اتجاهات التيارات الحديثية في حوزة قم العلمية خلال المئة عام الماضية

خاص الاجتهاد: الاتجاهات الحديثية وكيفية تفاعل العلماء والأعلام مع الحديث أدّت إلى تأليف آثار متنوّعة ومناقشة مواضيع مختلفة في هذا المجال./ بقلم الباحث الشيخ محمد حائري الشيرازي

شهدت الحوزة العلمية في قم خلال القرن الماضي، منذ إعادة تأسيسها من قبل المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، ظهور تيارات حديثية متعددة، ولا تزال هذه التيارات والمناهج قائمة حتى يومنا هذا.

 

التيار ظاهرة اجتماعية مكونة من مجموعات ومكونات متنوعة وأسس معرفية مختلفة، حيث تعمل مجموعة مُدارة وفقًا لهذا التيار، على التفكير والمبادئ المعرفية، ومتابعة القضايا.

إنّ معرفة هذه التيارات، أي المناهج الحديثية للكبار والشخصيات الذين درسوا في الحوزة العلمية في قم، تُؤدّي إلى فهم النظريات المختلفة في هذا المجال.

عندما نعرف وجهات النظر المختلفة حول الحديث وفهمها، يُمكننا فهم كيفية تفاعل العلماء والكبار مع الحديث ونظرياته بشكل أفضل. كما يسهل ذلك علينا عملية الحكم والتفكير؛ أي عندما نتعرف على التيارات المختلفة، نحدد مدى قوة ونفوذ كل تيار على الحديث، ونرى مدى اعتماد كل تيار على الأسس العلمية والاعتقادية.

معرفة هذه التيارات تُمكننا من إصدار أحكام أكثر دقة وإنصافًا على كل تيار، كما يمكننا إلى حد كبير تخمين مسارها ومستقبلها؛ لأن مكونات كل تيار قابلة للتعرف.

معرفة التيارات تُمكّن الشخص الذي يرغب في الدخول في مجال التعامل مع الحديث في الفضاء العلمي من إجراء مقارنة واختيار أفضل.

الاتجاه الأول: كيفية تعامل العلماء مع الحديث

بشكل عام، يمكن الدخول في هذا البحث بطريقتين. في الطريقة الأولى، نوضح ببساطة كيفية تعامل العلماء والأعلام مع ظاهرة الحديث.

هناك ثلاثة اتجاهات رئيسية: أقصى (المتطرفة)، معتدل، وأدنى(الحد الأدنى). تعامل الاتجاه الأقصى مع الحديث بشكل أقصى، بينما اتخذ الاتجاه المعتدل نهجًا وسطًا معتدلًا، ولم يتبع أيًا من الاتجاهين الأقصى أو الأدنى. بالطبع، هناك أيضًا اتجاهات فرعية، كل منها لديه القدرة والإمكانية على التحول إلى اتجاه رئيسي.

الاتجاه الثاني: دراسة الاتجاهات التي تناولت أبعاد الحديث

المنهج الثاني هو اتجاه يدرس فيه التيارات التي كانت نشطة في المئة عام الماضية فيما يتعلق بأبعاد الحديث المختلفة وقدمت نظريات حولها

تيار حجية الحديث

في التيارات المتعلقة بحجية الحديث، نجد أشخاصًا مختلفين في هذا المجال لديهم نفس النظريات الثلاثة الحد الأقصى (المتطرفة) والمعتدلة والحد الأدنى حول حجية الحديث. يرى التيار المتطرف أن الأصل هو قبول الحديث ما لم يثبت العكس. بينما يرى التيار الحد الأدنى أن الأصل هو رفض الحديث ما لم يثبت العكس.

يتناول التيار المعتدل الأحاديث بناءً على الأسس والمعايير التي حددوها. إذا كان الحديث يتوافق مع هذه الأسس والمعايير، فإنهم يقبلونه. وإذا لم يكن كذلك، فإنهم يتجاهلون هذا الحديث.

في التيار المعتدل، اتخذ العديد من الشخصيات، مثل آية الله البروجردي، والإمام الخميني، وآية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، والعلامة الطباطبائي، وآية الله معرفت، نهجًا معتدلًا في مجال حجية الحديث.

أحدث المرحوم آية الله البروجردي ثورة جديدة في مجال الحديث في الحوزة العلمية في قم من خلال تأليف كتاب “جامع أحاديث الشيعة”. على الرغم من أن وفاته حالت دون إكماله لهذا المشروع بنفسه، إلا أنه ترك إرثًا هامًا لا يزال يُفيد العلماء والباحثين حتى يومنا هذا.

تيار الحدّأقصى هو تيار “أهل الحديث” أو “أهل الأخبار”. يتميز هذا التيار بنظرة شاملة للحديث، حيث يفترضون صحة الحديث بشكل عام ما لم يتم إثبات عكسه. ينقسم هذا التيار إلى مجموعات فرعية ذات اتجاهات متطرفة ومعتدلة وتفريطية.

التيار الثالث هو “القرآنيون” الذين يتبنون نهجًا حدّأدنى فيما يتعلق بحجية الحديث. نشأت هذه الحركة في الأصل في سياق أهل السنة، ثم انتشرت إلى المذهب الشيعي حيث وجدت ممثلين لها.

في حين أن بعض أهل السنة في الماضي نفوا حجية الحديث بشكل قاطع، معلنين أن الحديث لا قيمة له على الإطلاق، إلا أن بعض الشيعة تبنّوا نهجًا مختلفًا. بينما يؤمن هؤلاء الشيعة بأهمية الحديث وقيمته، إلا أنهم يتخذون نهجًا حذرًا تجاهه نظرًا لما حدث من تحريف ووضع وافتراء على الأحاديث على مدار 1400 عام.

ونتيجة لذلك، يميلون إلى قبول عدد محدود من الأحاديث مع تطبيق معايير صارمة لتقييم صحتها وثبوتها.

يُجادل أتباع هذا التيار بأنه بسبب الأحداث المؤلمة العديدة مثل التحريف والوضع التي تعرضت لها الأحاديث، لم يعد لدينا قاعدة حديثة موثوقة يمكن الاعتماد عليها. ومع ذلك، يرى بعض أتباع هذا التيار أنه لا يزال لدينا بعض الأحاديث التي يمكن الاعتماد عليها، ولكن بشروط ومعايير محددة.

كان من بين رواد التيار القرآني في الحوزة العلمية في قم قبل الثورة الإسلامية الإيرانية السيد حسين حكي زاده والسيد برقعي.

ويمثل تيار “محورية القرآن” مرحلة معدلة من هذا التيار، حيث يؤكد على مركزية القرآن مع احترامه للسنة والحديث، مع التركيز بشكل أساسي على القرآن.

يؤمن أتباع هذا التيار بأن القرآن هو المصدر الأساسي للإسلام، وأن الحديث يجب أن يكون متوافقًا تمامًا مع القرآن. ويرفضون أي حديث لا يتوافق بشكل قاطع مع محتوى القرآن. ومن بين ممثلي هذا التيار المرحوم آية الله صادقي الطهراني، والسيد مصطفى حسيني الطباطبائي، والسيد كمال الحيدري

التيارات الفرعية لدراسة الحديث: تاريخ الحديث

يُعد هذا التيار فرعيًا نوعًا ما، حيث توجد أفكار وكتب وآثار حول بعض العلوم الفرعية للحديث، لكنها لم تتحول بعد إلى تيار فكري متكامل. لذلك، يتم استخدام مصطلح “التيار الفرعي” للإشارة إلى هذا المجال.

يُعد علم تاريخ الحديث من أهم العلوم المساعدة في مجال دراسة الحديث، برزت العديد من التيارات الفكرية المهتمة بتاريخ الحديث في الحوزة العلمية في قم، ومن بين أبرز الشخصيات التي برزت في هذا المجال:

السيد محمد كاظم الطباطبائي، الأستاذ مهدي مهدوي راد، السيد محمدرضا جلالی الحسینی، ومهدی غلامعلی.

التيارات الفرعية لدراسة الحديث: الوضع وعلل الحديث.

كتاب “وضع و نقد حدیث” لحجة الإسلام عبد الهادي مسعودي، وكتاب “آسیب شناسی روایات” لحجة الإسلام محمد حسن رباني،
وكتاب “التصحیف فی متن الحدیث” لحجة الإسلام حیدر مسجدی، ..هي من بين الأعمال التي أنتجها خريجو الحوزة العلمية في قم في هذا المجال.

الفقه ونقد الحديث

من أبرز الشخصيات التي برزت في مجال فقه الحديث ونقد الحديث:
حجة الإسلام محمد حسن رباني، حجة الإسلام عبد الهادي مسعودي، والسيد محمد كاظم الطباطبائي، وحجة الإسلام محمد احسانی فر، الدكتور محمد رضا پسندیده.

تيار نقد حديث أهل السنة

ساهم بعض علماء الحوزة العلمية في قم في مجال نقد الحديث عند أهل السنة، حيث قدموا دراسات وتحليلات متنوعة في هذا المجال:

منهم: العلامة العسکری: اشتهر بآرائه النقدية الجريئة حول صحة بعض أحاديث أهل السنة، كما واصل السيد سامي البدري مسيرة العلامة العسکری في هذا المجال، حيث قدم دراسات معمقة حول مختلف جوانب هذا الموضوع.

لم يحظَ تيار نقد حديث أهل السنة في الحوزة العلمية في قم باهتمام كبير، بل يمكن القول إنّ المرحوم العلامة العسکری كان رائدًا في هذا المجال. بينما كان تيار نقد أحديث الشيعي أكثر انتشارًا في الحوزة العلمية في قم، وذلك لكونها حوزة علمية شيعية، حيث كان الاهتمام الأساسي ينصب على نقد الحديث الشيعي وتمحيصه.

من أبرز الشخصيات التي برزت في مجال نقد الحديث الشيعي في الحوزة العلمية في قم:

العلامة شعراني: قدم مساهمات مهمة في مجال نقد الحديث الشيعي من خلال مؤلفاته ودراساته.
حجة الإسلام نعمت الله صالحی نجف آبادی: من تلامذة آية الله البروجردي، وله إسهامات قيّمة في مجال نقد الحديث الشيعي

تيار دار الحديث
ساهمت مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية التي أسسها المرحوم آية الله الري شهري، في تخريج العديد من العلماء الذين قدموا إسهامات قيّمة ومتنوعة في مجال الحديث الشريف، ممّا جعل بصمة هذه المؤسسة واضحة وجلية في هذا المجال.

تيارات التصحيح و التحقيق وإحياء الحديث

ومن أبرز الشخصيات التي برزت في هذا المجال:

الحاج علي أكبر غفاري: من أشهر مصححي كتب الحديث الشيعي، خاصةً كتب الأربعة، ويعتبر من أوضح الوجوه في تصحيح متن الحديث الشيعي، عاش في حوزة طهران العلمية، لكن سافر إلى قم لحضور درس التفسير للمرحوم الأشراقي، وهذا هو السبب لذكره في هذا الموضع.

حجة الإسلام والمسلمين رباني الشيرازي: تولى تصحيح كتابي “وسائل الشيعة” و”بحار الأنوار”، وهما من أهمّ كتب الحديث الشيعي.

والمرحوم العلامة الشعراني: تصحيح شروح الكافي للطوسي، منها شرح ملاصالح المازندراني ، شرح الوافي للفيض الكاشاني، كتاب وسائل الشيعة، إرشاد القلوب للديلمي.

العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي: حقق حاشية لكتاب “بحار الأنوار” للعلامة المجلسي، وله أيضًا تفسير روائي قبل تفسيره المعروف يُعرف باسم “تفسير البيان في الموافقة بين الحديث والقرآن”، وإن كان يعرف العلامة الطباطبائي بكتاب تفسيره الميزان وهو تفسير القرآن بالقرآن.

كما قدم المرحوم آية الله محمد تقي مصباح اليزدي، وآية الله العظمى السيد حسين الطباطبائي البروجردي، والسيد عبد العزيز الطباطبائي اليزدي، والمرحوم آية الله مرعشي النجفي، والمرحوم آية الله محمد باقر محمودي تأليفات في هذا المجال.

تيار تقييم الحديث

يُعدّ تيار تقييم الحديث ركناً أساسياً ذا أهمية بالغة وتأثير عميق في تعاملنا مع الحديث. وتُعدّ مسألة “اتخاذ المبنى” في تقييم صحة أحاديث الشيعة موضوعاً حاسماً وذا تطبيقات عملية واسعة. فعند اعتمادنا على منهجية سندية، ستكون نتائجنا مختلفة عن تلك التي ستنجم عن اتّباع منهجيات تعتمد على القرينة أو التحليل الفهارسى أو التركيز على الراوي، وهكذا.

الفئة الأولى: تيار محورية الراوي والميل إلى القرينة:

ينقسم أتباع هذا التيار في الحوزة العلمية في قم إلى أربع فئات. الفئة الأولى هي تيار محورية الراوي والميل إلى القرينة.

طرح المرحوم آية الله البروجردي فكرة تقييم الأحاديث بناءً على رواتها، واعتبر أن تقييم كل حديث يعتمد على الرواة الموجودين في سلسلة سنده، لكن على نحو الميل إلى القرينة.

لا تقتصر منهجية “الميل إلى القرينة” على مجرد وصف وتضعيف الراوي في الكتب الرجالية، بل تتضمن أيضًا دراسة طبقة الرواة ومذهبهم وقومهم وغيرها من العوامل التي قد تؤثر على صحة الحديث، وبناءً على هذه الدراسة، يتم اتخاذ قرار بشأن صحة كل حديث والرواة المذكورين في سلسلة سنده.
لقد اتبع المرحوم آية الله البروجردي نفس هذا النهج في كتابه “جامع أحاديث الشيعة”.

الفئة الثانية: تيار محورية الراوي والمیل إلی النصّ.

يمثل تيار محورية الراوي و الميل إلى النصّ الاتجاه الثاني في مجال تقييم أحاديث الشيعة. ويُعدّ المرحوم آية الله الخوئي من أبرز رواد هذا التيار، على الرغم من أنه لم يعش في الحوزة العلمية في قم.

ومع ذلك، فقد ترك آية الله الخوئي إرثًا فكريًا غنيًا في مجال علم الحديث، وقام بعض طلابه في الحوزة العلمية في قم، مثل المرحوم آية الله الميرزا جواد التبريزي، بتطوير أفكاره ونشرها في هذا المجال.

الفئة الثالثة: التحليل الفهرستي:

يمثل التحليل الفهرسي منهجًا جديدًا نسبيًا في تقييم أحاديث الشيعة. ويُعدّ آية الله السيد أحمد المددي من أبرز رواد هذا المنهج.

يعتقد أتباع هذا التيار أنّ علماءً مثل المرحوم النجاشي وابن الوليد استخدموا منهج التحليل الفهرستي لتقييم اعتبار الأحاديث.

الفئة الرابعة: محورية القرينة

يختلف هذا التيار عن التيارات السابقة في أنه لا يركز على الراوي أو على التحليل الفهرستي، بل يركز على البحث عن القرائن التي تدعم صحة الحديث أو تضعفها

لا يعتمد هذا التيار على تقييم الراوي أو على التحليل الفهرسي، بل يركز بشكل أساسي على البحث عن القرائن التي تدعم صحة الحديث أو تضعفها.

المراكز الحديثية

يُعدّ مؤسسة “دار الحدیث” للثقافة والعلم أحد المراكز النشطة والمؤثرة في مجال الحديث الشيعي، خاصة في حوزة قم العلمية. وقد تم تأسيسه رسميًا عام 1995 من قبل آية الله الريشهري، ونجح في تخريج العديد من الباحثين المتميزين.

مؤسسة آل البيت لإحياء التراث: تأسست هذه المؤسسة من قبل حجة الإسلام والمسلمين السيد جواد الشهرستانی، والسيد علي الخراساني، والشيخ محمد النجف. وتعمل المؤسسة على إحياء التراث الحديثي الشيعي من خلال نشر الكتب والمجلات العلمية.

مركز البحوث الكمبيوترية للعلوم الإسلامية (نور): يهدف هذا المركز إلى تسهيل الوصول إلى الحديث الشيعي ودراسته من خلال استخدام أدوات التكنولوجيا والبرمجيات. وقد قام المركز بتطوير العديد من البرامج والمشاريع التي تساعد الباحثين والطلاب على دراسة الحديث الشيعي بسهولة ويسر.

أنشأ مكتب الإعلام الإسلامي، ومعهد العلوم والثقافة الإسلامية العديد من الأقسام والبحوث التي تُعنى بدراسة الحديث الشيعي.

كما تعد مكتبة آية الله المرعشي النجفي، و”معهد العلوم الإسلامية في قم”، ومجمع احیای الثقافة الإسلامیة الذي تأسس على يدي حجة الإسلام علی آل کوثر ومحمد کاظم محمودی، ومركز معارف أهل البيت (ع)، من المراكز التي لها أنشطة في مجال الحديث.

 

تم تقديم هذا البحث في ندوة “اتجاهات التيارات الحديثية في المائة عام الأخيرة من تاريخ الحوزة العلمية في قم” في إطار سلسلة ندوات الاحتفال بالمائة عام على إعادة تأسيس الحوزة العلمية في قم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky