موسى الصدر

الإمام موسى الصدر… عن المرحلة الإيرانيّة والعلاقة مع الإمام الخميني/ الشيخ صادق النابلسي

الاجتهاد: لم يكن موسى الصدر، المولود عام 1928 في قم المقدّسة، يبحث عن منطقة اعتدال يستقرّ فيها. كان هاجسه يكمن في الخروج من الأطر التي تشكّل عوائق تحول دون إبداعه وإعمال عقله ومواجهة المستحيل بالممكن. لا يكون عنده ثمة عيب إذا أتى فعلاً لم يقدم عليه الآخرون، أو قال مقالة لم يعهدها من قبل المستمعون.

دخل الجامعة ليدرس الحقوق والاقتصاد، وهو في زي رجال الدين التقليدي، وكان أول معمّم يدخل الجامعات العصرية مكرّساً نهجاً جديداً يتجاوز الاعتيادي والمكرور، مؤكداً أنّ ما بين الحوزة والجامعة نحو اتصال وتكامل لا انفصال وانقطاع. لم يكن الصدر ليرغب في الاختفاء والتواري في النمطية «الحوزوية» المتعاهَدَة عند بعض طبقة رجال الدين، بل أن يكون مالكاً للمبادرة التي تجعله قريباً من المناطق المجهولة والمغيّبة عن ساحة الاشتغال والحضور.

فالسليل من عائلة توارثت المرجعية الدينية ثمانية قرون، كان يسعى للتمدّد خارج الحوزة من دون فاصلة أو ابتعاد، لأنّها بئره الأولى.

مُغرق بالجدّية وصاحب مسلك عرفاني، فيما أصدقاؤه من الشعراء والفنانين والأدباء. يحثُّ خطاه دائماً نحو الأماكن التي تكتظّ بالأسئلة والأفكار والاشتغالات، لكي يصبح قادراً على سبر أغوارها وتقويمها وتحسّس تطوراتها. لا يريد للمعرفة المتوارثة أن تكون مجرّدة ومبتورة عن تجارب الحياة وهمومها، بل متصلة بنسغ المجتمع وحيوياته.

وقد وعى باكراً الأوضاع الحضارية المعاصرة، وتعقّد المشكلات والروابط الإنسانية، وتطور الأفكار والنظم السياسية والفلسفية والاقتصادية التي انفتح عليها، من خلال قراءته للترجمات والصحف اليومية، وهو أمر، إنْ لم يكن خارج المألوف والسائد في ذلك الحين بين أساتذة وطلبة حوزة قم، فهو على أقل تقدير كان عملاً جانبياً لا يتّصل بانهماكات مجايليه من طلبة العلوم الدينية.

ولا شك في أنّ قراءته للصحف على وجه الخصوص، وهي عادة ورثها عن والده، وولعه بمعرفة ما يدور من أحداث ومتغيّرات في إيران والعالم، تكتسي أهمية بالغة لأنّها ستتحوّل إلى مدخل لتقرير هوية هذا (الرجل) وطبيعة اهتماماته، وتُلخّص سلوكه الثقافي المتمرّد على بعض الأوضاع والمقاييس العلمية والمعرفية، وكأنه عرف بذاته أنّ مخيلته بوابة عبور لسقاية آماله العطشى إلى الإنجازات.

أطلّ الصدر، أثناء دراسته الحوزوية والجامعية، على القيم الفكرية الحديثة وعلى المعطيات الحضارية الغربية، بعدما شكّلت مواضيع الدين والليبرالية وحقوق الإنسان والعلمانية والماركسية، أهمّ الإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية على ساحة الجدل الفكري والسياسي الإيراني، في منتصف القرن الماضي.

كان المشهد الإيراني، آنذاك، يصطخب بالتطورات والتفاعلات الفكرية والسياسية والخطابات الأيديولوجية. حركات وتيارات وأحزاب ماركسية وإسلامية وقومية وليبرالية، كانت تتنافس وتتصارع في سبيل الاستحواذ على ساحة النفوذ الثقافي والسياسي. كانت هناك مطالبات قوية بتأميم النفط، واحتجاجات على سلطة الإنكليز الاستعمارية، والعديد من التحرّكات الاجتماعية والسياسية ضد نظام الحكم الملكي المستبدّ.

