زيارة الأربعين

إحياء يوم الأربعين والتساؤلات المطروحة حوله / الشيخ رسول جعفريان

الاجتهاد: إنّ الاهتمام بأربعين الإمام الحسين عليه السلام كان معروفاً عند الشيعة، منذ العصور القديمة، وفي التقويم التاريخيّ عند محبّي الإمام الحسين عليه السلام.

ففي كتاب مصباح المتهجّد- الذي كان ثمرة البحث الدقيق والاختيار الحكيم للشيخ الطوسيّ، بالنسبة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المناسبات الشيعيّة على مدار أيّام السّنة، سواءٌ أيّام الموالد والأفراح، أو أيّام الوفيات والأحزان، والأعمال الواردة فيها من الدعاء والصيام والعبادات- هناك قال الشيخ الطوسي، وهو يتحدّث عن مناسبات شهر صفر:

أوّل يوم منه سنة إحدى وعشرين ومائة، كان مقتل زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

واليوم الثالث منه سنة أربع وستّين أحرق مسلم بن عقبة ثياب الكعبة، ورمى حيطانها بالنيران فتصدّعت، وكان يقاتل عبد الله بن الزّبير من قِبَل يزيد بن معاوية.

وفي اليوم العشرين منه، كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول صلى الله عليه واله وسلم ، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ (رضوان الله عليه) صاحب رسول الله صلى الله عليه آاله وسلم، من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فكان أوّل من زاره من الناس.

وقال تحت عنوان: “أعمال يوم أربعين الإمام الحسين عليه السلام”:

ويستحبّ زيارته عليه السلام فيه، وهي زيارة الأربعين، فروي عن أبـي محـمّد العسـكريّ عليه السلام أنّه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

ثمّ نقل الشيخ الطوسيّ متن زيارة الأربعين بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام:

(السلام على وليّ الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه، السلام على صفيّ الله وابن صفيّه…) (1).

هذا ما أورده الشيخ الطوسيّ العالم الشيعي الجليل ومعتمد الشيعة ومفكرهم في القرن الخامس للهجرة حول مناسبة الأربعين.

وبسبب ذلك التعظيم الموجود عند الشيعة تجاه ذلك اليوم، والذي لا يعلم زمان بدايته متى ظهر، نرى الشيعة الإماميّة يؤدّون زيارة الأربعين ويقرؤونها إجلالاً وتعظيماً لها، بل إنّهم يقصدون كربلاء لزيارة إمامهم الحسين عليه السلام عن قربٍ كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً كما فعل جابر بن عبد الله الأنصاري.

وهذه السنّة والعادة لا تزال موجودة وبقوّة في زماننا هذا، ونشاهد كلّ سنة الملايين من الشيعة العراقيّين وغير العراقيّين يجتمعـون عنــد مقام الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين.

هنا يجب أن نبيّن بعض النقاط التي لها علاقة بموضوع يوم الأربعين:

العدد (أربعون)

المسألة الأولى التي تلفت الأنظار والتي لها علاقة بموضوع الإمام الحسين عليه السلام هي مفردة (الأربعون) الموجودة في المتون الدينيّة.

هنا يلزم أن نذكر أمراً مهمّاً بعنوان المقدّمة:

في الأساس يجب التنبّه إلى أنّ النقل الدينيّ الصحيح لا يعطي للعدد (الوارد) أيّة خصوصيّة وميزة من الناحية العدديّة في إلقاء المعنى وبيان المقصود، بمعنى أنّ الإنسان لا يستطيع أن يستنبط ويستنتج شيئاً خاصّاً بمجرّد استعمال عددٍ ما في مورد أو موارد متعدّدة، مثل العدد سبعة أو إثني عشر أو أربعين أو سبعين.

وإنّما قمنا بالتذكير بهذا الأمر، باعتبار أنّ بعض الفرق المذهبيّة- خصوصاً تلك التي لها توجّهات باطنيّة وفي بعض الأحيان ينسبون أنفسهم أيضاً إلى المذهب الشيعي- يروّجون لمثل هذه الأفكار الباطلة حول موضوع الأعداد والحروف ومثلهم أيضاً بعض المتفلسفين المتأثّرين بالأفكار الباطنيّة والإسماعيليّة المنحرفة.

في الواقع إنّ الكثير من الأعداد الواردة في المصادر الدينيّة يمكن إحتسابها من الأسرار الإلهيّة؛ ولذلك فلا يمكن استعمال هذا العدد في مورد آخر من دون أي مستند شرعيّ صحيح.

فمثلاً قد ورد العدد (مائة) عشرات المرّات في كتب الأدعية، حيث جاء في بعض الروايات أن يأتي المكلّف بالذكر الفلانيّ مائة مرّة. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أنّ العدد مائة له قدسيّة خاصّة كعدد، وكذلك بقيّة الأعداد.

طبعاً بعض هذه الأعداد قد أخذت قدسيّة عند الناس بصورةٍ عفويّةٍ، وفي بعض الأحيان استفيد منها فوائد سيّئة وفاسدة.

الأمر الوحيد الذي يمكن قوله حول بعض هذه الأعداد هو أنّ العدد يدلّ على الكثرة، كما قيل بالنسبة إلى العدد سبعة، ولا يمكن القول أكثر من هذا بأن نأخذ مثلاً هذه الأعداد وسيلة للاستدلال على أمور أخرى.

يقول المرحوم الأربليّ- الذي يعتبر من علماء الإماميّة الكبار في كتابه (كشف الغمّة في معرفة الأئمّــة عليهم السلام )- وهو يعتـرض على الأشخاص الذين استدلّوا بقدسيّة العدد إثني عشر والبـروج الإثني عشر على إمامة الأئمّة الإثني عشر الأطهـار عليهم السلام فيقول: “إنّ هذه المسألة لا يمكن أن تثبت شيئاً، لأنّه لو كان الأمر هكذا فإنّ الإسماعيليّين وكذا الذين آمنوا بالأئمّة السبعة فقط بمقدورهم أن يأتوا بعشرات الشواهد- (مثل السموات السبع)- ليبرهنوا على قدسيّة العدد سبعة وقد فعلوا ذلك في الواقع”.

العدد (أربعون) في المصادر الدينيّة

إنّ إحدى التعبيرات العدديّة المعروفة والمشهورة، هي كلمة (الأربعين) التي استعملت في كثير من الموارد. مثلا ًعمر النبيّ صلى الله عليه واله وسلم كان في الأربعين حين البعثة، وقيل: إنّ هذا العمر هو علامة بلوغ الرشد العقليّ عند الإنسان. ولكن من الجدير قوله: إنّ بعض الرسل قد وصلوا إلى درجة النبوّة في صباهم.

ونقل عن ابن عبّاس (ولعلّه برواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ): “من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شرّه فليتجهّز إلى النّار”.

ونقل عن آخر (من التابعين) قوله: كان الناس يطلبون الدنيا فإذا بلغوا الأربعين طلبوا الآخرة (2).

وذكر في القرآن الكريم أنّ (ميقات) النبيّ موسى عليه السلام مع ربّه استمرّ أربعين يوماً، وورد أنّ النبيّ آدم عليه السلام سجد لله تعالى على جبل الصفا أربعين يوماً ليلاً ونهاراً (3). وروي أيضاً عن بني إسرائيل أنّهم كانوا يتوسّلون إلى الله تعالى أربعين يوماً حتّى يستجاب لهم (4).

وفي روايةٍ من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً، يزهّده الله سبحانه بالدنيا، ويهديه لمعرفة الحقّ والباطل، وتجري الحكمة من قلبه على لسانه. وهذا المضمون قد ورد في رواياتٍ كثيرة. وأربعينيّات الصوفيّين- سواء كانت صحيحة أم فاسدة- منشؤها تلك النصوص. وقد تحدّث العلّامة المجلسيّ بالتفصيل في كتابه بحار الأنوار عن الاستفادة الخاطئة والفهم غير الصحيح عند المتصوّفة لتلك الروايات الأربعينيّة.

وورد في روايات كثيرة أهميّة حفظ أربعين حديثاً؛ ولذلك نرى المئات من الكتب تحت عنوان (الأربعون حديثاً) يختار فيها المصنّف أربعين حديثاً ثمّ يأخذ في تفسيرها وشرحها. وقد جاء في تلك الروايات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:(من حفظ عنّي من أمّتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عزَّ وجلَّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً) (5).

