موقع الاجتهاد: في هذه المقالة فإننا نسعى إلى تقديم تقرير عن المسار التاريخي لتطوّر تبويب علم أصول الفقه ، منذ بداية نشأته إلى عصرنا الحاضر، مع بيان التبويبات التي تمّ فيها رعاية ملاكات التبويب الصحيح، وأيٌّ منها لم يحتوِ على تلك الملاكات، وإنما قام على أذواق وأمزجة أصحابها. بقلم الدكتور الشيخ مهدي علي پور(*) ترجمتها الى العربية: حسن علي مطر
لقد أشار المحقِّقون المسلمون منذ القدم ـ من خلال تعداد الرؤوس الثمانية ـ إلى عملية التبويب أيضاً. ورغم أنهم كانوا يستعملون مصطلح «القسمة»، إلاّ أنّه لم يكن مرادهم من ذلك سوى التبويب والتنظيم الصحيح والمنطقي للعلم. وربما أمكن لنا أن نعرّف عملية التبويب بأنها: «تنظيم وتصنيف مباحث العلم، وبيان موقعها، من خلال الالتفات إلى معايير الترتُّب المنطقي، وتقسيم المباحث إلى الموضوع والمبادئ والمسائل».
وقد ذكروا للتبويب فوائد جمّة، يمكن الإشارة إلى بعضها على النحو التالي:
1ـ إن عملية التبويب تسهِّل الطريق للوصول إلى العلم، والسيطرة على موضوعاته.
2ـ إمكان التحقيق والتعرُّف إلى مباحث العلم في وقت أقلّ، ولا تخفى ضرورة الاقتصاد في الوقت بالنظر إلى اتساع رقعة العلوم وتشعّبها.
3ـ إن عملية التبويب تحدّ من تكرار المباحث من دون ضرورةٍ تدعو إلى ذلك.
4ـ إن عملية التبويب تساعد المحقِّق في ذلك العلم في الوصول السهل إلى المباحث التي يحتاجها.
5ـ من خلال التبويب الصحيح والمنطقي لمباحث ومسائل أيّ علم من العلوم يتمّ تحديد الموضع الصحيح لكلّ مبحث بشكل واضح؛ إذ تبرز المبادئ التصوّرية والتصديقية العامة لذلك العلم، ويتمّ ترتيبها على نحو منطقي.
وهكذا مسائل ذلك العلم يتمّ ترتيبها، وفق ذات الأسلوب المنطقي، بالالتفات إلى الارتباط والحاجة، في موضعها المناسب. وطبيعي أنّ المبادئ التصورية والتصديقية لكلّ مسألة تتقدّم من الناحية المنطقية عليها. وكلّ هذه الأمور تؤدي إلى جعل الاستنتاجات أكثر صوابية وإصابة للواقع، كما تؤدي إلى البُعد عن التعقيد، وعدم الخلط بين المسائل.
والنكتة الهامة الأخرى، والتي يجب علينا الإشارة إليها هنا، هي ملاكات التبويب الصحيح. ربما أمكن تقديم الكثير من الملاكات في هذا الشأن، ولكن الذي يبدو أساسياً عبارة عن أمرين:
الأول: معرفة ارتباط المسائل والمباحث ببعضها؛ إذ من خلال ذلك يتضح ما هي المباحث التي تترتَّب على المباحث الأخرى؟ وما هي المباحث التي تعتبر من مبادئ المسائل الأخرى؟ ومن الطبيعي أن هذا الأمر يجب أن يُراعى في التنظيم والتبويب المنطقي.
الثاني: معرفة الموضوع([1])، من خلال تعريفه وبيان حدّه ورسمه، والغاية التي ينشدها؛ إذ من خلال معرفة هذه الأمور بشكل صحيح يمكن الفصل بين مسائل العلم وبين مبادئه التصوّرية والتصديقية، وإقامة ترتُّب منطقي بينها بالنظر إلى الأولويات. وهذا ما قد بحثتُه وحققتُه بالتفصيل في مقالة أخرى.
وأما في هذه المقالة فإننا نسعى إلى تقديم تقرير عن المسار التاريخي لتطوّر التبويب في علم الأصول، منذ بداية نشأته إلى عصرنا الحاضر، مع بيان التبويبات التي تمّ فيها رعاية ملاكات التبويب الصحيح، وأيٌّ منها لم يحتوِ على تلك الملاكات، وإنما قام على أذواق وأمزجة أصحابها([2]).
وفي هذا المجال سنتعرّض إلى تبويب المحقِّق الكبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) بالتفصيل، وسنبحث في مستوى الاستحكام والدقّة ورعاية ملاكات التبويب الصحيح فيه.
لقد تخطّى علم الأصول مراحل مختلفة. وإنّ المحقق أو الطالب الذي يستطيع التعرّف على هذا المسار التاريخي سوف يحصل على إحاطة شاملة وجامعة ومنسجمة حول هذه الحركة والنظام والتبويب المناسب، ويحصل على الكثير من الفوائد الجديدة والبديعة. ومن الطبيعي أن تكون أفضل وسيلة للاطلاع على مثل هذا التحوّل هي تلك التي تكمن في الرؤية الدقيقة إلى التبويبات المطروحة في هذا العلم؛ إذ من خلال أدنى مقارنة نجريها بين الكتب الأصولية، من قبيل: العُدّة، والمعارج، والمعالم، والقوانين، والكفاية، والحلقات، وغيرها من الكتب الأصولية، ندرك هذا المسار في تاريخ التبويب، وما طرأ عليه من التغيير والتحوّل الشامل والكلّي.
من هنا فإن النظر في تاريخ التبويب في علم الأصول يبدو ضرورياً. وهذا ما نسعى إلى بيانه في هذه المقالة.
وربما كان من المناسب ـ قبل الخوض في موضوع المقالة ـ أن نذكّر بأمور حول الأهمية الكبيرة لبحث تاريخ علم الأصول؛ من أجل الوصول إلى ما طرأ عليه من التغييرات، وعناصر تلك التغييرات، وما إذا كان التكامل في الأصول متزامناً ومنسجماً مع التغيرات الحاصلة في علم الفقه أم لا؟ وإذا كان الجواب بالنفي فكيف يمكن إيجاد هذا التزامن والانسجام؟
كما يجب تحديد ما كان عليه علم الأصول من نقاط القوّة والضعف، والحيوية والجمود، وكيفية حصول ذلك، وهل تمّ الكشف عن العناصر والأسباب الدخيلة في ذلك؟ وإذا تم اكتشافها فهل تمّ العمل على صيانة هذا العلم من أن يبتلي في المستقبل بذات الموانع التي ابتلي بها في الأزمنة السابقة أم لا؟ وإن لم يتمّ اكتشافها هل أجري حتى الآن تحقيق من أجل التعرّف عليها واصطيادها أم لا؟
وخلاصة الكلام: إننا بحاجة إلى تحقيق واسع حول مراحل التطوّر والتقدّم في علم الأصول وأشكاله وعناصره. وبطبيعة الحالة فإننا في الإجابة الدقيقة عن الأسئلة المتقدّمة بحاجة إلى كتابة أخرى لا يتَّسع لها حجم هذه المقالة([3])، التي نتحدَّث فيها عن شكل التحول والتغيير في تبويب علم الأصول بالتفصيل.
ومن أجل دراسة شكل وكيفية تطور علم الأصول يجب أولاً أن نقوم بجولة حول أدوار هذا التطوّر؛ لكي نتمكن من الوصول إلى النتيجة المطلوبة من خلال التدقيق في تبويبات هذا العلم في مختلف المراحل.
وقد شرح السيد الشهيد الصدر كيفية تطوّر علم الأصول ضمن مراحل ثلاث([4])، وهي:
1ـ عصر التمهيد وإعداد الأرضية.
2ـ عصر العلم.
3ـ عصر التكامل.
وقد بدأ سماحته عصر التمهيد بابن عقيل العُماني، وابن جُنَيْد الإسكافي، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، وختمه بالشيخ الطوسي، حيث ينحدر علم الأصول في نهاية هذه المرحلة نحو الضعف والأعمال الرتيبة والمتكرّرة. وفي هذه المرحلة تمّ تدوين الكتب الأصولية التالية: (كشف التمويه والاستئناس)، لابن الجنيد؛ ورسالة الشيخ المفيد الموجودة في (كنز الفوائد)، للكراجكي؛ و(الذريعة)، للسيد المرتضى، وكذلك (عدّة الأصول) أيضاً.
وأما عصر العلم فقد رصد السيد الشهيد بدايته بعد قرن من الزمن، أي منذ بداية القرن السادس إلى القرن الثاني عشر. وقد بدأت هذه المرحلة بالسيد مكارم، وابن زهرة، وابن إدريس، واختتم بالمحقّق الحلّي، والعلامة الحلّي، والشهيد الأول، والشهيد الثاني، والفاضل المقداد، وصاحب المعالم، والشيخ البهائي.
وهذه المرحلة هي مرحلة ازدهار علم الأصول. وفيها ألَّف المحقق الحلي (نهج الرسول)، و(المعارج)، وبادر العلامة الحلي أيضاً إلى كتابة (تهذيب الأصول)، و(مبادئ الأصول)، و(غاية الأصول)، و(شرح غاية الأصول)، للغزالي، و(منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول). ولا يزال بعض هذه الرسائل موجوداً إلى الآن.
وألَّف فخر المحقّقين ابن العلاّمة (شرح التهذيب والمبادئ)، وكتب الشهيد الثاني (القواعد)، وكتب الشيخ محمد حسن (معالم الأصول)، وبادر الشيخ البهائي إلى تأليف كتاب (زبدة الأصول).
ومن ثم بدأت مرحلة جديدة من ضعف الأصول، وهجوم الأخباريين، والتي استمرّت على مدى القرنين الحادي عشر والثاني عشر.
وقال السيد الشهيد بأنّ عصر تكامل الأصول قد بدأ في نهاية القرن الثاني عشر، مع ظهور الشيخ الوحيد البهبهاني، واستمر إلى عصرنا هذا، الذي هو بداية القرن الهجري الخامس عشر. وفي هذه المرحلة عمد الطلاب الذين درسوا على يد الوحيد البهبهاني ـ إمّا مباشرةً، من أمثال: السيد مهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، والميرزا القمي، والسيد علي الطباطبائي، والشيخ أسد الله التستري، أو بواسطة التلاميذ الذي درسوا على أيدي هؤلاء العباقرة، من أمثال: صاحب الفصول شريف العلماء المازندراني، والسيد محسن الأعرجي، والشيخ النراقي، وصاحب الجواهر، ومن بعدهم تلامذتهم، وعلى رأسهم الشيخ الأنصاري ـ إلى تطوير علم الأصول، والبلوغ به إلى القمّة والذروة.
وفي نهاية المطاف قام أشخاصٌ، من أمثال: صاحب الكفاية، والشيخ النائيني، والشيخ العراقي، والشيخ الإصفهاني، بتوريث علم الأصول لعلماء كبار، من أمثال: الإمام الخميني، والسيد الخوئي، وغيرهما من المعاصرين.
وقد عمد الدكتور أبو القاسم الكرجي إلى بيان تحوّل وتطوّر الأصول عبر تسع مراحل([5]). وبالطبع فإن هذا التقسيم أكثر شمولية ودقّة، ويظهر امتزاج واختلاط الكلام والمنطق بالأصول. ولكن حيث إنّ مقالتنا هذه ترصد هدفاً آخر فإننا سنكتفي بكلام السيد الشهيد الصدر في باب أدوار التحوّل والتطوّر.
أما الآن؛ وبالالتفات إلى التقسيم الذي قدَّمه المحقِّق السيد الشهيد الصدر بشأن مراحل تطوّر الأصول، نشير إلى بعض التبويبات لكلّ مرحلة. وضمن مقارنتها ببعضها سنعمد أيضاً إلى بيان كيفية وتبلور تطوّرها بوضوح. من هنا فإننا سوف نشير إلى المرحلة الأولى، أي المرحلة التمهيدية، من خلال تبويب الذريعة، للسيد المرتضى؛ والعُدّة، للشيخ الطوسي.
ونبحث في عصر العلم، من خلال تبويبات المعارج، للمحقق الحلّي؛ والمبادئ، للعلامة الحلي؛ والمعالم، للشيخ محمد حسن. وفي مرحلة الكمال نُذكِّر بقوانين الميرزا القمي، وفصول الشيخ محمد حسين. وفي ما يتعلَّق بالمرحلة النهائية سنبحث في تبويبات رسائل الشيخ الأنصاري؛ وكفاية الأصول، للآخوند الخراساني، وتقريرات أعلام، من أمثال: الشيخ النائيني، والشيخ العراقي، والشيخ الإصفهاني، والإمام الخميني، والسيد الخوئي، مع تبويبات أصول الفقه للشيخ المظفَّر، وحلقات السيد الشهيد الصدر، و…([6]).
لتحمیل المقال أضغط هنا