الاجتهاد: المرجعية الدينية في المؤسسة الشيعية تمتاز عن غيرها من الأنظمة الإدارية والمؤسسات الاجتماعية والمعاهد العلمية، وحتى أنظمة الحكم السياسي بأنها ذات طابع فريد، وخصائص مميزة، ولذا فإن الذين يحاولون دراسة هذه الظاهرة الأصيلة من خلال الضوابط والمعايير التي عهدوها دون أن يلموا إلماماً دقيقاً بجوهر النظام المرجعي، وما يستلزمه من التقليد، يخرجون بنتائج عارية من الصحة أحياناً.
ومن الصعب الإعتراف بأن مسؤولية المرجع الديني الأعلى للطائفة الشيعية تقف عند حد إقامة الحكومة الإسلامية، كما أن من الغبن القول بأن المرجع يتولى إدارة الحوزة العلمية فقط، ناهيك عن الوقوف عند حد کون المرجع وسيطاً بين المؤمنين الدافعين لحقوقهم الشرعية من الخمس والزكاة والكفارات والمستحقين لهذه الأموال.
ولتحديد موقع المرجعية بالضبط، يجب أن نلقي ضوءً على الاجتهاد من جانب والتقليد من جانب آخر، فالاجتهاد إستنباط الأحكام الشرعية من ادلتها، أما التقليد فهو وضع مسؤولية الأحكام الشرعية والتصرف الفردي والاجتماعي للإنسان المسلم على عاتق المجتهد.
فالمجتهد في جانب، وآحاد الأمة الذين القوا مسؤولية إتباعهم للأحكام الشرعية في عنق المجتهد في الجانب الآخر، والصلة بين المجتهد والأمة يطلق عليه “النظام المرجعي”، والجذر اللغوي لذلك هو “الرجوع”، أي الرجوع إلى المجتهد والالتزام بما يصدر عنه.
ولا يعني ذلك – كما اسلفنا – إن هذه المرجعية تتعامل مع الفتوى فقط بل هي الرعاية الأبوية للأمة في جميع شؤونها ما دام المجتهد الأعلى الجامع للشروط لا يتمتع بهذه المكانة لنفسه بل باعتباره نائبا عن الإمام الثاني عشر الحجة ابن الحسن “عليه السلام”.
لقد حفل تاريخ المرجعية الدينية للشيعة الاثنى عشرية باسماء لامعة من الفقهاء والمراجع العظام الذين غطوا مساحة كبيرة من واقع الأمة إبتداءً من شيخ الطائفة الطوسي ومروراً بالعلامة الحلي، والشيخ الأنصاري والسيد أبي الحسن الأصفهاني والسيد البروجردي وانتهاءً بالسيد الخوئي (رضوان الله عليهم جميعا).
ومن الإنصاف أن نعترف بأن مرجعية السيد الخوئي (رض) تميزت بخصائص قلما نشهدها عند غيره من مراجع الدين. وإليك بعض الشواهد:
1- لقد كان السيد الخوئي (رض) اول مرجع تخرج على يديه هذا العدد الكبير من الفقهاء والمجتهدين، وهذا أمر لا يقبل النقاش فلقد لقب منذ خمس وثلاثين سنة بأنه زعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف حنی إتسع نطاق هذا اللقب ليشمل الحوزات العلمية باسرها.
إن الفقهاء الذين تخرجوا من مدرسة الإمام الراحل (قدس سره) يشكلون أكثر من 75٪ من كل فقهاء الشيعة الإمامية في العصر الحاضر، وهم موزعون على بقاع الأرض رافعون مشاعل العلم والهداية.
۲- لقد شهد الإمام الخوئي (رض) ثلاثة أجيال من تلامذته الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد، وربما كان قد شهد الجيل الرابع منهم.
3- كان الإمام الخوئي (رض) يرعى كل الحوزات العلمية في العالم ويخصص لها الرواتب والمساعدات لكي يتفرغ الأساتذة وطلاب العلوم الدينية لعلمهم العلمي والفقهي فحوزة النجف الأشرف وحوزة كربلاء المقدسة في العراق وحوزات قم ومشهد و اصفهان و تبریز وغيرها في إيران والحوزات والمعاهد الدينية في الهند والباكستان و تایلند وحتى في أوروبا من الشواهد الحية على ذلك.(1).
4. لقد كان الإمام الخوئي (رض) اول مرجع إهتم بالعمل المؤسساتي تاسيساً ودعماً. فمن جانب التأسيس أمر بتأسيس (مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية) وهي مؤسسة عالمية قامت في غضون عمرها القصير بمشاريع دينية وثقافية واجتماعية ضخمة في شتى أرجاء المعمورة .
وفي جانب الدعم كان (رض) يدعم كل مشروع ديني وثقافي إسلامي وذلك بإعطاء الإجازات لصرف المنح السخية من حصة سهم الإمام “عليه السلام”.
5- إن تبحر الإمام الخوئي (رض) في “علم الرجال”، أو علم الجرح والتعديل وهو علم يعنى بتحقيق حال الرواة الذين يتوقف على وثاقتهم إستنباط الأحكام الشرعية من الأحاديث التي رووها عن المعصومین “علیهم السلام” ، امر تفرد به المرجع الكبير مع ما ندر من المراجع العظام.
ومن هذه المنطلقات وغيرها نجد الحديث المروي عن رسول الله “صلى الله عليه وآله” : إذا مات العالم الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء”، أصدق تعبير عن الفادحة التي المت بالأمة الإسلامية برحيل الإمام الخوئي (رض) إلى الرفيق الأعلى.
——
(۱) نقلا عن سماحة السيد محمد تقي نجل الإمام الخوئي.
المصدر:
الكتاب: سيرة حياة الإمام الخوئي ، دراسة عن حياته العلمية ونشاطاته الفكرية والإجتماعية في إطار الحوزة الدينية
المؤلف: أحمد الواسطي