كان الصدر حينها، واحداً من الذين صمّموا على مواجهة الأزمة المعرفية والسياسية واتخاذ مواقف إزاءَها، خصوصاً أنّه راكم تجربة مميّزة عن والده المرجع الديني السيد صدر الدين الصدر، الذي قاد حركة دينية تقدمية في شبابه (حزب النهضة العراقي)، ثم وقف ودعم في شيخوخته حركة (فدائيان إسلام) بقيادة نواب صفوي، وهي الحركة الثورية المسلّحة التي طاولت بالاغتيال العديد من رجال الدولة السياسيين والأمنيين، وعملت على قلب نظام الحكم بغرض إقامة حكومة إسلامية.

فعلى المستوى الديني الحوزوي، عمد مع عدد من زملائه أمثال السيد محمد حسيني بهشتي، آذري قمي، مكارم شيرازي، إلى طرح مشروع لإصلاح المناهج العلمية في الحوزة (طرحي مقدماتي إصـلاحي حـوزه)، ثمّ المشاركة في تأسيس أول مجلة علمية وفكرية جادّة هي «مجلة مكتب إسلام»، وذلك بعدما تعاظم الخطر الشيوعي واتسع الجو الثقافي المعادي للدين.

كان واضحاً أنّ هدف المؤسسين من إنشاء المجلّة هو التعريف بالمواقف الإسلامية وعرض وجهة نظر الحوزة حيال التحوّلات الفكرية والسياسية التي عصفت بإيران، وأدّت إلى الكثير من الاضطرابات والانتفاضات الشعبية آنذاك. ولاحقاً تم إنشاء مجلة أخرى حملت عنوان «مكتب تشيّع»، والتي شارك فيها الصدر بمقالات علمية أحاطت بمجموعة من الموضوعات الحديثة ردّ من خلالها على أسئلة وإشكالات كانت مثار جدل واسع وعنيف حكمت، آنذاك، الأجواء الفكرية والاجتماعية في إيران.

وبحسب بعض المؤرّخين، فإنّ التاريخ الايراني المعاصر لم يشهد حقبة مشابهة اتصفت بمثل هذه الدينامية والفاعلية والتحوّلية. وكان هاجس الفريق الذي تشارك مع الصدر آنذاك هموم الواقع الإسلامي، إنعاش المفاهيم والأخلاق الإيمانية والعمل على نقل التعاليم الدينية وتجارب الأنبياء إلى الناس، حيث كان يُؤمل أن تستعيد طبقة رجال الدين تأثيرها في الحياة الوطنية.

وقد صمّم الصدر وفريقه على التصدّي لموجة علمنة المجتمع، وأراد أن يلعب دوراً مهماً في هذا المسعى، فعمل على دراسة المرتكزات التاريخية والفكرية للعلمانية وتقييمها والرد عليها عبر الكتابات العلمية الجادة. وكتب لـ«مكتب إسلام»، منذ العدد الثالث، وسرعان ما تولّى رئاسة تحريرها فوزّع الأدوار بشكلٍ يكون لكل فرد من أفراد هيئة التحرير مهمة خاصة به.

فأُوكلت مهمة الكتابة عن الدين والأفكار المعاصرة إلى مكارم شيرازي، وعُهد إلى نوري همداني الكتابة عن الإسلام والفَلَك، وإلى جعفر السبحاني الكتابة عن تاريخ الإسلام، فيما ركّز الإمام موسى الصدر معظم كتاباته عن الاقتصاد الإسلامي، وهي كتابات جديدة لم تألف الحوزة الكثير عنها في ذلك الحين.

الإمام موسى الصدر الذي انخرط في همّ التأليف والكتابة، كان قد أسّس في حزيران / يونيو 1959 مدرسة خاصة في قم ليزوّد الطلاب ببديل أكاديمي مختلف عن منهج التعليم الحكومي، وكانت هذه من جملة خطواته التي لم ترق ولم تعجب حتى العديد من الحوزويين الذين اعتبروا أنّ الصدر ينشر القيم البعيدة عن الإيمان بين اليافعين.

فترة الأربعينيات والخمسينيات التي قضاها الصدر في إيران، كانت فترة مخاض وتبلور واستقطابات داخلية وخارجية، وقد عايش بالخصوص ظروف تشكّل الجبهة الوطنية، عام 1949، التي ترأّسها محمد غلام مُصدّق المؤمن بالديمقراطية ومبادئ الحركة الدستورية (الثورة المشروطية 1906)، والتي رفعت شعار التحرّر ومواجهة الاستبداد، وحظيت بدعم الإسلاميين ولا سيما منهم آية الله كاشاني في قضيتي تأميم النفط ومناهضة الاستعمار.

وفي عام 1953، شهد الصدر وقائع سقوط حكومة مُصدّق وما تلتها من موجة اعتقالات ونفي وإعدام قام بها الشاه محمد رضا بهلوي. وكان الصدر قد أحاط إحاطة واسعة بالمبادئ التي حكمت الثورات والحركات التي قام بها رجال الدين ومراجع الحوزة، منذ الحركة الدستورية ومنظّرها الشيخ النائيني الذي وصفه الكاتب محمد جمال باروت بـ«لوثر الإسلام الشيعي العظيم»، إلى الشيخ فضل الله النوري، وحسن المدرس، وصولاً إلى الكاشاني ونواب صفوي وأخيراً مع الإمام الخميني، حيث كان الصدر واحداً من عشرين هم أصل ونواة الثورة التي فجّرها في شباط / فبراير عام 1979.

ومما يُنقل عن آية الله عبد الكريم موسوي الأردبيلي، أنّ السيد موسى الصدر كان على علاقة واتصال بالعديد من القوى الوطنية إلا أنّه لم يكن منها، ولكنّه «كان يُعتبر عضواً في القوى التي تتحمّل مسؤولية التخطيط للمستقبل وإدارة الأمور».

الخميني والصدر

ظلّت إلى وقت قريب، وبسبب النقص المريع في الدراسات التاريخية والمعلومات التوثيقية، عملية المرور بملف علاقة الإمام الخميني بالإمام الصدر تكتنفها الكثير من التعقيد والغموض. وربما آلاف الأشخاص من المناصرين للصدر أو للخميني، يحملون صورة غير دقيقة أو ذاتية جداً عن طبيعة العلاقة بين الرجلين. حلقات كثيرة في العلاقة مفقودة ومبهمة، تجعل الكثيرين يصرّون على تكريس التمايز، ويقيمون المقابلة المنهجية بينهما.

إنّ السؤال الذي كان يُطرح على الدوام هو: ما هي حقيقة العلاقة بين الإمامين الصدر والخميني؟ ولماذا يبدو للبعض بأنّها علاقة غير ممكنة أو غير مكتملة، أو تنطوي على شيء من التضجّر والبرودة، حتى يقفز إلى الذهن ما يوحي بأنّ هناك علامات فاصلة بين الرجلين مكتنفة بالاختلاف والتناقض. ولماذا حين يُذكران في محل واحد وما يتصل بذلك مِن استثارة أوضاع تاريخية، تمثُل إلى الذاكرة صورة مخدوشة في علاقة أحدهما بالآخر.

وهذا ما تفسّره الحالة العامة لدى جماهير واسعة من أبناء الثورة الإيرانية ومن يدور في فلكها، ومن شريحة واسعة من اللبنانيين الذين يعتبرون أن إهمال الخميني لقضية الصدر دليل على أنّ هناك انفصاماً في الرؤى وتباعداً في طرائق التفكير وفي المناهج العملية يشهد عليه هذا الهمود الطويل في المزاج بين أتباع الإمامين.

ويعمّق هذا المناخ من الضبابية والغشاوة في علاقة الرجلين، التداعيات التي حصلت بعد اختطاف الصدر في ليبيا، عام 1978، وسكوت الذين كانوا على مقربة من الإمامين عن إزاحة الستار عن حقبة زاخرة بالأسرار، يمكنها لو كُشفت فتح ثغرة كبيرة في جدارٍ تتوارى خلفه الكثير من المعلومات والحقائق والوثائق التاريخية المهمّة، التي من شأنها أن تضعنا أمام صورة واضحة لهذه العلاقة التي اكتنفتها الكثير من الملابسات.

حين نُفي الإمام الخميني إلى العراق استمرت الاتصالات بينه وبين الإمام موسى الصدر على قدم وساق

في الحقيقة، تُعدّ البواكير الأولى في حياة الصدر خصوصاً عند ربط معطياتها بأحداث وأوضاع لاحقة، مؤشراً على ثبات هذه الشخصية وإحساسها بانتمائها الاجتماعي وتفاعلها بعمق مع رجالات تلك المرحلة الذين شكّلوا وعيها الديني والسياسي والتزامها الفعلي بقضايا المجتمع والإنسان من خلال انخراطها في مجالات نضالية فكرية وسياسية في ظروف شديدة الخطر والتعقيد.

وعليه، فإنّ من جملة ما يمكن الاستشهاد به لتحديد شكل العلاقة ومستواها بين الصدر والخميني أموراً ثلاثة:

الأمر الأول: حضور الصدر درس الخميني في الفقه والأصول والفلسفة.

صحيح أنّ الطلاب في الحوزات العلمية يسعون للتتلمذ على أكبر عدد من الأساتذة، من الذين يتبوأون مقام المرجعية، ليكسبوا بالدرجة الأولى المزيد من المعارف على أيديهم، وليحصلوا على بركتهم، وصولاً إلى إقامة الصلات والعلاقات المتينة التي تفيدهم في مستقبلهم العلمي والاجتماعي والتبليغي.

لكنّ الصدر الذي كان يمضي بعيداً في تفكيره وقلقه المعرفي والسياسي، كان ينشدّ، في أعمق وأعلى درجات التماس، إلى من يعطيه رؤية ثورية ومن يزيده إحاطة بأسرار الوجود والإنسان، ومن يُثري وينضج تجربته السياسية ويفتحها على أفق الإنسان والحياة.

والحقيقة أنّ دراسة الصدر على الإمام الخميني لم تكن شيئاً عابراً بلا محمولات ومدلولات تتصل بمسائل الفلسفة والفكر والسياسة بمختلف أبعادها. بل الأكيد أنها تُفصح لنا عن الإحساس الأشد من الوشائج النفسية بين الاثنين، وعن الاختبار اليومي المعزّز بالتفاؤل في إمكانية تجسيد مبادئ الحرية والعدل عن طريق حكم إسلامي.

الأمر الثاني: حضور الخميني حفل لباس الصدر الزي الديني. فإنّ لهذه المناسبة دلالة تتجاوز الفعل العفوي (المجاملاتي) المعروف في أجواء الحوزة، إلى احترام التميّز العلمي والمعرفي والسلوكي الذي كان يتمتع به الصدر، خصوصاً إذا ما علمنا أنّ الإمام الخميني، لا تصدر عنه مواقف فيها إطراء ومديح وتقدير لأشخاص من دون أن يكون ذلك نابعاً عن قناعة راسخة منه، وبأنّ الصدر بات ينتمي فعلياً إلى النخبة المتميّزة داخل الحوزة الدينية التي يعوّل عليها في مهمات وأدوار كبيرة في المستقبل.

الأمر الثالث: اختيار الإمام الخميني الصدر كي يرافقه إلى زيارة مقام الإمام الرضا (ع) في مدينة مشهد، والتي عادة ما تمتد لأيام. وقد تكون الزيارة ضمن المنظور الروحي عادية، لو جرّدناها من السياق التاريخي ومن الظروف السياسية التي كانت سائدة في إيران آنذاك. ومن أنّ الرجلين كانا يحملان مشروعاً إصلاحياً على مستوى الأمة.

العقل الاستطلاعي المستقبلي يستكشف، من جهة، أنّ الإمام الخميني كان يهدف إلى محض الصدر الثقة والحب وإشراكه في خصوصياته الفكرية والروحية والسياسية. ومن جهة ثانية، كان يسعى إلى تعميق معرفته به ومحاولة اكتشاف مواهبه، من خلال الملامسة والمعايشة المباشرة. فالخميني وهو صاحب مذهب عرفاني ورؤية ثورية في العمل السياسي يدرك أهمية وجود القدوة والقيادة الحركية في حياة الناس، وما تفترضه مسؤوليته كمرجع ٍ دينيّ ٍ في استقطاب العديد منهم.

ومع تطور الأحداث في إيران واشتداد الضغوط على نظام الحكم الملكي، توصّلت مجموعة من العلماء إلى تصور للقيام بانتفاضة شعبية للإطاحة بنظام الشاه، وكان الصدر من ضمن هذه المجموعة التي التفّت حول الإمام الخميني باعتباره المرجع الوحيد الذي كان يدعو لإقامة حكم إسلامي ويعلن صراحة عداءه للشاه ونظامه.

يقول آية الله السيد عبد الكريم موسوي أردبيلي وهو أحد أصدقاء الصدر في الحوزة:

«نواة الثورة الأولى شكّلها الإمام الخميني ولم يكن من حوله يتجاوز عددهم العشرين هم الأصل والحجر الأساسُ، وهم نمط وطبيعة الثورة، وعلى يد هؤلاء تأسّست، والصدر كان في الصف الأول من بين هؤلاء، إنهم نواة الثورة الأولى وهم المخطّطون للمستقبل وواضعو أساس الثورة لما بعد، والسيد موسى كان عضواً بارزاً فيهم».

وتأكيداً على ما قاله أردبيلي، فإنّ المخابرات الإيرانية، وبحسب وثائق تم نشرها بعد انتصار الثورة، كانت قد رصدت في مرات عديدة لقاءات خاصة ومنفردة كانت تُعقد بين الصدر والخميني في منزل الأخير، ما يقطع الشك باليقين حول وجود قنوات اتصال وتعاون وتنسيق ومداولات وأمور سرية كانت تجري بين الرجلين.

ولاحقاً، سوف يظهر للعلن صدى هذه العلاقة التي كان يحكمها قانون داخلي يستند إلى شيء من السرية والتمويه، وذلك حين قام موسى الصدر بجهود عربية ودولية مضنية لإطلاق سراح الإمام الخميني من سجون الشاه بعد المواجهة الدموية والساخنة بين الشعب الإيراني والنظام في حزيران / يونيو من عام 1963 والمعروفة بانتفاضة 15 خرداد. وكان الصدر موفداً من السيد أبو القاسم الخوئي قام بزيارة مقر الأمم المتحدة لإجراء الاتصالات اللازمة لعرض الأوضاع في إيران وشرح القضية بأبعادها المختلفة.

كما تنقّل بين الفاتيكان وبعض البلدان الأوروبية لإجراء اتصالات مع كبار الشخصيات الأوروبية الفاعلة. وهناك أجرى العديد من المقابلات مع أهم الصحف العالمية لشرح قضية اعتقال الإمام الخميني. وقد أشاد السيد الخوئي بالنتائج الإيجابية التي حقّقتها هذه الزيارة مادحاً الجهود التي بذلها الصدر في هذا السبيل قائلاً: «إنّ اطلاق سراح السيد الخميني يعود الفضل الأكبر فيه إلى رحلة السيد موسى الصدر».

وحين نُفي الإمام الخميني إلى العراق استمرت الاتصالات بينه وبين الصدر على قدم وساق، وقد كُلّف الدكتور صادق طباطبائي وهو ابن أخت الصدر بنقل العديد من الرسائل من الصدر والدكتور بهشتي إلى الإمام الخميني، حيث يقول في هذا الصدد: «كانت بعض أسفار خالي (الصدر) إلى ألمانيا للاجتماع إلى الدكتور بهشتي، واستعراض آخر التطورات، ومناقشة الخطوات اللاحقة، وكنت أُكلّف أحياناً بحمل رسالتيهما إلى الإمام الخميني في النجف، وكنت أحضر بعض اجتماعات التقييم العام، ولكن الجلسات التي يتخذون فيها مقررات كانت مغلقة».

ومن لبنان كان يُرسل الصدر مبالغ مالية إلى الإمام الخميني التزاماً منه بخط الثورة وتحصيناً لمشروعها. وتُظهر إحدى الوثائق الأمنية عن إلقاء السلطات العراقية القبض على الشيخ حسن حريري مبعوثاً من الصدر إلى الخميني وفي حوزته ثمانية عشر ألف ليرة لبنانية. وعند اغتيال نجل الخميني الأكبر السيد مصطفى على يد النظام الشاهنشاهي سارع الصدر إلى توجيه برقية تعزية إلى الخميني الذي رد بدوره برسالة شكر ومحبة. كما أرسل ولده الثاني السيد أحمد المتزوّج من ابنة أخت الصدر إلى لبنان للتباحث مع الصدر في أمور الثورة وشؤونها.

ثم تتوالى حلقات التواصل والتعاون وإرسال البرقيات التي تنقل إحداها تأييداً من الخميني للصدر على التحركات الشعبية التي قادها الأخير وهدفت إلى رفع الحرمان والمظلومية عن الشيعة في لبنان. فيما تعبّر أخرى عن افتخار الخميني بالصدر لقيامه بتجنيده المجاهدين لمحاربة إسرائيل.

ويبلغ التفاعل بين الرجلين مبلغه الواسع، حينما يصف الصدر الإمام الخميني بـ«الإمام الأكبر»، وهو وصف لا يخفى على أحد دلالاته السياسية والدينية، وذلك في مقال شهير نشره في صحيفة «لوموند» الفرنسية مدافعاً عن أصالة هذه الثورة التي يتزعمها مَنْ حركتُه «تُذكّرنا بنداء الأنبياء».

واللافت أكثر، أنّه وفي سياق الحديث عن شكل التكوينات السياسية لإنشاء حكم إسلامي في إيران، مع ظهور بوادر النصر لمصلحة المعارضة الإيرانية، نجد الإمام الخميني قد حسم أمر موقع الصدر داخل السلطة. فقد أكّد آية الله السيد محمد علي موحد الأبطحي وهو أحد كبار الشخصيات العلمية في قم المقدّسة، على صحة ما دار من جدل بين قيادات المعارضة وطلبة الإمام الخميني، الذين كانوا يدرسون عليه دروساً في الحكم الإسلامي، حول هوية وشخص الرئيس المقبل للجمهورية الإسلامية وعن إمكانية وجود شخصية تتمتع بالمواصفات التي ينشدها الإمام الخميني.

يقول الأبطحي عن تلك اللحظات: «في نفس الوقت الذي كان الإمام موسى الصدر يشكّل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان كان الإمام الخميني يُلقي محاضراته في النجف الأشرف حول الحكومة الإسلامية، وذات يوم قلنا له: لنفترض سيدنا أنكم استطعتم إسقاط نظام الشاه وإقامة الحكومة الإسلامية في إيران فهل لديكم الشخص المناسب لتسلّم الحكم وإدارة شؤون الحكم، فردّ الإمام الخميني سريعاً:(نعم لديّ السيد موسى الصدر)».

وعلى ما يبدو فإنّ الصدر كان في جو هذه الصورة، وكان على دراية بموقف الإمام الخميني، وأنّه سيكون في المستقبل القريب على رأس السلطة السياسية الجديدة في إيران. ويظهر ذلك بوضوح حين أوعز الصدر إلى مدير مكتبه أن يقول (لـلرئيس) نبيه بري، إثر كلام كان الأخير استثاره به ما يلي: «قل لصديقك [ الرئيس بري] أن ينتبه إلى أنّه يخاطب رئيس دولة إيران».

وفي هذا الصدد، لا بدّ من القول أيضاً، إنّ الجهود التي راكمها الصدر على مدار سنوات وجوده في لبنان، والتجربة الغنية له في السياسة والاجتماع والتوجيه والإصلاح الديني والعلاقات الدولية، جعلته محطّ أنظار الجميع وليس الإمام الخميني فقط بفعل علاقاته الواسعة خصوصاً في الأوساط العربية، ما مكّنه من أن ينشر مبادئ الثورة ويعرّفها إلى الجمهور العربي، وهذا ما كان يعوّل عليه الإمام الخميني لمواكبة حالة الاستنهاض في المنطقة بأسرها.

ومع دخول الثورة منعطفاً حاسماً في صراعها مع الشاه تكفّل الصدر، نتيجة علاقاته القوية بالمراكز الإعلامية المتعددة في لبنان والخارج، إلى ترتيب أول إطلالة إعلامية للإمام الخميني على الجمهور الغربي من خلال صحيفة «لوموند» الفرنسية، ولاقت حينها صدى واسعاً.

في النتيجة، فإنّ الإمام الخميني لم يتصرّف يوماً تصرّفاً يوحي بوجود خلاف مع الصدر بل على العكس من ذلك، فبحسب تعبير الشيخ علي حجتي كرماني «أنّ الإمام الخميني يُفسح له في نفسه موقعاً خاصاً، إذ كان يعتبره ابنه وربيبه وأمل الإسلام ومستقبله».

وفي السياق ذاته، يمكن استحضار كلام الدكتور صادق طباطبائي من كون: «الاستراتيجيا التي وُضعت من قبل الإمام الخميني وطلابه قد استهدى بها الصدر ونفذها في لبنان ولكن بطبيعة لبنانية». وفي هذا أكثر من دلالة على وحدة الأهداف والمنطلقات وتطابقها بين الإمامين، ولكن مع إدراك لما تنطوي عليه ظروف كل ساحة.

مع الأيام تصبح نظرتنا إلى القضايا والأشخاص أكثر صقلاً وجلاء وأقل إيماء. لعبة التوازنات والصور المتعددة الألوان لا يألفها التاريخ طويلاً. ضغط الظروف أحياناً يموّه الصورة ولا يكشف حقيقتها ثورة جماعة من هنا وجماعة من هناك. لكن اليوم لا يجوز التردد والتلعثم أنّ الإمامين كانا جزءاً من حركة واحدة هي حركة الإسلام!

* كاتب لبناني، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية

المصدر: الأخبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky