الاجتهاد: فيما تمرّ شعوب ودول منطقتنا بعملية انتقالية طويلة ومؤلمة، يلزمنا أن نختصر المعاناة بالاستفادة من تجارب ورؤى تنتمي إلى عالمنا في غرب آسيا. توفَّر المنهجية المستقبلية للإمام السيد علي الخامئني إطاراً مساعداً لنفكّر بمستقبلنا وكيفية التقدّم نحوه بثبات ووضوح.
ففي 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، بالتزامن مع اقتراب الذكرى الأربعين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، أصدر الإمام الخامنئي رسالة تضمّنت النصّ الكامل لما يُسمّى «النموذج الإسلامي الإيراني التأسيسي للتقدّم».
الوثيقة هي نتاج سبعة أعوام من الجهود «لآلاف المفكّرين والأساتذة الجامعيين والحوزويين والحكماء الشباب». وجرى الإعلان عن الوثيقة باعتبارها إطاراً مرجعياً للدولة الإيرانية وأجهزتها حتى عام 2065. وفي 11 شباط/ فبراير 2019، أصدر الإمام الخامنئي بياناً موجّهاً إلى الشباب بعنوان «الخطوة الثانية للثورة الإسلامية»، حيث أنهت الثورة أربعينيتها الأولى وستدخل «المرحلة الثانية من البناء الذاتي وبناء المجتمع وصناعة الحضارة»، وهي «مرحلة العالمية الكبرى» والتي هي مسؤولية الجيل الشاب.
تتيح مراجعة هاتين الوثيقتين المهمّتين فهم منهجية الإمام الخامنئي في النظر إلى المستقبل والتعامل معه، وذلك من زاوية نظر شخصية مركزية في العالم الإسلامي تقود اليوم واحدة من ألمع التجارب الثورية في القرن العشرين، ونهضة إسلامية ملهمة للكثير من حركات التحرّر الوطني والقوى الإسلامية، وقوة إقليمية كبرى وفاعلة في غرب آسيا.
بطبيعة الحال، تنطلق نظرة الإمام للمستقبل من مبانٍ ومقدّمات دينية وعقائدية وفكرية وأخلاقية في النظرة إلى الخلق والوجود والعالم والإنسان والمجتمع (مثلاً المجتمع الديني لا يكون بالتديّن الفردي، بل حين تتشكّل العلاقات الاجتماعية على أساس الأصول والقيم الدينية) سنتجاوز تفصيلها هنا كونها محدّدة وواضحة ولضيق المقام.
في ما يلي نستخلص جملة من الأسس في منهجية الإمام الخامئني للنظر إلى المستقبل:
أولاً: العمل للمستقبل تكليف. يظهر المستقبل لدى العديد من الاتجاهات الدينية كأمر متروك للغيب تماماً ويجري الانصراف للتعامل مع ما هو قائم ومتحقّق مع الرهان على نبوءات أو «وعود» تتكفّل هي بتحديد شكل المستقبل.
لا شك في أنّ الغيب فكرة أصيلة في منهج الإمام الخامنئي، ولكنّه من موقع قيادته لمشروع بحجم الثورة الإسلامية والأمّة الإيرانية يحتكم في النظر إلى المستقبل، إلى عقلانية تامّة تستند إلى حافزية وسنن مستمدة من الغيب بدل أن يكون الأخير قيداً عليها ومعطِّلاً لها.
مع كلّ اليقينيات والآمال الغيبية في منظومة الإمام الثقافية، إلّا أنّه يقود الحاضر بالنظر إلى مستقبل على بُعد 50 عاماً وبالاستناد إلى فهم لتحوّلات العالم في شتّى المجالات.
وهنا يجمع الإمام بين المؤشّرات الكمية والنوعية في تشخيص الأهداف، حيث ينبغي أن تصبح إيران عام 2065 من الدول الخمس الأولى في الإنتاج المعرفي عالمياً، وتمتلك واحداً من الاقتصادات العشرة الأولى في العالم، والدولة السابعة عالمياً من حيث التقدّم العام والعدالة.
ونوعياً، سيتمتّع الشعب الإيراني «بالأمان والسكينة والطمأنينة والراحة والسلامة والأمل بالحياة في أعلى المستويات في العالم». وتنعكس هذه النظرة المستقبلية، معياراً للاستفادة من الثروات الطبيعية مع «مراعاة احترام المعايير البيئية وحق الأجيال المتعاقبة في الاستفادة منها».
ثانياً: الثورة متجدّدة. ولذا، فمسؤولية الشباب «البلوغ بالثورة هدفها النهائي بقيام حضارة إسلامية حديثة». عانت الثورات، عموماً، من فتورها مع نهاية جيلها المؤسّس وازدياد الفجوة بين جيل التجربة والأجيال اللاحقة، وهي مخاطر تستشعرها الثورة الإسلامية بعد 40 عاماً من انتصارها.
هنا، ينقل الإمام الخامنئي المسؤولية إلى جيل ما بعد الثورة مانحاً إياه الدور والاعتراف، وهو ما يساعد على تفادي احتمال «احتكار» جيل الثورة للتجربة ثم خنقها بالركود كما عانى الكثير من التجارب السياسية حول العالم.
المجتمع الإيراني هو من المجتمعات الشابة حول العالم، ولذا يرتبط مصير الثورة ومستقبلها بالقدرة على اجتذاب كتلة من الشباب الإيراني إلى مشروعها.
وحول هذه الكتلة، يدور الصراع الثقافي الأشرس بين الولايات المتحدة والثورة الإسلامية في إيران. ولذا، بدل أن تكون هذه الشريحة مجرّد ساحة للصراع، يحوّلها الإمام الخامنئي بمقاربته إلى طرف في الصراع وفق هدف مشخّص أي إقامة الحضارة الإسلامية، وهو هدف ينسجم مع طبيعة الشباب الإيراني الطامح والمعتزّ بإرثه وهويته والمتحفّز للإنجازات بما يمتلكه من طاقات علمية وبنى تحتية.
فالثورة «جعلت الشباب اللاعبين الأصليين في الأحداث وأدخلتهم ميدان الإدارة». والثورة بما حققته، هي جزء من «المسار المجيد نحو المبادئ السامية لنظام الجمهورية الإسلامية»، وتكملة هذا المسار ملقاة على عاتق همّة الشباب ويقظتهم وسرعة مبادراتهم في كل الميادين متحمّلين المسؤولية ومستفيدين من تجارب الماضي وعبره ودروسه. فالشباب في إيران «فرصة قيّمة للبلاد»، وبما حصّلوه من المعارف والعلوم والروح الثورية وهي «ثروات عظيمة للبلاد لا يمكن مقايستها بأية ثروة مادية».
ثالثاً: الحضارة الإسلامية هي البوصلة. منذ انتصارها، كانت الثورة الإسلامية تجد في التمهيد لظهور الإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر) غاية قيامها وفي تحقق الظهور منتهى الآمال ونهاية التاريخ. إلّا أنّه في السنوات الأخيرة، حدّد الإمام الخامنئي وجهاً سياسياً لفكرة التمهيد قابلاً للتشخيص ومنسجماً مع طبيعة النظام العالمي الذي يشهد صعوداً للحضارات الكبرى.
ففي عام 2018، رأى الإمام الخامنئي أنّ «الثورة لا تنتهي بتأسيس النظام، بل بالحضارة الإسلامية، ولذا هي لا تنتهي أبداً ومتواصلة على الدوام». وقيام الحضارة الإسلامية العالمية، هو المرحلة الأخيرة التي تلي قيام الثورة الإسلامية، ثم النظام الإسلامي، ثم الدولة الإسلامية، ثم المجتمع الإسلامي، ثم الأمة الإسلامية، وبها تقوم الحضارة الإسلامية.
إذاً، وبحسب فكر الإمام، فإن تحقيق الحضارة الإسلامية العالمية هو الهدف الموجّه ومعيار النجاح والإطار العام للثورة الإسلامية، وهذه الحضارة المأمولة تكون بمثابة «النموذج الممهد» الجاذب في عصر غيبة المعصوم الذي يظهر ليقيم الحضارة الكونية للإسلام.
التنافس في عالم اليوم قائم على النموذج والجاذبية بالتزامن مع صعود الهويات الثقافية والنزعات القومية التي تستند إلى تاريخ الأمم المتخيّل ورموزها وتطلّعاتها. من هذا المناخ الدولي، تنطلق أطروحة «الحضارة الإسلامية العالمية» طامحة لنيل الاعتراف في تشكيل العالم الجديد والمساهمة فيه على قدم المساواة.
وتستند هذه الأطروحة إلى ثقة أصحابها بالمخزون الإسلامي القيمي والأخلاقي والمعنوي، وإلى قابلياتها للتقدّم المادي من ناحية، وإلى أن عالم اليوم يمرّ بلحظة فراغ نسبيّ حيث يمكن للحضارات خارج المادية الغربية أن تحجز لها دوراً أو ربما أن تشكّل بديلاً كما يطمح أنصار مشروع الحضارة الإسلامية.
وتذكر الوثائق موضع البحث أنّه ينبغي «أن تصبح إيران نموذجاً تامّاً للنظام الإسلامي المتقدِّم». من هنا، يمكن استخلاص الآتي، في المراحل الأربع الأولى (الثورة والنظام والدولة والمجتمع) تتحوّل إيران إلى النموذج الإسلامي للتقدّم (لطالما جادل أنصار الثورة الإسلامية مراراً بأن فكرة «تصدير الثورة» تقوم على بناء نموذج ملهم وليس التوسّع العسكري)، الذي يلهم دولاً إسلامية أخرى فتتحقّق المرحلة الخامسة (ربما هذا ما كان يطمح له الإمام الخامنئي في مقولة «الصحوة الإسلامية»)، وحينها ينهض نموذج الحضارة الإسلامية العالمية كمشروع إسلامي مشترك متعدّد الأطراف وليس بأحادية إيرانية.
تشير وثيقة التقدّم إلى غايات مستقبلية لأوجه مختلفة من العدالة ومنها تحقيق العدالة الضريبية وتقليص التباينات الاجتماعية
رابعاً: التنافس والتعاون بدل الصراع. إنّ أطروحة الحضارة الإسلامية كما يبدو من سياقها، تقوم على مبدأ تنافس الحضارات لا صراعها وعلى التأثير وليس الحرب، فيذكر الإمام الخامنئي (2016) أنّ «الحضارة الإسلامية لا تعني فتح البلدان، بل تعني تأثّر الشعرب فكرياً بالإسلام».
فعالم اليوم لا يشبه البتّة عالم «الخلفاء الراشدين»، فالتوسّع العسكري ليس متاحاً وليس مستداماً، بل هو عالم تختصره إلى حدّ ما مقولة جوزيف ناي «الأقوى اليوم هو صاحب القصة الأفضل». وتستفيد أطروحة الحضارة الإسلامية من صعود الحضارات الشرقية في الصين والهند وروسيا، وهي جميعها لديها الكثير من المصالح والمشتركات للتعاون مع العالم الإسلامي من الطاقة إلى الجيوبولتيك، ثم الاقتصاد والتنمية وصولاً إلى الثقافة الآسيوية.
وبما أنّ مرحلة ما قبل الحضارة الإسلامية، هي مرحلة قيام الأمة الإسلامية التي تجمع الدول الإسلامية وهي بطبيعة الحال لن تكون شيعية في معظمها، يمكن الاستنتاج أنّ الإمام الخامنئي يرى في هذه الأطروحة جسراً بين المذاهب الإسلامية وعنواناً للتضامن والهوية المشتركة. أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم من منظار حضاري ودور عالميّ قد يساعدهم على تجاوز أو إدارة خلافاتهم واستيعاب توترات المصالح القومية بين دولهم الكبرى ثم إنتاج هوية مشتركة.
خامساً: الواقعية والأمل. النظرة إلى المستقبل لدى الإمام الخامنئي تنطلق من فهم الأهداف والمنجزات ومواقع القوة وأوجه القصور والإيمان بالقدرة على التغيير والرهان على الشباب والحفاظ على التوازن ثم الحافزية.
فحين يحدّد الإمام الأهداف المستقبلية يستند إلى قاعدتين:
(1) يدرك ويعترف بما تحقّق سابقاً للبناء عليه محذّراً من سعي الأعداء إلى توهين المنجزات وزرع الإحباط عبر تضخيم العيوب وإنكار الإيجابيات وقلب الحقائق. فالنظرة المتفائلة إلى المستقبل تستند إلى «الأمل الصادق المعتمد على الوقائع الخارجية»، وهذه النظرة هي في مقابل اليأس في غير محلّه والخوف الكاذب.
(2) يقيّم بشفافية وشجاعة أوجه النقص والقصور بما يُعين على شحذ الهمم وتحمّل المسؤوليات وتصويب المسارات. وهنا، يشير الإمام إلى أنّه «لا شك في أنّ الفجوة بين ما ينبغي وما هو واقع قد عذّبت، ولا تزال تعذّب الضمائر المنادية بتحقيق المبادئ، بيد أنّ هذه الفجوة يمكن طيّها وتجاوزها».
وهذه الفجوة هي ملازمة لكون الثورة مسيرة بشرية مفتوحة على السهو والخطأ، ولذلك وإن كانت الثورة ستواصل التزامها الحاسم بالقيم إلّا أنّها «تبدي الحساسية الإيجابية حيال النقد وتعدّه نعمة من الله» و«مستعدّة لتصحيح أخطائها».
وهنا، تشتمل وثيقة التقدّم على هدف مفاده تعزيز أجواء الحرية الفكرية من أجل التقويم والنقد العلمي للسياسات والمسارات. حتى حين يتحدّث الإمام عن العلم مُقرّاً بالمنجزات العلمية العالية التي تحقّقت من الصفر، يعقّب مضيفاً: «إلّا أنّنا لا نزال متأخّرين جداً عن قمم العلوم في العالم ويجب أن نصل إلى القمم».
سادساً: مركزية العدالة. يؤكّد مرشد الثورة أنّ العدالة «في قائمة الأهداف الأولى لبعثة الأنبياء»، وهي فريضة على الجميع حكّاماً ومحكومين. ولما للعدالة من أصالة وأثر، يشير الإمام في أكثر من موقع إلى عدم رضاه عن فعالية العدالة في البلاد «لكون القيمة السامية للعدالة يجب أن تتألّق كجوهرة فريدة على جبين نظام الجمهورية الإسلامية، وهو ما لم يحصل بعد»، رغم ما تحقّق من تقدّم وجهود ولكن العدالة المتوقّعة في الجهورية الإسلامية «التي ترغب في أن تعرف باتّباعها للحكومة العلوية (حكومة الإمام علي) هي أكثر من هذا بكثير».
ويؤكد الإمام، بوجه خاص، على العدالة الاجتماعية ويرى أنه «يوجد بون شاسع بين ما تم إنجازه حتى الآن وما كان ينبغي أن يُنجز. ينبغي لقلوب المسؤولين في الجمهورية الإسلامية أن تخفق دوماً من أجل رفع الحرمان، وتخاف أشدّ الخوف من الفوارق الطبقية». وهنا، تفرّق الوثائق بين الحق في تحقيق الأرباح مشروع وبين عدم مشروعية التمييز في توزيع المصادر والثروات العامة.
هذا الحرص على مسألة العدالة ينسجم مع ما توصّلت إليه الدراسات عن التداعيات الكارثية لغيابها ولتزايد التباينات والفوارق على صعد الاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي، بل والصحة الجسدية للمواطنين. ترتبط مشروعية أي نظام بمسألة العدالة الاجتماعية، بحيث لا يظهر هذا النظام أنه يمثّل القلّة الثرية.
ولذا، يحذّر الإمام من الفساد السياسي الذي يمثّل تهديداً لشرعية أية حكومة، وهذه قضية أساسية لنظام الجمهورية الإسلامية «الذي يحتاج إلى شرعية أعلى من الشرعيات الدارجة». لذلك، ورغم أنّ الفساد بين مسؤولي الحكومة في إيران قليل، «ولكن حتى هذا المقدار الموجود غير مقبول».
بل وتذهب الوثائق إلى حدّ أن تضع من التدابير الموصى بها أن يصبح اختيار المسؤولين والمديرين على أساس التزامهم العمَلي بحدّ كفاف العيش واهتمامهم بنهج العدالة والنزاهة والصدق والثقة والتضحية والمساءلة، مع تحديد ضوابط عادلة وشفافة في ما يخصّ دخل وثروة ومصدر رزق المسؤولين السياسيين.
وتشير وثيقة التقدّم إلى غايات مستقبلية لأوجه مختلفة من العدالة، ومنها تحقيق العدالة الضريبية وتقليص التباينات الاجتماعية. وفي سبيل ذلك، ينبغي التخلّص من القروض الربوية ومنح توزيع عادل للمال في النظام المصرفي، وتوفير العدالة بين الأجيال في الاستفادة من الموارد الطبيعية فلا يجري استنزافها لصالح الجيل الحالي، والتوزيع العادل للموارد الصحية.
وهنا، يبدو أنّ الوثيقة تدرك أنّ النمو لا معنى له من دون عدالة توزيعية، فقد يحصل النمو ولكن تتساقط ثماره على جيل محدّد أو قطاع بعينه أو جماعة بذاتها. ولا تغيب عن الوثائق قضايا الحرية الاجتماعية والحرية المسؤولة والحرية الفكرية والهوية الفردية، فتحقيق العدالة لا يضعها الإمام في مقابل الحرية ولا العكس كما تفعل مدارس فكرية مهيمنة في عالم اليوم.
سابعاً: الاقتصاد المقاوِم. الاقتصاد في فكر الإمام هو «قضية مفتاحية ومصيرية وهو وسيلة المجتمع الإسلامي». ومقوّمات الاقتصاد المقاوِم، هي جودة الإنتاج، والتوزيع العادل، والاستهلاك المتوازِن (بعكس النمط الرأسمالي الغربي)، والإدارة العقلانية ومحورية العلم (ومنها تطوير العلوم المتعددة التخصصات، وزيادة الدعم لإنتاج العلوم وتطوير شبكات العلوم والتكنولوجيا والابتكار) وريادة الأعمال لا سيما القائمة على المعرفة، والاستثمار في القدرات البشرية الوطنية، وأن لا ينحصر الاقتصاد بالقطاع الحكومي، بل يشمل المبادرات الخاصة والقطاع الخاص والأهلي مع التأكيد «على الحفاظ على حقوق الملكية العامة لهذه الموارد والثروة».
هذا الاقتصاد ينبغي أن تستقل فيه الموازنة عن عائدات الموارد الطبيعية والثروة العامة (النفط الخام تحديداً)، بما يجعل إيران أكثر مناعة وحصانة تجاه ضغوط العقوبات الأميركية ويعزّز من استقلال الإيرانيين. ومستمرّاً في منهج المكاشفة كقيمة بذاتها ولتصويب الخيارات، يؤكّد الإمام أنّ الحلول للأزمة الاقتصادية متاحة كلّها داخل البلاد، وليس صحيحاً «أنّ المشكلات الاقتصادية ناجمة فقط عن الحظر وأنّ سبب الحظر هو المقاومة ضد الاستكبار وعدم الاستسلام أمام العدو»، لأنّه حينها يصبح الحل «هو الركوع أمام العدو وتقبيل يد الذئب».
ثامناً: الثنائيات المتوازنة. يدعو الإمام إلى التنظير لعدم تعارض الثنائيات مثل العلم والدين (فالعلم مصدر للعزة والقوة والسير فيه بمثابة «عمل جهادي» من دون استغلاله كما في فعل الغرب) والتقدّم والعدالة، والهوية الإيرانية والإسلامية.
من هذا الموقف، يبدو أنّ الإمام يدرك من موقع قيادته للدولة الإيرانية وثورتها ومشروعها الإسلامي والتحرّري، أنّه لا يمكن للفكر الأحادي أن يحمل مشروعاً متوازناً قادراً على التقدّم، وأنّ هذا الفكر مصيره التطرّف والإخفاق ويغرق في مجاهل الاستقطابات والصراعات البينية العبثية.
من هنا، تتضمّن الوثيقتان دعوات إلى «معاصرة لا تفرّط بالأصالة»؛ وإلى سعادة مصدرها الهداية الإلهية والرشد العقلاني، وإلى الالتزام بالمبادئ من دون إنكار الظروف والظواهر المتجدّدة (ما دفع مهدي خليجي في موقع الحرة للقول إنّ النظام الإيراني يراهن على اقتران أعمق بين الأيديولوجية الأصولية والتقنية)؛ وإلى أن يكون مفهوم التقدّم ليس منحصراً بالمادة، بل يشتمل على الاهتمام بالأخلاق والقيم والفضائل (وهي مؤنسة حتى مع النقص المادي والحكومة تحققها بالاقتداء بها لا بالقهر)؛ وإلى تكامل الثورة والنظام في «نظرية النظام الثوري» حيث الثورة هي التي تصنع النظام وتمنحه مشروعيته منها، من دون أن يتحوّل إلى قيد عليها بحيث «لم ولن تصاب بالركود والخول والانطفاء»؛ وإلى أنّ قيام الحضارة الإسلامية له عمدتان الأصول والقيم والتعاليم الإسلامية، والعقل والمعرفة البشرية؛ وإلى أنّ ضرورة المجتمع لا تنفي الهوية الفردية والاختيار الشخصي ومسؤولية أعضاء المجتمع. كما أنّ هذا المنهج في الثنائيات يتضمّن اقتناعاً بالهوية المركّبة، فلا لزوم لأن نكون إما إيرانيين وإما مسلمين وإما شيعة وإما عرباً فقط، بل إنّ الجمع والتنوّع هو أصل.
فقد استند نموذج التقدّم «إلى الرؤية الكونية والأصول الإسلامية وقيم الثورة الإسلامية مع مراعاة المقتضيات الاجتماعية والمناطقية والتراث الثقافي لإيران».
كما تشير الوثيقة إلى أنّ رسالة النموذج هي حركة عقلانية ومؤمنة ومنسجمة مع المثل العليا في إيران. وعند الحديث عن تطوير الرموز الإسلامية الإيرانية يرد قيد ألّا وهو «المحافظة على التنوع الثقافي في عموم البلاد».
تاسعاً: أصالة المشاركة الشعبية. يبرز حضور الشعب في كل مفاصل الوثيقتين، فهو مخاطب وشريك وصاحب دور ومحطّ الآمال وموضع العناية وركن التمكين. في رسالته عن وثيقة التقدّم، طلب الإمام الخامنئي من المؤسّسات الإيرانية والجامعات والحوزات وأصحاب الرأي مراجعة مسودّة الوثيقة لنقاشها، كما طلب نشرها عبر الإنترنت لتكون متاحة لعامة الشعب وصولاً إلى إقرار النسخة النهائية.
ففي نظام ولاية الفقيه، حيث مصدر الشرعية ديني يحضر الشعب بمشروعيته التمكينية فبدون رضاه لا تنتفي شرعية الحاكم ولكنّها لا تكون موجودة بالفعل، وهذا ما تختصره تسمية نظام ولاية الفقيه بأنه نظام «السيادة الشعبية الدينية». فتنصّ وثيقة التقدّم على أنّ «التقدّم يتحقق بقيادة الوليّ الإلهي ومشاركة الشعب».
كما تضع النصوص موضع البحث هدفاً مستقبلياً قوامه تعزيز المراقبة الرسمية والشعبية والإعلامية على أركان ومكونات النظام ومنع تداخل المصالح والتصدي للمفسدين.
عاشراً: الاستقلال والمقاومة والمكانة. تبرز هذه المفاهيم بشكل واضح عند الحديث عن مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية. فإيران التي عانت في النصف الأول من القرن الماضي من إذلال القوى الكبرى التي تقاسمت ثروات إيران وسيادتها، تدرك أنها لما يتوافر لها في الجيوبولتيك والثروات الطبيعية والبشرية والإرث ستكون دائماً محطّ أطماع قوى الهيمنة الكبرى.
والأهم، أنّ القيادة الثورية الإيرانية تنطلق من تصوّر أن إيران لا يمكن أن تكون مستقلّة إلا من خلال دور إقليمي فاعل ونشط يقوّض الهيمنة في المنطقة، وإلا ستكون تحت تهديد مستمرّ لأمنها ودورها ولن يكون المسلمون قادرين على الخروج إلى الضوء.
وعلى هذا الأساس، تنصّ الوثائق على أنّ العلاقات الدولية لإيران تُخاض وفقاً لثلاثة مبادئ «العزة، والحكمة، والمصلحة»، وتؤكد على الدفاع والردع وعلى دعم الحركات الاسلامية وحركات التحرّر واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني.
والاستقلال هنا، يُفهم بمعناه الواسع فيشمل الاستقلال الثقافي كبناء تحتي، لا سيما مع الجهود الناعمة لاستهداف المجتمع الإيراني، ولذا يحذّر الإمام الخامنئي من «جهود الغرب لترويج أسلوب الحياة الغربي في إيران» ويدعو إلى مواجهتها التي «تتطلّب جهداً شاملاً وواعياً تتسمّر فيه عيون الأمل أيضاً عليكم أيها الشباب».
خاتمة
بالرغم من كلّ الحمولة الأيديولوجية للثورة الإسلامية والخصوصية القومية لإيران، إلّا أنّ منهجية الإمام الخامنئي تتّسم بمقدارٍ عالٍ من العقلانية والسعة والتفاعل مع مشكلات الواقع وتحدياته العملية، بما يجعلها ضرورة لكلّ الساعين نحو مستقبل أفضل لا سيما في العالم الثالث والصاعد.
بالمحصلة تنبيهان من روح الوثائق المبحوثة: بمعزل عمّا تأمله وترجوه، عليك أن تستند في خططك وسياساتك إلى نظرة بعيدة مع ما يستلزمه ذلك من مسارات واستراتيجيات، فتتنبه إلى خطورة الخيارات التي تتقي فيها ثمناً محتملاً اليوم، ولكنّها ستكون كارثية في المستقبل، وهو فخّ ستُستدرج له كلّما غاب المستقبل عن حساباتك أو أوكلته لظنٍّ ما أو ظننت أنك مسيطر عليه. وثانياً، النوايا الطيبة والقيم السامية لا تعفيك من النقد والمساءلة، وإلّا لن ترى أخطاءك وسيكثر سهوك وحينها لن يزيدك السير إلا بعداً عن ما تصبو إليه.
* أستاذ جامعي
المصدر: الأخبار