وفي نقلٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: (لو بايعني أربعون رجلا ، لما وسعني إلّا القيام) (6).

وكتب المرحوم الكفعميّ: (لا تخلو الأرض من قطبٍ ولا أربعةٍ من الأوتاد ولا أربعين من الأبدال ولا سبعين من النجباء)(7).

وكذلك مسألة انعقاد النطفة لتصبح علقة، فهي تحتاج إلى أربعين يوماً، وأيضاً في تحوّلاتها اللاحقة من علقةٍ إلى مضغةٍ إلى حين الولادة، يلزمها من الوقت أربعون يوماً، هذا طبعاً حسب المنقولات القديمة، وكأنّ اعتقادهم هو أنّ العدد أربعين هو مبدأ التحوّل والتكامل.

وفي الرواية: لا تقبل صلاة شارب الخمر أربعين يوماً.

وفي روايةٍ أخرى: من أكل اللحم أربعين يوماً ساء خلقه.

وفي روايةٍ أيضاً: من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر الله قلبه.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الرجل يرفع اللقمة إلى فيه حرام، فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً) (8).

تلك كانت بعض الروايات التي استعمل فيها العدد (أربعين).

(أربعون) الإمام الحسين عليه السلام

هنا يجب أن نرى كيف تحدّثت أقدم المصادر الشيعيّة عن الأربعين، بمعنى أن نبحث عن سبب عظمة وفضيلة الأربعين، ما هو؟

إنّ أهمّ نقطة في موضوع الأربعين- كما مرّ معنا في البداية- هي رواية الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام ، حيث يقول في تلك الرواية الواردة في المصادر المختلفة: علامات المؤمن خمس: 1- صلاة الإحدى والخمسين (17 ركعة للصلوات الواجبة + 11 صلاة الليل + 23 النوافل). 2- وزيارة الأربعين. 3- والتختم باليمين. 4-وتعفير الجبين. 5- والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

هذا الحديث هو المدرك الوحيد المعتبر الذي يصرّح -مع غضّ النظر عن نفس زيارة الأربعين الواردة في كتب الأدعية- بأربعين الإمام الحسين عليه السلام وعظمة ذلك اليوم.

وأمّا ما هو منشأ الأربعين؟

فيجب القول بأنّ المصادر قد نظرت إلى هذا اليوم من جهتين،

الجهة الأولى: أنّه اليوم الذي رجع فيه أسرى كربلاء من الشام إلى المدينة.

الجهة الثانية: أنّه اليوم الذي وصل فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كربلاء لزيارة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

وقد أشار الشيخ المفيد (المتوفَّى سنة 413 هـ) في كتابه (مسار الشيعة) الذي يتحدّث عن ولادات ووفيات الأئمّة عليهم السلام ، فقال: هذا هو اليوم الذي رجع فيه حرم الإمام الحسين عليه السلام من الشام نحو المدينة، وهو اليوم الذي وصل فيه جابر بن عبد الله إلى كربلاء، لزيارة الإمام الحسين عليه السلام.

إنّ أقدم كتب الأدعية المفصّلة والموجودة بين أيدينا هو كتاب (مصباح المتهجّد) للشيخ الطوسيّ الذي تتلمذ على الشيخ المفيد، فهو يذكر هذا الموضوع في ذلك الكتاب، بعدما يتحدّث عن شهادة زيد بن عليّ في اليوم الأوّل من شهر صفر، وإحراق الكعبة الشريفة سنة (64) للهجرة، من قبل جيش الشام في اليوم الثالث منه، بعدها يتعرّض لليوم العشرين من صفر فيقول: (وفي اليوم العشرين منه، كان رجوع حرم سيّدنا أبي عبد الله الحسين عليه السلام من الشام إلى المدينة، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضوان الله عليه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام فكان أوّل من زاره من الناس، ويستحبّ زيارته عليه السلام فيه، وهي زيارة الأربعين).

وهناك يقول: إنّ وقت زيارة الأربعين هو عند ارتفاع النهار. وكتب أيضاً في كتاب (نزهة الزاهد) الذي صنّف في القرن السادس للهجرة: (في العشرين من هذا الشهر (صفر) كان مجيء عائلة الإمام الحسين عليه السلام الكريمة من الشام إلى المدينة) (9). وورد أيضاً هذا القول في الترجمة الفارسيّة لكتاب (الفتوح) لإبن الأعثم (10)، وكذلك في كتاب المصباح للكفعميّ الذي يعدّ من كتب الأدعية المهمّة جدّاً في القرن التاسع للهجرة.

وقد استظهر بعضهم من كلام الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ أنّ يوم الأربعين هو يوم خروج الأسرى من الشام إلى المدينة، لا أنّهم وصلوا إلى المدينة في ذلك اليوم (11). على كلّ حال، إنّ زيارة الأربعين تعتبر من زيارات الإمام الحسين عليه السلام الموثوقة والمعتمدة، ولها ميزة خاصّة من ناحية المعنى والمضمون.

رجوع الأسرى إلى المدينة أو إلى كربلاء

لقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الشيخ الطوسيّ يعتبر أنّ يوم العشرين من صفر أو الأربعين، هو اليوم الذي رجع فيه الأسرى من الشام إلى المدينة.

ولكن هناك نقل آخر صرّح أنّ الأربعين هو يوم رجوع الأسرى من الشام إلى كربلاء. هنا يجب القول- بحسب المصادر القديمة- إنّ القول الأوّل أقوى من القول الثاني.

يقول العلّامة المجلسيّ بعد نقل كلا الرأيين: إنّ احتمال صحّة أيٍّ منهما مستبعد من ناحية الزمان. وقد صرّح بهذا التردّد أيضاً في كتاب الأدعية الذي ألّفه باسم (زاد المعاد).

مع كلّ ذلك، فإنّنا نجد في المتون القديمة نسبيّاً، مثل كتاب (اللهوف) وكتاب (مثير الأحزان) أنّ الأربعين له علاقة بموضوع رجوع الأسرى من الشام إلى كربلاء، حيث طلبوا من دليل القافلة أن يعرّج بهم على كربلاء.

لكن يجب التنبّه إلى أنّ هذين الكتابين- وإن كانا يحتويان على مطالب مهمّة ومفيدة من بعض الجهات- ينقلان أيضاً بعض الأخبار الضعيفة والقصصيّة التي تحتاج للتعرّف عليها وتحقيقها، إلى الرجوع إلى المصادر والمراجع القديمة.

وهنا يجب إضافة نقطة وهي أنّ المصادر التي صنفت بعد كتاب (اللهوف)- وقد أخذت منه هذا الخبر- لا ينبغي عدّها مصادر مستقلّة ومسندة، مثل كتاب (حبيب السّير) الذي نقل خبر رجوع الأسرى إلى كربلاء من تلك المصادر؛ ولذا لا يمكن جعل ما ذكره مستنداً للإستدلال والاحتجاج به.

من المناسب هنا، أن نذكر هذين النقلين حول وصول الأسرى إلى دمشق.

الأوّل: ما نقله أبو ريحان البيرونيّ، فقال: (في اليوم الأوّل من شهر صفر، دخل رأس الحسين عليه السلام مدينة دمشق، فوضعه يزيد لعنه الله بين يديه ونقر ثناياه بقضيبٍ كان في يده وهويقول:

لســت مـن خنــــــدف إن لم أنتقــــم

مـــــن بنــي أحمـــد، مـــا كــان فـــعـــل

ليــت أشيـاخــــي بــبــــــدر شهـــــــدوا

جــــزع الخــــزرج مــــن وقـــع الأســــل

فــأهــلّــــــــــــوا واســــتهـــلّــــوا فرحــــاً

ثـمّ قـــــالـــــوا: يـــا يــزيـــــد لا تــــشــــل

قــــد قتلــــنا القــــرم مـن أشياخهم

وعــــــــدلـــنـــــاه بــبـــــــدر، فاعـتــــــــدل

الثاني: كلام عماد الدّين الطبريّ (المتوفَّى حوالي 700) في كتاب (كامل البهائيّ) حيث اعتبر أنّ وصول الأسرى إلى دمشق هو في السادس عشر من شهر ربيع الأوّل (يعني بعد عاشوارء بـ (66) يوماً) وهذا القول عنده هو الأنسب والأقرب إلى الواقع.

الميرزا حسين النوريّ والأربعون:

العلّامة الميرزا حسين النوريّ، مصنّف كتاب (مستدرك الوسائل) وهو يعتبر من علماء الشيعة البارزين، ينتقد ويفنّد في كتابه (اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر) بعض روايات وقصص المجالس الحسينيّة التي أصبحت مشهورة ومتداولة بين عموم الشيعة مع مرور الأيّام، وهي- حسب رأيه- ليست صحيحة.

والظاهر أنّ الميرزا النوريّ هو الشخص الأوّل الذي قام في هذا القرن الأخير بنقد الرواية التي نحن بصددها، وقد طرح براهين متعدّدة لإثبات عدم صحّتها.

وقد نقل الميرزا النوريّ عبارة السيّد ابن طاووس في اللهوف حيث يقول: (بأنّ الأسرى حين رجوعهم من الشام طلبوا من دليلهم أن يأخذهم إلى كربلاء), ثمّ أخذ بنقد هذه العبارة والمسألة بهذا النحو: إنّ السيّد ابن طاووس نقل في اللهوف خبر رجوع الأسرى إلى كربلاء في الأربعين إلّا أنّه لم يذكر هناك مصدر ذلك الخبر، ويقال بأنّ السيّد في ذلك الكتاب نقل الروايات المشهورة بين الشيعة والتي كانت متداولة في مجالس العزاء الحسينيّ.

ولكنّ السيّد ابن طاووس نفسه في كتابه (إقبال الأعمال) عندما يشير إلى كلام الشيخ الطوسيّ في المصباح حيث يقول: (إنّ الأسرى تحرّكوا من الشام إلى المدينة في يوم الأربعين، وقد نقل أيضاً الشيخ في غير المصباح أنّ رجوعهم في الأربعين كان إلى كربلاء وليس إلى المدينة) هناك يبدي السيّد تردّده في كلّ من القولين.

وهذا التردّد باعتبار أنّ ابن زياد قد حبس الأسرى مدّة من الزمان في الكوفة، ثمّ لو أضفنا هذه المدّة إلى الوقت الذي يحتاج إليه السفر من الكوفة إلى الشام ثمّ الإقامة شهراً كاملا ًهناك ومن بعده المدّة اللازمة للرجوع، كلّ هذا يجعل وصولهم في الأربعين إلى المدينة أو إلى كربلاء أمراً مستبعداً.

وممّا يقوله أيضاً ابن طاووس: من الممكن تحصيل الإذن من يزيد للرجوع إلى كربلاء، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك في الأربعين. وقد ورد في خبرٍ حول رجوع الأسرى إلى كربلاء، بأنّ ذلك الوصول كان في نفس زمان وصول جابر إلى كربلاء وقد حصل لقاء بين جابر وبين الأسرى.

هنا أيضاً يتوقّف السيّد ابن طاووس ويشكّ حتّى في وصول جابر إلى كربلاء في الأربعين.

هذا الاختلاف في كلام ابن طاووس بين كتاب اللهوف وكتاب الإقبال قد يكون سببه أنّ الأوّل كتبه في أيّام الشباب، وأمّا الثاني فقد صنّفه في مرحلة نضوجه الفكريّ. وقد تكون العلّة في ذلك أيضاً: أنّ كتاب اللهوف قد ألّفه لمجالس العزاء في المحافل العامّة، بينما صنّف كتاب الإقبال كأثر علميّ متين للخواصّ.

طبعاً بالنسبة إلينا لا داعي أبداً لقبول تلك الشكوك والتردّدات التي أبداها السيّد حول مجيء جابر إلى كربلاء في يوم الأربعين.

والظاهر أنّ المستند الأقوى الموجود بين أيدينا لإثبات أهميّة الأربعين وعظمتها هو زيارة جابر في الأربعين باعتبار أنّه كان هو الزائر الأوّل.

أمّا القول بأنّ منشأ فضيلة الأربعين هو رجوع الأسرى إلى كربلاء، فهنا يلزم التوجّه إلى هذه النقطة المهمّة، وهي أنّ الشيخ المفيد في كتابه المهمّ في بابه وهو باب سيرة الأئمّة، أي كتاب (الإرشاد)، وفي قسم منه يختصّ بالإمام الحسين عليه السلام لم يذكر أبداً فيه رواية رجوع الأسرى، وأنّهم رجعوا إلى العراق.

وكذلك فعل أبو مخنف الراوي الشيعيّ الكبير، حيث لم يشر أبداً في كتابه عن مقتل الحسين عليه السلا ، إلى شيءٍ من رجوع الأسرى نحو العراق.

وهكذا، فإنّنا لا نجد أيّ أثر ٍلهذا الخبر في المصادر القديمة لتاريخ كربلاء، مثل كتاب (أنساب الأشراف) و(الأخبار الطوال) و(الطبقات الكبرى).

ومن الواضح أنّه لا يوجد حذف متعمّد لذلك الخبر، إذ إنّه لا يوجد أيّ سبب وداعٍ لهذا الحذف والتحريف.

وقد ورد في كتاب (بشارة المصطفى) خبر زيارة جابر، ولكنّه لم يذكر شيئاً عن لقائه بالأسرى.

وكذلك المرحوم الشيخ عبّاس القمّي، وتبعاً لأستاذه النوريّ، فقد اعتبر مسألة مجيء أسرى كربلاء في الأربعين من الشام إلى كربلاء غير صحيحة.

وقد أنكر أيضاً المرحوم محمّد إبراهيم آيتي، خلال أيّامه الأخيرة في كتابه (البحث في تاريخ عاشوراء) رجوع الأسرى إلى كربلاء. وهذا ما كان عليه رأي الشهيد المطهّري الذي تأثّر بالمرحوم آيتي.

ولكن في قبال رأي كلّ هؤلاء العلماء، كان يقف بقوةٍ الشهيد القاضي الطباطبائيّ مخالفاً لهم.

الشهيد القاضي الطباطبائيّ والأربعون:

صنّف شهيد المحراب المرحوم الحاج السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ كتاباً مفصّلا ًحول الأربعين باسم (التحقيق حول الأربعين الأوّل لسيّد الشهداء) وقد طبع مؤخّراً بشكل جديد وأنيق.

لقد كان هدف الشهيد من تأليف هذا الكتاب هو نفي استبعاد مجيء الأسرى من الشام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل. وقد طبع هذا الكتاب بمجموع (900) صفحة، ويحتوي على تحقيقات كثيرة في تفاصيل وجزئيّات واقعة كربلاء، وهي مفيدة جدّاً وجذّابة.

ولكن الظاهر أنّ المؤلّف الجليل- مع كلّ الجهود التي بذلها- لم يكن موفّقاً كثيراً لإثبات ذلك المطلب الذي نحن بصدده. فهو من أجل الردّ على إشكال استحالة انتقال الأسرى من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ثمّ من الشام إلى كربلاء خلال أربعين يوماً، أورد بالتفصيل سبعة عشر نموذجاً تاريخيّاً من السفرات والرحلات، مع الأزمنة التي احتاجت إليها تلك الرحلات لقطع طريق الذهاب من كربلاء إلى الشام ثمّ طريق الإياب من الشام إلى كربلاء.

وممّا ذكره في ذلك السرد التاريخيّ أنّ المسير من الكوفة إلى الشام وبالعكس كانوا يقطعونه من أسبوع إلى عشرة أو اثني عشر يوماً.

وبناءً على ذلك فمن الممكن أن تقطع مسافة ذلك الطريق خلال أربعين يوماً. ولو صحّ أيضاً قول البيرونيّ، بأنّ رأس الإمام الحسين عليه السلام قد ورد دمشق في اليوم الأوّل من شهر صفر، فحينها يمكن القول بأنّ الأسرى استطاعوا خلال عشرين يوماً الوصول إلى كربلاء.

وبنحو عامّ يجب القول: لو فرضنا إمكان قطع كلّ ذلك المسير، ومن قبل قافلة تتألّف من نساءٍ وأطفال، خلال مدّة زمنيّة قصيرة، فإنّه يجب التنبّه إلى أنّه في الأصل: هل يوجد عندنا خبر عن ذلك في الكتب التاريخيّة المعتبرة أم لا؟

حسب معلوماتنا، فإنّ نقل هذا الخبر من المصادر التاريخيّة لم يكن قبل القرن السابع للهجرة. هذا بالإضافة إلى أنّ علماء الشيعة الكبار، مثل الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ، ليس فقط لم يشيروا إليه بل صرّحوا أيضاً بما يقابله فقالوا: يوم الأربعين هو اليوم الذي دخل فيه حرم الإمام الحسين عليه السلام إلى المدينة أو هو اليوم الذي خرجوا فيه من الشام نحو المدينة المنوّرة.

ويبقى أن نقول: إنّ الزيارة الأولى للإمام الحسين عليه السلام في الأربعين الأوّل قد تحقّقت بزيارة جابر بن عبد الله الأنصاريّ، ومن بعد ذلك كان الأئمّة الأطهار عليهم السلام يستفيدون من كلّ فرصة للحثّ على زيارة الإمام الحسين عليه السلام وكانوا يعرّفون شيعتهم أهميّة واستحباب زيارته عليه السلام في يوم الأربعين باعتبار أنّ أوّل زيارة حصلت، هي تلك الزيارة في ذلك اليوم.

وقد وردت تلك الزيارة (زيارة الأربعين) على لســان الإمام جعفـر الصـادق عليه السلام ، والشيعة ملتزمون بقراءة تلك الزيارة بمضامينها العالية في ذلك اليوم.

إنّ أهميّة قراءة زيارة الأربعين وصلت إلى حدّ أنّها اعتبرت من علامات الشيعة، وبمستوى مسألة الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة، وبموازاة الإتيان بصلوات الفرائض والنوافل الـ (51) ركعة في اليوم والليلة، والتي ورد فيها الأحاديث بما لا يعدّ ولا يحصى أنّها من علامات التشيّع.

نقل الشيخ الطوسيّ زيارة الأربعين في كتاب (مصباح المتهجّد) وأيضاً في كتاب (تهذيب الأحكام) عن صفوان بن مهران الجمّال، حيث قال: قال مولاي الصادق عليه السلام: تزور عند ارتفاع النهار وتقول: (السلام على وليّ الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه…).

إنّ هذه الزيارة تشبه بعض الزيارات الأخرى من بعض جهات، ولكن باعتبار أنّها تحتوي على بعض العبارات اللافتة حول الهدف من قيام الإمام الحسين عليه السلام وثورته، فهي تكتسب ميزة وأهميّة خاصّة.

فقد جاء في جزء من هذه الزيارة حول هدف الإمام الحسين عليه السلام من نهضته ما يأتي: (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة… وقد توازر عليه من غرّته الدنيا وباع حظّه بالأرذل الأدنى..).

ملاحظتان صغيرتان

الأولى: جاء في بعض روايات كتاب “كامل الزيارات” الواردة في فضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام: (إنّ السماء والأرض والشمس والملائكة بكوا على الإمام الحسين عليه السلام أربعين صباحاً).

الثانية: إنّ ابن طاووس قد طرح أيضاً إشكالا ًزمنيّاً، بالنسبة إلى جعل العشرين من صفر هو يوم الأربعين؛ لأنّه إذا كانت شهادة الإمام الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرّم، فإنّ الأربعين سيكون في اليوم التاسع عشر من صفر وليس العشرين منه..

وقد ردّ هذا الإشكال، باحتمال كون شهر محرّم الذي استشهــد الإمام الحسين عليه السلام في العاشر منه (29) يوماً، وليس ثلاثين يوماً.. وإذا كان الشهر كاملاً (أي ثلاثين يوماً) فيجب أن لا يُحتَسَب يوم الشهادة وهو العاشر من المحرّم.

 

الهوامش

(1). الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص 548.

(2). مجموعة ورّام، ص 35.

(3). المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 9، ص 329.

(4). المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 5، ص 239.

(5). المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 2، ح 5، ص 154.

(6). الطبرسيّ، الإحتجاج، ص 84.

(7). المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 53، ص 200

(8). المحدّث النوريّ، مستدرك الوسائل، ج 5، ص 217.

(9). نزهة الزاهد، ص 241.

(10). ابن الأعثم، الفتوح، تصحيح مجد الطباطبائيّ.

(11). المحدّث النوريّ، لؤلؤ ومرجان، ص 154.

 

المصدر: شبكة فجر الثقافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky