الاجتهاد: مقدمة: الفكر الذي لا يموت. حين تحتفي منظمة بحجم اليونسكو بكتابٍ مضى على صدوره أكثر من نصف قرن، فذلك لا يُعد تكريماً لشخص بقدر ما هو إقرارٌ بخلود الفكرة، واعترافٌ بأن هناك عقلاً استطاع أن يتجاوز حدود الجغرافيا والزمن.
هذا ما فعلته اليونسكو وهي تحتفل بمرور خمسين عاماً على صدور كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء» للمفكر والفيلسوف الإسلامي الشهيد السيد محمد باقر الصدر، الذي مثّل أحد أعمدة الفكر الإسلامي المعاصر وأحد أبرز المجدّدين في الفلسفة والاقتصاد والمنهج المعرفي.
دلالة الاحتفاء:
اعتراف عالمي بعبقرية المفكر الإسلامي
احتفاء اليونسكو لا يمكن قراءته بمعزل عن مكانة السيد الصدر الفكرية. فهو ليس مجرّد فقيه أو مفسّر أو مفكر اقتصادي، بل هو عقل موسوعي استطاع أن يقدّم للعالم منهجاً معرفياً أصيلاً يزاوج بين العقلانية والمنهج العلمي الحديث، دون أن يفقد الارتكاز على القيم الإيمانية والإنسانية.
إن هذا الاعتراف العالمي يحمل دلالتين عميقتين:
1-إعادة الاعتبار للفكر الإسلامي كمنظومة عقلية قادرة على إنتاج المعرفة الحديثة، لا مجرد اجترار للتراث.
2-تثمين دور المدرسة الصدرية في إعادة تعريف العلاقة بين الإيمان والعقل، وبين الفلسفة والعلم، وبين الإنسان والوجود.
الأسس المنطقية للاستقراء:
ثورة في فهم المنهج العلمي
صدر هذا الكتاب عام 1971، ليكون بمثابة ثورة فكرية هادئة في مناهج الاستدلال. فقد تناول السيد الصدر مسألة الاستقراء – التي شغلت فلاسفة الغرب من أرسطو إلى هيوم وباكون ومل – ليقدّم فيها منهجاً ثالثاً يتجاوز التجريبية الصرفة والمثالية العقلية في آنٍ واحد.
يرى الصدر أن المعرفة الإنسانية لا تنشأ من التجربة وحدها، بل من تفاعل منطقي بين التجربة والعقل، وأن حركة العقل في بناء اليقين تمر عبر الاحتمال المنطقي الذي يُفضي إلى الاطمئنان العلمي.
بهذا المنهج، أعاد الصدر صياغة أسس العلم الحديث في ضوء رؤية فلسفية منفتحة على الوحي والعقل معاً، مقدّماً ما يمكن اعتباره البديل الإسلامي لنظرية المعرفة الغربية.
منهج “الأسس المنطقية” وجذوره في “اقتصادنا”
المنهج الذي أسّسه السيد الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء لم يكن غريباً عن مشروعه الفكري في كتابه الشهير «اقتصادنا»، الصادر قبل ذلك بعدة سنوات.
في اقتصادنا، لم يقدّم الصدر مجرد نقدٍ للاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي، بل انطلق من منهجٍ معرفيٍ تحليلي يفحص الأسس الفكرية التي تقوم عليها تلك النظريات، ثم يبني عليها البديل الإسلامي القائم على العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان.
هنا يبرز الترابط العميق بين المنهجين:
-في اقتصادنا، يطبّق الصدر الاستقراء الاجتماعي لاكتشاف القوانين الاقتصادية في ضوء التجربة الإسلامية.
-وفي الأسس المنطقية للاستقراء، يؤسّس الصدر الإطار الفلسفي والمعرفي الذي يجعل من هذا
الاستقراء علمًا قائمًا على قواعد منطقية دقيقة. إنه منهج واحد: يبدأ من الواقع، ويمرّ بالعقل، ويستضيء بنور الوحي.
فلسفتنا..
البناء المعرفي لروح المشروع
قبل “اقتصادنا” و”الأسس المنطقية”، وضع السيد الصدر كتابه «فلسفتنا» الذي يمكن اعتباره “المقدّمة الكبرى” لمشروعه الحضاري.
في فلسفتنا، واجه السيد الصدر الماركسية والرأسمالية بعمقٍ فلسفي، لا على مستوى الموقف الأخلاقي أو الديني فحسب، بل على مستوى البنية الفكرية.
فهو لم يرفض الفلسفات المادية لمجرد تعارضها مع الدين، بل نقدها من داخلها، وبيّن أن المادية عاجزة عن تفسير الوجود والوعي والحرية الإنسانية.
بهذا المعنى، شكّل فلسفتنا الأساس النظري، واقتصادنا التطبيق العملي، والأسس المنطقية للاستقراء القاعدة المنهجية التي تربط بين النظرية والتطبيق، وبين الفكرة والممارسة.
أهمية الاحتفاء في السياق المعاصر
إن عودة اليونسكو اليوم للاحتفاء بكتابٍ إسلامي فلسفي بعد خمسين عاماً، في زمنٍ يسوده الغموض القيمي والضياع الفكري، هي رسالة إنسانية قبل أن تكون ثقافية.
فالعالم يعيش أزمة في “منطق المعرفة” ذاته، إذ غلبت المادية على القيم، والعلم على الحكمة، والكمّ على المعنى.
وهنا يبرز فكر السيد الصدر كمنارة، لأنه يقدّم مشروعاً معرفياً متوازناً يعيد للإنسان مركزه في الكون، وللعقل وظيفته في خدمة الحقيقة، وللوحي دوره في توجيه البصيرة.
إن تكريم الأسس المنطقية للاستقراء هو في جوهره دعوة لإحياء العقل الإسلامي الخلاق، القادر على إنتاج منهج معرفي يوازي المناهج الغربية، ويجمع بين الإيمان والعلم في معادلة واحدة.
إرث لا يشيخ :
لم يكن السيد محمد باقر الصدر مجرد مفكر كتب في الفلسفة والاقتصاد، بل كان مشروع أمةٍ في عقل واحد.
وما احتفاء اليونسكو اليوم إلا شهادة عالمية بأن الفكر الإسلامي، حين يتجدد على أسس علمية رصينة، قادر على أن يخاطب العالم بلغة العصر دون أن يفقد جذوره.
فالأسس المنطقية للاستقراء ليست كتاباً في المنطق فحسب، بل جسرٌ بين العقل والوحي، بين الشرق والغرب، بين الماضي والمستقبل.
ومن هنا يبقى الصدر — شهيد الفكر والوعي — حاضراً في كل زمان، لأن العقول العظيمة لا تموت، بل تتحوّل إلى ضوءٍ يهدي الأجيال نحو الحقيقة.
المصدر: ألواح طينية
الاجتهاد موقع فقهي