الاجتهاد: مع تصاعد هيمنة الغرب على المؤسسات الدولية، واجتياح العولمة الغربية للخصوصيات الثقافية والقيمية لمجتمعاتنا في سبعينيات القرن العشرين، بدأ اقتحام الغرب لحرمات الأسرة المسلمة، وانتهاك مقدسات منظومة قِيَمِهَا التي وضعها الإسلام، حتى غدت الهجمة الغربية على حصن الأسرة المسلمة بمثابة «الجولة الفاصلة» في معركة الهوية، التي يستهدف بها الغرب إحداث الفوضى في عالم الأسرة لتفكيكها والقضاء على مقوماتها. / الدكتورة كاميليا حلمي
ويروج الغرب نمط الحياة «المنظومة الدولية لحقوق الإنسان» متخذا من هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها أداة لإحلال تلك المنظومة القِيْمِيَّة -المصادمة لكل القيم الدينية- محل منظومة القيم الإسلامية في ميدان الأسرة على وجه التحديد.
وترفع تلك الاتفاقيات شعارات براقة لكنها مفخخة، مثل: «المساواة» و«حقوق الإنسان»، ثم تدعو إلى التساوي المطلق بين المرأة والرجل في جميع الميادين: السياسية والاقتصادية والثقافية والمدنية، سواء في الأدوار أو الحقوق أو التشريعات، وتعتبر أي فارق في هذه الأدوار أو التشريعات بين الرجل والمرأة «تمييزًاً وعنفا ًضد المرأة» يتوجب القضاء عليه.
كما تدعو تلك الاتفاقيات إلى إطلاق الحريات الجنسية من زنا وشذوذ، في مقابل التضييق على الزواج ورفع سنه، حتى بات الزواج تحت سن الـ 18 عنفا يجب القضاء عليه.
وبسبب انحسار الفهم الصحيح للإسلام وتراجع قيمه من حياة الشعوب، تغلغلت المرجعيات اللادينية حتى غدت منافساً شرساً لمرجعية الإسلام؛ الأمر الذي استوجب وضع وصياغة ميثاق الأسرة في الإسلام؛ ليكون دليلاً ومرجعًا للمجتمعات الإسلامية، ومنظماتها الأهلية، وحكوماتها الوطنية، ومنظماتها الإقليمية، بل وردًّا على مواثيق الغزو وأيديولوجياته، التي تحاول اجتياح آخر حصون الإسلام وأمته: حصن الأسرة.
وقد تضافر على إنجاز هذا الميثاق مجموعة من العلماء بدعوة ورعاية من اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل، التابعة للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، حيث قاموا باستقاء مواده وبنوده من شريعتنا الغراء الثابتة بصريح الكتاب والسنة، والانتقاء والاختيار من تراثنا الفقهي الضخم بمذاهبه من لدن الصحابة والتابعين ومرورًا بالمذاهب الفقهية الأربعة وغيرها، وحرصوا في تدوينهم على الابتعاد عن كل ما هو غريب ومرجوح من الآراء والأقوال إذا ضعف مستنده أو ما كان مبنيًّا على عرف زمانه ثم تغير إلى عرف مستحدث لم يسبق له حكم. ثم تتابع على تحقيقه وتمحيصه نخبة من علماء الأمة من شتى بقاع الأرض.
وفي هذا البحث، نعقد مقارنة بين رؤية المواثيق الدولية للمرأة والطفل ورؤية ميثاق الأسرة في الإسلام لعدد من القضايا الأسرية الهامة؛ حتى تتبين معجزة التشريع الرباني للأسرة، ويتبين حجم المؤامرة عليها داخل تلك المواثيق.
الخاتمة
تحمل المواثيق الدولية الخاصة بالمرأة والطفل، رؤية أحادية لقضايا المرأة والطفل، لا تقبل لها بديلا. وتمارس الأمم المتحدة كل الضغوط الممكنة لإرغام الحكومات المختلفة على تطبيق تلك المواثيق تطبيقاً كاملاً وشاملاً، متجاهلة أي تحفظات وضعتها تلك الحكومات أثناء التوقيع عليها.
وترتكز تلك المواثيق على عدد من المصطلحات المطاطة، منها: العنف ضد المرأة، والجندر، والصحة الإنجابية، وغيرها، مع ربطها جميعا بالتنمية المستدامة.
وتشكل تلك المصطلحات منظومة متكاملة لنمط الحياة الاجتماعي الغربي، الذي تفككت فيه الأسرة، وحلت العلاقات العابرة والعلاقات الشاذة محل الأسرة، وتضاءلت قيمة العفة في مقابل المتعة، وسيطرت عليه الفردية والصراعية حين تضاءلت قيمتي التضحية والتراحم بين أفراد الأسرة والمجتمع.
فتأتي تلك المواثيق لتكون أداة الأمم المتحدة في عولمة ذلك النمط على شعوب الأرض قاطبة مع التجاهل التام للمرجعيات الدينية والثقافية لتلك الشعوب.
وقد أدركت اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل أهمية إبراز القيم الإسلامية الأصيلة للأسرة من القرآن والسنة، فعكف علماؤها الأجلاء على وضع أوّل ميثاق عالمي للأسرة في الإسلام ليكون حاضرا بين يدي المشرعين للاستقاء منه في تشريع قوانين الأسرة، وليكون منهجا للحياة لكل من ينشد حياة هانئة مطمئنة.
ونرى ضرورة العمل على مسارين: المسار الأول هو مسار حماية الأسرة من الهجمة التغريبية الشرسة التي تستهدف استئصالها من الجذور والتي تتم من خلال مواثيق واتفاقيات دولية أصدرتها
الأمم المتحدة ووقعت عليها حكومات العالم.
والمسار الثاني، هو إصلاح البيت من الداخل، ووضع حلول عملية لإعادة اللحمة الأسرية، واسترداد الأسرة عافيتها، حتى تعود للمجتمع قوته، وهويته التي يوشك أن يفقدها في مهب ريح العولمة.
فهرس المحتويات
تحميل المقالة
الأسرة بين المواثيق الدولية وميثاق الأسرة
* د. كاميليا حلمي: عضو مجلس الأمناء ورئيسة لجنة الأسرَة في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومتخصصة في قضايا الأسرَة والمواثيق الدولية