الاجتهاد: صدر عن بيت العلم للنابهين في بيروت نهاية العام (2021م) للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كتيب “شريعة التدخين” في 68 صفحة، تضمن (138) حكماً شرعيا مع (40) تعليقا للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، تصدره مقدمة للناشر وأخرى للمعلق وتمهيد للمحرر.
كان لي قريب عزيز أسنَّ مني عمراً قد ترك الوطن مجبراً وعاش في بلد لم يولد فيه، وبعد عقد من الزمن أصابني ما أصابه من البعد القسري عن الوطن فالتقيت به في مهجره، وكنت أتردد بحكم صلة القربى على محل عطارته تارة وتارة في دارهم، وقد لفت نظري سلوكه في تدخين السيجارة، فكنت أراه في المحل يتعاطاها بصورة طبيعية أمام أنظار الآخرين كأي مدخِّن للسيجارة، وفي المنزل كان يعتكف في بيت الخلاء يقضي حاجته على تمايل الدخان يبثه في الفضاء متراقصاً، ويطيل البقاء فيه حتى ينهي وطره من سيجارته حتى آخر نفس ثم يخرج متنحنحاً.
سلوكه هذا أثار انتباهي فسألته عن السبب، فكان ردّه أنه يدخن السيجارة منذ أن كان شاباً يافعاً وإنه لم يتعاط السيجارة أمام والده ولا مرة واحدة رغم تطاول السنين احتراماً له وإكراماً للدار وساكنيه، مع علم الوالد بأنّ ولده من المدخنين، فأكبرت في قريبي هذا السلوك والإحترام للوالد رغم أنه صاحب زوجة وأسرة، وظلّ على هذا الحال حتى انتقل والده إلى دار الحق، ولكنه هو الآخر انتقل إلى دار الحق وكان التدخين أحد أسباب موته!
وصورة أخرى أرعبتني كثيراً عند العودة ثانية إلى الوطن من المهجر القسري، فكانت الحرية التي تمتع بها المجتمع العراقي بعد سنة 2003م قد تجاوزت حدودها إلى الفوضى، ومن ذلك أنَّ المرء أينما نظر أو رفع رأسه واجهته نشرات الإعلانات وبأحجام كبيرة عن السيجارة والتشجيع على التدخين وبخاصة في العاصمة بغداد، وزاد المعلنون في استقطاب الجيل الجديد أن وضعوا في لوحة الإعلانات صورة إمرأة مليحة، أي اللعب بمشاعر المراهق عبر إنسية طينية زرقاوية العينين جذبا له وإيقاعاً به في مخمصة التدخين، وارتفع معدل ارتياد حديثي السن على المقاهي والنوادي لتعاطي الدخان سيجارة او نرجيلة (الشيشة)، وغاب الخجل والإستحياء من التدخين بين الأحداث رغم أن المقاهي تكتب في واجهتها “ممنوع دخول الأحداث” ولكنه اعلان فضفاض من باب ذر الرماد في العيون لا يلتزم به الكثير من أصحاب المقاهي والنوادي، ومع مرور سنوات الفوضى المغلفة بحرير الحرية صار تعاطين المخدرات والممنوعات هو المرض الذي يعاني منه العراق الحديث، فحيث أباحوا الدعاية الفوضوية للسيجارة وصارت المقاهي والنوادي والخمارات والمراقص أكثر من المطاعم ودور العلم، ابتلى شباب العراق بالممنوعات، لأن السيجارة مقدمة إلى ما هو أشد من التبغ، وبالتجربة مع الممنوعات والمحرمات يتحول التعاطي بين الأحداث والشباب إلى عادة واعتياد، وهذا ما ابتلي العراق بتشجيع من قوى خارجية وإقليمية وجشع مروجي التبغ والممنوعات والمخدرات.
ترى .. ما هو موقف الشرع من التدخين والإعتياد عليه وعلى غيره من المخدرات؟
هذا ما حرَّره الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب “شريعة التدخين” الصادر نهاية العام (2021م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 68 صفحة، تضمن (138) حكماً شرعيا مع (40) تعليقا للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، تصدره مقدمة للناشر وأخرى للمعلق وتمهيد للمحرر.
بين الإباحة والحرمة
في كل جزئية من جزئيات الحياة مصلحة ومفسدة، يدركها الإنسان البالغ بشكل عام، فما كان مصلحة وفائدة فهو حلال وما كان مفسدة ومضرة فهو حرام، والمرء في الشرع الإسلامي وعموم القانون السليم هو بين جلب منفعة ودرء مفسدة، أي بين فعل الشيء وجوباً أو تركه حرمة، وما بينهما المستحب والمكروه، ويقف المباح في الوسط الذي ربما وصف بالحلال القائم على خيار الفعل والترك وللإنسان الرشيد الإقدام على إنشاء الفعل من عدمه، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (إنَّ خلفية الفلسفة الإسلامية في التشريع هي المصالح والمفاسد، فما كان ضرره أكثر من نفعه حرَّمه الله تبارك وتعالى، وما كان العكس أباحه، سواء كان من وجهة شخصية أو اجتماعية أو بيئية، سواء كانت مادية أو معنوية وتقدَّر الأمور بقدرها).
وفي هذا السياق التشريعي يتابع الكتيب في أحكامه التدخين ومتعلقاته من أضرار ومنافع، بين الإباحة والتحريم وفق مؤثرات التدخين وموارده وتداعياته، فالتبغ الذي هو مصدر السيجارة والنرجيلة وما شابهما يبقى من المزروعات والنباتات المتعددة الإستخدامات مثل أي نبات أو فاكهة أو ثمرة، فالعنب على سبيل المثال فاكهة غنية بالفوائد والفيتامنيات له أن يعطينا عصيراً أو خلاً مفيداً مباحاً وللمرء أن يخمِّر عصيره فيعطينا نبيذا مسكراً محرما، فالمزروعات وأوراقها وفواكها وثمارها تبقى كما هي حلالا زلالا مباحا، والعبرة في نوعية الإستخدام.
ولعل من أضرار التدخين هو الإدمان والإعتياد عليه، وهو ما يوفر بيئة مالية دسمة لشركات التدخين وبيئة وبائية على مستوى الفرد والمجتمع، تنتهي إلى الإدمان الذي يعتبر البيئة الحاضنة لكثير من الأمراض السرطانية في قادم السنين بسبب تراكم المواد السمية التي يفرزها التبغ، ناهيك عن الرغبة الشديدة التي تنتاب عدد غير قليل من المعتادين على تناول ما هو أشد من التبغ إن كان على مستوى المحاولة والتجربة أو انسياقاً مع حاجة الجسم المعتاد إلى الأشد وقعاً وتخديراً.
ومن أهم مضاعفات تدخين التبغ كما أشار إليها المحرر في التمهيد اعتماداً على تقارير طبية هي: السكتة القلبية، الجلطة الدماغية، سرطان الرئة، عُسر التنفس، الضغط العصبي، الضغط النفسي، رخاوة في الجلد، العجز الجنسي، سرطان الفم، تلوث الأسنان، تلوث البيئة، كراهة الرائحة، تبذير المال، قلّة الشهية، التأثير على الحمل، والتأثير على الدم.
على طريق الإقلاع
وحيث كان التبغ نباتاً، فإن تدخينه وتعاطيه: (إن لم يكن فيه ضرر عام يخضع للإباحة ولا تطاله الحرمة أو الوجوب ولا الكراهة ولا الاستحباب، وحكمه حكم سائر العقاقير التي يتناولها الناس بشتى الوسائل أكلاً وشِربا وتدهينا أو مضغاً أو سُعوطاً)، وتتحقق الحرمة كما يضيف الفقه الكرباسي: (إذا ثبت بأن التبغ أو الطباق أو الطيّون أو غيرها تدخينها مضر للجسم ضرراً بالغا فلا شك في حرمتها).
وللحد من ظاهرة التدخين رغم الإباحة مع عدم الضرر البالغ، فإن التشجيع ثابت على دفع المبتدئ من الإقتراب منها لتلافي اضرارها مستقبلا، ولهذا: (الأحوط الأولى التجنب عن التدخين للمبتدئ، وأما المعتاد على التدخين والقادر على تركه فالأولى الإقلاع عنه، وأما الذي لا يقدر على تركه عليه أن يقلل منه ويبحث عن طرق موجبة لتركه والإقلاع عنه)،
ويزيد الفقيه الغديري في تعليقه على المسألة: (قد يجب عليه – الإقلاع- بلحاظ الوضع الصحي الخاص أو العام وتشخيص المورد على نفسه أو أن تكون له الولاية عليه بوجه أو الطبيب)، وأما بالنسبة لغير المبتدئ ومن أجل دفعه إلى الإقلاع يرى الفقيه الكرباسي أنَّ: (المدخِّن القادر على ترك التدخين ولو بشكل تدريجي، يجب عليه الإقلاع عن التدخين على الأحوط الأقوى)، ولكن (في صورة الضرر البالغ يجب تعييناً) كما يؤكد الفقيه الغديري.
ومن المفارقات أن الشركات الغربية التي تنتج السيجار وتصدره للعالم تحظر بشكل عام الإعلان عن السيجارة في وسائل الإعلام وفي لوحات الإعلانات الخطية والضوئية، لإدراكها باضرر التدخين، وتضع على علبة السيجارة صور مرعبة عن مضار التدخين وسرطاناته وتحذر منه،
ولكن الإعلانات في عالمنا العربي والإسلامي والثالثي سلعة رائجة، والشركات الأجنبية التي تصدر السيجار تزين العلبة بعيداً عن الصور المقززة، أي أن الشركات المنتجة تصدر وتشجع على التدخين، وفي بلدانها تصدر وتشجع على الإقلاع، مفارقة ليست بالعجيبة لإن التدخين في أكثر هذه البلدان جاء دخيلاً عليها بفعل جشع الشركات الأجنبية المنتجة حتى فاق عدد المدخين المليار نسمة.
واتساقاً مع هذا المنحى فإن الفقيه الكرباسي يرى أنه: (لا تجوز الدعاية للتدخين وتشجيع الناس عليه بشكل عام)، ويضيف: (الدعايات المُستخدمة في وسائل الإعلام للتدخين وبشكل عام غير جائزة على فرض الحُرمة، وأما بالنسبة إلى الحشيشة إنْ حدثت فلا شك في حُرمتها)،
من هنا ولأنَّ: (الدعاية للتدخين تابعة لأصل الحرمة، فإنْ أفتى المجتهد الجامع للشرائط بحُرمة التدخين، حرُم على مقلديه العمل في المجال الدعائي بل حرُم عليه العمل في معامل التدخين وفي بيعه والتجارة فيه)، كما يشدد: (على السلطات والمسؤولين في دوائر الصحة العمل على دفع الناس إلى الإقلاع عن التدخين عبر التوعية المتواصلة والتشديد على بيعه أو العمل على منعه).
ولأن الإسلام يريد صالح الإنسان ومنفعته، فإن الفقيه الكرباسي يرى أنه: (يجوز إعطاء الحقوق الشرعية لعلاج المدَخِّن الفقير، حاله حال اي مرض أو بلاء يُصاب به الإنسان)، في المقابل: (إذا كان الفقير مدخناً بحيث عُدَّ عمله من التبذير، لا يجوز لأحد أن يدفع من الحقوق الشرعية ليصرفها على التدخين، وجاز ان تُعطى له لأجل إطعامه وكسوته ومسكنه وعلاجه، إذا كان جامعاً للشرائط).
بين المدخِّن والمحيط الخارجي
قد يُرى في التدخين أنها مسألة شخصية لا علاقة للآخر بها، فإن دخَّن المدخِّن فلنفسه، والأمر كذلك ما لم يلحق الضرر بالآخر، ففي المسألة احترام متبادل بين المدخِّن والمحيط الخارجي، فمن جانب لزوم إحترام الإنسان المدخن كإنسان حر ولذا: (لا يجوز إهانة المدخِّن حتى على فرض حُرمة التدخين)، وفي المقابل: (ليس من الضروري إيجاد مكان للمدخِّنين، وإنْ خُصِّص مكان لهم وجب الإلتزام به والإهتمام بذلك)،
وهذا ما نجده في عدد من مطارات العالم التي خصصت غرفاً خاصة للمدخنين، ولا يعد هذا من حصر حرية المدخِّن، لإن حريته تنتهي عند حرية الآخر المتضرر من الدخان، بخاصة لدى أصحاب الأمراض التنفسية، بل وحتى لدى الأصحاء الذين يتحسسون من الدخان ورائحته، وعليه: (إذا لصقت مع المدخِّن رائحة الدخان بحيث فاحت منه وكانت موجبة لاشمئزاز الناس، كُره له دخول المساجد والمشاهد بل كل الأماكن العامة، إلحاقاً له بمن يتناول الثوم والبصل، وأما إذا وصل إلى حالة الإيذاء ففيه الإثم)، وكذلك: (إذا كان التدخين في المساجد والمشاهد يُعد في العُرف إهانة لتلك الأماكن المقدسة، فإن هتك حرمتها محرَّم).
ولإن الإحترام المتبادل شرط في أي معاملة بين إثنين فإنه: (يجوز للزوج أن يشترط في العقد أن لا تدخِّن زوجته والعكس صحيح، وإذا اشترطا ذلك حرُم على كل منهما ممارسة التدخين، ومن خالف، له ممارسة حق الطلاق في الطرف الآخر، حسب الشروط التي اشترطوها ضمن العقد).
ولأن مقام الوالدين مقام مقدس فإنه: (إذا عُدَّ التدخين أمام الوالدين إهانة لهما من باب عدم احترامها أو أوجب إيذاء الوالدين، فإن ذلك يُعدُّ محرماً حتى وإن كان التدخين عنده غير محرَّم، وإلا ازداد إثماً).
ولإن للدار حرمتها فإنه: (إذا منع صاحب الدار من التدخين، فلا يجوز التدخين في داره، وإن كان التدخين مباحاً عند مَن يُقلِّده).
ولأن للآخر احترامه، فإنْ كان: (التدخين محرّم لنفسه على القول بحُرمته، فإنه محرّم لإيصال الدخان إلى غيره، كأنْ يدخِّن في غرفة فيها أناس آخرون)، وعليه أيضا: (لا يجوز التدخين على فرض إباحته لنفسه، أن يدخن في غرفة فيها أطفال).
في تقديري أن التعامل مع السيجارة والتدخين ينبغي أن يدخل حيز “الوقاية خير من العلاج”، فالعمل على الحد من التدخين بالطرق السليمة وحظر طرق نشره وبيان كوارثه الصحية والبيئية هو أول الطريق إلى حماية المستهلك من الأمراض المزمنية والقاتلة وسرطان الجيب الذي يستهلك مصروف الأسرة ويستنفذه بخاصة لدى محدودي الدخل.
الرأي الآخر للدراسات- لندن