استخراج-العملة-الرقمية-البيتكوين

استخراج العملة الرقمية (البيتكوين أنموذجاً) / تحليلٌ فقهيّ في نظام الاقتصاد الإسلامي

الاجتهاد: إن استخراج العُمْلة الافتراضية (البيتكوين)؛ بسبب أهدافها وآلياته الفنِّية والتقنية ـ بوصفها عاملاً مساعداً وداعماً لنظامٍ نَقْديّ يخرج فيه إيجاد النقود وقوّة سيادة النَّقْد عن سلطة وسيادة الحكومة الإسلاميّة ـ قد يؤدّي في النظرة العامة إلى استيلاء الأنظمة السلطوية على الحكومة الإسلامية، فلا يكون جائزاً من هذه الناحية./ يرى كُتّاب هذا المقال أن هذا الحكم لا يعني تجاهل مزايا العُمُلات الافتراضية، وأن يشتمل على نهيٍ شرعي دائم ومطلق عن ماهية استخراج جميع العُمُلات، بل إن قابلية تطابق الفقه مع المسائل المستَحْدَثة يأخذ بنا نحو هذا الموضوع، وهو أنه تَبَعاً لرفع هذه النواقص سوف يتغيَّر الحكم بما يتناسب مع تغيُّر ذلك الموضوع أيضاً.

بقلم: أ. محسن رضائي الصدرآبادي(*) – أ. جواد نوري(**) – د. حسين عيوضلو (***) – السيد عباس موسويان (****) – ترجمة: السيد حسن الهاشمي

مقدّمةٌ

في شهر فبراير من عام 2008م تمّ التعريف بالعُمْلة الرقميّة «البِيتْكُويْن»، وعرضها على المختصّين وعامّة الناس في جميع أرجاء المعمورة، وذلك في مقالةٍ كتبها مبرمجٌ ياباني، تحت اسم مستعار هو: «ساتوشي ناكاموتو»، وجاء فيها أن هذه العُمْلة الرقمية لا تحتاج في تداولها إلى مؤسّسات مالية قانونية، ولا تحتاج إلى أرشفةٍ للمعلومات، حيث يمكن للطرفين أن يتعاملا بها، دون أن يضطرّا إلى خوض مجالات التعريف بهويّتهما، وإحرازها لدى الجهات المعنية([1]).

ومع انتشار العملات الرقمية، وإقبال عموم الناس في العالم عليها، أخذت أنشطة كثير من الراغبين والمولعين بالعُمُلات الرقميّة، منذ عام 2009م إلى هذه اللحظة، تتَّجه إلى هذا المجال؛ بغية الحصول على الربح والمنافع، من طريق الحصول على هذه العُمْلة، واستخراجها.

وبغضّ الطَّرْف عن المشاكل البيئية المحتملة، والاستهلاك المفرط للطاقة الكهربائية ـ وهو أمرٌ يقرّ به الناشطون والمتخصِّصون في هذا المجال ـ، فإن السؤال الذي يحظى بأهمِّية بالغة من وجهة نظر الشخص المسلم، والنظام الاقتصادي القائم على الإسلام، هو السؤال القائل:

هل يحظى النشاط في مجال استخراج العملات (ذات القيمة المختَلَقة) ـ والحصول عليها في هذا الشأن، وكسب الأرباح بهذه الطريقة ـ بالتأييد والمقبولية من الناحية الشرعيّة؟ وبعبارةٍ أخرى: هل يُعَدّ الحصول على الأرباح بهذه الطريقة جائزاً من وجهة نظر الفقه والاقتصاد الإسلاميّ أم لا؟

وقد عمَدْنا في هذه المقالة ـ في سياق الإجابة عن هذا السؤال ـ أوّلاً ـ وبشكلٍ مختصر ـ إلى بيان آلية الاستخراج، وبروتوكول إجماع إثبات العمل. ثمّ تعرَّضنا بعد ذلك إلى تحليل هذا النشاط على المستوى الفقهي ـ الاقتصادي من جهتين، وهما: جهة الفقه الفردي؛ وجهة الفقه الحكومي.

ومن ناحية الفقه الفردي تمّ تحليل تطبيق هذا النشاط على عقودٍ فقهية، من قبيل: الجُعالة والمشاركة. ثمّ بحثنا بعد ذلك آثار هذا النشاط على النظام الاقتصادي، وعلى السيادة النَّقْدية للدولة من جهة الفقه الحكومي. وفي نهاية المطاف تمّ بيان الحكم الفقهيّ لهذه المسألة.

جذور التحقيق

هناك القليل من الدراسات والأبحاث المنجزة ـ في الخارج والداخل ـ في خصوص المسائل الفقهية حول العُمُلات الرقمية، مثل: البيتكوين. وكان أكثر هذه الدراسات يدور حول بيع وشراء وتبادل العُمُلات الرقمية. وفي ما يتعلَّق بالأرباح الناشئة عن الاستخراج، ومسائله الفقهية، لا توجد سوى دراسةٍ فقهية واحدة، تعرَّضَتْ لبحث هذه المسألة.

ومن الدراسات المتعلِّقة بمسألة التحقيق، والتي يمكنها أن تحظى بالاهتمام، ما يلي:

تعرَّض مفتي فراز آدم(2017م)، في مقالةٍ له بعنوان: «تحقيق بر روي پول وبيت كوين بر أساس قوانين إسلامي واقتصاد»([2])، إلى بحث هذا السؤال: هل البيتكوين مقبولٌ على أساس المعايير والقوانين الإسلامية، بوصفه عُمْلةً نَقْدية، أم لا؟ وقد توصَّل في معرض الجواب عن هذا السؤال إلى نتيجةٍ مفادها: يمكن اعتبار البيتكوين  في ضوء القوانين الإسلامية داخلاً ضمن العُمُلات النَّقْدية، ويمكن اعتباره عُمْلةً إسلامية بكلّ ما للكلمة من معنى([3]).

وقد تعرَّض أبو بكر(2018م) في بداية تحقيقه إلى المسار التكاملي للنقود، والوصول إلى القِيَم المشفَّرة، ثم تناول بعد ذلك ماليّة البيتكوين  من الزاوية الفقهية. وكانت النتيجة التي توصَّل إليها هي أن مالية البِيتْكُويْن تحظى بتأييد الإسلام، وأن الاستفادة منها حلالٌ ـ من وجهة نظره ـ، ولا إشكال فيها([4]).

وقد سعى سليماني پور ومساعدوه(1396هـ.ش)، في مقالته بعنوان: «بررسي فقهي پول مجازي»([5]) ـ في ضوء التعريف بماهية النقود الافتراضية، والتحليل الفقهي للنقود، وعلى أساس نظريّة القول باعتبارية مالية النقود ـ إلى بيان الأحكام الشرعية في خصوص النقود الافتراضية.

وقد أظهرَتْ نتائج دراسته أن الملاحظة الوحيدة في القبول بالنقود الافتراضية في النظام المالي الحالي تكمن في الدمج بين النظامين النَّقْديين الحقيقي والافتراضي.

وقد تعرَّض نواب پور(1397هـ.ش)، في أطروحته العلمية على مستوى الماجستير بعنوان: «تحليل فقهي كاركردهاي پول رمزنگاري شده (مورد مطالعه بيت كوين)»([6]) ـ وكذلك المقالة المستَخْرَجة منها (1397هـ.ش) ـ، إلى بحث الحكم الفقهي للاستفادة من النقود المشفَّرة، في ضوء الاستفادة من أسلوب التحقيق «الاجتهاد على عدّة مراحل».

وقد أظهرَتْ نتائج هذه الدراسة بشكلٍ عام أن الاستفادة من النقود المشفَّرة ـ بسبب تطابقها مع أصول المنع من الرِّبا وحرمة الظلم، وحفظ حقوق الملكيّة، والحرِّية في المعاملات ـ لها الأرجحيّة على النظام النَّقْدي الجاري، وأما الاستفادة بشكل خاصّ من أحد مصاديق النقود المشفَّرة، وهو المعروف باسم الـ «بِيتْكُويْن»، فهو؛ بسبب خصائصه الخاصّة، ليس جائزاً.

وفي أحدث الدراسات الراهنة، عمد خردمند(1398هـ.ش)، في مقالته ـ ومن خلال الاستفادة من المنهج التحليلي ـ، إلى تحليل مسار الاستخراج ومبادلة العملات الافتراضية من الناحية الفقهية.

وقد توصَّل بعد البحث والتحقيق في مختلف أقسام وفروع العقود والمعاملات على مستوى الفقه الفردي إلى نتيجةٍ مفادها: يمكن تفسير ملكية العُمُلات الافتراضية في إطار «السعي إلى فكّ الرموز وحيازة المكافأة المأخوذة من الشبكة».

كما توصَّل في باب التعامل بهذه النقود إلى النتيجة التالية: إن إمكانية مراعاة شرائط المتعاقدين، والعوضين، والإنشاء المعاطاتي للتمليك، موجودةٌ، وإن الإشكالات المطروحة حول التجارة الخاصّة بالعُمُلات المشفَّرة، ومنها: البيتكوين ، من قبيل: غسيل الأموال، وإيجاد الفقاعات المالية، واشتمال شرائها على الغَرَر والضَّرَر، لا يمكن أن تشكِّل مبنىً لعدم مشروعيّة الاتجار بالأموال المشفَّرة([7]).

وكما هو ملاحظٌ فإن أكثر التحقيقات الفقهية والإسلامية المُنْجَزة في خصوص العُمُلات الافتراضية قد تعرَّضت لبحث مبادلتها وبيعها وشرائها. ولم يتمّ تناول الأبحاث الفقهية لاستخراج العُمُلات ـ باستثناء مقالة خردمند ـ، وعلى مستوى الفقه الفردي.

ومن هنا فإن هذه الدراسة هي أوّل مقالةٍ علمية تبحث الأقسام المختلفة لاستخراج العُمُلات الافتراضية بشكلٍ تفصيلي، على مستويين: الفقه الفردي؛ والفقه الحكومي.

بيان الماهيّة الفنِّية ـ الاقتصاديّة للعُمُلات الافتراضيّة

للتعرُّف على العملات الافتراضية وآلياتها بشكلٍ جيّدٍ تجب الإشارة إلى الأبحاث الفنِّية لتطبيق وإجراء عُمْلة البيتكوين ، بوصفها العُمْلة الافتراضية والمشفَّرة الأولى، والعمل على توضيح مفاهيم، من قبيل: سلسلة الكُتَل، وبروتوكول الإجماع، وطريقة إيجاد العُمْلة الافتراضية:

سلسلة الكُتَل([8])

لقد عمد ساتوشي ناكاموتو ـ لحلّ مشكلة الإنفاق الثاني للنقود في شبكة النقل والانتقال النَّقْدي، وحذف الوسطاء ـ إلى برمجة وتصميم الشبكة النقطية على أساس سلسلة الكُتَل، حيت يتمّ فيها مشاركة جميع المعلومات الخاصّة بالنقل والانتقال بين جميع الحواسيب الناشطة في الشبكة، والموصولة بجميع أنحاء العالم، بحيث يتمّ تسجيل جميع جزئيّات وبيانات المعاملات في هذه الشبكة (بما في ذلك تاريخ إنجازها، وحجم الأموال المتبادلة، وما إلى ذلك)؛ بغية القضاء على جميع محاولات الغشّ والاحتيال والإنفاق المجدّد للنقود([9]).

ومن الجدير ذكرُه أن اتصال الكُتَل ببعضها يؤدّي إلى إيجاد تاريخ للمعاملات، بحيث يستحيل إحداث أيّ تغييرٍ أو حذفٍ لكلٍّ منها؛ لأن هذا الارتباط قد تمّ تشفيره، ولا يمكن لأيّ شخصٍ أن يتلاعب به، إلاّ إذا كان مالكاً لكمٍّ هائل من القدرة على معالجة المعلومات، ومحاسبتها([10]).

عندما يتمّ حلّ مسألةٍ رياضية خاصّة بإحدى الكُتَل فإن تلك الكتلة تتَّصل مع ما لها من التعريف بالإحالة بالكتلة السابقة لها، ويتَّصل ملصقٌ زمني برأس السلسلة، وهذا التصميم يؤدّي إلى إيجاد سلسلةٍ غير قابلة للاسترجاع.

بروتوكول الإجماع «إثبات العمل» والتوافق العامّ

إن التوافق العام على نحوٍ تامٍّ يعني مسار الاتفاق على الحالة النهائية للمعطيات (المعلومات) من قبل عُقَد([11]) النظام الذي تمّ توزيعه؛ بمعنى ذات الخوادم والمعالجات التي تثبت وتؤيِّد المعلومات. وكما تقدّم فإن التوصُّل إلى مثل هذا الاتفاق بين عقدتين أمرٌ بسيط وممكن.

وأما مع وجود الكثير من العُقَد المتعدّدة التي يجب أن تصل إلى الإجماع حول المعلومات الواحدة فسوف تصبح هذه المسألة أكثر تعقيداً. وقد عمد ساتوشي ناكاموتو إلى حلّ هذه المعضلة من خلال تصميمه لـ «بروتوكول إجماع إثبات العمل»([12])، بواسطة الدمج بين الرياضيات والبرامج المرنة والبرمجة والبرامج الصلبة. إن بروتوكول التوافق على «إثبات العمل» طريقةٌ تساعد على تأييد المعلومات المثبتة داخل سلسلة كُتَل البيتكوين ([13]).

إن آلية وطريقة إثبات العمل تفرض على حواسيب الشبكة ـ قبل أن تعمل على تأييد اعتبار الكتلة الخاصة من المعلومات ـ حلّ مسألة رياضية وحسابية عارضة ومعقَّدة([14]). ومن ناحيةٍ أخرى يتمّ إهداء الرموز الجديدة للبيتكوين ([15]) مكافأةً من قِبَل الشبكة لأوّل مستخدمٍ يتمكّن من حلّ المسألة المرتبطة بكلّ كتلةٍ جديدة؛ أي إن خلق البيتكوين في هذه المنظومة يتمّ بشكل أوتوماتيكي ومبرمج.

ومن الجدير ذكره أن مسار المشاركة في الشبكة، والتعاون على تثبيت وتأييد المعلومات، والحصول على الجائزة التي هي ذات الرموز المجعولة والمعتبرة للبيتكوين، قد اصطلح عليها عنوان «الاستخراج»، والمكافأة التي يتمّ إهداؤها بإزاء هذا المسار ـ بسبب إهداء القدرة الحسابية ـ في شبكة البيتكوين. إن هذا المسار يزيد من نسبة أمان هذه الشبكة، بالإضافة إلى تطويرها.

ومن الجدير ذكره أيضاً أنه بعد إبداع البيتكوين، والازدهار المتزايد لهذه العُمْلة، أخذ الكثير من الناس يتَّجهون إلى نظام الكُتَل المتسلسلة وبرمجة سائر العُمُلات الافتراضية والرقمية، بحيث أخذنا نشهد، بعد البيتكوين، ظهور عُمُلاتٍ افتراضية أخرى مع سلسلة كُتَل وآليات مختلفة تمّ إبداعها بواسطة المتخصِّصين. كما حصلت تطوُّرات في مجال الكتل المتسلسلة والاستعمالات الأخرى طوال العقد المنصرم، مما لا مجال لذكره في هذه العُجالة.

والآن، بعد بيان الآلية الفنية لطريقة تأييد واستخراج العُمُلات الافتراضية، ننتقل إلى تحليلها ودراستها على المستوى الفقهي ـ الاقتصادي:

التحليل الفقهيّ ـ الاقتصاديّ لاستخراج العملات الافتراضية

في ما يتعلَّق ببيان طريقة تحليل ماهية استخراج العُمُلات الافتراضية يجب القول: إن الفقه؛ بالنظر إلى ظرفية إدارة المجتمع، يجب أن يتعاطى مع الأمور والقضايا المستَحْدَثة بحيث لا يتمّ حرمان المجتمع من المزايا المترتِّبة على هذه الماهية، في إطار رعاية الأبعاد الشرعية. وإن الذي يجب أخذه بنظر الاعتبار هو أن بعض التعابير ـ التي هي من قبيل: الفقه النظري، وفقه الأنظمة، المشار إليها من قِبَل بعض المحقِّقين ـ إنما يُشير إلى هذا المعنى، وهو أن الفقه يحتوي على هذه الظرفية التي تجعله قادراً على إدارة المجتمع، بالإضافة إلى تنظيم العلاقات الفردية. وقد تمَّت الغفلة عن هذا البُعْد من الفقه إلى هذه اللحظة.

وبعبارةٍ أخرى: إن الانتقالَ من النظام الاقتصادي الفعلي والناظر إلى الوضع القائم إلى المذهب الاقتصادي، من خلال الاستعانة بالفقه المنظّم، أمرٌ ممكنٌ، والسبيل الوحيد إلى تحقيق هذه الغاية يكمن في تطبيق جميع القضايا الجزئية في كلّ واحد من هذه الأنظمة ـ (النظام الاقتصادي مثلاً) ـ على غايات المذاهب السياسية والاجتماعية الإسلامية، بالإضافة إلى التطبيق مع أهداف المذهب الاقتصادي؛ تحصيلاً للغاية النهائية المتمثِّلة بالوصول إلى النموذج الإسلامي في إدراة المجتمع.

وفي ما يتعلَّق بموضوع التحليل الفقهي للعُمُلات الافتراضية يجب الالتفات إلى بُعْدَيْن من أبعاد الفقه، وهما: بُعْد المعاملات (الفقه الفردي)، وبُعْد الفقه الحكومي (فقه الأنظمة). وعليه ففي كلّ موضوعٍ اقتصادي يجب النظر ـ بالإضافة إلى التأثير الفردي ـ إلى الأثر الاقتصادي والاجتماعي العامّ لهذه المسألة أيضاً.

وهذا يعني الرؤية الجامعة والشاملة للموضوعات والمسائل الاقتصادية؛ لكي تتحقَّق الغاية من إيجاد النظام الاقتصادي على أساس أهداف المذهب الاقتصادي. في ضوء ما تقدَّم يجب أن نعمل ـ في البحث الفقهي لماهية الاستخراج ـ أوّلاً على تحليل نوع الارتباط بين الناشرين لهذه العُمُلات وبين المستخرجين لها، لننتقل بعد ذلك إلى بحث نوع الارتباط القائم بين الأفراد المستخرجين.

ولهذه الغاية لا بُدَّ من الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنه من خلال البحث والتأمُّل الدقيق في ماهية الاستخراج يتَّضح أن الناشرين لهذه العُمُلات إنما يتقاضون غايتهم من خلال طلب عامّ يوجِّهونه إلى المجتمع، وهو أنه من خلال القيام بعملية الاستخراج، الذي يشكِّل المبنى لخلق وإيجاد هذه العُمُلات، يعملون ـ بالإضافة إلى الزيادة العَدَدية لهذا النوع من العُمُلات ـ على تحوُّلهم إلى قوام هيكل وبنية تلك العُمْلة (من قبيل: البيتكوين وسائر العُمُلات الأخرى)، وفي المقابل يحصلون على المكافأة التي هي من جنس ذات العُمُلات.

لا بُدَّ من الالتفات إلى هذه المسألة، وهي أن إيجاد هذه العُمُلات سوف يستوجب بدَوْره الإقبال العامّ من قِبَل الناس على العُمْلة مورد الاستخراج أيضاً. ونتيجةً لذلك فإن البحث الفقهي في مورد هذه العُمُلات ـ بالإضافة إلى تحليل العلاقة الحقوقية بين اللاعبين في هذا المجال ـ يجب أن يتناول تأثير الاستخراج وانتشار هذا النوع من العُمُلات على الاقتصاد العامّ، وهيمنته على أسواق المعاملات التجارية أيضاً.

ونتيجةً لذلك فإن المخترعين لهذه العُمُلات إنما يعملون في الواقع على إيجاد إيجاب (إنشاء) عامّ، بهذا المضمون، وهو: إن كلّ شخص يؤيِّد المعلومات ذات الصلة بعمليّةٍ ما سوف يحصل على حقّ العمل في مقابل وحدة من العُمْلة المستَخْرَجة.

وعندما يقوم الشخص من خلال مقدّمات البرمجيات المرنة والبرمجيات الصُلبة بعمليات الاستخراج يكون في الواقع قد قَبِلَ بذلك الإيجاب العامّ، وعندما يقوم المستَخْرِج بتأييد عمليةٍ ما يُصبح مستحقّاً للحصول على حقّ العمل.

وفي ما يلي نشير إلى بعض النقاط الهامّة:

أوّلاً: إن ماهية استخراج العين، على الرغم من تعقيدها وصعوبتها، تقوم على أساسٍ من المنطق الرياضي والعلوم الأخرى، وإن تعقيد هذه الماهية لا يعني مجهوليّة أو غموض وإبهام عمليّات الاستخراج، الذي هو موضوع بحثنا في هذه المقالة، بل إن جهاتها وأبعادها وكيفياتها واضحة ومعلومة من قِبَل أهل الفنّ والاختصاص بشكلٍ كامل، وإنْ كانت الكيفية الدقيقة لهذه العمليات غيرَ واضحةٍ بالنسبة إلى الأشخاص المستَخْرِجين.

ثانياً: إن حقّ العمل المخصَّص لاستخراج هذه العُمُلات هو وحدة من ذات هذه العُمُلات. وبالتالي لو قلنا بالغموض والإبهام في مالية هذه العُمُلات، فإننا؛ بسبب عدم تشخيص ماليّة هذه العُمُلات بشكلٍ تفصيلي، سوف نواجه ماهيّةً إجمالية من حيث المالية بالنسبة إلى حقّ العمل أيضاً.

ثالثاً: من الممكن أن يكون إيجاب الخطاب صادراً إلى شخص معيّن أو إلى عامّة الناس. وفي الإيجاب العامّ تستوجب الإرادة الإنشائية إعلان الخطاب إلى جميع الناس، ويكون كلّ شخص ـ في مثل هذه الحالة ـ قادراً على قبول ذلك الإيجاب([16]).

وقد عمد الفقهاء بدَوْرهم إلى القبول بالإيجاب العامّ في الجعالة أيضاً([17])، الأمر الذي يمكن من خلاله استنباط صحّة الإيجاب العامّ بالنظر إلى وجود الكثير من المعاملات في عصرنا الحاضر التي تقوم على الإيجاب العامّ، ولم يَرِدْ رَدْعٌ عنها أو إشكالٌ عليها من قِبَل الفقهاء المعاصرين، من قبيل: الشراء والبيع عبر الإنترنت والشبكة العنكبوتية.

وفي ما يلي سوف نتناول بالبحث استخراج العُمُلات الافتراضية على المستوى الجزئي في الفقه الفردي، ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى بيان وتحليل هذه المسألة على المستوى الكلّي الاقتصادي في الفقه الحكومي.

تحليل الاستخراج في الفقه الفرديّ

1ـ الشركة المساهمة والشركة المدنيّة

قد يُقال في بيان الماهيّة العقدية للاستخراج وهذه العُمُلات: إن البيتكوين بمنزلة الشركة المساهمة، وإن المعدِّنين([18]) بمثابة المساهمين. ونعتبر المستند الفقهي في ذلك عقد الشركة.

ولكنْ يبدو أن هذا القول يواجه إشكالاً من عدّة جهاتٍ:

إن الشركة التجارية: «عقدٌ بين شخصين أو عددٍ من الأشخاص، وبناءً على هذا العقد يأتي كلّ واحد من الشركاء برأس ماله إلى الشركة، بحيث تنحلّ ملكية كلّ واحد من الشركاء بنسبة مقدار رأس ماله، ويصبح مجموع رأس المال ملكاً لشخصٍ حقوقي (هو الشركة)، ويتمّ توزيع الربح والخسارة بحَسَب النسبة التي يتَّفق عليها الشركاء فيما بينهم»([19]).

بالنظر إلى هذا التعريف وسائر التعاريف الأخرى يمكن التوصّل إلى أن تبديل الممتلكات من ملكية الأشخاص الحقيقيين [الشركاء] إلى ملكيّة الشخصية الحقوقية (الشركة) موضع اتفاقٍ في تعاريف الشركة التجارية؛ حيث يمكن التعبير عن هذه الخصوصية بوصفها الركن الأصليّ في تأسيس الشركة التجارية.

وفي مقام تطبيق تعريف الشركة التجارية على الشركة المساهمة ـ التي تقدَّمت الإشارة إليها في بداية البحث ـ يجب القول أوّلاً:

إن المستخرجين ـ الذين يتمّ التعبير عنهم بوصفهم مساهمين في هذه الشركة ـ لم يقدِّموا في بداية الأمر أيّ شيءٍ ـ سواء أكان هذا الشيء نَقْدياً أو غير نَقْدي ـ إلى هذه الشركة الافتراضية، بل كلّ ما يقومون به لا يعدو أن يكون مجرَّد نشاطٍ منهم لغرض إيجاد العُمْلة المشفَّرة، من قبيل: البيتكوين؛ فإن تحقّق الهدف ـ بمعنى تأييد العمليات المنجزة ـ تدخل وحدة من هذه العُمُلات في ملكية المستَخْرِج.

وثانياً: عندما تدخل وحدة من هذه العُمُلات في ملكية المستَخْرِج، بوصفها مكافأةً له أو حقّاً في العمل، فإنه يدخل في حقيبة المستَخْرِج، ولا يعود لسائر المستَخْرِجين حقّ في التصرُّف في حقيبة النقود هذه.

وثالثاً: إن الشركة المساهمة شركة تجارية، وليست مدنية. ومن هنا فإن الاستناد إلى الشركة المدنية بوصفها عقداً معيّناً في القانون المدني، وكذلك الاستناد إلى المادّة العاشرة من هذا القانون، لا وجه له؛ لأن الشركة المدنية بحَسَب تعريف الفقهاء عبارةٌ عن: «اجتماع حقوق المُلاّك في الشيء الواحد على سبيل الإشاعة»([20]).

وجاء في المادّة رقم (571) من القانون المدني تعريف هذا النوع من الشركة على النحو التالي: «اجتماع حقوق الملكية المتعدِّدة في شيءٍ واحد على نحو الإشاعة».

وبالنظر إلى التعاريف التي تقدَّم بيانها تكون الإشاعة أثراً لعقد الشركة، ويكون المُلاّك المتعدِّدون متدخلين في موضوع الشركة عن طريق الإشاعة، وإن الاختلاف الرئيس بين الشركة المدنية والشركة التجارية يكمن في إيجاد الشخصية الحقوقية في الشركة التجارية، بخلاف ما عليه الحال في الشركة المدنية.

ونتيجةً لذلك لا تحدث ملكية للشركة الافتراضية (الشركة المساهمة البيتكوين على سبيل المثال). وحيث لا تتحقَّق مثل هذه الملكية لا تحدث شركة مساهمة بالمعنى الحقيقي والواقعي لها. وبسبب عدم إشاعة حقوق المستَخْرِجين في مقدار معيّن من العُمْلة القابلة للاستخراج لن يكون تطبيقها على الشركة التجارية والمدنية أمراً مقبولاً.

2ـ حيازة المباحات

من بين الافتراضات المذكورة لبيان ماهية الاستخراج حيازة المباحات. ببيان أن العُمُلات غير المستَخْرَجة؛ بوصفها أموالاً لها قابلية التملُّك بالقوّة، وليس لها مالكٌ خاصّ، يتمّ امتلاكها من قِبَل المستَخْرِجين بواسطة عملية الاستخراج.

ولكي نحلِّل هذا الموضوع سوف نعمل في بداية الأمر على التعريف الفقهي والحقوقي لحيازة المباحات، وبيان أركانها وشرائطها، ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى بيان تطبيقها مع الفرض المذكور آنفاً:

قيل في بيان حيازة المباحات [ما مضمونه]: «إن المراد من المباحات (أو المباحات العامّة أو المباحات الأصليّة) ـ التي تُعَدّ قسماً من المشتركات ـ هي الثروات الطبيعية التي ليس لها مالكٌ خاصّ، ويشترك عامّة الناس في حقّ الاستفادة منها. لا يوجد أيّ مانعٍ شرعي من استثمارها أو امتلاكها بالشكل المتعارف، من قبيل: الأموال الضائعة، والمياه، والتُّرَع، والأشجار، وصيد البرّ والبحر، وما إلى ذلك»([21]).

وكذلك جاء في المادّة رقم (146) من القانون المدني في تعريف حيازة المباحات: «حيازة التصرُّف ووضع اليد، أو إعداد أدوات التصرُّف والاستيلاء».

يجب القول: إن وضع اليد والاستيلاء فرع وجود المال بالفعل، الذي يكون موضوع الحيازة. وبعبارةٍ أخرى: إن حيازة المباحات تملُّكٌ للأموال الحرّة والمباحة (التي ليس لها مالكٌ)([22]).

وعليه فإن قبل التملُّك يجب أن يكون المال موجوداً بالفعل، ومن دون وجوده بالفعل لا تتحقَّق حيازةٌ في البين؛ لأن الركن المادي للحيازة، وهو التصرُّف ووضع اليد أو الاستيلاء على المال، إنما يتحقَّق من خلال إمكان التصرُّف والانتفاع وإعداد أدوات التصرُّف والاستيلاء.

في حين أنه بالنسبة إلى العُمُلات الافتراضية القابلة للاستخراج يجب القول: حتّى ما قبل الاستخراج ليس هناك وجودٌ لأيّ عُمْلةٍ. وبعبارةٍ أخرى: إن الاستخراج علّةُ خَلْق وإيجاد القِيَم القابلة للاستخراج، وحتّى ما قبل الاستخراج ليس هناك وجود للعُمْلة، ويكون التصرُّف والانتفاع منتفياً بالتَّبَع. وعلى هذا الأساس فإن تطبيق ماهية الاستخراج على حيازة المباحات يكون منتفياً تخصُّصاً.

3ـ الجُعالة

الاحتمالُ الآخر المذكور في ماهية عمليات الاستخراج عقدُ الجُعالة.

وقد قال الفقهاء في بيان تعريف عقد الجُعالة: «صيغةٌ ثمرتها تحصيل المنفعة بعِوَضٍ، مع عدم اشتراط العلم فيهما؛ أي في العمل والعوض، ويجوز على كلّ عمل محلَّل مقصود، ولا يفتقر إلى قبولٍ لفظي، بل يكفي فعل مقتضي الاستدعاء به، ولا إلى مخاطبة شخصٍ معيّن»([23]).

وقال الإمام الخميني، في تحرير الوسيلة، في تعريف الجُعالة: «هي الالتزام بعِوَضٍ معلوم على عمل محلَّل مقصود، أو هي إنشاء الالتزام به، أو جعل عِوَضٍ معلوم على عمل كذلك، والأمر سهلٌ، ويقال للملتزم: الجاعل، ولمَنْ يعمل ذلك العمل: العامل، وللعِوَض الجُعْل والجعلية.

ويفتقر إلى الإيجاب، وهو كلّ لفظٍ أفاد ذلك الالتزام. وهو [أي الإيجاب] إما عامّ، كما إذا قال: «مَنْ رَدَّ دابّتي أو خاط ثوبي أو بنى حائطي ـ مثلاً ـ فله كذا»؛ وإما خاصّ، كما إذا قال لشخصٍ: إنْ ردَدْتَ دابتي ـ مثلاً ـ فلك كذا». ولا يفتقر إلى قبولٍ، حتّى في الخاص»([24]).

بالنظر إلى هذه التعاريف يمكن بيان بعض النقاط حول مفهوم الجُعالة:

في الجُعالة لا يكون توجيه الخطاب إلى شخص بعينه ملاكاً في الصحّة، بل يكفي توجيه الخطاب إلى الأفراد غير المعيَّنين أيضاً، حيث يتمّ في الواقع إيجاب الجاعل على نحوٍ عامّ. وكلُّ شخصٍ يتقدَّم الآخرين في القيام بالعمل سوف يكون مستحقّاً للجُعْل (حقّ العمل).

إن الجُعالة لا تحتاج إلى قبولٍ لفظي، وبمجرّد القيام بالعمل ـ الذي هو موضوع الجُعالة ـ يكون القبول متحقِّقاً.

طبقاً لكلام الشهيد الثاني لا تجب معلوميّة الأجرة في الجُعالة من جميع الجهات، وهذا ما ورد التصريح به في المادّة 563 من القانون المدني أيضاً.

في الجُعالة، كما لا تُشترط معلومية الجُعْل من جميع الجهات، كذلك من الممكن أن تكون كيفيّات عمل موضوع الجُعالة مردَّدةً ومشتملةً على إجمالٍ.

إن العامل ـ طبقاً للمادّة رقم (567) من القانون المدني ـ إنما يستحق الجُعْل إذا سلّم متعلّق الجُعالة أو قام به.

إن موضوع الجُعالة هو كلّ عملٍ يكون من الناحية العقلائية مشتملاً على منفعةٍ محلَّلةٍ ومشروعة. وقد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في المادّة رقم (570) من القانون المدني بالقول: إن الجُعالة على العمل غير المشروع أو على العمل غير العقلائي باطلة. وهي بحَسَب المعنى متطابقةٌ مع كلام الشهيد الثاني.

والآن، بعد الالتفات إلى بيان أبعاد ماهية الجُعالة، يجب القول: يوجد إيجابٌ عامّ من قِبَل المخترعين للعُمُلات الافتراضيّة ـ من قبيل: البيتكوين ـ، وهو قائمٌ على أخذ مكافأة (حقّ العمل) بإزاء الاستخراج. كما أن الاستخراج عبارةٌ عن عمليات ذات جهات فنّية معقَّدة.

إن أكثر الأشخاص الذين يقومون بعملية الاستخراج لا يمتلكون معلوماتٍ كاملةً في ما يتعلَّق بالجزئيات والتفاصيل، وليس لديهم سوى علمٍ إجمالي عن كلِّيات المسألة، إلاّ أن جزئيّات هذه العمليّة قد تمّ وضعها على أساسٍ من المنطق العقلائي، والرضا من قِبَل الأطراف، وتكون معلومةً عند أهل الفنّ نوعاً ما ومشخَّصة.

وليس للمستَخْرِجين سوى العلم بنتيجة الاستخراج، الذي يعني خلق العُمْلة الافتراضية، والحصول على المكافأة بإزاء هذه العملية. وفي الواقع فإنهم من خلال القيام بعملية الاستخراج يكونون في الواقع قد قبلوا بطلب إيجاب المخترعين.

وحلّ المسألة هو أن إيجاد البِيتْكُويْن ـ الذي يتمّ من طريق الاستخراج ـ أمرٌ اعتباري، وإن الأطراف الحقيقية لهذا الاعتبار؛ حيث تكون هذه العُمُلات مستَحْدَثة، لا يتمّ تشخيصها بشكلٍ كامل. وفي البيان الإجماليّ في مورد ماهية هذه العُمُلات من الناحية المالية والقيمة يجب القول: في ما يتعلَّق بقيمة مبادلةٍ ما إما أن يتمّ تعيينها على أساس أمرٍ واقعيّ؛ أو يتمّ اعتبارها على أساس موضوعٍ معيّن.

وبالنظر إلى أن العُمُلات المشفّرة أمرٌ اعتباري تكون مسألة الاعتباريات وجذورها حائزةً للأهمِّية. وفي باب الاعتباريات يمكن القول: إن الاعتباريات والانتزاعيات تطلق على الأمور المتوقفة على وجود المعتبرين، من قبيل: الكلية، والجزئية، والشيئية.

من الممكن أن يكون للاعتباريات منشأُ انتزاعٍ في الخارج، وقد لا يكون لها منشأُ انتزاعٍ في الخارج، وتكون من صنع الذهن الفعّال للإنسان فقط.

وفي هذا الشأن ذهب الشهيد مطهَّري إلى تقسيم استعمال المفاهيم الاعتبارية في مختلف العلوم إلى قسمين، وهما:

أـ العلوم الاجتماعية: عندما يُقال في هذه العلوم: إن القوانين عبارةٌ عن سلسلة من الأمور الاعتبارية، أو يقال: إن الملكية أمرٌ اعتباري، فهذا يعني أن هذه الأمور عبارةٌ عن سلسلة من الأمور الاعتبارية. ولا مندوحة للإنسان في حياته الاجتماعية من بعض العقود والاعتبارات، وهذه الاعتبارات من صنع يد الناس أنفسهم.

ب ـ في الاصطلاح الفلسفي: يذهب الفلاسفة إلى الاعتقاد بأن هناك نوعين من المفاهيم التي تعرض على ذهن الإنسان، وهما:

أوّلاً: المفاهيم الموجودة في الخارج بشكلٍ مباشر. إن هذه المفاهيم تُؤخَذ من الأمثلة الخارجية، وتعرض على الذهن.

وثانياً: المفاهيم التي لا وجود لها في الخارج، ويتمّ انتزاعها من مفاهيم أخرى موجودة في الخارج. إن هذه المفاهيم تصدق في الأشياء الخارجية، بَيْدَ أن المفهوم الموجود بشأنها لا يصدق، من قبيل: مفهوم الإمكان.

إن العلوم الاعتبارية، على الرغم من امتلاكها لموقعٍ قيِّم، إلاّ أنه لا يمكن إثباتها بالبراهين العقلية. إن العنصر الأهمّ في هذه العلوم هو كيفية اعتبار المعتَبِر؛ حيث يُحدّد للمخاطبين محتوى ما يمتلكونه. وإن تحديد الاعتباريات في كلّ علمٍ يجعل الإنسان قادراً على امتلاك تصوُّرٍ صحيحٍ عن ذلك العلم([25]).

والآن، يمكن القول: في باب صحّة المعاملات يجب أن تكون للعوضين منفعةٌ عقلائية معتبرة، بشرط أن لا يَرِدَ فيهما منعٌ شرعي؛ لأن الشارع قد ألغى الآثار المالية لبعض الأشياء التي يقيم العقلاء عليها معاملةً مالية؛ بمعنى أنها ليست مالاً حكماً، لا أن الشارع قد ألغى ماليّة بعض الأشياء بشكلٍ كامل.

وبالنظر إلى ما تقدَّم ذكره فإن العُمْلة المشفَّرة نوعٌ من الاعتبار، وإن طريقة اعتبارها بحيث لا يكون لها ما بإزاء في الخارج. ومن هنا يجب أن يتمّ من الناحية الشرعية بحث هذه المسألة، وهي هل لهذه الطريقة من اعتبار المعتبر في هذا النوع من العُمُلات اعتبارٌ شرعي أم لا؟

وللإجابة عن هذا السؤال يجب القول: يؤكِّد الإمام الخميني على هذا الرأي، وهو أن تبلور المبادلات تارةً يكون بسبب ماليتها؛ وتارةً بسبب غرضٍ آخر. وعليه فإنه في المعاملات التي تشتمل على سائر المقاصد العقلائية (غير المالية) يمكن القول بصحّتها أيضاً([26]).

وعلى هذا الأساس فإن الذي يمكن استنتاجه هو أن ذات إحراز المالية ووجود القيمة الإجمالية، دون تحديد أطراف ماهية هذه العُمُلات، يعتبر كافياً في الجُعالة، وإن استخراج البيتكوين يشتمل على جميع الشرائط الحاكمة على الجُعالة؛ لأن المخترعين لهذه العُمُلات من خلال الإيجاب العامّ يطلبون من المخاطبين غايتهم على نحوٍ ضمني، بأن يقوموا بعمليات الاستخراج ـ من خلال الاستفادة من منظومة البرامج الصلبة والبرامج المرنة ـ بإزاء الحصول على وحدة من هذه العُمُلات المشفَّرة.

وفي المقابل فإن المستَخْرِجين عند مباشرة الاستخراج وتأييد العمليات يكونون قد قاموا بموضوع الجُعالة، وبذلك يستحقون الجُعْل. وفي هذا الخصوص ـ بالنظر إلى ما تقدَّم ذكره ـ فإن الغموض والإبهام في كمِّية وكيفيّة عملية الاستخراج وعدم العلم الدقيق بالجُعْل (وحدة من ذات هذه العُمُلات)، لا يُشكِّل مانعاً يحول دون القول بصحّة الجُعالة.

إنما الإشكالُ الوحيد الذي يمكن إيراده على صحّة الجُعالة ـ حيث يكون موضوعها هو استخراج العُمُلات المشفَّرة ـ، وعلى الرغم من كون الإبهام والغموض الإجمالي في الجُعْل لا يمنع الصحّة، هو أن هذا الموضوع متفرِّعٌ على مالية هذه العُمُلات المشفَّرة، وحتّى مع افتراض وجود المالية فإن قيمتها يجب أن تكون قابلةً للتقدير والتقييم.

وفي حال رفع هذين المانعين الواردين على هذه العُمُلات المشفَّرة لن يكون هناك شكٌّ في صحة عقد الجُعالة. وبعبارةٍ أخرى: إن الإبهام الإجمالي في الجُعل ليس مانعاً، وأما الإبهام الكلّي (الاستغراقي) فهو مانعٌ في المالية أو التقييم قطعاً.

وهذا المانع موجودٌ في جميع العقود، الأعمّ من المعيّنة وغير المعيّنة. وفي حال عدم رفع هذا الإشكال سوف تكون عمليات الاستخراج باطلةً، ولن تكون قابلةً للانطباق على أيّ عقدٍ صحيحٍ آخر.

ببيان: إنه في بعض العُمُلات المشفَّرة ـ من قبيل: البيتكوين ـ هناك احتمال أن نواجه وَهْم المالية، من قبيل: الشخص الذي يشتري عُمْلةً مغشوشة بَدَلاً من العُمْلة الأصلية والحقيقية، فعندما يُكتشف أنها عُمْلة زائفة لن تكون لها أيّ قيمة مالية. وكذلك بالنسبة إلى البِيتْكُويْن؛ إذ هناك احتمال أن نواجه وَهْم النقود. وفي هذه الحالة لن يكون للجُعل ماليّةٌ أيضاً، وسوف تكون الجُعالة باطلةً أيضاً.

تحليل الاستخراج في الفقه الحكوميّ

بغضّ النظر عن مسائل الفقه الفردي، ولو افترَضْنا إمكانية تعريف استخراج العُمُلات الافتراضية في ضوء عقد الجُعالة، دون أن يَرِدَ عليها إشكالٌ فقهي من هذه الناحية، يجب بحث الأبعاد العامّة وسيادة هذه الظاهرة في النظام الاقتصادي؛ كي لا يؤدّي الحكم بحلِّية استخراج العُمُلات الافتراضية على المستوى الفردي إلى حدوث الفساد والضَّرَر في منظومة الاقتصاد بشكلٍ عامّ، وعلى المستوى الحكومي، ولا يؤدّي ذلك إلى نقض الأصول والقواعد الإسلامية.

ولهذه الغاية سوف نبحث ونحلِّل في الفقرات الآتية الأبعادَ والجوانبَ الاقتصادية العامة لعمليّة الاستخراج:

إن عدم المركزية في إيجاد وخلق النقود في يد السلطات والحكومات (الدول والمصارف الحكومية) هو الغاية الرئيسة من إبداع هذا النوع من العُمُلات المشفَّرة، ومن بينها: البيتكوين. وهذا هو الوصف الغالب على هذه العُمُلات.

ومن هنا، وبالنظر إلى هذه الغاية وتحقُّقها على الصعيد العملي، سنشهد مع انتشار هذه العُمُلات تراجعَ دَوْر الدُّوَل والحكومات في إيجاد النقود، وممارسة السياسات النَّقْديّة على المدى القصير.

كما سوف نشهد تهميش وإبعاد الدُّوَل والحكومات عن مسرح عمليات إيجاد النقود على المدى البعيد أيضاً. وهذا يعني من الناحية العملية إحداث تغييرٍ جَذْريّ في القوّة الاقتصادية للدولة ـ التي تنتظم بواسطة مختلف الأدوات والوسائل الماليّة، ومن بينها: السياسة النَّقْدية ـ، ويتراجع دَوْرها الرقابي على سوق الأموال والنقود.

وكما لا يخفى فإن هناك ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بين تراجع سلطة الدولة في الرقابة والإشراف على المجال الاقتصادي وبين انحسار السلطة والقوّة السياسيّة لهذه الدولة، وهذا يعني تراجع قوّة الحكم والسلطة. إن هذا التحليل يعني إيجاد مفهومٍ جديد للدولة في المستقبل، أو أن هذا الأمر سوف يكون بديلاً آخر للدولة في ما يتعلَّق بالماهية الحقوقية.

وعليه، لو كان قيام الحاكمية والسلطة المركزية أمراً عقلائيّاً، وكان في استخراج العُمْلة الرقميّة تراجعٌ لسلطة الحكومة وقوّتها؛ لأيّ سببٍ كان، بما في ذلك انحسار القوّة الاقتصادية للدول بسبب التحوُّل في ماهيّة إنتاج النقود، فسوف يكون هذا الاستخراج ممنوعاً ومحرَّماً؛ استناداً إلى قاعدة حفظ النظام. إن هذه النتيجة تستنبط من الافتراض القائل بعقلائية وجود الحكومة والدولة، على ما سيأتي شرحه وتوضيحه.

ثمّ لو كانت ماهية ذات الاستخراج تتعارض مع القواعد العامّة الناظرة إلى الاقتصاد الإسلامي، ومنها: مفاهيم مثل: العدالة، فسوف تكون هذه مسألةٌ أخرى، وسوف يكون هذا الأمر بدَوْره منهيّاً عنه، ويكون محرّماً؛ بسبب الإخلال في النظام الاقتصادي.

ومن ناحيةٍ أخرى لو أدّى انتشار استخراج العُمُلات الافتراضية إلى إضعاف سيادة الحكومة الإسلامية من جهة القوى الاقتصادية الكبرى والكافرة، وكانت نتيجة ذلك إضعاف الاقتصادات الصغيرة على يد الكفّار، سوف يكون هذا الأمر منهيّاً عنه؛ بقاعدة نَفْي السبيل، وحفظ النظام أيضاً.

ومن الجدير ذكره أيضاً أن من بين الفرص المترتِّبة على العُمُلات الافتراضية القابلة للاستخراج أنها في تصميم آلياتها الفنية وخوارزميتها تحتوي على هذه الإمكانية، وهي أننا بواسطة استخراج العُمُلات الافتراضية نستطيع الحيلولة دون إيجاد النقود الآنية والمؤقَّتة من قِبَل الحكومات والمصارف المركزية (الحكومية).

وإن هذا الأمر سوف يؤدّي إلى تحكيم الدعائم والقواعد النَّقْدية. وفي هذه الحالة سوف يعمل استخراج العُمُلات الافتراضية على الحيلولة دون التدخُّل المضرّ من قِبَل الدولة.

ومن هنا يمكن لهذه المسألة أن تكون واحدةً من محاسن ومزايا الاستخراج وإضفاء الاعتبار على العُمُلات الافتراضية؛ لأن التدخُّل الاعتباطي من قِبَل الدولة يؤدّي إلى تغيير الموضع الصحيح للنقود، بوصفها همزةَ وصلٍ للتبادل بين الطرفين أو الأطراف، أو هي وسيلة للحفاظ على القيمة، فينبغي لذلك أن تحظى بالثبات المحدَّد.

وممّا يُروى عن الإمام زين العابدين”عليه السلام” في بيان ضرورة أن تحتفظ النقود بدَوْرها والإيفاء بمهمّتها قوله: «ولا تحرفه [يعني المال] عن مواضعه [الخاصّة به]، ولا تصرفه عن حقائقه»([27]).

وعليه، لا بُدَّ في التحليل الفقهي والإسلامي لاستخراج العُمُلات الافتراضية من بحث وتحليل هذه النقاط، بالنظر إلى مختلف مصادق العُمُلات.

وبالنظر إلى هذه المقدّمة سوف نعمل، في مقام التحليل الفقهي ـ الحقوقي، على بحث ماهية الاستخراج في قسمين مستقلّين:

بحث ماهية الاستخراج في الأحكام الثانويّة وقاعدة نَفْي الضَّرَر وحفظ النظام

لكي نبحث الموضوع بشكلٍ دقيق يتعيَّن علينا القول من باب المقدّمة: إن وجود الحكومة ـ استناداً إلى الكثير من الأدلة ـ يعتبر أمراً ضرورياً، وبالنظر إلى ذلك فإن الحكومة الإسلامية يجب أن تعمل على تطبيق القانون، وأن تعمل على صيانة وحماية القواعد والأصول الإسلامية، وفي هذا السياق يجب أن تعمل الحكومة على دعم وتعزيز كلّ ما من شأنه أن يقوّي هذا الواقع؛ وفي المقابل يجب العمل على إضعاف كلّ ما من شأنه أن يُضعف هذه الحالة؛ لأن الحكومة الإسلامية إنما يتمّ تأسيسها من أجل تطبيق القوانين الإسلامية، وحماية المعايير والموازين الإسلامية أيضاً.

وفي ضوء ما تقدَّم فإنه يمكن أن يتمّ التخطيط للعُمُلات الافتراضية القابلة للاستخراج بحيث تؤدّي إلى إضعاف الحكومة الإسلامية، كما يمكن التخطيط لها بحيث تحول دون التدخُّل المضرّ والاعتباطي للحكومات الإسلاميّة.

لو أدّى انتشار العُمْلة الافتراضية الأجنبية ـ العُمْلة التي تمّ صنعها من قِبَل المؤسَّسات والأشخاص من خارج الحكومة الإسلامية، وتدخل إلى النظام الاقتصادي لتلك الحكومة من خارج حدود الحكومة الإسلامية ـ في المجتمع الإسلامي إلى تقوية السيادة النَّقْدية وممارسة سياسة القبض والبسط النَّقْدي في تطبيق القواعد والأصول الإسلامية يجب العمل على دعم تلك العُمْلة واستخراجها في الحكومة الإسلامية.

وفي المقابل لو أدّى انتشار العُمْلة المذكورة إلى إضعاف قدرة الحكومة الإسلامية في تطبيق القوانين الإسلامية فيجب المنع من استخراجها. وعلى هذا الأساس؛ وبالنظر إلى اختلاف مصاديق العُمُلات الافتراضية، يجب بحث كلّ واحد منها بشكلٍ مستقلّ في إطار تحليل الشرط المذكور.

ولبحث ماهية الاستخراج من حيث الأحكام الثانوية يجب القول: في باب التحليل الفقهي ـ الحقوقي علينا أن نرى ـ بغضّ النظر عن صحّة أو عدم صحّة الأحكام الخاصّة بماهيّةٍ ما من حيث الأحكام الأوّلية ـ هل هناك مانعٌ من حيث الأحكام الثانوية عن تلك الماهية؟

ومن الجدير ذكره أن الأصوليين قد اختلفوا فيما بينهم حول ما إذا كان تعلُّق الأحكام الثانوية يؤدّي إلى تغيير الأحكام الأوّلية. ولكنْ بالنظر إلى تعريف الأحكام الثانوية يجب القول: إن عروض العناوين الثانوية على الأحكام الأولية مؤقّتٌ. ومع ارتفاع فعلية العناوين الثانوية تجري الأحكام الأولية.

وقد قال الإمام الخميني في هذا الشأن: «إن العناوين الثانوية، كالشرط والنذر والعهد، إذا تعلَّقت بشيءٍ لا تغير حكمه، فإذا نذر صلاة الليل أو شرط فعلها على غيره لا تصير الصلاة واجبةً، بل هي مستحبّةٌ، كما كانت قبل التعلُّق، وإنما الواجب هو الوفاء بالشرط، ومعنى وجوبه لزوم الإتيان بها بعنوان الاستحباب، فالوجوب متعلّق بعنوانٍ، والاستحباب بعنوانٍ آخر، ولا يعقل سراية الحكم من أحد العنوانين إلى الآخر، والمصداق المتحقِّق في الخارج ـ أي مجمع العنوانين ـ هو مصداقٌ ذاتي للصلاة وعَرَضي للنذر، ولا يجعلها النذر متعلّقة لحكمٍ آخر، وكذا الحال في الشرط»([28]).

ومن بين العناوين الثانوية التي تحظى بالسهم الأكبر من عروض الأحكام الأوّلية يمكن الإشارة إلى حفظ النظام الإسلامي، وقاعدة نَفْي الضَّرَر، والإكراه، والاضطرار، والتقيّة. ونتيجةً لذلك لو توصَّلنا في مقام تحليل ماهية استخراج العُمْلة الافتراضية إلى أن الضَّرَر الناشئ من تركيز سيادة النقود يؤدّي إلى تضعيف الاقتصاد، ويؤدّي تَبَعاً لذلك إلى إضعاف النظام السياسيّ للحكومة الإسلاميّة، فإنه بناءً على الحكم الثانوي عندما تكتسب عمليات الاستخراج ـ التي تؤدّي إلى إيجاد العُمْلة الافتراضية ـ آليّةً تستتبع صفة إضعاف النظام الإسلاميّ فإن عملية استخراج تلك العُمْلة سوف تقع مورداً للنهي بالحكم الثانوي تحت عنوان «قاعدة حفظ النظام»، و«قاعدة نَفْي الضَّرَر».

ومن الجدير ذكره أنه بالنظر إلى أن الغاية في خصوص العُمْلة الافتراضية، البيتكوين بالتحديد، هو عدم مركزيّة موضوع سيادة النقود، وإلغاء عنصر السيطرة والإشراف عليها من قِبَل الحكومات، وإن هذه الغاية هي المتَّبَعة حالياً، يمكن القول: إن انتشار هذه العُمْلة في المجتمع الإسلامي سوف يتعارض مع أصل الحاكمية النَّقْدية للحكومة الإسلامية في النظام الاقتصادي للإسلام، الأمر الذي يؤدّي إلى الهَرَج والمَرَج الاقتصادي، ويخالف الأدلة العقلية والنقلية المذكورة.

ارتباط استخراج العُمُلات المشفَّرة بمفهوم العدالة في النظام الاقتصاديّ

من المسائل العامّة الأخرى في النظام الاقتصادي الإسلامي بحث العدالة. هناك في الفقه الحكومي أصولٌ ومعايير كثيرة، وتُعَدّ إقامة العدالة إحدى أهمّ تلك الأصول والمعايير. وبعبارةٍ أخرى: إن نظام التوزيع العادل للثروات والأرباح يندرج تحت مجموعةٍ من النُّظُم الاقتصادية في الإسلام.

ولذلك تقع تحت تأثير أصوله ومبانيه وأهدافه. ومن ناحيةٍ أخرى فإن هذا النظام يرتبط بسائر الأنظمة المجاورة له ـ (الإنتاج والاستهلاك وما إلى ذلك) ممّا يندرج تحت مجموعاتٍ أخرى من النُّظُم الاقتصادية للإسلام ـ ارتباطاً خاصّاً. إن نظام التوزيع العادل ـ بوصفه نظاماً ـ يشتمل بدَوْره على أجزاء وروابط وغايات خاصّة به.

وفي الأنظمة الإلهية، بالنظر إلى الرؤية التوحيدية وعلم الكلام، يتمّ تعيين روابط النظام وأهدافه من قِبَل الله العالم والقادر وخالق النظام الأحسن في الخلقة. وعلى هذا الأساس، يتمّ تحديد ضوابط وغايات النظام العادل للتوزيع من طريق الوَحْي أيضاً([29]).

كما أن آلية العدالة التوزيعية للثروة تنشأ من مفهوم العدالة الاجتماعية، والتي قيل في تعريفها: «إن العدالة الاجتماعية عبارةٌ عن توفير الظروف المتساوية للجميع، ورفع الموانع عن الجميع على السواء»([30]). قال الله تعالى: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ (الحشر: 7). وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير هذه الآية: «أي إنما حكمنا في الفَيْء بما حكمنا؛ كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم، والدُّولة ما يُتداول بين الناس، ويدور يداً بيدٍ»([31]).

بالنظر إلى ما تقدّم بيانه باختصارٍ، فإن كلّ مؤسسةٍ تروم الدخول في النظام النَّقْدي للإسلام وتوزيع ثرواته، بأيّ آليّةٍ كانت، يجب أن تنسجم مع القضايا العامة للنظام الاقتصادي في الإسلام. وفي غير هذه الحالة إنما يجوز لها القيام بنشاطاتها الخاصّة إذا تمّ رفع الموانع والمحاذير.

وبعد بيان هذه المقدّمة يجب أن نرى هل يمكن لاستخراج العُمُلات الافتراضية أن يحقِّق العدالة ـ التي يتمّ التأكيد عليها في الإسلام ـ بالنسبة إلى توزيع الثروة أم لا؟

وللإجابة عن هذا السؤال ـ كما أوضَحْنا سابقاً ـ يجب القول: إن آلية أكثر العُمُلات الافتراضية القابلة للاستخراج ـ من قبيل: البيتكوين ـ قد تمّ تصميمها بحيث تتعلّق جائزة ومكافأة الاستخراج بعد مدّةٍ محدّدة، من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى ـ على سبيل المثال ـ في نموذجٍ واحد، وهو البيتكوين طبقاً لتصميمه منذ بداية إنتاجه عام 2009 فصاعداً، كان يمكن استخراج المزيد من البيتكوين باستهلاك القليل من الوقت والطاقة، ولكنْ بمرور الوقت أخذت عملية الاستخراج تستغرق طاقةً أكبر، ووقتاً أكثر، وفي المقابل كانت المكافأة تنخفض؛ لأن مكافأة الاستخراج في البيتكوين تنخفض بعد كلّ 210 ألف كتلة ـ (أربع سنوات تقريباً) ـ إلى النصف.

ففي بداية انطلاقة البيتكوين كانت الجوائز تصل إلى 50 بِيتْكُويْن، وبعد أربع سنوات انخفضَتْ الجوائز إلى 25 بِيتْكُويْن، وحالياً تمّ تحديد جائزة استخراج كلّ كتلة بما يعادل 12.5 بِيتْكُويْن.

كما أن آلية البيتكوين قد تمّ تصميمها بحيث تتعقَّد المعادلة بمرور الوقت، وزيادة أعداد المستَخْرِجين، وارتفاع قدرة المعالجة في الشبكة، وأصبح حلّ المعادلة بحاجةٍ إلى كلفةٍ وطاقةٍ أكبر([32]).

وعلى هذا الأساس، فإننا في تصميم العُمْلة الافتراضية (البيتكوين) نشهد بمرور الأيام زيادة في صعوبة وتعقيد الخوارزميات الماثلة أمام حلّ المعادلات، من أجل الحصول على المكافآت، ولكي نتمكَّن من حلّ هذه المعادلات سوف نحتاج إلى أجهزة استخراج عملاقة، وإن تكلفة هذه الأجهزة باهظةٌ للغاية.

ونتيجة لذلك لا يمكن استخراج العُمُلات المشفَّرة والحصول عليها لغير الأشخاص الأغنياء والمؤسَّسات ذات الثراء الفاحش. وبعبارةٍ أخرى: إن العُمْلة الافتراضية لا تصل إلاّ إلى أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة جدّاً، وبذلك سوف يكون هناك تمركزٌ في عملية الاستخراج.

والشاهد على ذلك أننا بعد مرور عقدٍ من الزمن على اختراع البيتكوين نشهد تمركزاً في استخراج هذه العُمْلة الافتراضية. وطبقاً للإحصاءات الراهنة فإن ما يزيد على 85% من القدرة على استخراج البيتكوين هي اليوم في متناول تسع شركات كبرى في الصين والولايات المتَّحدة الأميركية فقط، حيث تسمّى هذه الشركات بأحواض الاستخراج. ومن هنا فإن هذا التمركز في الاستخراج يُعَدّ نوعاً من التمركز في الثروة، وهو مخالفٌ لنظام توزيع الثروة الذي ذكرناه آنفاً.

ومن الجدير ذكره ـ بطبيعة الحال ـ أنه بالنظر إلى قابليات العُمُلات الافتراضية هناك إمكانية لإيجاد عُمُلات افتراضية بآليّاتٍ مختلفة، حيث لا تشتمل على مشاكل تضرّ بعدالة التوزيع، ويكون استخراجها جائزاً من الناحية الفقهية. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: لو لم يكن هناك في إيجاد العُمْلة الافتراضية مع زيادة تعقيد الشبكة ارتباطٌ مباشر بين ارتفاع قدرة المعالج واحتمال تأييد العملية فلن يكون هناك مشكلة في العدالة والتمركز في الاستخراج، ولا يكون هناك مانعٌ من استخراج تلك العُمْلة الافتراضية.

وفي الخلاصة يجب القول: إن وجود نقاط الضعف المذكورة في البيتكوين لا يعني النَّفْي التامّ والكلّي للفرص الناشئة من العُمُلات الافتراضية، بل على الرغم من وجود نقاط الضعف في العُمُلات الافتراضية القابلة للاستخراج وما إلى ذلك يجب النظر إلى هذه الماهية المستَحْدَثة بوصفها فرصةً.

النتيجة

لقد تمّ السعي في هذه المقالة إلى تحليل مشروعية الأرباح الناتجة عن استخراج العُمُلات الافتراضية. إن ماهية الاستخراج ـ بالنظر إلى الشقوق المختلفة التي تقدَّم بيانها من الناحية الفقهية ـ من حيث الإبهام والغموض في الموضوع محلّ إشكالٍ، وبالنظر إلى هذا النقص تكون الماهية الفعلية لاستخراج بعض هذه العُمُلات الافتراضية محكومةً بالنهي الشرعي.

وحتّى في عقد الجُعالة ـ الذي يحظى بمرونةٍ أكبر بالقياس إلى سائر العقود الأخرى ـ نواجه مشكلةً من ناحية الإبهام والغموض العامّ في مالية أصل البيتكوين وجعل الاستخراج. ومن هنا يمكن القول:

ـ إن آلية الاستخراج يتمّ التعريف بها في نظام الكسب والعمل الإسلامي ضمن إطار عقد الجُعالة، ولا موضع هنا لعقد المشاركة والشراكة.

ـ بالنظر إلى كثرة المصاديق المختلفة للعُمُلات الافتراضية يجب العمل على تطبيق حكم استخراج كلّ عُمْلة افتراضية على الأصول والقواعد الإسلامية بشكلٍ مستقلّ.

وفي هذا الإطار إذا كانت المكافأة ـ التي تدفع في مقابل نشاط استخراج العُمْلة الافتراضية ـ تُعَدّ أمراً افتراضياً من زاوية الفقه الفردي، حيث لا يكون لها ما بإزاء في النظام الاقتصادي، وتكون اعتباراً غير معتبرٍ، لا تنعقد الجُعالة.

وكذلك من ناحية الفقه الحكومي إذا أدّى نشاط استخراج العُمُلات الافتراضية إلى تقوية الحكومة الإسلامية في تطبيق الأصول والقواعد الإسلامية كان هذا النشاط جائزاً، ويجب العمل على دعمه وحمايته؛ وفي المقابل فإن استخراج العُمُلات التي تؤدّي إلى استيلاء الأنظمة السلطوية على الحكومة الإسلامية لا يكون جائزاً.

إن استخراج العُمْلة الافتراضية (البيتكوين)؛ بسبب أهدافها وآلياته الفنِّية والتقنية ـ بوصفها عاملاً مساعداً وداعماً لنظامٍ نَقْديّ يخرج فيه إيجاد النقود وقوّة سيادة النَّقْد عن سلطة وسيادة الحكومة الإسلاميّة ـ قد يؤدّي في النظرة العامة إلى استيلاء الأنظمة السلطوية على الحكومة الإسلامية، فلا يكون جائزاً من هذه الناحية.

يرى كُتّاب هذا المقال أن هذا الحكم لا يعني تجاهل مزايا العُمُلات الافتراضية، وأن يشتمل على نهيٍ شرعي دائم ومطلق عن ماهية استخراج جميع العُمُلات، بل إن قابلية تطابق الفقه مع المسائل المستَحْدَثة يأخذ بنا نحو هذا الموضوع، وهو أنه تَبَعاً لرفع هذه النواقص سوف يتغيَّر الحكم بما يتناسب مع تغيُّر ذلك الموضوع أيضاً.

ونتيجةً لذلك يجب أن نسعى إلى الكشف عن مختلف الأساليب التي يمكنها إضفاء القيمة على الماهية الناشئة من عملية الاستخراج، وإن النموذج الإيجابي القائم على الأدوات والتقنيات الحديثة والمتطوِّرة أمرٌ ممكن.

 

الهوامش

(*) طالبٌ في مرحلة الدكتوراه في قسم العلوم الاقتصاديّة في جامعة الإمام الصادق×، طهران.

(**) طالبٌ في مرحلة الدكتوراه في قسم الحقوق في جامعة آزاد الإسلاميّة، طهران.

(***) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الاقتصاد السياسيّ في جامعة الإمام الصادق×، طهران.

(****) أستاذٌ سابق في قسم الاقتصاد في معهد الثقافة والفكر الإسلاميّ في قم، توفّي عام 2020م.

([1]) See: Satoshi Nakamoto, 2009, «Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System», in: https://bitcoin.org/bitcoin.pdf.

([2]) (دراسة حول النقود والبيتكوين في ضوء القوانين الإسلامية والاقتصاد).

([3]) See: Mufti Faraz Adam, 2017, «Money and Bitcoin According to Islamic Law and Economics», in:

([4]) See: Abu-Bakar, Mufti Muhammad, 2018, «Shariah Analysis of Bitcoin, Cryptocurrency, and Blockchain», in:

https://blossomfinance.com/bitcoin-working-paper.

([5]) (بحث فقهي في النقود الافتراضية).

([6]) (التحليل الفقهي لآلية عمل النقود المشفّرة، البيتكوين أنموذجاً).

([7]) انظر: محسن خردمند، «بررسي فقهي استخراج ومبادله رمز ارزها با تمركز بر شبكه (بيت كوين)» (دراسة فقهية في استخراج ومبادلة الأموال المشفَّرة مع التركيز على شبكة «البيتكوين»)، مجلة معرفت اقتصاد إسلامي، العدد 20: 109 ـ 124، 1398هـ.ش. (مصدر فارسي).

([8]) سلسلة الكتل (Blockchain): قاعدة بيانات موزّعة، تمتاز بقدرتها على إدارة قائمة متزايدة باستمرار من السجلات المسمّاة كتلاً (block)، وتحتوي كلّ كتلةٍ على الطابع الزمني ورابط إلى الكتلة السابقة، وقد تمّ تصميم سلسلة الكتل بحيث يمكنها المحافظة على البيانات المخزَّنة فيها، والحيلولة دون تعديلها. ولهذا النظام تداعيات عميقة على النظام الاقتصادي العالمي، بما فيها الاستغناء عن الوسطاء وإتمام المعاملات التجارية دون وسيطٍ، مما يؤثِّر أيضاً على مجريات التجارة العالمية كما نعرفها اليوم. (المعرِّب).

([9]) See: Satoshi Nakamoto, 2009, «Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System», in: https://bitcoin.org/bitcoin.pdf.

([10]) انظر: المصدر السابق نفسه.

([11]) Nodes.

([12]) إثبات العمل (Proof of Work): هو النظام المتَّبع في شبكة تعدين البيتكوين، ويُعْرَف اختصاراً بـ (PoW)؛ أي الشبكة التي تقوم بالتحقُّق من معاملات البيتكوين، ويحصل الأفراد بها على مكافأة لقاء قيامهم بهذا العمل. (المعرِّب).

([13]) See: Davidson, Sinclair & de-Filippi, Primavera & Potts, Jason, 2016, «Economics of Blockchain», Public Choice Conference, Fort Lauderdale, United States. ff10.2139/ssrn.2744751ff. P. 5.

([14]) See: Wright, Aaron & De Filippi, Primaveram, 2015, «Decentralized Blockchain Technology and the Rise of Lex Cryptographia», in:

https://www.intgovforum.org/cms/wks2015/uploads/proposalbackgroundpaper/SSRNid2580664.pdf.

([15]) Bitcoin Tokem.

([16]) انظر: ناصر كاتوزيان، قواعد عمومي قراردادها 1: 282، شركت سهامي انتشار، طهران، 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).

([17]) انظر: الشيخ محمد بن حسن الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية، 325 ـ 363، نشر مرتضوي، طهران، 1387هـ.ش. (مصدر فارسي).

([18]) تأتي كلمة المعدِّنين هنا من عملية التعدين في عملية استخراج البيتكوين وما يصاحبها من صعوبات وتعقيدات، وهي عملية تتأثَّر بإجمالية الطاقة التعدينية؛ فكلما زاد عدد المعدّنين (Miners) لعملة البيتكوين تزداد الطاقة التعدينية، وبالتالي تزيد صعوبة التعدين. (المعرِّب).

([19]) انظر: محمد رضا توكلي، مختصر حقوق تجارت (مختصر حقوق التجارة): 81، نشر مكتوب آخر، طهران، 1397هـ.ش. (مصدر فارسي).

([20]) المحقِّق أبو القاسم الحلي، شرائع الإسلام: 374، نشر استقلال، طهران، 1409هـ.

([21]) انظر: السيد محمد باقر الصدر، خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي 1: 22، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1399هـ.

([22]) انظر: فرهاد بيات وشيرين بيات، شرح جامع قانون مدني (الشرح الجامع للقانون المدني): 93، نشر أرشد، طهران، 1398هـ.ش. (مصدر فارسي).

([23]) الشهيد الثاني زين الدين بن علي، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية (حاشية كلانتر) 4: 34، دار نشر الدينية، النجف، 1386هـ.

([24]) السيد روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة 1: 665، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1392هـ.ش.

([25]) انظر: مرتضى مطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة) 5: 362، انتشارات صدرا، قم، 1376هـ.ش.

([26]) انظر: السيد روح الله الموسوي الخميني، كتاب البيع: 12، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1421هـ.

([27]) حسن بن عليّ ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول: 191، نشر بصيرتي، قم، 1394هـ.ش.

([28]) السيد روح الله الموسوي الخميني، كتاب البيع 5: 173.

([29]) انظر: حسين عيوضلو، نظريه اي در تبيين مباني نظري توزيع ثروت ودرآمد در نظام اقتصادي اسلام (نظرية في تفسير المباني النظرية لتوزيع الثروات والأرباح في النظام الاقتصادي للإسلام): 87، پژوهشكده اقتصاد دانشگاه تربيت مدرس ومعاونت أمور اقتصادي، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([30]) انظر: مرتضى مطهَّري، يادداشت ها (خاطرات) 6: 167، انتشارات صدرا، طهران، 1381هـ.ش. (مصدر فارسي).

([31]) انظر: العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 19: 179، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1427هـ ـ 2006م.

([32]) See: Satoshi Nakamoto, 2009, «Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System», in: https://bitcoin.org/bitcoin.pdf: Franco, Pedro, 2104, Understanding Bitcoin: Cryptography, Engineering and Economics (The Wiley Finance Series), Wiley; 1 edition, The Wiley Finance Series (Book 1).

 

المصدر: نصوص معاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky