الاجتهاد: هناك مساع حثيثة لإعادة صياغة تعريف “ للأسرة”بما يفتح الباب للشذوذ الجنسي، والانحلال الأخلاقي، والخروج عن الفطرة السوية عبر زواج رجل برجل، أو امرأة بامرأة، أو رجل بأخته، أو أب بابنته ومحارمه، بل الأكثر انحداراً وسفولاً زواج إنسان مهما كان جنسه بحيوان، وهنا نستحضر النقاشات التي رافقت إقرار وثيقة بكين سنة 1995، وما رافقها من محاولات مضنية لتغيير طبيعة الأسرة الإيمانية. بقلم: د.مصطفى بن أحمد الحكيم
إن شأن الأسرة في كل أمة شأن عظيم، وما يصيبها ضررُه على الفرد والمجتمع ضرر جسيم، لذلك تحتاج إلى إحكام وتحصين، ومناعة تصد بها الغارات الوافدة، وتواجه بها التحديات المحيطة، والمشكلات العارضة.
وحين نتحدث عن التحديات نتحدث عن مشكلات، وعوائق وعقبات لا بد من الوعي بها -ابتداءً- حتى يسهل تذليلها، والبحث عن المخارج والحلول التي توصل إلى أن تكون أسرنا مستقرة ثابتة مثمرة.
ونحن إذ نتحدث عن الأسرة المسلمة المكَرَّمة لا بد أن نستحضر السياق العام؛ وهذا السياق –للأسف- فيه هجوم على القيم الفطرية الإنسانية التي جعلها الله عز وجل للناس شرعة ومنهاجا، حيث تعيش هذه الأسرة في بحر هائج، وفي محيط مضطرب، ووضع معقد يراد لها أن يمسها المسخ والفسخ والبخس.
المسخ الذي يستهدف هويتها الدينية وشخصيتها الإيمانية، والفسخ الذي يروم تفكيك بنيتها الاجتماعية، والتبخيس والتقليل من قيمتها التربوية، ووظيفتها الإصلاحية، وكلها تحديات ومخاطر سنفصل فيها لاحقا.
ومعلوم أن للأسرة في الإسلام هوية ربانية، وشخصية إيمانية تتصل بقيمه، وتمتح من معينه، وتسترشد بأحكامه، وقد جعل الله منطلق تأسيس هذه النواة المجتمعية: “رابطة الزوجية” التي جعلها إرادة ناجزة، وسنة ثابتة، وطريقا واضحا لتكثير النوع الإنساني، قال تعالى: )وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى( (النجم:45)، وقال عز من قائل: )فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى( (القيامة: 39) وقال سبحانه: )هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا( (الأعراف:189).
فلا انفكاك لهذه الأسرة عن محضنها الشرعي، ومرتكزها القيمي الذي يراد أن تُفصل عنه، ويُفك ارتباطها به، وتُنتزع منها هذه الهوية حتى يسهل الانقضاض عليها، ومسخ هذه الروح السارية؛ روح الإسلام وقيمه.
لذلك نشهد في الآونة الأخيرة محاولات دائبة للترويج لأفكار مقطوعة عن هذا السياق الرباني الخالد، مصادمة له، منفرة منه، ومنها الأصوات التي ارتفعت منادية بتشريع “الزواج المدني” وإدراجه ضمن مدونات الأسرة، وقوانين الأحوال الشخصية وتشريعاتها المعمول بها في الدول الإسلامية.
وهذا اتجاه لا تخفى مراميه ومطامحه؛ فهو يريد من خلال ذلك ضرب الأساس الديني للزواج في الإسلام، وقطع هذا الترابط، وجعل ذلك مقدمة لفصله عن الأحكام الشرعية المتصلة به من إرث، وحضانة، ونسب، وطلاق، وموانع شرعية للزواج…
فيصبح الطريق ممهدا لخلخلة هذه المنظومة القيمية المتصلة أجزاؤها ببعض، ونقض هذا البنيان الرباني الذي جعله الله رباطا مقدسا وميثاقا غليظا.
ولو افترضنا أن هذا الأمر أصبح واقعا -لا قدر الله- سنفتح بذلك بابا للشر المستطير، وممرا للضياع المجتمعي، والمسخ الهوياتي الذي قد يوصلنا إلى مسخ الطبيعة الإنسانية، وتغيير الخصائص التكوينية، والعناصر التركيبية للرجل والمرأة اللذين خلقهما الله، وجعلهما زوجين ليتكاملا لا ليتماثلا.
ولم يجعل للرجل زوجا من جنسه، أو المرأة زوجا من جنسها، وإلا اختلت الموازين الإلهية، وانقلبت الطبائع الفطرية، يقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً( (النساء:1).
ولا ننسى أن هناك مساع حثيثة لإعادة صياغة تعريف “للأسرة” بما يفتح الباب للشذوذ الجنسي، والانحلال الأخلاقي، والخروج عن الفطرة السوية عبر زواج رجل برجل، أو امرأة بامرأة، أو رجل بأخته، أو أب بابنته ومحارمه،
بل الأكثر انحدارا وسفولا زواج إنسان مهما كان جنسه بحيوان، وهنا نستحضر النقاشات التي رافقت إقرار وثيقة بكين سنة 1995، وما رافقها من محاولات مضنية لتغيير طبيعة الأسرة الإيمانية، ورسالتها الأخلاقية، وبنيتها التكوينية القائمة على وجود رجل وامرأة في رباط مقدس، وعقد شرعي، ومحاولة نزع الصبغة الشرعية عن الزواج، وفصله عن منظومته القيمية.
وقد جعله الله آية من آياته، وتجل من تجليات النظام البديع، والبناء الرفيع، والخلق الموزون فقال عز وجل: )وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( (الروم: 21) يقول صاحب “التحرير والتنوير”: «هذه آية ثانية فيها عظة وتذكير بنظام الناس العام، وهو نظام الازدواج، وكينونة العائلة، وأساس التناسل، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزا في الجِبِلَّة لا يشذ عنه إلا الشُذَّاذ. وهي آية تنطوي على عدة آيات منها: أن جُعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جُعل تناسله بالتزاوج»[1].
وبما أن الأسرة هي سنادُ كل مجتمع وعمادُه، وعليها يتأسس صلاحُه وفسادُه؛ باعتبارها الحاضنة الأولى، والعالم الأصغر التي يفتح عليه الأطفال عيونهم، وتنمو فيه أحاسيسهم، وتتشكل بها استعداداتهم، وتتغذى مواهبهم، وتتكشف اتجاهاتهم؛ لذلك كان تحصيل الأمن بهذا المجتمع الصغير “مجتمع الأسرة” مقدمة لتحصيل أمن المجتمع الكبير، وتثبيت استقراره، وتهيئة ظروف تنميته وتقدمه ورفعته.
لأن الأمن مطلب عزيز، ومقصد جليل، وغاية تسمو إليها النفوس المستقيمة، والمجتمعات البشرية السوية، والأمن لازمة من لوازم الوجود الإنساني، وحاجة من حاجياته كالماء والغذاء والهواء، وضرورة من ضرورات سعي الإنسان المكرم لتحقيق مقاصد الخلق, ومراد الحق عز وجل.
ولا جرم أن فقد الأمن شديد على معاش هذا الإنسان، ومؤثر في حركته ومسيرته؛ وعامل من عوامل الإخفاقات والانكسارات والاختلالات التي قد تطال جهوده الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والتدبيرية… وعندما يغيب الأمن تنعدم الطمأنينة، وتنتشر الأمراض النفسية، والأدواء الاجتماعية، والتقلبات والأزمات الاقتصادية، وتضطرب النفوس، ويتعطل العمران، وتكسد التجارة والاقتصاد، وتخسف طاقات الإبداع والإنتاج.
ولن تجد على طول مسيرة البشرية مجتمعا تقدم في مضمار العلوم والآداب، وعُرف بالإنتاج الفكري والاقتصادي، والتقدم العمراني وإلا وأمْنُه مستتب، واستقراره متحصل، وما تجربة أوربا عنا ببعيدة، التي سعت إلى وضع قواعد وآليات لتحصيل الأمن، وتثبيت الاستقرار، ودفع المخاطر، وتدبير الاختلاف الذي شكل المناخ المناسب، والبيئة الحاضنة لتقدمها وريادتها ونهضتها الحديثة.
لذلك جعل النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه الأمن سببا من أسباب السعادة، ومقوما من مقومات الاستقرار حين قال: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)[2]، ولأهمية الأمن ابتدأ به صلى الله عليه وسلم باعتبار أسبقيته وضرورته، ولكونه أصلا ينبني عليه غيره، ويحصل به ما دونه.
و“أمن السرب” إشارة إلى أن حصول “الأمن الفردي” متوقف على حصول “الأمن المجتمعي” سواء في المجتمع الصغير -وهو أسرة الفرد ومحضنه الأول – أو في المجتمع الكبير الذي يشكل الامتداد الطبيعي للفرد في علاقاته ومصالحه وارتباطاته، فأمن الأسرة (السرب الصغير) مقدمة لحصول أمن المجتمع والأمة (السرب الكبير)، لذلك قَيَّد صلى الله عليه وسلم المقوم الأول من مقومات الاستقرار: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا) بقيد إضافي (آمِنًا فِي سِرْبِهِ) تأكيدا على المعنى المشار إليه آنفا.
ولعل مما يلفت نظر المتأمل في هذا الحديث العظيم تقريره لمعادلة حاسمة تشكل نظرية متكاملة في “الأمن الشامل” قوامها:
الأمن الأسري والمجتمعي + الأمن الصحي + الأمن الغذائي= استقرار الإنسان وسعادته
وفي هذا السياق نؤكد على أن الأمن منظومة متكاملة، وبناء مترابط لا يمكن فصل وحداته، أو تفكيك عناصره ومكوناته، التي تشكل بنيته التكوينية؛ من الأمن الاجتماعي، والأمن الصحي، والأمن الاقتصادي، والأمن السياسي…
وعليه يمسي الأمن الشامل مطلبا ضروريا، وحاجة أساسية، ويقتضي من القائمين على الشأن العام تغيير الاستراتيجيات والخطط التي تَقصره على جانب دون آخر، أو تُفْرِط في العناية بعنصر من عناصره دون استحضار للقيمة الجمعية، والنظرة الكلية لمفهوم الأمن؛ لذا وجب توسيع مفهومه، وعدم قصره على المفهوم الأمني الضيق؛ لأن من تبعات ذلك نشر الريبة والشك والخوف، وتعطيل الطاقات، وتقييد حرية المبادرات.
لذلك لا يأمن مجتمع من غوائل الفساد والانحلال، ومخاطر الضعف والهوان ولبنته الأولى متصدعة، ومؤسسته المركزية مهزوزة مختلة، لهذا نجد أن “الأسرة” مصطلح يشير عند اللغويين العرب إلى معاني الحصانة والمناعة والحِيَاطة؛ فهي عند ابن منظور: «الدرع الحصينة»، ويقال: «أَسَرَ قَتَبَهُ» (رَحْلَه): بمعنى شدَّه وأحكمه[3]، بما يرمز لمعاني الإحكام والضبط، وكلها معاني جارية على ما ينبغي أن تكون عليه الأسرة من التحصين والحياطة والإحكام بما يمنع انحرافها عن مقاصدها التي من أجلها شرع الله أحكامها، وأقام بنيانها، وبما يدفع عنها الانحرافات السلوكية، والاضطرابات النفسية، ويقي المجتمع من التردي والانحدار والأخطار، خاصة في ظل واقع يريد أن يمسخ هويتها الأخلاقية، ويفكك بنيتها الاجتماعية، ويبخس قيمتها الإصلاحية التوجيهية، وكلها تحديات تفرض يقظة وتنبها، وتتطلب تعبئة وتحصينا.
الهوامش والإحالات:
[1] التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور 21/70-71. الدار التونسية للنشر: تونس، 1984م.
[2] سنن الترمذي، رقم 2346، الأدب المفرد للبخاري رقم 300.
[3] راجع مادة “أسر” بلسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري 4/19. دار صادر: بيروت-لبنان، ط1.
المصدر: المركز الدولي للإستراتيجيات التربوية والأسرية