الدكتور أحمد مبلغي

إشكاليات العلوم الإسلامية ودورها في إنتاج العنف.. الشيخ أحمد مبلغي

ما السبب الكامن وراء مشكلة العنف في المجتمع الاسلامي؟ و في الجواب يمكن طرح عدة عوامل سببت وقوع هذا العنف، لعل اهمها وجود “الاشكالية في العلوم الاسلامية”؛ بمعنى ان العنف مسبب الى حد كبير عن الاشكالية الموجودة في العلوم.

الاجتهاد: (قد شاركت في ندوة “العلوم الاسلامية وسبل التأصيل العلمي لمكافحة التطرف” في بغداد، التي اقامها كلية الآداب في جامعة بغداد، وقد ألقيت كلمة في احدى جلساتها العلمية. وفيما يلي الجزء الاول من تلك الكلمة مع تعديل اجريته عليها]

لا شك ان الأمة الاسلامية ابتليت الآن بمشكلة العنف وقد استولى هذا العنف على جزء مهم من علاقاتها بعضها مع البعض؛ مما سبب خوفا جديا في أن تتوسع دائرته وتشتد لهيبه.

وهناك سؤال امامنا، ما السبب الكامن وراء مشكلة العنف في المجتمع الاسلامي؟

وفي الجواب يمكن طرح عدة عوامل سببت وقوع هذا العنف، لعل اهمها وجود “الاشكالية في العلوم الاسلامية”؛ بمعنى ان العنف مسبب الى حد كبير عن الاشكالية الموجودة في العلوم.

هناك نوعان من الاشكالية في العلوم الاسلامية، وهما:

الاشكالية الاولى: امتلاك المنهج لما هو الخاطئ:

والمقصود به وجود أو تغلغل عناصر خاطئة أو غير منقحة في منهجة العلم الديني؛ فاذا امتلكت منهجة لعلم ديني ما على مثل هذه العناصر فبالامكان ان نعبر عنه بامتلاك المنهج لعنصر خاطيء. وهذه الاشكالية رغم أهميتها ودورها في انتاج العنف فإنها ليست محلا للبحث والعرض هنا، وطرحها بحاجة الى فرصة اخرى.

الاشكالية الثانية: النقص المنهجي:

من جملة المشاكل التي تعاني منها علومنا، مشكلة وجود “النقص المنهجي” في هذه العلوم. وبصدد توضيح خطورة وأبعاد هذه المشكلة اقول: لا ينبغي أن يتصور ان وجود النقص في مناهج العلوم الاسلامية، يترك أثرا سلبيا ضئيلا، بل بالعكس قد يستتبع نتائج خطرة جدا؛

وهذا يتضح عبر مقدمات ثلاثة:

المقدمة الاولى: ان النقص في المنهج يجعل الشخص الذي يستخدمه ويستغله في سبيل فهم الدين، ان لا ينجح في مهمته، بل يصبح عرضة -كثيرا ما- للانحراف الجدي في فهم الدين وشريعته، فيصل الى أفكار مغلوطة بعنوان الدين.

المقدمة الثانية: ان الافكار المغلوطة التي يصل اليها الانسان بعنوان الدين -كنتيجة لنقص منهجه الذي استخدمه في فهم الدين- تكون في الكثير من الاحيان افكار افراطية وتطرفية.

المقدمة الثالثة: ان الافكار الافراطية والتطرفية تنتج العنف في ارض الواقع.

النتيجة: ان النقص المنهجي يؤدي الى العنف على مستوى العلاقات بين أبناء المجتمع.

النقطة الثانية: من اقسام النقص المنهجي، غياب الأفكار الاساسية في منهجة الفقه:

إن العلوم الإسلامية تشبه البناية المشيدة بحيث تحتاج إلى أساس رصين، وهذا الأساس لتلك العلوم هو المباديء الفكرية التي ما إن تغيب أو تكون غير دقيقة، فسوف تواجه العلوم الإسلامية مشاكل جمة، وهذه المشاكل عندما تحصل في العلوم تصنع من هذه العلوم ما يسبب حدوث مشاكل متعددة للمجتمع.
وغياب هذه الافكار الأساسية -التي تعمل كبنى تحتية للعلوم الاسلامية- يعد من أبرز أقسام النقص المنهجي.
ولتوضيح أكثر، أقول: لا شك في أنّ العلوم الإسلامية قد شيدت على أسس متينة وهامة، ولكن في الوقت نفسه قد تغيب بعض الأفكار المهمة التي يجب اعتبارها كأرضيات تصب العلوم الاسلامية فيها، وهذه الافكار تؤثر في تكوين التوجهات الفعالة لهذه العلوم، سيما علم الفقه؛ بل سوف يترك هذا الغياب آثارا سلبية كبيرة على مسار العلوم -بما فيها الفقه- وأداءاتها.

النقطة الثالثة: المباديء الكلامية الغائبة في منهجية الفقه؛ نماذج ثلاثة:

هناك ثلاثة أفكار كبرى وشاملة أدى غيابها عن الكثيرين إلى بروز إشكالات في طريق ازدهار الفقه، بل أدى الى جعل الفقه عند فئات عاملا للعنف الاجتماعي. وهذه الأفكار -التي تتسم بطابع كونها ركائز أساسية للفقه- هي:
1- أخلاقية الشريعة.
2- أممية الشريعة (فكرة ابتناء الشريعة على رعاية حقيقة “جعل الناس أمميا”).
3- جمالية الشريعة.

وفيما يلي توضيح لهذه الثلاثة:

مبدء أخلاقية الشريعة:
لا شك ان الدين أخلاقي؛ بمقتضى قول النبي (ص): “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَکَارِمَ الْأَخْلَاقِ”، كما لا شك أنّ الدين إن كان أخلاقياً فستكون شريعته أخلاقية أيضاً؛ ذلك أنّ الشريعة مرتبطة بالدين وتابعة له؛ فهل يُعقل أن يكون الدين أخلاقياً ولا تكون تابعتها (الشريعة) كذلك بل تبقى بعيدة عن الأخلاق وهي تحتل مساحة واسعة منه؟ وهذا أحد المباديء الكلامية التي ينبغي بحثها قبل الولوج إلى الفقه والاعتراف بها.

والسؤال الذي يطرح نفسه حول الفقه هل إنتاجه -الذي يجري في دهاليز الأمة وتُطلق الفتاوى على أساسه- أخلاقي أم لا؟ أليس قد تحولت الكثير من الفتاوى الصادرة في أجواء الأمة الإسلامية إلى منشأ للتفرقة والتناحر بين مكونات تلكم الأمة، وأضحت من أكبر عوامل اللاأخلاقيات في عالمنا المعاصر الحقيقة ان المشكلة تتمثل بمعاناة المنظومة الفقهية من نقص جذري في المبنى، وهو فقدان النظرة الاخلاقية الى اتجاهات وتوجهات الدين

بعبارة أخرى يمكن أن يقال: يستفاد من وضع الفتاوى أنّ علم الفقه لدى هؤلاء وفيما يرتبط بالأمة الإسلامية لم يستند إلى المنظومة الأخلاقية وإلى بناء الشريعة عليها، وإلا لما اتجهت الفتاوى صوب القتل والتصارع بين أبناء الأمة الواحدة. وإن أردنا إيضاح هذه الحقيقة فما علينا إلا الإشارة إلى كلام الامام علي بن أبي طالب (ع) حينما أوصى بالتعصب لإعظام القتل، بمعنى عدم التساهل فيه وعدم التعامل معه بشكل سطحي والنظر له على أنّه أمر تافه؛ بل لا بد من السعي إلى اجتنابه والإصرار على تركه والابتعاد عنه، ومن هنا يظهر أنّ أغلب الفتاوى الصادرة في عصرنا الحالي لا تقوم على أساس عنصر إعظام القتل والعمل على اجتنابه وتركه. ومن الطبيعي أن يكون مآل الفقه المفتقر إلى هذا الأساس الأخلاقي والفطري (أي إعظام القتل) هو العنف والتطرف في الأمة

أوَ يمكن اعتبار مثل هذه الفتاوى صادرة عن الشريعة الأخلاقية للإسلام وممثلة له، وإن كانت هذه الاتجاهات تطلق على نفسها اسم الشريعة؟

مبدء أممية الشريعة:
والمقصود ان الشريعة بنيت على رعاية حقيقة كونية وهي: “جعل الله الناس أمميا” :
يتضح ذلك عبر نقاط:
الاعتقاد بكون الناس أمميا يكون داخلا في القضايا الكلامية:

انه من الواضح ان الناس قسموا وانتشروا بصورة اممية، الا اننا اذا اعتقدنا بذلك من منطلق الدين وبعنوان أن هذه الاممية تمت بجعل من الله، فهو حينئذ يلبس لباس الكلام ويكون داخلا في عداد القضايا الكلامية ولا يكون داخلا في القضايا الفقهية. وببيان آخر هناك فعل إلهي يتمثل بالجعل بالنسبة إلى البشرية كلها: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).)، واذا كان هذا جعلا فهو فعل لله واذا كان فعلا لله فالاعتقاد به يندرج في عداد القضايا الكلامية.

هذه الفكرة الاعتقادية (جعل الله الناس امميا) تلعب تجاه الشريعة (الفقه) دور أساسيا كمبدء كلامي:
انه يلزم التعامل مع هذه الفكرة كأساس رصين ومبدء كلامي للشريعة، بمعنى تبني أنه تم تنظيم الشريعة على أساس النظر الى هذه الفكرة ورعايتها.
وإلا لكان المعنى أنّ الله تعالى- والعياذ بالله- بنى نظامه التشريعي على أساس خلاف نظامه التكويني، وهو باطل.

المقصود من تنظيم الشريعة على أساس فكرة الاممية:
فكرة الأممية تنحل في الحقيقة الى شقين:

الشق الأول: جعل الناس شعوبا وامما:
وهذا مستفاد من:
• قوله تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.
• قوله تعالي: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم”.

الشق الثاني: جعل الله اتباع محمد (ص) أمة واحدة:
وذلك مستفاد من:
• قوله تعالي: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم”.
• قوله تعالى: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة”.

وهذان الشقان قد روعيا بشكل عميق في تنظيم الشريعة.

إنّ كثيراً من التنظيمات والجماعات الناشطة في العالم الإسلامي اليوم لم تضع فكرة الأمة الواحدة كأساس للفقه وقوام للعمل، فعمدت غالبية المجاميع الفقهية والفتوائية إلى تمزيق الأمة الواحدة بدلاً من العمل على لمّ شملها وتوحيد صفوفها.
تعتبر الأمة الواحدة الغائب الأكبر في مجموع العناصر التي تشكل المنهج الفقهي المعاصر، فلم تعد كثير من الفتاوى تراعي حرمة الأمة ولا تتقيد بوحدة الأمة ولوازم بقائها واستمرارها؛ بل على العكس من ذلك فتحت جميع أبواب القتل والصراع والمواجهة أمام المسلمين.

مبدء جمالية الشريعة:

إن كان الله تعالى جميل فدينه جميل أيضاً، وإن كان الباري يجب الجمال فقد جعل الدين مقوياً للجمال في الإنسان وغارساً لبذرته فيه.
إن الجمال يشكل قاعدة عريضة وركيزة أساسية للفقه تمنحه الجهة والمعنى والروح؛ بيد أنّ هذه الركيزة الهامة باتت الغائب الكبير في الرؤى المنتجة للمناهج الفقهية. ومن هنا تحول كثير من الفتاوى- عن علم أو جهل- إلى عامل لهدم روح الجمال في الإنسان والأجيال المختلفة.
من هذا المنطلق بامكاننا أن نقترب من المقصود من قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) فالذي نراه أنّ القرآن الكريم استعمل لهجة العتاب والاعتراض في هذه الآية ولكن لا مع الأفراد الاعتياديين بل خاطب بها من يتناول مكانة الإفتاء فيحرمون زينة الله في أرضه.

إنّ كثيراً من الآراء الفقهية في العالم الإسلامي التي تدفع الشريحة الشابة من المسلمين إلى الهروب من الدين تندرج في خانة هذه الزمرة التي عبّر عنها القرآن الكريم بمن يحرّم زينة الله التي أخرج لعباده.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky