الثاني تغايرهما ومطلوبية كل منهما بنفسه بنحو لا يكون امتثال أحدهما مغنياً عن امتثال الأخر أو متعلقاً به وتابعاً إليه.
وإذ جعل إعلان البراءة من المشركين مقيداً بيوم الحج الأكبر، والحج فريضة ثابتة على المسلمين في كل عام، فيلزم من تكرر ظرفه تحقق موضوعه كل عام، وبتحققه تثبت فعلية الوجوب لأن نسبة الموضوع إليها نسبة العلة إلى المعلول الذي لا يجوز عقلاً تخلفه مع حضورها.
لكن الآية المذكورة على فرض دلالتها على الوجوب يرد عليها:
أولاً: لا يستفاد منها تعلق وجوب بإعلان البراءة من المشركين مستقلاً عن البراءة ذاتها، فيكون وجوبه وجوباً تبعياً مرتبطاً بها، وأن الغرض منه هو إبلاغ قرار البراءة ـ من العهود وإيقاف العمل بها بعد أربعة شهور ـ الصادر من اللّه سبحانه وتعالى أذان المشركين ليكونوا على اطلاع بالموقف وليتخذوا الترتيبات والاحتياطات اللازمة لذلك، فلا يتهمون المسلمين بنقض العهد ونكث اليمين وخفر الذمم دون سابق إنذار منهم، خصوص أوان العهود المذكورة غير مقيدة بمدة لتبطل بانقضائها، بل ظاهرها الدوام والاستمرار حتى ينهي احد الطرفين العمل بها بإنذار يصل إلى الأخر، قال الطبرسي: «ثم بين سبحانه أنه يجب إعلام المشركين بالبراءة منهم لئلا ينسبوا المسلمين إلى الغدر، فقال: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ﴾»[32]
وحيث أن المقتضي للإعلان عن البراءة من المشركين ـ وهو إبلاغ قرار البراءة أذانهم للتحذر واتخاذ الترتيبات اللازمة ـ إنما يقتضيه في خصوص العهود والمواثيق الموجودة بالفعل زمان النزول دون ما يمكن أن يفرض وقوعه في المستقبل بناء على إمكان تصوره كما يظهر من الاستدلال استفادته لازماً لمضمون الآيات المطابقي، لوقوعها مسلوبة المشروعية، فاقدة للاعتبار منذ البداية، فلا مقتض لنفوذها والعمل بها فضلاً عن تصور استمرارها كي يدفع بالتحذير بالإعلان المذكور.
ثانياً: أنه لو سلمنا أنّ إعلان البراءة من المشركين واجب مستقل عن البراءة ذاتها، فإنه لا يلزم من وجوبه كذلك تعدده وتكراره كل عام إلا إذا استفيد من أدلته أو من تطبيقه على مصاديقه الخارجية تعدد المطلوب، إما من جهة تعدد الطلب في دليل واحد أو أكثر، أو تعدد متعلقه أو تعدد موضوعه، وجميعها منتف.
أمّا تعدد الطلب بسبب تعدد الدليل فانتفاؤه بسبب عدم وجود ما يصلح دليلاً على إعلان البراءة من المشركين غير الآية المشار إليها، وأما تعدده فيها فالطلب بنفسه لم يصرح به فيها، وإنما قدر تقديراً؛ لمكان الحاجة إليه، وهي لا تقتضي تكرره.
وأمّا تكرّر متعلق الطلب فيها فلم يرد مكرراً لفظاً، ولا بصيغة الجمع، ولم تدخل عليه أدوات العموم ألاستغراقي وغير ذلك مما يستفاد منه التعدد، بل ورد نكرة، والنكرة الواقعة في سياق الطلب يكفي في حصول امتثال الأمر بها إيقاعها مرة واحدة في الخارج.
وأما تكرر موضوع الطلب فهو لم يرد فيها لفظا، ونفذه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) نيابة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خارجاً، كما صرحت بذلك الجوامع الحديثية والمصادر التاريخية فضلاً عن كتب التفسير. ومعه فلا موجب للتكرر. نعم لو كان موضوعاً على عموم المسلمين بنحو العموم ألاستغراقي لاقتضى ذلك تكرره بالنسبة لكل فرد فرد منهم.
وكذا لو كان موضوعاً على نحو العموم المجموعي لجماعة المسلمين المشاركة في الحج أو حاضرة المسجد الحرام في موسم الحج أمكن استفادة تكرر الوجوب بالنسبة إلى هذه الجماعة في كل عام.
ومما ذكرنا يعلم أن تقيد وجوب الأذان بيوم الحج الأكبر لا يقتضي تكرره بتكرر الحج، بل يقتضي تقيد المطلوب به، فإن كان المطلوب بإعلان البراءة واحداً وجب تقيده مع وحدته بيوم الحج الأكبر، وإن كان متعدداً فكذلك؛ إذ القيد تابع في وحدته وتعدده لوحدة المقيد وتعدده دون العكس، وقد مر أنه لا يستفاد من الدليل الدال على وجوب إعلان البراءة من المشركين والعوامل الداخلة عليه ما يدل على التعدد.
التقريب الثاني: أن يقال: إنّ المستفاد من النص القرآني ما ذكر في التقريب المتقدم من تضمنه إثبات تكليفين اثنين هما:
ذات البراءة وإعلانها.
لكن التكليف بإعلان البراءة وخلافا لما جاء في التقريب المتقدم ليس واجبا أصلياً، بل تبعي لحكم البراءة. ومن الواضح أن الواجب التبعي كما يتبع الأصلي في أصل وجوبه يتبعه كذلك في وحدته وتعدده.
والبراءة من المشركين أن فرضت براءة عهود فقط كفى فيها الإعلان عنها مرة واحدة فقط تبعا لأصل البراءة كما بين في المناقشة المتقدمة، وأما إن فرضت براءة موالاة أو ما يعمها ويعم براءة العهود كما أشار إليه بعض[33] فليس يكفي في تحقق الغرض منها الإتيان بها مرة واحدة، بل لابد من تكرار العمل بها مرة كل عام على اقل تقدير.
والظاهر إن الملحوظ في البراءة هو المعنى الأخير، إذ المقصود من البراءة قطع جميع العلائق بين المسلمين والمشركين سواء كانت علائق عهود أو علائق مودة وموالاة، وفي الأخيرة وردت آيات كثيرة تمنع منه أو تتوعد عليها.
منها قوله تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ…﴾[34].
ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾.[35] وقوله عزوجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ وغيرها.[36] لكن يرد على هذا التقريب إشكالات عديدة:
أولا: أن الظاهر من ترابط معاني الآيات ووحدة سياقها اتحاد المعنى المقصود من البراءة، والمعنى الوحيد المصرح به فيها هي البراءة من العهود لقوله تعالى ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فينصرف إليه، وادعاء إرادة غيره أو الأعم منه ومن غيره يحتاج إلى دليل، والظاهر أنه غير موجود.
ثانياً: أن ما ذكر من كون البراءة من العهود يكفي في تحقق الفرض منها إعلانها مرة واحدة بخلاف البراءة من الموالاة فلا يكفي فيها ذلك وأن كان صحيحاً في حد ذاته، لكن تحديد ما يفي بالغرض منها بوقوعه مرة في العام وتحديداً في موسم الحج مما لا معين له؛ إذ يمكن أيكال مقدار ذلك وزمانه إلى ما تقتضيه الظروف وملابسات العلاقات القائمة بين الدول كما عليه شعوب دول العالم اليوم حيث تخرج في مظاهرات ومسيرات سياسية كبرى تردد فيها الشعارات التي يقتضيها الظرف السياسي كشعار الموت لأمريكا والموت لإسرائيل وغير ذلك كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
وهذا وإن كان لا يمنع من فرض يوم خاص يردد فيه شعار خاص بغية تحقيق غرض معين، لكن اعتقاد شرعية ذلك منوط بوجود الدليل، فمجرد اقتضاء الغرض لا يفي بالتحديد المذكور.
ثالثاً: أن ما قام به الإمام علي (عليه السلام) تنفيذا لطلب الأذان والإعلان الوارد في سورة براءة لا ينسجم ـ وفقاً للنقول الحديثية والتاريخية ـ مع ما يراد استفادته من الآيات من أن النداء كان للبراءة من الموالاة، إذ جاءت جميع المصادر متطابقة على تضمن إعلان البراءة بنوداً ثلاثة هي:
1 ـ منع المشركين من الحج بعد عام البراءة.
2 ـ منع الناس من الطواف بالبيت عراة بعد إعلان البراءة.
3 ـ أبقاف العمل بالعهود المعقودة بين المسلمين والمشركين خلال مدة أقصاها أربعة أشهر من تاريخ إعلان البراءة إن لم تكن العهود محددة بأجل معين، وإلا استمر العمل بموجبها إلى الأجل المفروض في متن العهد.
واختلف في بندين آخرين هما:
1 ـ منع الكفار من دخول البيت الحرام بعد إعلان البراءة.
2 ـ نفي دخول احد من الكفار الجنة.
لكن الظاهر أن الأخير تصحيف؛ لعدم مناسبة نفي دخول الكفار الجنة لإعلان البراءة، وأن الصحيح فيه الكعبة كما نقله الطبرسي في تفسيره عن زيد بن يثيع، فيتحد مع ما قبله وتتفق النقول.
فعن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب علي (عليه السلام) بالناس وأخترط سيفه وقال: «لا يطوفن بالبيت عريان ولا يحجّن بالبيت مشرك، ومن كانت له مدة فهو إلى مدته، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر»[37].
وعن محرز بن أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كنت أنادي مع علي (عليه السلام) حين إذن المشركين فكان إذا اضمحل صوته مما ينادي دعوت مكانه قال: فقلت: يا أبه أي شيء كنتم تقولون؟ قال: كنا نقول: لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل البيت إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول اللّه مدة فإن اجله إلى أربعة أشهر، فإذا انقضت أربعة أشهر فان اللّه بريء من المشركين ورسوله»[38].
وفي مسند احمد عن عبداللّه عن أبيه عن وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن أبي بكر: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) بعثه ببراءة لأهل مكة لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، من كان بينه وبين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مدة فاجله إلى مدته واللّه بريء من المشركين ورسوله، قال: فسار بها ثلاثاً، ثم قال لعلي (عليه السلام) الحقه فردّ عليّ أبا بكر وبلغها أنت، قال: ففعل، قال: فلما قدم على النبي (صلى اللّه عليه وآله)أبو بكر قال: يا رسول اللّه حدث في شيء، قال: «ما حدث فيك إلا خير ولكن أمرت أنّ لا يبلغه إلا أنّا أو رجل مني»[39].
فلو كان المراد من البراءة براءة الموالاة أو ما هو اعم لم يكن بد من تضمن ما قام به الإمام علي (عليه السلام) نبذ موالاة المشركين، فعدم تضمنه ذلك يكشف عن عدم إرادة المعنى المذكور.
رابعاً: أن المراد بالحج الأكبر بناء على ما ذكره بعض المحدثين هو خصوص العام الذي أبلغت فيه سورة براءة، سمي بذلك لأنه كان آخر عام حج فيه المشركون مع المسلمين، فبعده لم يحج مشرك. ومع تقيد وجوب إعلان البراءة من المشركين به ينحصر زمان أداء الوجوب المذكور بذلك العام ولا يمتد إلى سائر الأعوام كما يراد إثباته بالاستدلال المتقدم.
قال الشيخ الطوسي: «وسمي بالحج الأكبر لأنه حج فيه المشركون والمسلمون، ولم يحج بعدها مشرك»[40].
وهو مضمون رواية حفص بن غياث النخعي القاضي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: سالت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن قول اللّه تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر﴾ فقال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): كنت أنا الأذان في الناس، قلت: فما معنى هذه اللفظة الحج الأكبر؟ قال: «إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون والمشركون، ولم يحج المشركون بعد تلك السنة»[41].
ولا يعارضها ما روي عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: «وكان[علي] خطب يوم النحر… وقال: يوم النحر يوم الحج الأكبر»[42]. وبمضمونه ما عن عبدالرحمن عن أبي عبداللّه (عليه السلام)[43]؛ لأنهما واردتان في تفسير يوم الحج الأكبر لا الحج الأكبر نفسه، إذ يمكن فرض يومه هو يوم النحر من حج ذلك العام.
نعم، يعارضه ما في رواية ابن سرحان عنه (عليه السلام) قال: «الحج الأكبر يوم عرفة وجمع ورمي الجمار، والحج الأصغر العمرة»[44]. وما بمضمونه عن زراراة مضمرا[45]؛ لأنهما جعلاً الحج الأكبر هو فريضة الحج في مقابل العمرة، مما يجعله عنواناً كلياً قابلاً للانطباق على كل عام.
إشكالات أخرى:
ثم انه يرد على اختيار كون إعلان البراءة من المشركين حكما شرعيا إشكالات أخرى غير ما ذكرنا منها:
أولا: أنّ إعلان البراءة من المشركين لو كان واجباً لورد في الروايات المنقولة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) ما يدل على ذلك قولاً أو فعلاً مع أنه لا نجد من ذلك شيئا، فلم يرد في كلماتهم ما يدل على وجوبه قولاً، ولم يظهر ممن حضر الحج معهم من روى عنهم القيام بإعلان البراءة من المشركين فعلاً مع أنهم قضوا ما يزيد على ثلاثة قرون بين المسلمين يبينون أحكام اللّه ويحجون ويسالون عن الحج وغيره فيجيبون. وقد ورد في باب الحج عدد كبير من الروايات يفوق بكثير الروايات الواردة في كثير من الأبواب الفقهية في الجوامع الحديثية[46].
وقد وردت في جملة روايات الحج روايات عديدة تبين حج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وغيره من الأنبياء (عليهم السلام) وتوضح أفعال الحج وكيفيته، ولم يرد ولا في واحدة منها بيانه[47]، ومقتضى الإطلاق المقامي في هذه الروايات عدم كون إعلان البراءة من المشركين فعلاً من جملة أفعاله الواجبة الضمنية، بل ولا في جملة الأفعال الاستقلالية المقترنة به.
ثانياً: لم يذكر خلال هذه السنين المتمادية من زمان تشريع الحج وواجباته وحتى زماننا الحاضر قيام سيرة المتشرعة على فعله، مع أنه لو كان واجباً لفعله الناس، ولنقل فعلهم إياه إلينا.
ثالثاً: إنّ فقهاءنا لم يوردوا في أي من كتبهم الفقهية ومنها الباحثة في مناسك الحج ما يشير إلى وجوب إعلان البراءة من المشركين لا بعنوان أنه واجب ضمني ولا مستقل مقترن بمناسك الحج. ومن البعيد جداً أن يكون واجباً ثم لا يلتفت إلى وجوبه احد من فقهائنا إلى زماننا الحاضر.
فاتضح من كل ذلك عدم وجاهة الوجه القائل بأنّ أمر الإمام الخميني (قدس سره) بإعلان البراءة من المشركين كاشف عن حكم شرعي وجوبي.
الوجه الثاني: أن يكون أمر الإمام الخميني (قدس سره) كاشف عن تطبيق لحكم شرعي كلي:
المتصور من الأحكام الكلية التي يمكن أن يكون الإلزام بإعلان البراءة من المشركين كاشفاً عن تطبيقها حكمان:
الأول: البراءة من أعداء اللّه سبحانه؛ فإنه واجب حيث عد من جملة فروع الدين العشرة، ووردت به آيات تقدم بعضها وروايات منها ما رواه الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
«عشر من لقي اللّه بهنّ دخل الجنة: شهادة أن لا اله إلاّ اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، والإقرار بما جاء من عند اللّه، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان وحج البيت، والولاية لأولياء اللّه، والبراءة من أعداء اللّه واجتناب كل مسكر»[48].
وربما وردت بتعابير أخرى كمعاداة أعداء أئمة أهل البيت (عليهم السلام)[49].
والظاهر أنها هي براءة الموالاة التي ذكرها بعض المفسرين واحتمل إرادتها من سورة براءة، كما تقدم.
وأمر الإمام الخميني (قدس سره) حجاج بيت اللّه الحرام بإعلان البراءة من المشركين يعتبر تطبيقاً ومحاولة للإفادة من موسم الحج واجتماع الحجيج لتنفيذ البراءة من أعداء اللّه.
ويشهد لكون الإعلان المذكور تطبيقا لحكم البراءة من أعداء اللّه سبحانه عطف الإمام الخميني (قدس سره) عبارة ملاحدة الاستكبار العالمي وعلى رأسهم أمريكا في خطابه على المشركين.
وهذا لا بأس به لولا انه (قدس سره) استند في خطاباته وبياناته إلى الآيات الواردة في سورة براءة وسنة رسول اللّه التي قام الإمام علي (عليه السلام) بتنفيذها عام البراءة، وقد ثبت اختصاص ذلك ببراءة العهود وعدم شموله لبراءة الموالاة.
الثاني: توحيد اللّه سبحانه ونفي الشرك عنه، فإنه قد يقال بوجوبه في الحج، مستقلاً أو في ضمن واجبات أخرى كالتلبية الواجبة التي تتضمن معنى الاستجابة للّه ونفي الشرك عنه، حيث يجب على كل حاج أن يلبي فيقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»[50].
بل الظاهر إن الحج فريضة مبتنية على توحيد اللّه ونفي الشرك عنه قلباً وقولاً وعملاً.
أما قلباً فبما اعتبر من وجوب نية القربة والإخلاص في عقد الإحرام للحج.
وأما قولاً فبالتلبية الواجبة.
وأما عملاً فبكل المظاهر الحاكية والمعبرة عن العبودية المطلقة من الإحرام حيث التجرد من كل لباس غير ثوبي الإحرام وحسر الرأس، والتعرض للشمس وعدم الاستمتاع بنساء أو صيد أو غير ذلك، وعدم التزين والتطيب وغيرها إضافة إلى الأفعال الأخرى من الوقوف بعرفة والمشعر والسعي والطواف ورمي الجمرات وسوق الهدي وغير ذلك.
ويمكن عد البراءة من المشركين ـ وإن لم يرد بخصوصها حكم شرعي ـ إحدى المفردات التي تأتي في هذا السياق، وتعبر عن روح الحج المتمثلة في توحيد اللّه ونفي الشرك بالقول بإطلاق صرخات البراءة من المشركين، فيكون وجهاً ثانياً لحمل كلمات الإمام الواردة في البراءة عليه.
ويشهد لهذا التطبيق قول الإمام الخميني (قدس سره) في المقطع الرابع من كلماته: «وأي مكان أليق من الكعبة بيت الأمن والطهارة الذي وضع للناس، لينبذ فيه عملاً وقولاً كل تعد وظلم واستغلال واستعباد ورذيلة وسوء فعل؛ وتحطم فيه أصنام ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ﴾ في تجديد ميثاق الست بربكم».[51] لكن التطبيق المذكور لا ينسجم مع استناد الإمام الخميني (قدس سره) إلى الكتاب وسنة الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله).
الوجه الثالث: كون الأمر بإعلان البراءة حكماً حكومياً:
من الممكن أن يكون أمر الإمام الخميني (قدس سره) حكما حكوميا اقتضته مصلحة المسلمين في الظرف الراهن؛ وذلك لما يظهر من تضييعهم هويتهم الإسلامية، واعتمادهم على الكفار في الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تتطلبها إدارة الدولة، وإقامة العلاقات وعقد الاتفاقيات معهم، ونزولهم عند مخططاتهم الاستعمارية وغير ذلك مما يقوي نفوذ الكفار ويزيد في تغلغلهم وتسلطهم على الشعوب والمجتمعات الإسلامية، فيكون إلزام الإمام الخميني (قدس سره) الناس بإعلان البراءة من الكفار والمشركين حكماً حكومياً الغرض منه دفع محذور نفوذ الكفار وتسلطهم الفكري على المسلمين.
ويشهد لهذا الوجه وصف الإمام الخميني (قدس سره) لإعلان البراءة بأنه واجب سياسي وأن الحج الذي تنعدم فيه الوحدة ولا يعبر عن هدم صروح الكفر والشرك ليس حجاً.
وهذا الوجه لا بأس به أيضاً لولا المحذور المتقدم في الوجه السابق بكلا شقيه، وهو تضمن كلام الإمام الخميني (قدس سره) ما يدل على استناده إلى آيات البراءة وفعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).
الرأي المختار:
لاحظنا لدى مراجعة الوجوه المحتملة لتفسير كلام الإمام الخميني (قدس سره) عدم انطباق كلماته على أي من هذه الوجوه، وأن المشكلة التي تواجهنا في ذلك هي استناد الإمام الخميني (قدس سره) إلى آيات سورة البراءة وسنة الرسول محمد (صلى اللّه عليه وآله) في وجوب إعلان البراءة من المشركين مع أنّها لا دلالة لها على ذلك. فإذا استطعنا أن نذلل مشكلة استناد الإمام الخميني (قدس سره) إلى ما ذكر ارتفع الإشكال المذكور.
والملاحظ في مجموع كلمات الإمام الخميني (قدس سره) أنه يصف إعلان البراءة من المشركين بأنه واجب سياسي عبادي يعبر عن روح فريضة الحج، ولم يعده واجباً عبادياً فقط، ولا أدخله ضمن واجبات الحج العبادية التي يأتي الفقهاء على ذكرها في مناسك الحج والعمرة.
وهذا مؤشر واضح وقوي على أنّ الحكم المذكور حكم حكومي يستند في كيفيته وتوقيته وخطابه إلى الكتاب وسنة الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله) حيث استفيد من كيفية إنهاء العمل بالعقود المبرمة مع المشركين، ونبذ العهود إليهم، بإعلان ذلك في الاجتماعات العامة وعلى رؤوس الأشهاد ومن توقيته باستغلال فريضة الحج واجتماع الحجيج من مختلف الأقطار والبلدان، وإيقاعه في مواطن اجتماعهم حيث الوقوف بعرفة وأداء الطواف الأخير لتحديد شكل الحكم المذكور.
وبذلك يتضح الوجه في استناد الإمام الخميني (قدس سره) في كلماته إلى الكتاب والسنة في الأمر بالإعلان المذكور، وأنه لا يريد بذلك انتزاع حكم شرعي، بل الإشارة إلى ما يناظر ذلك الأمر في الكتاب والسنة، كما استفيد من الخطاب القرآني وفعل علي (عليه السلام) المبلغ من قبل الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله)وتعبيرهما عن مضمون ينسجم مع المناسبة اعني أيام الحج التي تتضمن التوحيد، ونبذ الشرك والطغيان والظلم، قلباً وقولاً وعملاً لتحديد نوع الخطاب والشعار الذي ينبغي رفعه وترديده كتعبير عن مضمون ينسجم والمناسبة التي تقرر إطلاقه فيها، فيكون نحواً من الجمع والتلفيق بين الوجوه الثلاثة.
ومن يراجع كلمات الإمام الخميني (قدس سره) التي سردناها في مقدمة المقال يجد هذا المعنى منعكسا في كلماته بوضوح.
الهوامش
[1] انظر: الكليات (الكفوي): 231، المفردات (الراغب الأصفهاني): 121، تهذيب اللغة (الأزهري) 15: 269، معجم مقاييس اللغة (ابن فارس) 1: 236.
[2] انظر: العين (الفراهيدي) 8: 289، معجم مقاييس اللغة 1: 246، النهاية في غريب الحديث (ابن الأثير) 1: 111،المحيط في اللغة (ابن عباد) 10: 274.
[3] انظر: العين 8: 289، المحيط في اللغة 10: 274، تهذيب اللغة 15: 269، المفردات: 121، الصحاح 1: 36.
[4] انظر العين 8: 289 المحيط في اللغة 10: 274.
[5] انظر العين 8: 289 المحيط في اللغة 10: 274 ـ 275، تهذيب اللغة 15: 271.
[6] انظر العـين 8: 289، المحيط في اللغة 10: 274، تهـذيب اللغة 15: 271، معجـم مقايـيس اللغة 1: 236.
[7] انظر العين 8: 289، مجمع البحرين (ألطريحي) 1: 131.
[8] التبيان (الطوسي) 5: 271، مجمع البيان (الطبرسي) 5: 7.
[9] تصحيح اعتقادات الإمامية (المفيد): 43.
[10] التوبة: 3.
[11] صحيفة إمام (بالفارسية) 18: 91.
[12] صحيفة أمام (بالفارسية) 19: 335.
[13] صحيفة إمام (بالفارسية) 20: 93 ـ 94.
[14] يوسف: 39.
[15] الأعراف: 172.
[16] التوبة: 3.
[17] صحيفة إمام (بالفارسية) 20: 314.
[18] صحيفة إمام (بالفارسية) 21: 22.
[19] صحيفة إمام (بالفارسية) 21: 78.
[20] التوبة: 1 ـ 5.
[21] التبيان، الطوسي 5: 167.
[22] الكشاف عن حقائق التأويل، الزمخشري 2: 172. جوامع الجامع الطبرسي 2: 44. مجمع البيان، الطبرسي 5: 7، إملاء ما من به الرحمان، العكبري 2: 11، التفسير الصافي، الفيض الكاشاني 1: 45، التفسير الصافي، الفيض الكاشاني 2:282، الكشف والبيان، الثعلبي 5: 6. تفسير السمعاني 2: 285. معالم التنزيل، البغوي 2: 266.
[23] التبيان 5: 168.
[24] لتبيان 5: 170.
[25] جوامع الجامع 2: 45.
[26] النسفي 2: 77. البيضاوي 3: 128.
[27] فوائد الأصول 1: 548.
[28] التوبة: 5.
[29] انظر: الوسائل 27: 169، ب12 من صفات القاضي، ح52. كشف الغطاء 1: 32. الحدائق الناضرة 9: 424.
[30] الغدير 6: 342.
[31] مجمع البيان 5: 11.
[32] انظر: سنن النسائي 5: 247. المستدرك 4: 179.
[33] مجمع البيان 5: 12.
[34] آل عمران: 28.
[35] النساء: 144.
[36] المائدة: 51.
[37] البحار 9: 56، البرهان 2: 101، الصافي 1: 681 ـ 682،الوسائل 13: 401، ح1 (ط مؤسسة آل البيت:).
[38] التبيان 5: 169، مجمع البيان 5: 12. بحار الأنوار 21: 467.
[39] مسند احمد 1: 3.
[40] التبيان 5: 170.
[41] علل الشرائع، الصدوق 2: 442.
[42] تفسير العياشي، العياشي 2: 74، ح7.
[43] تفسير العياشي، العياشي 2: 76، ح16، الوسائل 14: 298، ب1 من العمرة ح10.
[44] تفسير العياشي 2: 76، ح17 ح1.
[45] تفسير العياشي 2: 77، ح18. الوسائل 14: 298، ب1 من العمرة، ح11.
[46] انظر: الوسائل، التهذيب، الكافي، من لا يحضره الفقيه.
[47] وسائل الشيعة 11: 212 ـ 239، ب2 من أقسام الحج جميع أحاديث الباب.
[48] وسائل الشيعة 1: 29، ب1 من مقدمة العبادات، ح39.
[49] انظر المصدر السابق جميع أحاديث الباب.
[50] جواهر الكلام 18: 215.
[51]صحيفه إمام (بالفارسية) 20: 314.