الاستنساخ بين التحليل والتحريم

الاستنساخ بين التحليل والتحريم

الاستنساخ من الفعل (نسخ) وهو الحصول على صورة طبق الأصل من النسخة الأصلية، عن طريق زرع خلية عادية في بويضة أُفرغت من الكروموسوم، أي من الإرث الجيني، بحيث تصبح خلية قابلة للتكاثر عن طريق الانقسام الخليوي المعتاد، ثم ملؤها بخلية أخرى من كائن مكتمل النمو، تحمل صفاته الوراثية وزرعها في رحم أنثى بالغة، لتأتي النتيجة جنينًا أو مولودًا مستنسخًا من صاحب الخلية المزروعة.    بقلم: د. السيد حسين الحسيني

موقع الاجتهاد: حتى تاريخ 1970 ميلادية كان إجراء الأبحاث على الحمض النووي (DNA) من أصعب الأمور التي كانت تواجه علماء الوراثة والكيمياء، ولكن الحال تحوّل بشكل كامل، فأصبح علم الوراثة المتعلق بفحص اﻟ(DNA) والمعروف ﺑ(علم الوراثة الجزيئية) من أسهل العلوم وأكثرها تطورا.
لقد أصبح من السهل صنع نسخ عديدة من أي جين (مورث) أو مقطع محدد من اﻟ(DNA). كما استطاع العلماء استكشاف الجينات الموجودة على الكروموسومات وتغييرها وتعديلها بالشكل الذي يريدون. وليس هذا فحسب، بل استطاعوا أن يعيدوا هذه الجينات المعدَّلة إلى الخلية، وغرزها في الكروموسوم الذي يريدون. وقد أُطلق على عملية نسخ وتعديل وزرع الجينات اسم (الهندسة الوراثية)، وهو اسم عام لا يحدد فكرة معينة أو تقنية محددة، ولكنه يُعنى بكل ما يقام به في تغيير أو تعديل المادة الوراثية.

معنى الاستنساخ لغة:

الاستنساخ من النسخ، والألف والسين والتاء من أحرف المعاني الزائدة، وهي للطلب، ويطلق النسخ على معنيين، أحدهما: الإزالة؛ ومنه قول الله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) سورة الجاثية، الآية 29. والآخر: النقل ومنه نسخ الكتاب؛ أي نقل صورته إلى كتاب آخر؛ قال تعالى:(… إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؛ أي ننسخ ما تكتبه الحفظة، فيثبت عند الله تعالى. وهذا المعنى الثاني هو المراد من الاستنساخ محل البحث، وهو طلب الحصول على نسخة أخرى غير المنقول عنها. وقد يطلق على هذه التقنية: النسخ، أو الاستنساخ الحيوي، أو العذري، أو اللاجنسي، أو البشري، أو نحو ذلك من إطلاقات تبعاً لنوع الاستنساخ.

معنى الاستنساخ في عرف علم الأحياء:

الاستنساخ من الفعل (نسخ) وهو الحصول على صورة طبق الأصل من النسخة الأصلية، عن طريق زرع خلية عادية في بويضة أُفرغت من الكروموسوم، أي من الإرث الجيني، بحيث تصبح خلية قابلة للتكاثر عن طريق الانقسام الخليوي المعتاد، ثم ملؤها بخلية أخرى من كائن مكتمل النمو، تحمل صفاته الوراثية وزرعها في رحم أنثى بالغة، لتأتي النتيجة جنينًا أو مولودًا مستنسخًا من صاحب الخلية المزروعة.
وهذه خطوات (الاستنساخ الإنجابي) الخمس:
1- أخذ المادة الوراثية من نواة خلية من جسم الحيوان الذي يُرغب في استنساخه؛ مثل خلية جلد؛ أي تحتوي على كامل عدد الكروموسومات لا نصفها.
2- يتم أخذ بويضة وتفريغها من المادة الوراثية من خلال نزع النواة التي تحتوي على الكروموسومات، فيكون محتواها من الجينات يساوي صفر، ويُبقى على السيتوبلاسم والغشاء الواقي فقط.
3- يتم إدخال المادة الوراثية من الخلية البالغة إلى سيتوبلاسم البويضة الفارغةمن النواة لتصبح البويضة مخصبة، ويتم ذلك عبر حقنها أو استخدام تيار كهربائي لدمج الاثنتين معًا.
4- تزرع البويضة الجديدة بالمختبر في أنبوب اختبار.
5- تنقل البويضة إلى رحم أنثى تسمى: (الأم البديلة)، لتحمل بها وتلدها بعد حين.
وهكذا يحمل الوليد نفس المادة الوراثية للخلية الأصلية التي تم استنساخها.

حكم الاستنساخ:

إذا عرفت ذلك، فقد يستدل على حرمة الاستنساخ بعدة أدلة ذُكر معظمها في الاستدلال على حرمة طفل الأنبوب، وهي:
الدليل الأول: قوله تعالى:(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) سورة النور، الآية 31؛ حيث قد يستدل بحذف المتعلَّق – أي ما يُحفظ منه الفرج – على العموم، فيكون الواجب حفظ الفرج من كل شيء، ومنه أن يجعل فيه الخلية المخصبَّة بطرق الاستنساخ المتقدمة.
وفيه: إن هذه الآية المباركة ناظرة إلى وجوب حفظ الفرج من النظر والزنا، ولا نظر لها إلى ما نحن فيه، فيكون خارجا تخصُّصا، بل ورد ما يدل على أن الآية ناظرة إلى خصوص النظر المحرَّم؛ فقد روى الصدوق مرسلا عن الصادق(عليه السلام) عن قول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) سورة النور، الآية 30، فقال: “كل ما كان في كتاب الله من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلا في هذا الموضع، فإنه للحفظ من أن ينظر إليه”(1). وكذا غيرها من الروايات.

الدليل الثاني: ما دل على وجوب الاحتياط في الفروج؛ كذيل صحيحة شعيب الحداد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)؛ حيث قال: “هو الفرج، وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط”(2)؛ فقد دلت على وجوب الاحتياط في الفروج، ومنه الاستنساخ.
وفيه: ذكرنا في مبحث طفل الأنبوب بما لا مزيد عليه، من أن الظاهر من هذه الرواية وأمثالها أن الاحتياط في الفروج استحبابي مؤكد، فلا دلالة لها على حرمة الاستنساخ، كما لم تدل على حرمة طفل الأنبوب.

الدليل الثالث: اختلاط الأنساب؛ كما لو فرضنا أننا أخذنا النواة من زيد، وسيتوبلاسم بويضة من أمه، ثم زرعناها في رحم زوجته، فيلزم اختلاط الأنساب؛ حيث يكون الولد أخا لزيد بلحاظ النواة، وخالا بلحاظ السيتوبلاسم. وبما أن لازم الاستنساخ اختلاط الأنساب، واختلاط الأنساب محرم، فيكون الاستنساخ محرما.
وفيه: إن حرمة أية عملية تؤدي إلى اختلاط الأنساب منحصرة في الصور التي تؤدي فيها إلى ذلك، فإن كانت عملية طفل الأنبوب أو الاستنساخ تؤديان في بعض صورهما إلى اختلاط الأنساب، فهذا يؤدي إلى تحريمهما في هذه الصور، ولا يؤدي إلى تحريمهما مطلقا. وعليه، فإن دليل اختلاط الأنساب لا ينفع لتحريم الاستنساخ مطلقا، وإنما ينفع لتحريمه في موارد حصول الاستنساخ فحسب، وبالتالي لا يكون الاستنساخ محرما إذا لم يلزم منه اختلاط الأنساب؛ بحيث كان أب المستنسخ وأمه معلومين على ما يأتي بيانه.
كما أن اختلاط الأنساب بهذا المعنى مما لم تثبت حرمته. وإنما الثابت هو حرمة اختلاط الأنساب في الإثبات؛ أي لا يجوز ادعاء نسب غير صحيح، فلو كنت ابنا لفلان، لم يجز لك ادعاء البنوة لغيره. واختلاط الأنساب بالمعنى المتقدم هو من باب تعدد العناوين، ولا مانع منه.

الدليل الرابع: استلزام النظر المحرَّم خلال زرع البويضة في رحم المرأة.
وفيه: إن كلامنا في حكم الاستنساخ بالعنوان الأولي وبقطع النظر عن أية عناوين طارئة، واستلزام النظر المحرَّم عنوان ثانوي لا يؤدي إلى حرمة الاستنساخ بالعنوان الأولي.

الدليل الخامس: تغيير خلق الله: وقد استدل على حرمة ذلك بنص القرآن الكريم: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)) سورة النساء. دل قوله تعالى: (وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) على أن تغيير خلق الله من أمر الشيطان، وأمره محرَّم، والاستنساخ من تغيير خلق الله الذي جعل التكاثر الإنساني عن طريق التلاقح الجنسي الطبيعي بين الذكر والأنثى، فيكون من أمر الشيطان، وبالتالي فهو محرَّم.
وفيه: ليس المراد من تغيير الخلق في الآية التغيير المادي، وإلا لحرم تلقيح النباتات بعضها ببعض، ولما جاز تغيير صور الشجر والحجر .. وإنما المراد التغيير الاعتقادي أو الفطري أو الديني، وهو مروي في النصوص عن الصادقين (عليهم السلام)؛ ويدل عليه قوله تعالى قبل ذلك: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ)؛ فإن الإضلال عن الحق بالوسوسة، والإمناء من خلال إلقاء الأمل في قلوب الناس بطول الحياة وأن لا بعث ولا حساب، والأمر بتقطيع آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها رجوعا إلى عادات الجاهلية، كل ذلك من الأمور الاعتقادية لا الخَلْقية. ويؤيده قوله تعالى:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) سورة الروم، الآية 30.

الدليل السادس: التعدي على الله تعالى؛ فإن الاستنساخ تدخل في عملية الخلق التي جعلها الله تعالى على النحو الطبيعي المعروف.
وفيه: إن كان المراد منه التعدي على حدوده ومحرماته؛ لأن الاستنساخ دخول في المحرَّم، فهو مصادرة على المطلوب؛ لأنه فرغ ثبوت الحرمة، وهي غير ثابتة. وإن كان المراد منه التعدي على سلطته، فهو ما لا ينبغي الكلام فيه؛ إذ كيف للفقير المطلق أن يتعدى على الغني المطلق (سبحانه وتعالى)؟!

الدليل السابع: إهانة كرامة الإنسان؛ فقد يقال: إنه من الممكن أن ينتج الاستنساخ إنسانا مشوَّها لخلل ما قد يحدث في إحدى خطوات الاستنساخ الخمس، وهذه إهانة لكرامة الإنسان.
وفيه: إن هذا الإشكال في الصغرى لا في الكبرى؛ إذ كبرويا إن أصل عملية الاستنساخ لا تشكل أية إهانة لكرامة الإنسان، أما صغرويا، فلم يثبت إنتاج الاستنساخ أناسا مشوَّهين دائما أو غالبا. أما احتمالا، فهو وارد في التلقيح الجنسي الطبيعي، وبالتالي لو حرم كل ما يؤدي إلى إنسان مشوَّه أو معاق احتمالا، لحرمت كل وسائل التكاثر البشري؛ إذ لا أحد يملك ضمانا بعدم ذلك.

الدليل الثامن: الشهرة الفتوائية؛ فإن مشهور المتأخرين على حرمة الاستنساخ.
وفيه: إن الشهرة التي نقول بحجيتها هي خصوص الشهرة الروائية في مقام التعارض بين الروايات، وليس مطلق الشهرة.
وتوضيحه: الشهرة ثلاثة أقسام:
– الشهرة الروائية: وهي عبارة عن اشتهار نقل الرواية بين الرواة وأرباب الحديث ونقلها في الكتب، سواء عمل بها الفقهاء أم لم يعملوا.
الشهرة العملية: وهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى، كاستناد الفقهاء على النبوي: “على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي”، أو قوله تعالى: “الناس مسلّطون على أموالهم”، وإن لم يكونا منقولين في جوامعنا الحديثية، فكيف برواية نقلها الرواة وأرباب الحديث واستند إليها الفقهاء في مقام الفتوى. والنسبة بين الشهرتين عموم وخصوص من وجه كما هو واضح.
– الشهرة الفتوائية: وهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى في مسألة، سواء لم تكن في المسألة رواية، أو كانت على خلاف الفتوى، أو على وفقها ولكن لم يكن الإفتاء مستنداً إليها.

إذا عرفت ذلك، فقد استدل على حجية الشهرة الفتوائية بعدة أدلة:
الأول: إن من البعيد بمكان أن يفتي مشهور الفقهاء فتوى دون أن يستندوا إلى دليل حجة خفي علينا، خصوصا مع ملاحظة قربهم من عصر النصر.
وفيه: أولا: سلمنا أنهم لا يفتون إلا بدليل، ولكن لا شيء يثبت أنه دليل واحد خفي علينا؛ إذ قد يكون كل فقيه اعتمد على دليل مغاير لدليل الآخر. ومهما يكن من شيء، فإنه لا ملازمة بين حجية أدلتهم لديهم وحجيتها لدينا.
ثانيا: إن هذا الدليل نافع لخصوص شهرة فتوى الفقهاء القريبين من عصر النص، فلا ينفع في مثل مسألتنا المستحدثة.

الثاني: إنه من البعيد أن ينقلب الواقع الفقهي في عصر النص إلى واقع آخر في العصر القريب منه، وبالتالي فإن الشهرة الفتوائية في العصر القريب من عصر النص كاشفة عن تطابقها مع الواقع الفقهي في عصر النص نفسه.
وفيه: هذا الكلام لا يصلح دليلا على المدعى، خصوصا بعد ثبوت تغير الواقع الفقهي من عصر إلى عصر في بعض الموارد؛ منها: تنجس البئر بمجرد ملاقاة النجاسة ووجوب النـزح؛ حيث كان هذا الحكم هو المشهور السائد إلى زمن العلامة الحلي (رضي الله عنه)، ثم انقلبت الشهرة إلى عدم تنجسه بمجرد الملاقاة، واستحباب النـزح.

الثالث: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): “ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك؛ فإن المجمع عليه لا ريب فيه”(3). فقد استدل بهذه الرواية بدوا على حجية كل شهرة من خلال عموم التعليل (فإن المجمع عليه لا ريب فيه)؛ فإن معناه: (كل مشهور لا ريب فيه)؛ إذ المراد بالمجمع عليه هو المشهور؛ بقرينة قوله (عليه السلام) قبل ذلك: “ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور”.
وفيه: إنه بالرجوع إلى سياق الرواية نلحظ أن نظر الإمام (عليه السلام) إلى خصوص الشهرة الروائية في مقام التعارض أيضا، فيكون التعليل إضافيا؛ أي فإن المشهور من الروايات في حال تعارضه مع غيره لا ريب فيه. وعليه، فلا يكون هذا الدليل نافعا للاستدلال على الشهرة الفتوائية.

الرابع: إنه لما كان خبر الواحد حجة لإفادته الظن، فمن الأولى أن تكون الشهرة الفتوائية حجة أيضا لإفادتها ظنا أقوى.
وفيه: إذا هذا الكلام في غير محله صغرويا وكبرويا. أما كبرويا، فإن منشأ حجية خبر الواحد ليس الظن، بل سيرة العقلاء على العمل به الممضاة من الشارع. وأما صغرويا، فمن قال أن الشهرة الفتوائية تفيد ظنا أقوى من الظن الذي يفيده خبر الواحد الثقة أو العدل؟ فإن عهدة إثبات ذلك على مدعيه.

الخامس: قوله تعالى: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) سورة الحجرات، الآية6. وتوضيحه: إن ظاهر الآية المباركة النهي عن العمل بجهالة لعدم إصابة قوم بجهالة؛ أي بسفاهة كما هو مستعمل كثيرا. وبما أن العلة عامة، فالمعلول كذلك. فتصبح النتيجة: (كل عمل بجهالة يحرم العمل به)، وتنتج هذه القضية أن (كل ما ليس عملا بجهالة لا يحرم العمل به)، والمشهور ليس عملا بجهالة، فلا يحرم العمل به.
وفيه: إن الموجبة الكلية (كل عمل بجهالة يحرم العمل به) لا تنتج الموجبة الكلية (كل ما ليس عملا بجهالة لا يحرم العمل به)، فلا يمكن الاستناد إليها لإثبات حجية الشهرة الفتوائية لمجرد أنها ليست عملا بجهالة. نعم، هي تنتج بالعكس المستوي موجبة جزئية هي: (بعض ما لا يحرم العمل به ليس عملا بجهالة). كما تنتج بعكس النقيض الموافق موجبة كلية أخرى هي: (كل ما لا يحرم العمل به ليس عملا بجهالة). كما تنتج بعكس النقيض المخالف سالبة كلية هي: (ليس كل ما لا يحرم العمل به عملا بجهالة). ولكن كل هذه العكوسات لا تؤدي إلى إثبات المدعى.

والنتيجة: إن كل ما ذُكر من أدلة على حرمة الاستنساخ لم يصمد أمام التحقيق، فيكون المرجع إلى أصالة الحلية. والله العالم.

تحديد الأب والأم:
استدللنا في مبحث طفل الأنبوب بعدة روايات على أن الأب هو صاحب النطفة، وأيّدنا ذلك بأمرين:
الأول: وجهة نظر علماء البيولوجيا؛ فقد ذهبوا إلى أن الأب هو صاحب النطفة التي تحمل في نواتها الجينات الوراثية (23 كروموزوم)، وإن لم يكن عن مباشرة جنسية.

الثاني: العرف؛ فإن صاحب النطفة هو الأب عرفا، وهذا واضح لا يعوز البيان وتكلف البرهان.
وأما الأم، فقد استدللنا أيضا بالآيات والروايات على أنها صاحبة النطفة، بل قل صاحبة نواة النطفة التي تحتوي على اﻟ(23 كروموزوم) الأخرى التي تشكل مع كروموزومات نواة نطفة الرجل 46 كروموزوم تكوِّن الإنسان، وتقرِّر بنية الإنسان البيولوجية من الطول والعرض واللون وغير ذلك.
هذا بالنسبة إلى تحديد الأب والأم في طفل الأنبوب. أما في الاستنساخ، فالكلام فيه هو الكلام؛ فصحيح أنه لم يتم توسّل نطفة الرجل في خطوات الاستنساخ، ولا نطفة المرأة كاملة، وإنما أخذنا نواة خلية عادية وزرعناها في نطفة امرأة مفرَّغة من نواتها؛ أي في سيتوبلاسم نطفتها، إلا أن ذلك لا يغيِّر في الأمر شيئا؛ إذ يبقى الأب صاحب النطفة، وتبقى الأم صاحبة النطفة، وهما أب وأم صاحب النواة التي شكّلت بمفردها البنية الجينية الوراثية للمستنسخ، فهي تحمل اﻟ46 كروموزوم كاملة، نصفها من نطفة أب صاحب الخلية، ونصفها الآخر من نطفة أمه. وعليه، يكون صاحب الخلية أخا للمستنسخ.

هذا هو الإنصاف، وأما سائر احتمالات الأم، فهي في غير محلها، وهي:
– الأم صاحبة الرحم: وقد عرفت أن الرحم لا دور له في أصل التكوّن الجيني الوراثي لطفل الأنبوب، فكذلك لا دور له بالنسبة إلى المستنسخ، وإنما ينحصر دور الرحم في الصورتين كطريق لإيصال التغذية للنطفة المخصبة، وهذا الأمر وإن كان داخلا في نشأة الإنسان، إلا أنه لما كان مناط مفهوم الأمومة – على ما تقدم بيانه – هو خصوص من لها دخالة في التكوّن الجيني الوراثي، والتي يكون في مولودها قابلية شبه بإخوتها، فتكون الأمومة منحصرة بخصوص من أعطت مولودها اﻟ(23 كروموزوم)، وهي فيما نحن فيه خصوص أم صاحب النواة.

– الأم هي صاحبة النطفة المفرغة من نواتها: وهذا الاحتمال باطل أيضا؛ لأن نطفة المرأة المستعملة في الاستنساخ ليست سوى سيتوبلاسم خال من النواة؛ أي خال من الجينات الوراثية التي تبيّن أنها مناط مفهوم الأمومة. وهو – أي السيتوبلاسم – وإن كان داخلا في نشأة الإنسان باعتبار أنه من قبيل رحم حاضن للنواة التي زرعت فيه والتي تحمل اﻟ46 كروموزوم كاملة، إلا أنه لما كان خاليا من الجينات الوراثية (مناط الأمومة)، فيكون خارجا عن مفهومها.

– الأم هي صاحبة النطفة المفرَّغة من نواتها وصاحبة الرحم معا: وقد تبيّن لك بطلان هذا القول؛ إذ لا النطفة المفرّغة من نواتها ولا الرحم يحتويان على الجينات الوراثية. وعليه، لا يكونان داخلين في مفهوم الأمومة لا على نحو الاستقلال ولا الجزئية.

– لا أم له: وقد انتفى هذا القول تلقائيا بعدما ثبتت أمومة أم صاحب النواة. أضف إلى أنه خلاف المرتكزات اللغوية والبشرية، كما تم بيانه.

_____________
(1) وسائل الشيعة باب1 من أبواب أحكام الخلوة ج1، ص300، ح3.
(2) وسائل الشيعة باب157 من أبواب مقدمات النكاح ج20، ص258، ح1.
(3) الكافي باب اختلاف الحديث ج1، ص68، ح10.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky