الاجتهاد: النبي يوسف عليه السلام هو أول من وضع قواعد الادخار الحكومي الموثق على مر التاريخ، وأول من أشار إلى الدورات الاقتصادية من حيث الرواج والكساد، فيقيس كثير من المنظرين هذه الدورات بمدة سبع سنوات كعمر تقديري متوقع للدورة الواحدة. / بقلم: الدكتور نجاة محمد المرزوقي.
لعل من أوائل ما وصلنا في إطار نماذج من شواهد الابتكارات الاقتصادية الإسلامية السابقة هو ما ورد مثبتا في القرآن الكريم عن يوسف عليه السلام وإدارته الاقتصادية المبتكرة التي كانت على نمط فريد لم يسبق إليه، وهي نموذج عى التخطيط الاقتصادي طويل الأجل وإعداد الموازنات، فقد علّم يوسف عليه السلام الملك، كيف يخطط اقتصاديا، بانتهاج طريقة لم تكن معروفة قبل ذلك، وهي التحكم في الإنتاج الزراعي تخزينا وإنتاجا واستهلاكا، ثم ادخارا للفائض بطرق تضمن عدم هدر الموارد الزراعية آنذاك.
فمن أهم ما يستفاد من هذه التجربة أن علاج الأزمات الاقتصادية يجب قبل الشروع فيها وقبل وقوعها، حيث تتوافر الأدوات والموارد، فلا فائدة في الرغبة في بدء العلاج عندما لا توجد الموارد المطلوبة، لذلك فإن الاقتصاد والتوفير يجب أن يكون سلوكاً أصيلاً، حيث الإسراف هو الاستثناء.
كما أن فيه ملمحا مهما إلى أهمية الإدارة الاقتصادية من قبل المؤهلين، بالعلم والمعرفة والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة في الأوقات المناسبة(1). فقد أرسى سيدنا يوسف لملك مصر موازنة تخطيطية توافرت لها الأصول العلمية والعملية وازن فيها الانتاج الزراعي (الإيرادات) والنفقات الاستهلاكية بهدف مواجهة المخاطر المحتملة من المجاعة المتوقعة.
فيوسف عليه السلام هو أول من وضع قواعد الادخار الحكومي الموثق على مر التاريخ، وأول من أشار إلى الدورات الاقتصادية من حيث الرواج والكساد، فيقيس كثير من المنظرين هذه الدورات بمدة سبع سنوات كعمر تقديري متوقع للدورة الواحدة (2).
وقد تحدث القرآن الكريم عن مراحل ثلاث أساسية في الخطة الإسراتيجية المبتكرة التي وضحها يوسف عليه السلام لقومه، وهي:
المرحلة الأولى: مرحلة التخطيط للإنتاج، وتفعيله، وإدارته، استمرت سبع سنوات حدد يوسف-عليه السلام- معالمها كالآتي:
-1 خطة الإنتاج: ﴿تزرعون﴾ (الزراعة).
-2 مدة الإنتاج: ﴿ سبع سنین﴾.
-3 مستوى الإنتاج: ﴿ دابا﴾ عملا دائباً متواصلاً.
-4 زيادة المدخرات: ﴿ فما حصدتم فذروه في سنبله﴾.
-5 تقييد الاستهلاك: ﴿ الا قلیلا مما تاكلون﴾.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة إدارة الاستهلاك، واستثماره، تستمر سبع سنوات أخرى، حدد يوسف عليه السلام أهم معالمها كآلاتي:
1 – تقييد وتنظيم الاستهلاك ﴿ ثم یاتی من بعد ذلک سبع شداد یاکلن ما قدمتم لهن﴾.
2 – الاستعداد لإعادة الاستثمار: ﴿ الا قلیلا مما تحصنون﴾. أي هذه هي البذور التي ينبغي. أن تحافظوا.
المرحلة الثالثة: ما بعد الإنتاج وجني الأرباح، وإعادة دورة الإنتاج:
﴿ثم یاتی من بعد ذلک عام فیه یغاث الناس وفیه یعصرون﴾، أي يبذرون ما احتفظوا به في سنبله من قبل سبع سنين، فإذا ما ارتفع النبات وغطى الأرض وزكا الثمر جمعوه وعصروا زيوتهم وفاكهتهم.
ومن هذا نستشف أن خطة يوسف عليه السلام كانت تستهدف المجتمع بأسره ﴿ تزرعون﴾، وإرادته الحكيمة متوجهة لإيجاد صفات في ذلك المجتمع تمكن من تحقيق الهدف المرسوم واجتثاث أي عائق في سبيل التنمية.. ومن ذلك:
1- زيادة ساعات العمل وزيادة استثمار الطاقة الإنتاجية للأمة خلال المرحلة الأولى بأكملها، يتبين ذلك من خلال قوله: ﴿ تزرعون سبع سنین دابا ﴾ والدأب في اللغة يعني العادة والاستمرار، وهذا يستدعى محاربة البطالة بجميع أنواعها ولاسيما البطالة المقنّعة التي تظهر المجتمع بغير صورته الحقيقية ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.
2 – تنمية الوعي الادخاري كما يبينه قوله: ﴿فما حصدتم فذروه في سنبله الا قلیلا مما تاكلون﴾.(3) وهذا يستدعي محاربة ظاهرة الاستهلاك التي كانت منتشرة عند المصريين في عصره – عليه السلام – كما تذكر ذلك بعض المصادر، وبإيجاد هذه الصفات الحسنة ومحاربة تلك الصفات الذميمة يتحقق ما أراده يوسف -عليه السلام – من رفع مستوى الإنتاج والموازنة بين متطلبات الإنتاج والادخار والاستهلاك.
لقد اكتملت للموازنة التي أرسى يوسف عليه السلام أسسها وقواعدها أركان الموازنة التخطيطية وتفصيل ذلك أن مفهوم الموازنة التخطيطية إنما يقوم على فكرة التوازن والموازنة، وقد قام يوسف عليه السلام بالموازنة بين الإنتاج الزراعي والاستهلاك في ضوء الظروف المتاحة وذلك بغرض تخطي الجدب والقحط.
3 – إن موازنة سيدنا يوسف قد توافر لها مبدأ المشاركة، باشتراك المستويات الإدارية في المسئولية مسئولية مباشرة عن تحقيق الخطة في مراحل إعدادها وتنفيذها.
ولقد استنبط ذلك من مخاطبته لرسول الملك بقوله ﴿ تزرعون ﴾، ﴿حصدتم﴾، ﴿فذروه ﴾، ﴿ تحصنون ﴾، إذ الخطاب هنا بصيغة الجمع، أي للناس المخاطبين جميعاً وليس بصيغة المفرد. أي لجميع الناس والمسئولين وهذه إشارة إلى ضرورة اشتراك كافة المستويات الإدارية – عليا ووسطى وتنفيذية – في إعداد الموازنة التخطيطية.
4 – إن موازنة سيدنا يوسف قد توافر لها مبدأ توفير الحوافز، ومبدأ الواقعية في الأهداف، وتناسبها مع الإمكانات، ذلك أنه وقد وضح للناس أن سنوات كساد سبع ستعقب الرخاء، حمل إليهم البشرى تطمئنهم وتحفزهم، وهي أن هذه الأزمة إلى انقطاع، إذ سيأتي على الناس عام فيه يغاثون ويرزقون وفيه يعصرون، ﴿ ثم یاتی من بعد ذلک عام فیه یغاث الناس و فیه یعصرون).
5- كما أن هذا التخطيط والتدبير الاقتصادي توسع بجعل الفائض من الطعام في مصر حقا لجميع الناس، ولكن بمقادير محددة – حمل بعير-، ونظم ذلك ببطاقات بحيث يعرف من أخذ نصيبه ممن لم يأخذ.
فقضى يوسف عليه السام على الاحتكار والبطالة والتسول بخطة عبقرية لم يسبق لها مثيل، وقد كانت، خطة يوسف عليه السلام ترمي بأن يحضر كل من أراد الحصول عى الطعام معه بضاعة من صنع بلده تماماً كمبدأ المقايضة:. . . الطعام مقابل البضاعة التي يحضرونها.
و إن تأويل يوسف عليه السلام للرؤيا يحمل في طياته معان أزلية، هي سنن تتكرر في الأمم، فحياة الأمم لا تسرعلى وتيرة واحدة، بل تتأرجح بين فترات الخصب وفترات القحط، بين رخاء وكساد، أو غنى وفقر(4)، و إن من أهم الدروس المستقاة من هذه القصة وهذا الأنموذج الاقتصادي الرباني الفريد هي إثارة الفكر والرأي حول كيفية الاستفادة من الطفرة التي تعيشها دولتنا حالياً، حيث إن الأيام دول، فكما نعيش اليوم طفرة خير ورخاء وتقدم ووفرة في الموارد، فقد عاشت المنطقة بأسرها ومن ضمنها دولة الإمارات العربية المتحدة أزمة مالية طويلة وقاسية، فهل تستمر هذه الطفرة سبع سنوات أم تزيد أم تقل؟ لا أحد يستطيع الجزم بهذا الغيب بإطلاق، ولكن المهتمين بالاسراف والنظر البعيد للمستقبل معنيون بأن يبتكروا حلولا تجعل من مواردنا الحالية ضمانة تقينا شر المستقبل(5).
الهوامش
(1) مقال: يوسف العبقرية الاقتصادية. . دروس مستفادة، فهد بن عبد الله القاسم – صحيفة: الاقتصادية الثلاثاء 11 مايو 2010 :
http://www. aleqt. com/201011/05//article_391226. Html
(2) مقال: يوسف العبقرية الاقتصادية. . دروس مستفادة، فهد بن عبد الله القاسم – صحيفة: الاقتصادية الثلاثاء 11 مايو 2010 :
http://www. aleqt. com/201011/05//article_391226. Htm
(3) ينظر: الإعجاز العلمي في التخطيط الإسراتيجي وإعداد الموازنات، د. خلف عبد الله الوردات، 1/ 5/ 2012 موقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة،
http://quran-m. com/quran/article
(4)بحث: أبعاد اقتصادية في قصة النبي يوسف(عليه السلام) في ضوء القران الكريم. فيان صالح علي، مجلة كلية العلوم الإسلامية، المجلد ) 7(، 1434 ه، 2013 م: ) 9( وما بعدها. بتصرف.
(5) ينظر: مقال: يوسف العبقرية الاقتصادية. . دروس مستفادة، فهد بن عبد الله القاسم – صحيفة: الاقتصادية الثلاثاء 11 مايو 2010 :
http://www. aleqt. com/201011/05//article_391226. Html
المصدر: قسم من مقالة بعنوان: الابتكار في الاقتصاد الإسلامي؛ روح التطور الاقتصادي، وضمانة الاستقرار العالمي