الاجتهاد الفقهي في حماية البيئة.. الهواء نموذجاً

الاجتهاد الفقهي في حماية البيئة .. الهواء نموذجاً

تعتبر قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” المأخوذة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من التدابير الوقائية الاحترازية في معالجة قضايا البيئة في الإسلام مثل الهواء . والضرر هو أن يدخل المرء على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضررًا بلا منفعة له به.  الكاتب: الباحث المغربي مصطفى البعزاوي

الاجتهاد: نشرت مجلة حراء وهي مجلة علمية ثقافية تنشر مقالات رائعة على موقعها الإيليكتروني اليوم السبت مقالا تحت عنوان “الاجتهاد الفقهي في حماية البيئة الهواء نموذجا” للباحث مصطفى البعزاوي، وإليكم المقال كاملة:

إن الناظر في كتب النوازل الفقهية عمومًا، والنوازل المرتبطة بالحفاظ على البيئة، يدرك قيمة الفقهاء العلمية، ويتجلى ذلك أساسًا من خلال اجتهاداتهم في ثنايا الفتاوى المعروضة عليهم، لا سيما ما يتعلق بالمحافظة على البيئة عمومًا، وعلى مكونها الأساس الهواء الذي بدونه لا تستقيم الحياة، ولهلكت كل الكائنات الحية، ولتعطلت جوانب مهمة من هذا الكون.

ومن هنا، فإن أي تلوث للهواء يُعد خرقًا للمنظومة البيئية، وأمرًا خطيرًا يؤثر على صحة الإنسان والحيوان والنبات، وما يشهده العالم من أخطار تلوث الهواء دليل على خروج الإنسان عن سنن الله الكونية التي أمرت بالإصلاح بدل الإفساد، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)(الأعراف:56).

وإن تلوث الهواء من أخطر المشاكل التي تهدد البيئة في مختلف تجلياتها، خاصة في عصرنا الحالي الذي أصبح يومًا بعد يوم تزداد فيه ملوثات الهواء، نظرًا لكثرة المصانع المتنوعة التي تؤثر سلبًا على صحة الأفراد والمجتمعات، وتتعدى الحدود الجغرافية.

وتأسيسًا على ما سبق، نجد فقهاء الغرب الإسلامي أبدعوا باجتهاداتهم في مجموعة من المسائل التي تحافظ على الهواء نقيًّا، إيمانا منهم أن حمايته من الملوثات. ومن وجهة المنظور الإسلامي، يعدّ فرض عين على كل مسلم ومسلمة، لما فيه من المحافظة على مقاصد الشريعة الإسلامية، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل.
وبالتأمل في كتب النوازل، نجد عدة مسائل توحي إلى اهتمام فقهائنا بالحفاظ على الهواء من التلوث، وكمثال على ذلك سأتناول ما تعكسه “دور الدبغ” وغيرها من الآثار السلبية وفق النحو الآتي:

عنوان النازلة: تلوث الهواء بدور الدبغ

نص النازلة: سئل ابن زيتون عن مسجد قديم الموضع مخرب ما حوله من الديار، فأحدثت بجوار المسجد دور للدبغ، ثم قام بعد زمان محتسب وقطعها ونقلها إلى خارج البلد، ثم أراد بعض أرباب الدور إعادتها للدبغ، فأنكر عليه من أراد الاحتساب في حق المسجد لما ينالهم من نتن الدبغ وتغيير مائه وما يخلفه من نجاسة مع تقدم بناء المسجد، وحدوث ما ذكر أهل المسجد، فأجاب: ليس لهم إعادة الدور للدبغ، إذا كان ريح الدبغ ونتنه مؤذيًا لأهل المسجد، ولقد تقرر النهي من دخول المسجد لأكل الثوم على الريح المنتنة من الضرر.

موضوع النازلة: منع دور الدبغ بجوار المساجد لما ينتج عنها من أضرار وملوثات.

فقه النازلة: تشير النازلة إلى قضية من الأهمية بمكان، تتجلى في بعض المكونات الملوثة للهواء قديمًا، وهي إحداث دور للدبغ بجوار المسجد.
ولمركزية وحضور المهتمين بشأن البيئة، يقوم المحتسب بقطع ونقل معمل الدبغ خارج البلد، لأنها تنتن الأهالي المجاورة لدار الدبغ، خاصة رواد المسجد، تغليبًا للمصلحة العامة على الخاصة، ومن القواعد المقاصدية التي راعاها مفتي النازلة، أنَّ “درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح”.

ومن الأدلة الشرعية أيضًا التي وظفها هي القياس، حيث قاس الرائحة المنتنة على ريح الثوم، والتي نهى النبي صلى الله عليه وسلم آكلها من الاقتراب من المسجد. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من أكل من هذه الشجرة (أي الثوم) فلا يقربن مسجدنا” (رواه البخاري).

وإذا كان النهي عن أكل الثوم لما يلحقه من ضرر معنوي على المصلين وفضاء المسجد على حد سواء، فإنه أولى وأحرى منع ملوثات الهواء، كما هو الشأن لمعمل دار الدبغ وغيره من المعامل التي استحدثت في عصرنا الحالي.
ويمكن أن نقيس على المسجد أيضًا في عصرنا الحالي، حين يتعلق الأمر بوجود بعض المراكز الصحية والمدارس، وغيرها من التجمعات السكنية.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: “فلا يقربن ولا يصلين معناة يدل على أن مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم، والولائم وما أشبهها، لا يقربها من أكل الثوم، وما في معناه مما له رائحة كريهة تؤذي الناس”.
وفي هذا الاتجاه، سُئل مطرف (ت 220هـ)، وابن الماجشون (ت 213هـ)، والأصبغ (ت 225هـ)، عن حكم شخص أقام مدبغة في بيته تنبعث منها الروائح الكريهة فتؤذي جيرانه وتسبب لهم الضرر، فأجمع كل الفقهاء الثلاثة على حق جيرانه في إيقافه، وحكموا بإغلاق مدبغته لما تسببه روائحها من ضرر للجيران.

ويتساوى في هذا الحكم، حفر مرحاض أو مصرف غير مغطى، وكل ما تنبعث منه الروائح الكريهة، مما استجد في واقعنا الحالي.

ومن أشكال تلوث الهواء قديمًا، إحداث الحمام على الديار، وجاء جواب النازلة متضمنًا ما يلي:

إذا كان الأمر على ما ذكرته في ذلك، فله أن يمنع الباني للحمام من بنائه قبل أن يبنيه وبعد أن يبنيه(1).
فقه النازلة:

قال فقهاء المالكية: “ووجه الضرر فيما ذكر، هو الدخان الذي يحصل من الفرن والحمام، فيدخل على الجيران في دورهم ويضرهم، وهو من الضرر الكبير المستدام، وما كان بهذه الصفة منع إحداثه على من يستضر به إذا شهدت البيئة بأنه من الضرر”(2).

وفي هذا المعنى أشار ابن عاصم -رحمه الله- في “تحفة الأحكام” قائلاً:
“ومحدث ما فيه للجـار ضـــرر محقق يمنع من غير نظر، كالفرن والبـاب، ومثـل الأنــدر، أو ما لــه مضـرة بالجـــــــــدر، وما ينتن الريح يؤدي يمنـــع فاعله بالدبغ مهما يقـــــــع. وفي السياق نفسه ذهبت الحنابلة والظاهرية، إلا أن فقهاء الحنفية قالوا: لا يمنع إلا إذا استمر في إجراء الدباغة في داره وتأذى الجيران من ذلك، أما إذا أجرى هذه الصنعة نادرًا فلا يمنع”(3).

وقد ورد عن الشافعية، أن إزالة الضرر عن هواء شوارع المسلمين مفوض للحاكم، قالوا: لأن الهواء لكافة المسلمين، فوجب تفويض أمره إلى نائبهم وهو الحاكم لإزالة الضرر عنهم.
ولتفعيل قاعدة “ارتكاب أخف الضررين” قال بعض الفقهاء: “إن أمكن قطع الدخان مع بقاء الفرن قطع الضرر، وذلك بأن يجعل أنبوبًا في أعلى الفرن يرتقي فيه الدخان ولا يضر بالجار.

وفي هذا جمع بين مصلحة صاحب العمل بالقيام بعمله، ومصلحة الجار بدفع الضرر عنه، والمقصود هو دفع الضرر عن الجار، فإذا ارتفع الضرر على الدوام، ولم يكن في إقامة الفرن أو المطبخ أو ما يشبههما ضرر على جيرانه من أهل الدور أو السوق -بأي طريقة كانت كالطريقة المتقدمة أو غيرها- لم يكن لأحد منع صاحب الفرن أو غيره من هذا العمل.
ورغم أن حق الملكية يبيح للأفراد الاستفادة والتصرف فيما يتقرر عليه حق الملكية، إلا أن ذلك مقيد بالانتفاع بما لا يخالف الشريعة والقوانين والأعراف.

وبناءً على هذا، فإنه إذا ترتب على تصرف الجار في ملكه أذى أو ضرر للجيران بتلويث الهواء بالدخان أو الروائح الكريهة، فإن للجار منع جاره حينئذ من هذا التصرف، وله الحق في رفع أمره للقضاء عند امتناعه من إزالة هذا الضرر، وإلزامه بالضمان لو تلف بسبب هذا التلوث المعتدي فيه، إنسان أو مال.

والملاحظ في موضوع هذه النوازل عمومًا، أنها من نوع التلوث الصناعي الذي ينتج عن فعل الإنسان ونشاطه أثناء ممارسته لأوجه حياته المختلفة، من الصناعة والزراعة وغيرها، وفي استخدامه المتزايد لمظاهر التقنية الحديثة ومبتكراتها المختلفة، بحيث يجد هذا النوع من التلوث مصدرَه فيما تنفثه المصانع وعوادم السيارات والمبيدات، والضوضاء والفضلات الصناعية والزراعية المنزلية وغيرها.

ومن خلال ما سبق، فوجود المصانع والمعامل التي تسبب تلويثًا للهواء والتي تلحق الضرر بالمساكن المجاورة لها، ممنوع شرعًا استنادًا إلى مجموعة من القواعد الفقهية والمقاصدية التي منها:

1- قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” المأخوذة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتعتبر هذه القاعدة من التدابير الوقائية الاحترازية في معالجة قضايا البيئة في الإسلام. والضرر هو أن يدخل المرء على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضررًا بلا منفعة له به.

وعليه، فالضرر والضرار منهي عنهما، وبالتالي فالقاعدة تمنع أي اعتداء على مكونات البيئة مما يسبب الاختلال البيئي، ويفوت المصالح المتوخاة والمنتظرة من الموارد الطبيعية. وهكذا نخلص إلى أن الإسلام يمنع كل أوجه تلويث البيئة واستنزاف مواردها، أو تعطيل الاستفادة منها(4).

وقد رتب العلماء بناء على هذا الحديث قواعد جليلة في ضبط الضرر وأهمها:
2- قاعدة “الضرر يزال”: ومن المسائل البيئية التي تندرج تحت هذه القاعدة، ما ذكره ابن قدامة في سياق ذكره لما يمنع المسلم من التصرف فيه إذا أحدث ضررًا لجيرانه، نحو أن يبني حمامًا بين الدور، أو يفتح خبازًا بين العطارين، أو يجعل دكان قصارة (أي صناعة) يهز الحيطان ويخربها، أو يحفر بئرًا إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها.

3- قاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”: فإذا كان للمالك أن يستخدم ويتصرف بملكه كما يشاء، فيجب ألاّ يؤدي ذلك إلى ضرر أو مفسدة لغيره؛ فمثلاً من يستخدم المبيدات الكيميائية لحماية محصولاته، أو يشغل مصنعًا تصدر عنه أصوات مزعجة، أو ينفث أبخرة أو غازات سامة، يجب أن يتم منعه من ذلك، أو اتخاذ تدابير تضمن عدم الإضرار بالغير(5).

4- “يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام”، وانطلاقًا من هذه القاعدة، يمنع إقامة مصنع للإسمنت -مثلاً- وسط حي سكني، منعًا للضرر الذي يعود على أهل هذا الحي(6). وغيره من المعامل الحديثة المخصصة للنجارة والحدادة وصناعة السيارات والمهن الأخرى التي تعكس آثارًا سلبية على صحة الإنسان.

5- “يختار أهون الشرين أو أخف الضررين”: فمثلاً إذا تعذر نقل النفايات المنزلية إلى مناطق غير مأهولة بالسكان، وأريد حرقها للتخلص منها، فيمكن أن يجرى ذلك قرب المناطق البعيدة نسبيًّا ذات التعدد السكاني الأقل، بدلاً من حرقها في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية(7).

وفي هذا الإطار، جاء النص القانوني المغربي من مدونة الحقوق العينية، يواكب رؤية الشريعة الإسلامية في المادة 77، حيث ورد فيه ما يلي:
“يجب أن تقام المصانع وغيرها من المحلات المضرة بالصحة أو الخطرة أو المقلقة للراحة، بالمواصفات وعلى المسافات وداخل المناطق المنصوص عليها في القانون، كما يجب على مالكيها اتخاذ الاحتياطات اللازمة للحفاظ على البيئة والحيلولة دون الإضرار بأي أحد، مع مراعاة القوانين الجاري بها العمل في هذا الباب”.

وهذه التدابير، تؤدي وظيفة جيدة في الحفاظ على البيئة وعلى أساسها الإنسان، لأن تلوث الهواء يحمل الكثير من الفيروسات والبكتيريا والفطريات الخطيرة، التي تلحق بالإنسان العديد من الأمراض الجسدية والنفسية.

ومن خلال ما تقدم نخلص إلى ما يلي:
كان لعلماء الشريعة رؤية مبكرة تجاه الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث، وجعلوا ذلك من واجبات الدين وفرائضه.
لم يكن اهتمام علماء الشريعة بملوثات الهواء العظمى، التي تعتبر طامات كبرى، والتي إذا فتكت فإنها تفتك أممًا لا جماعات فحسب، بل كان اهتمامهم بما يؤدي إلى مجرد ضرر بسيط لا يتعدى فردًا أو مجموعة أفراد، فهم لم يبحثوا موضوع التلوث بعدما استفحل الأمر وصار مشكلة إنسانية، وإنما عالجوا الأمر في أبسط صوره وفي أقل مراتبه.

ومن هنا يتبين أن الفقهاء قديمًا منعوا في فتاويهم وأقضيتهم، إقامة دور الدبغ، والحمامات، وما شاكلها من المصانع الأخرى التي تلحق الضرر بتلوث الهواء. والأدوار التي كان يقوم بها المحتسب -كما مر توضيحه- في مقاومة كل ما يلوث البيئة عمومًا، خاصة ما يتعلق بالهواء، إضافة إلى ذلك دور الأطباء وعلماء الاجتماع الذين أسهموا بدورهم في الحفاظ على الهواء، من خلال آرائهم الجيدة التي تكمل الصورة الإيجابية في الحفاظ على الهواء ، فما أحوجنا اليوم من اتخاذ تدابير وقائية، خاصة أمام ما تشهده المصانع والمعامل من انتشار كبير، تفقد للهواء ميزته الإيجابية، وتحوله للأسف إلى مشاكل خطيرة تقتل الإنسان بالدرجة الأولى وباقي الكائنات الأخرى.

الهوامش

(*) باحث في الدراسات الإسلامية / المغرب.
الهوامش
(1) مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، للقاضي عياض، ص:91.
(2) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، للشيخ أبي عبد الله محمد بن فرحون اليعمري، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى 1406هـ-1986م. 2/258.
(3) تحفة المحتاج بشرح المحتاج لأحمد بن حجر الهيتمي، دار إحياء التراث، بيروت لبنان 5/199.
(4) حماية البيئة الطبيعية في الشريعة الإسلامية، دراسة فقهية مقارنة، لصفاء موزة، دار النوادر، الطبعة الأولى، 1431هـ=2010م ص:280.
(5) مبادئ حماية البيئة في القوانين الوضعية والشريعة الإسلامية، أحمد عبد الكريم سلامة، بحث منشور في مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، العدد السابع عشر أبريل 1995م. ص: 38.
(6) الإسلام وحماية البيئة، للدكتور محمود صالح العادلي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض، العدد23، السنة السادسة، ص:34.
(7) منهج الإسلام في الحفاظ على البيئة من التلوث، للدكتور عدنان أحمد الصمادي، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، السنة السابعة عشرة، العدد:51، ص:331.

مصدر: مجلة حراء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky