الاجتهاد: يتمحور هذا المقال حول كتاب “مقتل الحسين” لأبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي، فيتناول مؤلفَه من زاويتَي وثاقته ومذهبه، ثم يتناول الكتاب من عدة زوايا أولها مميزاته، وثانيها النسخة المتداولة للكتاب وما يدور حولها من كلامٍ ونقاش، وثالثها ما رواه المصنِّفون عن هذا الكتاب وملاحظة خصائص الرواية عنه عند ثلاثةٍ من أبرز مَن روى عنه، ليُختَم المقال بالإشارة لأبرز نسختين مستخرجَتَين لهذا الكتاب مع بعض ما يُلاحَظ فيها.
التوطئة
دوَّن المؤرِّخون أحداث خروج الحسين (صلوات الله عليه) وأفرد بعضهم هذه الأحداث ضمن مصنّفات خاصة عنونها بـ”مقتل الحسين“، فكان أولها “مقتل أبي عبد الله الحسين “عليه السلام” ” للأصبغ بن نباتة (رضوان الله عليه)([1])، وتلته بعد ذلك الكتب من الخاصة والعامة، ومن أهمها وأبرزها “قتل [مقتل] الحسين “عليه السلام” ” لأبي مِخنَف لوط بن يحيى، وهو ما ستدور حوله هذه المقالة بإذن الله.
المصنِّف
هو أبو مِخنَف لوط بن يحيى بن سعيد بن مِخنف بن سليم الأزدي الغامدي، شيخ أصحاب الأخبار في الكوفة ووجههم.
قال الكشي (رحمه الله) –على ما نُسِب له- إنه صحب أمير المؤمنين والحسن والحسين (صلوات الله عليهم)، إلا أنّ الطوسي (رحمه الله) قد نفى عنه صحبة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ونسبها لأبيه([2])، ومن غير البعيد وجود الخلل في نسبة القول المتقدِّم للكشي؛ إذ يُحتَمَل أنه إنما أراد نسبة صُحبة الأمير (عليه السلام) لجدِّه مِخنَف كما يؤيده قول النديم في فهرسته: “لوط بن يحيى بن سعيد بن مِخنَف بن سُلَيم الأزدي.
وكان مِخنَف بن سليم من أصحاب عليٍ (عليه السلام) وروى عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) وصَحِبَه”([3])، لا سيَّما مع الالتفات إلى صلاحية صحبة الجدِّ للحسنَين (عليهما السلام) أيضًا؛ إذ أنه تُوفي في الرابع والستين للهجرة خلال معركة التوابين “عين الوردة”([4])، بل يمكن أن يؤيَّد ذلك أيضًا بنصِّ الطوسي (عليه الرحمة) نفسه في رجاله على صحبة مِخنف للأمير (عليه السلام).
نعم، تأمَّل الشيخ المامقاني (رحمه الله) في نفي الطوسي (عليه الرحمة) صحبة الأمير (عليه السلام) عن لوط وعارضه، وعضد تأمُّله بأمرَين:
الأول: إمكان لقائه بأمير المؤمنين (عليه السلام) وتحمُّله منه وهو ذو 15 عامًا، بل حتى دون ذلك، مُعَلِّلاً ذلك بأن العبرة بزمان الأداء لا التحمُّل([5]).
الثاني: ما رواه الكلينيُّ (رحمه الله) بإسناده عن أبي مِخنَف أنَّه قال: “أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) رهطٌ من الشيعة… ” ([6])؛ إذ ارتأى أن الحديث ظاهرٌ في لقائه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحمله على خلاف ظاهره من دون قرينة لا وجه له([7]).
إلا أنَّ لفظ الرواية يحتمل الرفع، والقرينة ليست معدومة في المقام؛ إذ من البعيد كونه صاحبًا لأمير المؤمنين وابنَيه الحسنَين (صلوات الله عليهم) ثم يُسكَت عن صحبته للسجاد (عليه السلام) ويُناقَش في روايته عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)([8])،
أضف إلى ذلك أنه قد نُصَّ على وفاته عامَ سبعٍ وخمسين ومائة([9])، وهذا يقتضي –إن بنينا على صحبته للأمير (عليه السلام)- تعميره لمقدارٍ لافتٍ من السنين، لا يمر في العادة –لا سيما للشخصيات المعروفة- من غير تنويه أو قرائن واضحة، بل يدعم هذا حتى احتمال الاشتباه في نسبته لصحبة الحسنَين (عليهما السلام) وأن كلام الكشي (عليه الرحمة) –أو من أخذ عنه الكشي- إنما كان عن أحد آبائه -كجده مِخنَف- لا عن لوط نفسه.
وقد نبَّه السيد الخوئي (عليه الرحمة) أيضًا على شواهد أخرى على عدم دركِه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: “لم يثبت دركه أميرَ المؤمنين (عليه السلام)، بل إن روايتَه لخطبة الزهراء (عليها السلام) عنه (عليه السلام) بواسطتَين –على ما مَرَّ- يدلُّ على عدم دركه إيّاه (عليه السلام)، وكذلك روايته خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) بواسطتَين على ما تقدَّم في ترجمة زيد بن وهب”، ثم أورد رواية الكافي المتقدِّمة وأشكل عليها بعدم ثبوتها وإرسالها، وأردف على عدم ثبوت روايته حتى عن الحسنَين (عليهما السلام)”([10]).
أولاً: ثقته
قال النجاشي (عليه الرحمة) عن أبي مخنف: “شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، وكان يُسكَن إلى ما يرويه”([11])، ولم أجِد من نازعَ في اعتباره –في نفسه- من أصحابنا الماضين سوى صاحب رياض العلماء (رحمه الله)([12])، نعم ذهب بعضٌ -كالمامقاني (رحمه الله)([13])– إلى استفادة المدح من العبارة المتقدِّمة، بينما ذهب آخرون –كالخوئي (رحمه الله)([14])– لاستفادة التوثيق منها. واستفادة المامقاني غير بعيدة.
رغم ذلك، إلاَّ أنَّ المعاصر السيد سامي البدري (حفظه الله) لم يلتزم ما التزموه، فقال: “وقد وثَّق أبا مخنف في النقل عددٌ من أعلام الشيعة، إلاّ أنّ ذلك قابلٌ للمناقشة، ونحن نتئّد على الأقل، بل نرفض قبول فقرات مبثوثة في رواياته التي ترتبط بسيرة بعض الأئمة (عليهم السلام) أو سيرة شيعتهم في الكوفة او علاقة الأئمة بهم في الفترة الواقعة من سنة حكم عليٍّ (عليه السلام) سنة 35 هجرية وحروبه إلى مقتل المختار سنة 67 هجرية؛ وذلك لأنها تعطي رؤية تخالف الثابت عن أهل البيت (عليهم السلام)، أو الثابت من التاريخ عن شيعتهم في الكوفة وعلاقتهم بهم”، وذكر من روايات أبي مخنف شاهدَين على ما ذهب إليه، أحدهما رواية “لا يبعد ابن عباس”([15]).
وزاد على ذلك فقال في موردٍ آخر: “بل وضع [أي أبو مِخنَف] كتابه في المقتل على ما يبدو في قبال كتاب جابر بن يزيد الجعفي (رحمه الله) لتطويقه واحتوائه؛ إرضاءً للعباسيين في خطتهم التي استهدفت وصف أهل الكوفة خاصّة بأنهم خذلوا الحسين (عليه السلام)، وأنّهم المسؤولون عن قتل الحسين دون يزيد، وقد نجح أبو مِخنف في تحقيق ما أرادوا وصار كتابه أفضل الكتب المؤلفة في بابه وتبنَّاه المؤرِّخون بعده”([16]).
لكن يمكن أن يُقال: إن ما التزمَه السيِّد (حفظه الله) –فضلاً عن ما خمَّنه من نوايا لأبي مخنف- لا موجِبَ له إلا إن ثبت أن منشأ الخلل في هذه النماذج هو أبو مِخنَف نفسه لا مَن روى عنهم أو مَن رووا عنه؛ إذ أنّ ما التزمه الأعلام هو حُسنُه أو ثقته في نفسه، وقد يُعرَف الثقة -في نفسه- بالرواية عن الضِّعاف كما اتفق لأكثر من راوٍ، أضِف لذلك أنَّ هذا الكلام إنما في الروايات التي ثبت الخلل المذكور فيها فعلاً، لا ما لم يثبت أو كان للأخذ والردِّ فيه مجالٌ مُعتَدٌّ به.
نعم، قد يُقال إن نقاش البدري (حفظه الله) إنما هو للاستفادة من “يُسكَن إلى ما يرويه”، بمعنى أن العبارةَ ناظرةٌ لمضامين رواياته لا له هو في نفسه،
حينها يمكن أن يُقال أيضًا:
إن العبارةَ تحتمل وجهَين –كما هو حال كل مصدر أو ما أُوِّل بالمصدر-: أما الأول فأداؤه للرواية، وأما الثاني فنفس الروايات المروية، ولا يتجه الإشكال بالمَروي على الأول إلا مع إحراز أن الخلل قد وقع منه لا مِمَّن سبقه أو مَن لحقه –كما تقدَّم-، وأما على الثاني، فيمكن أن يُقال إن المفهوم من النجاشي (عليه الرحمة) هو النظر إلى رواياته في الجملة لا بالجملة، وعليه فإن كلام النجاشي إنما يختلُّ لو كان ما أشكل به السيد ثابتًا في عموم روايات أبي مِخنَف، لا في بعضها فحسب.
أما العامة، فقد سلك أغلبهم مسلك الطعن والقدح في أبي مِخنَف، قال ابن حجر في لسان الميزان: “لوط بن يحيى، أبو مِخنَف، أخباريٌّ تالفٌ لا يوثَق به، تركه أبو حاتم وغيره، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء، وقال ابن عدي: شيعيٌّ محترقٌ، صاحب أخبارهم، قلت: روى عن الصعقب عن زهير، وجابر الجعفي، ومجالد، روى عنه المدائني، وعبد الرحمن بن مغراء، ومات قبل السبعين ومائة. انتهى. وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عنه، فنفض يده وقال: أحدٌ يسأل عن هذا؟!. وذكره العقيلي في الضعفاء”([17]).
إلا أنّ تضعيفهم يُحتمَل أن يرجع إلى أحد أمور:
الأول: روايته عن الضعفاء، إذ يقول الذهبي: “أبو مِخنَف، لوط بن يحيى الكوفي، صاحب تصانيف وتواريخ، روى عن: جابر الجعفي، ومجالد بن سعيد، وصقعب بن زهير، وطائفةٌ من المجهولين”([18]).
الثاني: ثلبه بعض الخلفاء وقدحه فيهم أو روايته ما يشتمل على ذلك، فإنهم يعدّون ذلك مسقطًا للراوي؛ إذ يقول الذهبي في مقام تبيين من يُؤخَذ عنه ومَن لا يؤخَذ عنه من أهل البدعة –على حد تعبيره-: “ثم بدعةٌ كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه والحطّ على أبي بكر وعمر (رض) والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يُحتَجُّ بهم ولا كرامة”([19])، وقد صرَّح الذهبي نفسه بترفُّض أبي مِخنَف، إذ قال في تاريخ الإسلام: “لوط بن يحيى، أبو مِخنَف الكوفي الرافضي الأخباري”([20]).
ورجوع ذلك لرواياته يمكن أن يُستَشعَر مِمَّا قاله ابن عدي عنه، قال: “حدَّث بأخبار مَن تقدَّم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شاعي [شيعي ظ] محترق، صاحب أخبارهم، وإنما وصفته لا يستغنى [ليستغنى/لأستغني ظ] عن ذكر حديثه؛ فإني لا أعلم له من الأحاديث المسندة ما أذكره، وإنما له من الأخبار المكروه الذي لا أستحب ذكرَه”([21])، وتُعرَف طبيعة ما لا يستحب ابن عدي ذكرَه من خلال ملاحظة عناوين بعض كتب أبي مخنف، ومنها: “كتاب السقيفة”، “كتاب الجمل”، “كتاب صفين”، “كتاب مقتل عثمان”([22]).
وما تقدَّم إنما هو شأن محدِّثيهم، أما أهل الأخبار عندهم، فقد يبدو اعتمادهم عليه واعتباره عندهم، كما قد يلوح من الطبري وابن الأثير وغيرهما.
ثانيًا: مذهبه
اختلف العلماء في مذهب أبي مِخنَف، فمنهم مَن عَدَّه شيعيًا بالمعنى الأعم، أي يحبُّ عليًا (عليه السلام) ويناصره في قِبال معاوية، وبين مَن عدَّه شيعيًا بالمعنى الأخص.
ويبرز في مقدمة ما استُدِلَّ به على الرأي الثاني تصريح الفيروزآبادي في القاموس المحيط([23])؛ إذ قال: “وكمِنبَر: أبو مِخنَف لوط بن يحيى، أخباريٌّ شيعيٌ تالفٌ متروك”([24])، إلا أنّ ذلك غير ناهض؛ إذ “الشيعي” عندهم أعم من كونه إماميًا، يكفي مَيله ومحبته لأمير المؤمنين (عليه السلام) في قِبال مَن كانوا في قِباله -كمعاوية- لإطلاق لفظ “شيعي” على أحدهم عندهم، قال ابن حجر: “والتشيُّع: محبة عليٍ وتقديمه على الصحابة”([25])، نعم يمكن أن يُضَمَّ إلى ذلك نصوص أخرى ليكون الاستدلال أقرب، وستأتي إن شاء الله.
من جهةٍ أخرى استشهد من التزم أن أبا مِخنَف شيعيٌ بالمعنى الأعم –أي يميل لعليٍّ (عليه السلام) في قِبال غيره كما تقدَّم- بعدم إدراج النديم وابن قتيبة في الشيعة رغم عقد كلٍّ منهما بابًا في كتابه للشيعة([26])،
ويمكن أن يُرَدَّ ذلك بأن البابَين (الفنَّين) اللذَين خصَّصهما النديم إنما كان أحدهما لمتكلّمي الشيعة والآخر لفقهائهم، وواضحٌ عدم اندراج أبي مِخنَف في أيٍّ منهما، وقد ذكره في الباب (الفنّ) المناسب له أي في الفن الأول من مقالة “في أخبار الأخباريين والنسَّابين و… “،
وأما ابن قتيبة، فلم يُذكر إلا بعضًا مِن أبرز أعلام الشيعة بالمعنى الأعم مِمَّن صدق عليهم “الترفُّض” أو “التشيُّع”، ولم يكن على سبيل الاستقصاء، فلا يُحتَج بعدم ذكره لأبي مِخنَف، وقد ذكره في الباب الذي هو من أبرز أعلامه أي “النسّابون وأصحاب الأخبار”، أضِف لذلك أنَّ عدَّه من غير “الشيعة” مُعارَضٌ بنصوص بعض رجاليي العامة الصريحة في تشيُّعه ولو بالمعنى الأعم؛ إذ عدم ذكره في “الشيعة” نافٍ لتشيُّعه بالمعنى الأعم كما هو اصطلاحهم.
وقد استدلّ من نفى عنه تشيُّعه –بالمعنى الأخص- أيضًا بتصريح ابن أبي الحديد في شرحه للنهج([27]) حيث قال: “وأبو مخنف من المحدثين، ومِمَّن يرى صحة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدودًا من رجالها”([28])، وهذا أصرح دليلٍ، ولا يمكن النزاع في دلالته إلاَّ أنَّك قد تتساءل عن كيفية التوفيق بين هذا الكلام وبين تصريح ابن عديٍّ بأنه “[شيعيٌ] محترق”([29])، بل تصريح الذهبي بأنه “رافضي”([30])؛ فإنَّ مُرادهم من “الرافضي” هو من أحبَّ عليًّا وقدَّمه على الصحابة وعلى أبي بكر وعمر،
قال ابن حجر: “والتشيّع محبة علي، وتقديمه على الصحابة، فمن قدَّمه على أبي بكر وعمر، فهو غالٍ في تشيُّعه، ويُطلَق عليه رافضي، وإلاَّ فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السبُّ أو التصريح بالبغض، فغالٍ في الرفض”([31])، فقد تظنّ أن اجتماع القول بالاختيار مع تقديم أمير المؤمنين (عليه السلام) على أبي بكر وعمر غريب! لا سيّما في أيام إمامنا الصادق (صلوات الله عليه).
والظاهر أن التوفيق ممكنٌ بافتراض انتماء أبي مِخنَف لإحدى الفرق التي عاصرت الإمام الصادق (عليه السلام) والتزمَت بأفضلية عليٍّ (عليه السلام) وجواز الخلافة بالاختيار، ولعلّ أقربها لذلك الزيدية البترية؛ فإنهم يُقَدِّمون عليًّا (عليه السلام) ويُفَضِّلونه ويجيزون بيعة غيره([32]).
نعم، ليس من الممتنع حَمْلُ تصريح ابن أبي الحديد على الأخذ عن حِس، وحمل تصريح الذهبي وابن عدي وغيرهما على الحَدس والأخذ عن الحادس وأن الحدس ناشٍ عن متابعة روايات الرجل وملاحظة اشتمالها على القدح في الصحابة وأبي بكر وعمر، وهذا غير عزيزٍ في كتب رجاليِّيهم، ورواية مضمونٍ ما أعم من التزامه.
وتأييد عدم إماميِّته بما صرَّح به شيخنا المفيد في كتاب “الجمل” تأييدٌ في محلِّه([33])؛ فإنه قال (رحمه الله): “فهذه جملةٌ من أخبار البصرة وسبب فتنتها ومقالات أصحاب الآراء في حكم الفتنة بها، وقد أوردناها على سبيل الاختصار، وأثبتنا ما أثبتنا من الأخبار عن رجال العامة دون الخاصة، ولم نثبت في ذلك ما روته الشيعة في إنكاره… “([34])، وكان قد ذكر رواياتٍ لأبي مخنف، بل آخر روايةٍ قبل هذا التصريح كانت له أيضًا([35]).
المصنَّف
يُعَد كتاب “مقتل الحسين “عليه السلام” ” لأبي مخنف لوط بن يحيى من أقدم أشهر وأبرز الكتب التي أرَّخت لأحداث مقتل الإمام الحسين بن علي ‘، يقول عنه المحقِّق التستري (عليه الرحمة): “وكتابه في مقتل الحسين (عليه السلام) –ويروي عنه الطبري وأبو الفرج- أصحُّ مقتلٍ؛ فإنه يروي الوقائع غالبًا بواسطةٍ واحدة، إمَّا عمَّن كان معه (عليه السلام) ولم يُقتَل، كعقبة بن سمعان مولى الرباب أم سَكِينةَ، وكغلام عبد الرحمن بن ربه، وكالضحّاك المشرقي،
أو عمَّن شهد قتله (عليه السلام)، كحُمَيد بن مسلم، فروى بواسطةٍ عنه قتل علي بن الحسين الأكبر والقاسم بن الحسن وكثير، وكعفيف بن زهير الذي روى عنه مباهلة برير بن خضير ويزيد بن معقل، وككثير بن عبد الله الشعبي الذي روى عنه خطبة زهير بن القين لأهل الكوفة، إلى غير ذلك… “([36])،
وقد يظهر لك ذلك أكثر حينما تلاحظ أن جمهرةً من المؤرِّخين والباحثين قد أولوا هذا الكتاب ومروياته اهتمامًا خاصًّا، فنقل منه –مباشرةً أو بالواسطة- الطبريّ وابن سعد وابن أعثم والمفيد وابن نما وابن طاوس وغيرهم من الماضين والمعاصرين.
أولاً: مميزاته
يتمتَّع أصل كتاب أبي مِخنَف باجتماع مميِّزات تنفع المؤرِّخ والباحث، ومن أهمِّها:
1- تقدُّم وقت التدوين، فالمصنِّف من وفيات ما قبل السبعين والمائة على أبعد تقدير –كما صرَّح ابن حجر([37])-، فيكون المصنَّف من مؤلفات القرن الثاني.
2- اتصال غالب مرويّاته، شأنه في ذلك شأن كتب مرحلته عمومًا، فلا يروي الأحداث بإسنادٍ منقطعٍ إلا ما قلَّ، مِمَّا يعين الباحث والمدقِّق في ثبوت الأحداث أو الترجيح بينها أو تقدير قيمتها الاحتمالية بمستوىً أفضل مِمَّا لو كانت الأحداث والمعلومات مرويَّةً بنحوٍ مرسل.
3- نقله الكثير من الأحداث عبر وسائط قليلة، بل حتى عبر معاصري الأحداث كثابت بن هبيرة الذي روى عنه مقتل عمرو بن قرضة الأنصاري وخبر أخيه علي بن قرضة، ويحيى بن هاني بن عروة الذي حدَّثه بمقتل نافع بن هلال، وهذا ببركة العصر الذي عاشه وقربه من زمن الواقعة، وقد فصَّل الشيخ اليوسفي الغروي (حفظه الله) الحديثَ حول طرق أبي مِخنَف للأحداث والوقائع المرتبطة بالمقتل في مقدمة كتابه “وقعة الطف”([38])، وسيأتي الحديث عن هذا الكتاب.
4- سعة إحاطة المصنّف بالعراق وأحداث العراق، والتي دارت فيها أكثر أحداث حركة الحسين (عليه السلام) البارزة، يقول الحموي: “وجدت بخط أحمد بن الحارث الخرّاز، قال العلماء: أبو مِخنَف بأمر العراق وفتوحها وأخبارها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بالحجاز والسير، وقد اشتركوا في فتوح الشام”([39]).
ثانيًا: النسخة المتداولة
في ظلِّ الحديث عن هذا الكتاب، يبرز في الواجهة الحديثُ عن “النسخة المتداولة” منه التي كان يظنُّ بعضٌ أنها عين كتاب أبي مخنف أو يحتمل ذلك احتمالاً جدِّيًّا، فاعتمد عليها الفاضل الدربندي (رحمه الله) في كتابه “أسرار الشهادة”([40])، واعتمد عليها لسان الملك محمد سبهر (رحمه الله) في كتابه “ناسخ التواريخ”([41])، وتأوَّل الشيخ خلف آل عصفور (رحمه الله) لجملةٍ من الموارد “المنكرة” فيها([42])، بل كانت منتشرةً مُتَداوَلةً بأيدي النعاة في جملةٍ من بلداننا.
إلا أنَّ الرأي السائد الآن يَخلُصُ إلى الطعن في نسبتها –بصورتها الحالية على الأقل- إلى أبي مِخنَف، بل اعتبرها بعض الباحثين من مصادر التحريف في واقعة عاشوراء([43])، ومِمَّن اتَّخذ موقفًا سلبيًا من هذه النسخة: المحدّث الميرزا حسين النوري (عليه الرحمة)([44])، المحدِّث الشيخ عباس القمي (عليه الرحمة)([45])، والسيد عبد الحسين شرف الدين (رحمه الله)([46])، السيد محمد علي القاضي الطباطبائي (عليه الرحمة)([47])، الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (حفظه الله)([48]).
الملاحظات على النسخة
ومن يطالع هذه “النسخة المتداولة” لا يستغرب هذه المواقف السلبية منها، فمِمَّا يُسَجَّل عليها مواردٌ تفرَّدت بها هذه النسخة دون سواها، وفي بعضها معارضةٌ صريحة، ومنها:
1- قوله: “وكانت بنت عمر بن الحجّاج زوجةً لهاني”([49])، في حين أنها في غير هذه النسخة أخت عمر بن الحجاج لا بنته.
2- خاطب هاني (رضوان الله عليه) في هذه النسخة عند استدعائه من قَبَل ابن زياد أسماء بن خارجة، فقال: “يا أخي، إني… “([50])، وفي غيرها أنه خاطب حسَّان بن خارجة، وقال: “يا بن أخي، إني…”.
3- ورد في هذه النسخة أنَّ هانئًا (عليه الرضوان) قد جذب سيفه وضرب ابن زيادٍ وغيره وقتل منهم خمسةً وعشرين حتى اعتقلوه([51])، بينما لم يرد في سواها إلاَّ أنه حاول أخذ سيف شرطيٍ لا غير.
4- أهملت النسخة ذكر جمع مسلم للجموع عند اعتقال هاني(رضوان الله عليه)([52])، بينما ذُكِرَ ذلك عن طريق أبي مِخنَف في غيرها.
5- ذكرت هذه النسخة أن مسلمًا (رضوان الله عليه) قد سار بين شوارع الكوفة بعد خذلانه حتى خرج من الكوفة ودخل الحيرة ووقف عند دار المرأة([53]) –أي طوعة كما تشير المصادر-، بينما تشير المصادر إلى أنّ دار طوعة (رضي الله عنها) كانت في الكوفة وأنه لم يخرج من الكوفة.
6- في هذه النسخة أن الحسين (عليه السلام) قد عاد للمدينة بأهله عند انقطاع أخبار مسلم، فالتزم قبر النبي (صلَّى الله عليه وآله) وبكى عنده، فرأى الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في عالم الرؤيا فاستأنف المسير للعراق([54])، وليس لهذا الأمر في غيرها عينٌ ولا أثر.
7- وفيها أنه قد أخبر بمقتل مسلمٍ وهاني (عليهما الرضوان) كوفيَّان فأخبر الكوفيَّان بعض الملتحقين بركب الحسين (عليه السلام)([55])، وفي غيرها كان كوفيًا واحدًا.
8- عند بلوغ خبر مسلم وهاني للحسين (عليه السلام) وعند خطابه مع من اجتمع عنده وسماحه لهم بالرحيل، قال في هذه النسخة: “فمن كان منكم يصبر على ضرب السيوف وطعن الرماح… “([56])، ولم يرد هذا في سواها.
9- وفيها أن مقتل العباس (عليه السلام) كان في ليلة العاشر أي مساء التاسع من المحرم([57])، ولا يخفى أنه إنما استُشهِدَ في العاشر من المحرم كسائر الشهداء.
إلى غير ذلك من ملاحظات متعددة على النسخة صياغةً ومضمونًا، وقد ذكر الشيخ الغروي (حفظه الله) موارد ملاحظةٍ أخرى في مقدمة كتابه “وقعة الطف”([58])، وكذا السيد حسن الفاطمي (حفظه الله) في مقالٍ له بعنوان: “منابع تحريف گستر در حادثه عاشورا”([59]).
التعاطي مع “النسخة المتداولة”
مع الالتفات لهذه “الموارد المنكرة” -أو مع قطع النظر عنها- لم يكن التعاطي مع النسخة على نسقٍ واحد، بل كان على عدة أنحاء:
النحو الأول: معالجة هذه الموارد والتأوُّل لها، وهو ما قام به الشيخ خلف آل عصفور (رحمه الله)([60])، وهو ما يعني عدم الجزم بنفيها.
النحو الثاني: إسقاط “النسخة المتداولة” -أو النسخ- والبناء على جعلها واختلاقها بكاملها، وهو ما بنى عليه المحدِّث القمي([61]) والسيد محمد علي القاضي الطباطبائي([62]) (رحمة الله عليهم) والشيخ الغروي (حفظه الله)([63]).
النحو الثالث: البناء على الدس والتلاعب فيها والأخذ بما اتفقت عليه نسخ هذه “النسخة المتداولة”، وهو ما يُفهَم من المحدِّث النوري؛ إذ قال (رحمه الله): “
وللأسف الشديد لا وجود للنسخة الأصلية للمقتل والتي لا عيب فيها بين أيدينا، والمقتل الموجود الآن بيننا المنسوب إليه مشتملٌ على بعض المطالب المنكرة المخالفة لأصول المذهب، ولا بدّ أن الأعادي والجهّال هم الذين أدخلوا تلك المطالب في ذلك الكتاب (..)
وعلى كل حال فقد شُوهِدَ في هذا الزمن لذلك المقتل نسخٌ مختلفة فيها زيادة ونقصان، وكلها تتفق في أن أهل بيت الجلالة (..) ولا يمكن أن يكون كل الحديث من دسّ الوضّاعين سيّما أنه لا داعي في بعضها للوضع… “([64])، ومن هنا اعتمد (رحمه الله) ما كان بصدد نقله من الكتاب كقرينةٍ يؤيِّد بها مطلبه.
وعلى ضوء ما ذكره الميرزا حول اختلاف النسخ، تزداد أهمية البحث والتدقيق في نسخ الكتاب؛ لاحتمال إمكان العثور على الكتاب الذي يصح نسبته لأبي مخنف، أو تنقية بعض هذه النسخ من الشوائب بحيث تقترب من صورة الكتاب، هذا إن صحَّ رأي الميرزا (عليه الرحمة).
وقد وفَّقني الله (عزَّ وجل) للاطلاع على بعض المعلومات المرتبطة بالنسخ وتصفُّح مجموعةٍ منها، وأذكر هنا أربعًا منها:
أما النسخة الأولى: فلم أظفر بها إلا أن المفهرس قد نقل من صدرها تعليقًا ملفتًا للسيد المرعشي النجفي (رحمه الله)، قال فيه: “هذه نسخة من مقتل أبي مخنف مغايرة لمقتله المعروف المطبوع تغايرًا فاحشًا، فلا بُدَّ من [التحرِّي] في حقه”، وقال المفهرس أن النسخة قد اشتملت على تصحيحات في الحواشي. وهذه النسخة من نسخ القرن الثاني عشر، مفهرسةٌ في مكتبة السيد المرعشي (عليه الرحمة) بالرقم (11774)([65]).
وأما النسخة الثانية: فهي نسخةٌ مجهولة الناسخ، ولم أظفر في صفحاتها على تأريخ ولا عنوان، إلاّ أنّ مفهرسها أرَّخها بالقرن التاسع وعنونها بـ”مقتل الحسين” ونسبها لأبي مخنف، فتكون بذلك –إن صحَّ التأريخ- أقدم النسخ المنسوبة لمقتل أبي مخنف على الإطلاق المكتشفة حتى الآن، وهي من مخطوطات المكتبة الظاهرية، محفوظةٌ في مكتبة الأسد بالرقم (247 م. ك).
ومع معاينة النسخة، نجد أنها غير النسخة المتداولة، ويمكننا أن نسجِّل حيالها عدة ملاحظات:
1- رداءة لغتها وإملائها، وقرب بعض عباراتها من اللهجة الشعبية التي لا تنتمي لتلك العصور حتمًا، كقوله: “ريّحنا منه”([66])، وقوله: “هذه الطينة جابها جبريل إلى جدي”([67])، وقوله: “فاتفرقوا فيه”([68]).
2- تفرُّدها ببعض الأحداث الملفتة، ومنها:
– أمر يزيدَ عبيدَ الله بقتل النعمان بن بشير والإقدام عليه، ففيها: “فإذا قرأت كتابي هذا فسر إلى الكوفة .. واضرب رأس النعمان بن بشير واصلبه ليكون عبرةً لغيره .. ثم إن عبيد الله بن زياد اللعين قبض النعمان بن بشير وضرب عنقه وكذلك فعل بجماعةٍ من أصحابه وخواصه وجعلهم عبرةً لمن خالف قوله وخرج عن أمره، وكان بعد إذا التقى رجلٌ من أهل الكوفة لأخيه أو ابن عمه يقول: ويك، دع هؤلاء القوم حتى يصلح الله بينهم، ما لنا والدخول بين السلاطين”([69]).
– حيازة الحسين (عليه السلام) طينًا من كربلاء ورميه في أرض كربلاء، وكان قد أخذه عن الزهراء (عليها السلام) وهي أخذته عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) عند مولد الحسين (عليه السلام) عن جبرئيل (عليه السلام)، ففيها: “ثم قال: “ناولوني قبضةً من تراب هذه الأرض”، فأعطوه قبضةً من التراب، فأخرج طينةً من جيبه وقال: “هذه الطينة جابها جبريل (عليه السلام) إلى جدّي رسول الله ليلة ولدتني أمي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وقال: هذه التربة من موضع قبر الحسين”، ثم إنه رماها من يده”([70]).
3- مخالفة بعض النصوص لمعلومات مسلّمة، كاسم أم البنين، حيث ذكر أن اسمها فيها أم سلمة بنت عاصم الكلبية، ففيها: “فقال لهم [أي العباس (عليه السلام)] يا أبنا الكلاب، أنا ابن أختكم أم سلمة بنت عاصم الكلبية”([71])، في حين أن المتسالم عليه بين المصادر والمراجع أنها أم البنين بنت حزام الكلابية.
4- الأعداد الكبيرة لقتلى الطرف الآخر، ففيها: “فبرز الغلام وأنشأ وجعل يقوم: إن تنكروني فأنا ابن الكلب .. ثم إنه حمل على القوم وغاص في أوساطهم ولم يزل يقاتل حتى قتل مائة رجل ثم استشهد”([72])، وفيها: “فخرج إليه أخيه العباس بن علي بن أبي طالب، ثم إنه حمل على القوم حتى دنا من الشريعة .. ولم يزل يقاتل ويقتل فارس وراجل حتى قتل مائة وثمانون فارس وراجل”([73]).
5- اختلاف ترتيب بعض الأحداث، فعلى سبيل المثال:
– بعد ذكر دخول عبيد الله وما تفرّدت به هذه النسخة من قتل النعمان بن بشير وقبل استدعاء هانئ بن عروة، فيها: “وكان بعد إذا التقى رجلٌ من أهل الكوفة لأخيه أو ابن عمه يقول: ويك، دع هؤلاء القوم حتى يصلح الله بينهم، ما لنا والدخول بين السلاطين، قال: فلما كان في ذلك اليوم خرج مسلم بن عقيل وليس معه ثاني غير الله (عز وجل) وجعل يخترق شوارع الكوفة حتى أتى إلى منزل هاني بن عروة المذحجي وشريك… “([74]).
– قول الإمام (عليه السلام) “يا دهر أفٍّ لك من خليل” أثناء المعركة وهو يصلح درعه لا ليلة العاشر، ففيها: “ثم إن مولاي الحسين (عليه السلام) نظر يمينًا وشمالاً فلم يرَ له ناصرًا ولا معينًا إلاّ الله (عزَّ وجل)، فجعل يصلح خرقًا كان في درعه وهو يقول: “يا دهر أفٍّ لك من خليل .. كم لك بالإشراق والأصيلِ”… “([75]).
وأما النسخة الثالثة: فهي نسخةٌ كُتِبَت بيد نصّار بن حميد بن حمادي السيلاوي الدورقي، وهي غير مؤرخة إلا أنَّها من مستنسخات القرن الثالث عشر الهجري، يدلُّ على ذلك استنساخه لكتاب الحدائق عام 1223 هـ([76]) وعام 1239هـ([77])، وهي من محفوظات مكتبة ملي إيران، مفهرسةٌ فيها بالرقم (8435)([78]).
ومتن هذه في الجملة هو متن النسخة المتداولة، غير أنَّ جملةً من “الموارد المنكرة” الموجودة في المطبوع لا أثر لها فيها، ومن ذلك:
1- الإسناد الوارد في صدر الكتاب، وهو أول إشكالٍ للشيخ الغروي (حفظه الله)، فالسند في هذه النسخة: “قال أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي، قال: حدَّثنا عبد الله بن جندب الأزدي، عن أبيه، قال… “([79])، وفي المطبوع وعدد من النسخ الخطية أن أبا مخنف يروي عن تلميذه الكلبي.
2- عدم نقل رواية وصية معاوية ليزيد عن الكليني، وهو ثاني إشكالات الشيخ الغروي (حفظه الله)، فقد نقلها مرسلةً دون حكايةٍ عن راوٍ أو كتاب([80]). مع الالتفات إلى أن احتمال التصحيف من “الكلبي” إلى “الكليني” واردٌ جدًا، وهذا مِمَّا يضعف هذا الإشكال من الشيخ الغروي كإشكالٍ على أصل الكتاب، لا على جودة النسخة وإتقانها.
3- وقد كان ثالث إشكالات الشيخ الغروي (حفظه الله) مرتبطًا بتاريخ كتاب يزيد إلى الوليد، ولم يُنَصّ عليه في هذه النسخة([81]).
وغيرها، ومن ذلك أيضًا عدم ورود بعض الإشكالات التي أوردتُها آنفًا كذكر خروج مسلم من الكوفة للحيرة.
لكن ذلك لا يعني نقاءها من كل الإشكالات، كما لا يعني سلامتها من إشكالاتٍ أخرى وإن كانت أهون حالاً من النسخ الأخرى، فعلى سبيل المثال:
1- نكتة الإشكال الثاني للشيخ الغروي (حفظه الله) واردة –وإن لم يكن الإشكال بعينه واردًا-؛ إذ وردت في هذه النسخة رواية وصية الحسين (عليه السلام) لابن الحنفية (عليه الرحمة) مرويَّةً عن الكليني([82])، ولا تُعقَل رواية أبي مخنف عن الكليني، على احتمالٍ أن تكون مصحّفةً عن “الكلبي” إلاّ أنّي لم أظفر بهذه الرواية من طريقه.
2- رواية هذه النسخة عن المفضل بن عمر بصيغة التمريض، والمفروض أنهما متعاصران، ففيها: “وروي عن المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) أن الحسين (عليه السلام) دخل على أخيه الحسن… “([83]).
3- روايتها عن الشيخ المفيد وهو متأخِّرٌ عن أبي مخنف بما يقارب القرنين، ففيها: “وروي أن الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان (رضي الله عنه) قد ذكر في كتاب مولد النبي (صلَّى الله عليه وآله) ومولد الأوصياء بإسناده إلى أبي عبد الله الحسين بن علي لما خرج من مكة ليدخل… “([84]).
وأختم بالنسخة الرابعة: وهي نسخة مكتبة ليدن في هولندا، والتي قيل إنها من نسخ القرن العاشر، ومعها يبرز احتمال كَون النسخة المتداولة نسخةً من نسخ كتابٍ للسيد علي ابن طاووس (رحمة الله عليه)، واسمه “المصرع الشَّيْن”، أو أنّ ابن طاووس قد قام بوضع مقدمةٍ على هذه النسخة التي كانت متوفرةً في زمنه فسمّاها بهذا الاسم، وهو ما ذكره المستشرق إيتان كلبرغ، ذلك لأجل ما لَحَظه من اتحاد نسخة “المصرع الشَّيْن” المحفوظة في مكتبة ليدن الهولندية مع النسخة المتداولة المعنونة بـ”مقتل الحسين (عليه السلام)” المنسوبة لأبي مخنف([85]).
ولا بُدَّ في إثبات أحد هذين الاحتمالَين من تناول أمرَين، أولهما اتحاد النسخة مع النسخ المتداولة، وثانيهما انتساب هذه النسخة لابن طاووس (عليه الرحمة).
وأبدأ بالثانية، فأقول: لا وجود لشيءٍ يثبت كتابًا باسم “المصرع الشَّين في مقتل الحسين (عليه السلام)” للسيد (عليه الرحمة) سوى ما ورد في هذه النسخة، فلم يذكره ابن طاووس في أيٍّ من كتبه، ولا ذُكِرَ في أيٍّ من الإجازات، ولا غير ذلك مِمَّا يُنظَر له في هذا المقام، وإنما ذكر كلبرغ ذلك بناءً على الوارد في هذه النسخة فحسب،
والوارد فيها هو قوله في المقدمة: ” وقال علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسيني جامع هذا الاكتاب عن أبي مخنف لوط بن يحيى (رحمة الله عليهم أجمعين) في مصرع الحسين (عليه السلام)”([86])
وقد قال في نهاية الكتاب: ” هذا آخر المصرع الشين في قتل الحسين (عليه السلام) ويتلوه أخذ الثار على يد السادة الأخيار إبراهيم والثقفي المختار”([87])، ومن ذكر نسبة كتابٍ بهذا الاسم للسيد (رحمة الله عليه) بعد كلبرغ إنما أخذ ذلك عنه أو اعتمد على ما اعتمد عليه، لا غير، وهذا مثيرٌ للانتباه، لا سيّما مع ضمِّه لما صرّح به بعض الباحثين من ذوي الخبرة بتصانيف السيد ابن طاووس، وهو الأستاذ المحقق أحمد الحلي (حفظه الله)، من بُعد أسلوب هذا الكتاب عن أسلوب السيد في التصنيف، وللباحث السيد حيدر وتوت الحسيني (حفظه الله) مقالٌ يُفصِّل فيه وجه عدم تناسب الكتاب مع السيد ابن طاووس، سيُنشَر قريبًا إن شاء الله في مجلة “تراث الحلة”.
وأما الأول، فبعد ملاحظة النسخة، تبيَّن التقارب الكبير بينها وبين النسخة المتداولة، في ترتيب الأحداث وتقارب الألفاظ، ومن الملفت جدًا أن ألفاظ بعض الوقائع مترادفة بين هذه النسخة والنسخة المتداولة، وهناك إيجازٌ وتفصيل، وتغايرٌ في ترتيب بعض المواضع، واختلافٌ في بعض الموارد، بالإضافة لزياداتٍ هنا وهناك.
فمن زيادات هذه النسخة ما حكته من بكاء الوليد بن عتبة عند وصول الركب الحسيني للمدينة، ففيها: “وكان الوليد بن عتبة (لعنه الله تعالى) على المنبر، فسمع البكاء والنحيب، فقال: “ما هذا؟”، فقيل: “هذا صراخ نساء الهاشميات، وانهم قد دخلن المدينة”، وذكر الحسين (عليه السلام) فتحادرت دموعه ونزل عن المنبر”.
ومن الاختلافات حمل الشمر لرأس الحر (رضوان الله عليه) عند دخول دمشق بينما في المتداولة كان حاملاً لرأس الحسين (عليه السلام)، ففيها: “قال سهل: فوقفت في جملة الناس وإذا قد أشرف علينا تسعة وعشرون راية، وأتى برأس الحر بن يزيد الرياحي (رضي الله عنه) يحمله شمر (لعنه الله) وفي أذنه رقعة مكتوب فيها قصيدة قالها في الوقت الذي صار فيه إلى الحسين (عليه السلام)”([88]).
ومن الاختلاف في الترتيب ما ذُكِر حول تهنئة رجلٍ ليزيد بقتل الحسين (عليه السلام) وتظاهره بالانزعاج من ذلك، فإنه في المتداولة قبل ذكر الدخول من باب الخيزران بالرؤوس، وفي هذه النسخة جاء بعدها([89]).
كما أن هذه النسخة –حتى مع قطع النظر عن الجهتين المذكورتَين- مشتملٌ على أمورٌ ملفتة وغريبة لا يسع المقام ذكرها وتفصيلها إلاَّ أنّ منها ما اشتملت عليه المقدمة من الترضّي على الإمام الصادق (عليه السلام) والصلاة على النبي (صلَّى الله عليه وآله) الصلاة البتراء([90]).
الراجح في النسخة المتداولة
وبالنظر لما تقدَّم، ولحال النسخ المنسوبة لأبي مخنف في المقتل الحسيني التي تيسَّر الاطلاع عليها وملاحظة ملابساتها لعلّي أحتمل احتمالاً راجحًا –مع الفراغ من عدم صحة نسبتها لأبي مخنف- أن بعض القديم من هذه النسخ مِمَّا كتبه بعضٌ من غير العلماء استنادًا على ما اختزنته ذاكرتهم حول المقتل أو ما يُتناقَل بين غير العلماء من الذاكرة الشعبية التي يعتريها بعض الخلل نتيجةً لضعف الضبط والتساهل وكثرة الاشتباه وغير ذلك، بالإضافة للاشتباه في النسخ الذي أنتج بعض التصحيفات والاختلاف في ترتيب الأحداث، ومن ثمّ وقعت بعض هذه النسخ بأيدي علماءٍ اتَّسَموا بالتساهل في النقل وسعة دائرته من غير تثبُّتٍ يناسب المقام، فراجت هذه النسخ وتكثَّرت، ونتيجةً لذلك، فمن الطبيعي أن تشتمل بعض هذه النسخ على ما له أصل في الكتب، وإن اشتملت على ما بخلاف ذلك أيضًا، كما أنَّ الأمر لا يخلو من احتمال وجودٍ ارتباطٍ لبعض النسخ بأيدي اتجاهاتٍ باطنية وعامية، والله أعلم بحقيقة الحال.
ثالثًا: ما رواه عنه المؤرخون
ومع غض النظر عن “النسخة المتداولة”، فقد رُويَ الكتاب وأخباره بعدّة طرق، ظفرنا منها بما رواه عنه: هشام بن محمد الكلبي، وعلي بن محمد المدائني، ومحمد بن الحكم الشيباني، ومحمد بن فضّال، وعمر بن سعد بن أبي الصيد، ويُحتَمَل كذلك نصر بن مزاحم.
وقد روى عن الكتاب الأصل عدة مصنّفين، ويظهر أن بعضهم قد روى عنه بتوسُّط كتب غيره كتلميذه الكلبي، ولعلَّ أبرزهم: محمد بن جرير الطبري العامي، وأبو الفرج الإصفهاني، والشيخ المفيد (عليه الرحمة)، ويحيى بن الحسين الشجري، والخوارزمي،
ومن المناسب هنا الحديث عن ملامح رواية بعضهم عنه:
* الطبري
وهو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المؤرخ العامي البارز، صاحب كتاب “تاريخ الرسل والملوك”، وهو أقدم مَن وصلنا كتابه مِمَّن روى عن أبي مخنف.
من الراجح أن الطبري إنما ينقل عن أبي مخنف بتوسُّط كتاب تلميذه هشام بن محمد الكلبي المعنون كذلك بـ”مقتل الحسين “عليه السلام” “، وعلامة هذا تكرُّر تعبيره بـ”قال هشام بن محمد: عن أبي مخنف”([91]) وبـ”ذكر هشام عن أبي مخنف”([92]) وبـ”حُدِّثتُ عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف”، وإن كان يُعبِّر بـ”قال أبو مخنف”([93]) في بعض الموارد.
وأما سنده إلى الكتاب، فلم يذكره، فهو يبدأ بالمصنف –أي هشام- دون أن يذكر سنده له، فيقول مثلاً: “حُدِّثتُ عن هشام بن محمد”، نعم، ذكر سندًا لهشام في بداية كتابه، وهو: “حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد”، ويظهر من خلال المتون المروية([94]) أنه سنده لكتابه “حديث آدم وولده” الذي ذكره النديم في فهرسته([95])، وتعويض الإرسال في روايات المقتل بهذا السند غير تام؛ لعدم العلم بأن هذا طريقه لسائر كتبه، نعم هذا مُحتَمَلٌ احتمالاً راجحًا، إلا أن مجرَّد رجحان الاحتمال لا يقتضي البناء عليه.
ويتميَّز الطبري في نقل مرويّات أبي مخنف بـ:
– نقله مرويّات أبي مخنف بأسانيدها.
– يظهر أنه نقل أغلب ما عثر عليه منها في كتاب هشام أو ربما جميعها.
– يظهر أنه ينقل الروايات بتمامها دون اختصار.
ومن هنا اعتمد عليه من استخرجوا مقتل الحسين (عليه السلام) اعتمادًا أساسيًا، سواء من استخرج خصوص روايات أبي مخنف كالميرزا الحسن الغفاري (رحمه الله)، أو من استخرج عموم روايات المقتل كالسيد محمد حسين الجلالي (حفظه الله).
* أبو الفرج الإصفهاني
وهو علي بن الحسين المرواني الأموي، ومن اللافت ما قاله الذهبي عنه: “والعجب أنه أمويٌّ شيعي”([96])، وليس مراده من تشيعه إماميُّته كما تقدَّم حول اصطلاحهم في “الشيعي”.
أورد روايات أبي مخنف في كتابه “مقاتل الطالبيين”، وله إليه سندان، أما الأول فهو: “حدَّثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي، قال: حدَّثنا حسين بن نصر بن مزاحم، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا عمر بن سعد، عن أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي”([97])، وأما الثاني فهو: “حدَّثني أحمد بن محمد بن شبيب المعروف بأبي بكر بن شيبة، قال: حدَّثنا أحمد بن الحرث الخزَّاز، قال: حدَّثنا علي بن محمد المدائني، عن أبي مخنف”([98])، والمُستَظهَر من تعبيره في الأسانيد أنه يروي روايات أبي مخنف عن مشافهة.
ولعلَّ أبرز ما يُلحَظ من ملامح روايته عن أبي مخنف:
– اكتفاؤه في نقل الأحداث بما يرتبط بآل أبي طالب ومقاتلهم، وذلك لأن كتابه إنما على ذلك بُني، فلم يروِ عن أبي مخنف ما تجاوز هذه الدائرة.
– اختصاره في بعض المواضع، كما في لقاء الحر بالحسين (عليه السلام)([99]).
– وجود مواضع اختلافات وإضافات بالنظر لما ينقله الطبري، كقول الحسين (عليه السلام) للحر: “احذر أن تشقى بقتلي ثكلتك أمك”([100])، وككون “المنذر بن عمرو بن الجارود” قد جاء من البصرة للكوفة مع ابن زياد ومسلم بن عمر الباهلي وشريك بن الأعور([101])، وككون القائل: “أما والله لو قتلته لقتلت فاسقًا فاجرًا كافرًا غادرًا” في حادثة عيادة ابن زياد لشريك بن الأعور هو شريك([102]) لا هانئ كما في الطبري([103]).
– وجود اختلافات مع الطبري في بعض الأسانيد، كما في مقتل أولاد أم البنين؛ إذ في مقاتل الطالبيين أن أبا مخنف رواه عن الضحاك [المشرقي] بتوسّط عبد الله بن عاصم([104])، وفي الطبري أنه قال: “قال: وزعموا أن العباس بن علي قال لإخوته… “، وكان الإسناد الذي قبله: “قال أبو مخنف: قال عقبة بن بشير الأسدي، قال لي أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين:… “([105])،
وربما كان الضمير عائدًا لأبي مخنف نفسه، وأوضح منه روايته استدعاء هانئ بن عروة بالإسناد التالي: “فقال المدائني: عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن عثمان بن أبي زرعة”([106])، بينما ذكر في الطبري سندين فيهما خبر بعث ابن الأشعث وابن خارجة إجمالاً دون تفصيل، وسندٌ ثالث يروي فيه الحدث مفصَّلاً، وكل الأسانيد الثلاثة ليست مطابقةً لسند أبي الفرج، وهي –على الترتيب-: “قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد”، و”قال أبو مخنف: حدثني الحسن بن عقبة المرادي”، والسند ذو الرواية المفصلة: “قال أبو مخنف: وحدثني نمير بن وعلة، عن أبي الوداك”([107]).
* الشيخ المفيد
وهو علمنا وشيخنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد، نقل روايات أبي مخنف في كتابه “الإرشاد”.
وقد صرَّح بنقله عن هشام بن محمد الكلبي وعلي بن محمد المدائني وغيرهما؛ إذ قال: “فمن مختصر الأخبار التي جاءت بسبب دعوته (عليه السلام) وما أخذه على الناس في الجهاد من بيعته، وذكر جملةٍ من أمره وخروجه ومقتله ما رواه الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة، قالوا:…”([108]).
والظاهر أنه ينقل عن الكلبي عبر كتابه “مقتل الحسين “عليه السلام” ” وعن المدائني عبر كتابه “مقتل الحسين بن علي ‘”([109]) أو “أخبار أبي طالب وولده”([110]) -وسنده لهذين الكتابَين غير معلوم-، أما ما حكاه بعضٌ من أخذه عن أبي مخنف بتوسّط الطبري، فلا دليل عليه ولا دافع له، لا سيّما مع ملاحظة ما أثبتته الفهارس من رواية أقران الشيخ المفيد لكتب الكلبي والمدائني وأبي مخنف([111])، نعم، ما يرويه المفيد أقرب للطبري مما يرويه أبو الفرج، وربما كان منشأ ذلك تركيز اعتمادهما على كتاب هشام بن محمد الكلبي.
وأبرز ملامح نقل المفيد لروايات أبي مخنف في المقتل هي:
– اختصاره كما صرَّح به في بداية نقله لأحداث (المقتل).
– عدم ذكر أسانيد أخبار (المقتل).
– تجنُّبه نقل بعض ما قد لا يوثَق بصدوره أو ما لا يليق نقله، كوصف حميد بن مسلم للحوراء زينب (عليها السلام) حين خروجها عند مقتل علي بن الحسين “عليه السلام” ([112]).
رابعًا: النسخ المستخرجة
ونظرًا لعدم اعتبار “النسخة المتداولة” من “مقتل أبي مخنف ” وأهمية ما روي عن أبي مخنف من أخبار (المقتل) عمل الميرزا الحسن الغفاري (رحمه الله) ثم الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (حفظه الله) على استخراج مرويات أبي مخنف من كتاب تاريخ الرسل والملوك أو ما يُعرَف بـ(تاريخ الطبري)، فبرز لنا “مقتل الحسين “عليه السلام” ” و”وقعة الطف”.
وعند المقابلة بين الاستخراجَين، نجد:
– تميُّز مقدمة التحقيق للشيخ الغروي (حفظه الله) في قِبال مقدمة الشيخ الغفاري (رحمه الله)؛ إذ اشتملت مقدمة الغروي على أمورٍ عدة أبرزها مناقشة “النسخة المتداولة”، والحديثٍ حول أسناد أبي مخنف –بالإضافة للحديث حول أبي مخنف-، في حين اكتفى الغفاري بالحديث حول المصنّف ومذهبه.
– اشتمل الكتابان على التعريف بالرواة والتعليقات النافعة، إلا أنّ تعليقات الغروي كانت أهم وأوسع مضمونًا وحجمًا.
– تميّز عمل الغفاري (عليه الرحمة) بضم روايات الأخذ بالثار، أي روايات حركة التوابين وحركة المختار.
– تميّز عمل الغفاري بالالتزام بتمام ألفاظ الطبري دون تصرُّف، يذكر السند ثم متنه، بينما تصرَّف الغروي في بعض المواضع تارةً بإضافة بعض الكلمات للتوضيح بحسب ما يراه، وتارةً أخرى لتنظيم السياق وترتيبه، وتارةً ثالثة تصرَّف في اللفظ المُثبَت في تاريخ الطبري لحدسه بالتصحيف كما في قتال أبناء أم البنين (عليها وعليهم الرضوان)؛ إذ حكى قول العباس (عليه السلام) بهذا اللفظ: “يا بني أمي تقدَّموا حتى [أرثيكم] فإنه لا ولد لكم!”([113]) بينما اللفظ في الطبري هكذا: “يا بني أمي، تقدَّموا حتى أرثكم؛ فإنه لا ولد لكم”([114]).
الخاتمة
أخيرًا، فإن هذا الكُلَيمات لا تكتمل فصولها إلا بالفحص الدقيق والشامل لكلِّ مرويّات الكتاب من جهة، ولا يتم ذلك إلا بمقارنتها بما جاء في المدونات التاريخية الأخرى ومدى انسجام نصوص مرويّات الكتاب مع الشخصيات التي تدور حولها وغير ذلك مما يعطي انطباعًا علميًا أوضح عن الكتاب،
ومن جهةٍ أخرى فلا بدُّ من ملاحظة مرويّات المصنّف أيضًا في غير هذه الحقبة التاريخية مِمَّا يعين في كشف ملامح شخصيته من جهة الميول والاعتبار بنحوٍ أدق.
أما النسخة المتداولة، فرغم اتضاح انتفاء نسبتها لأبي مخنف إلاّ أنني بالنظر لمحتويات ما تيسّرت مراجعته من نسخها أحتمل راجحًا أنها عبارةٌ عن تدوينٍ لما اختزنته الذاكرة الشعبية وتداولته الألسن، قام بذلك في البدء غير العلماء، ثم وقعت بعض نسخه بيد بعض العلماء الذين يتساهلون في هذه الموارد، فتكثّرت النسخ وشاعت أكثر، وأجد احتمال وجود ارتباطٍ لبعض النسخ بأيدٍ باطنية وعامية احتمالاً حاضرًا في المقام، والله أعلم.
والحمد لله ربِّ العالمين.
الهوامش
[1] الذريعة، الآغا بزرك الطهراني، محمد حسن، ج22، ص23-24، ط3 دار الأضواء.
[2] الفهرست، الطوسي، محمد بن الحسن، ص381، ط1 مكتبة المحقق الطباطبائي. وراجع أيضًا: رجال الطوسي، الطوسي، محمد بن الحسن، ص81، ط6 مؤسسة النشر الإسلامي.
[3] الفهرست، النديم، محمد بن إسحاق، ج1، ص291، ط مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.
[4] تقريب التهذيب، العسقلاني، أحمد بن علي، ص928، ط دار العاصمة.
[5] تنقيح المقال، المامقاني، عبد الله بن محمد حسن، ج2، القسم الثاني، ص44، ط الحجرية.
[6] الكافي، الكليني، محمد بن يعقوب، ج7، ص281-284، ط3 دار الحديث.
[7] تنقيح المقال، المامقاني، عبد الله بن محمد حسن، ج2، القسم الثاني، ص43-44.
[8] رجال النجاشي، النجاشي، أحمد بن علي، ص320، ط10 مؤسسة النشر الإسلامي.
[9] سير أعلام النبلاء، الذهبي، محمد بن أحمد، ج7، ص302، ط2 مركز الرسالة.
[10] معجم رجال الحديث، الخوئي، أبو القاسم بن علي أكبر، ج15، ص142، ط5 مؤسسة الإمام الخوئي.
[11] رجال النجاشي، النجاشي، أحمد بن علي، ص320.
[12] قال (رحمه الله): “وأما مدحه وتوثيقه، فلم يظهر من كتب الرجال” (رياض العلماء، الأفندي، عبد الله بن عيسى، ج4، ص427، ط منشورات مكتبة المرعشي النجفي).
[13] تنقيح المقال، المامقاني، عبد الله بن محمد حسن، ج2، القسم الثاني، ص44.
[14] معجم رجال الحديث، الخوئي، أبو القاسم بن علي أكبر، ج15، ص142.
[15] الحسين في مواجهة الضلال الأموي، البدري، سامي بن جابر، ص18، ط2 دار الفقه. والمراد من رواية “لا يبعد ابن عباس” هو ما رواه أبو مخنف عن عبد الله بن عاصم عن الضحاك المشرقي، والذي تضمَّن بكاء أخوات الحسين (عليه السلام) بعد تحدثه بما يشير إلى قرب شهادته، راجع: تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج5، ص424.
[16] المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبوية والتأريخ الإسلامي، البدري، سامي بن جابر، ص285، ط1 دار الفقه.
[17] لسان الميزان، العسقلاني، أحمد بن علي، ج6، ص430-431، ط1 مكتبة المطبوعات الإسلامية.
[18] سير أعلام النبلاء، الذهبي، محمد بن أحمد، ج7، ص301.
[19] ميزان الاعتدال، الذهبي، محمد بن أحمد 1: 6، ط دار المعرفة.
[20] تاريخ الإسلام، الذهبي، محمد بن أحمد، ج4، ص189، ط1 دار الغرب الإسلامي.
[21] الكامل في ضعفاء الرجال، الجرجاني، عبد الله بن عدي، ج7، ص241، ط دار الكتب العلمية.
[22] راجع: الفهرست، النديم، محمد بن إسحاق، ج1، ص292. ورجال النجاشي، النجاشي، أحمد بن علي، ص320.
[23] ومِمَّن استدلَّ بذلك المامقاني في تنقيحه (تنقيح المقال، المامقاني، عبد الله بن محمد حسن، ج2، القسم الثاني، ص44).
[24] القاموس المحيط، الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، ص809، ط8 مؤسسة الرسالة.
[25] هدى الساري، العسقلاني، أحمد بن علي، ج1، ص490، ط1 مركز الرسالة العالمية.
[26] قاموس الرجال، التستري، محمد تقي بن محمد كاظم، ج8، ص619، ط6 مؤسسة النشر الإسلامي.
[27] ومنهم المحقق التستري (قاموس الرجال، التستري، محمد تقي بن محمد كاظم، ج8، ص620) والسيد البدري (الحسين في مواجهة الضلال الأموي، البدري، سامي بن جابر، ص17).
[28] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، ج1، ص147، ط مؤسسة مطبوعاتى إسماعيليان.
[29] الكامل في ضعفاء الرجال، الجرجاني، عبد الله بن عدي، ج7، ص241.
[30] تاريخ الإسلام، الذهبي، محمد بن أحمد، ج4، ص189، ط1 دار الغرب الإسلامي.
[31] هدى الساري، العسقلاني، أحمد بن علي، ج1، ص490.
[32] راجع –مثلاً-: فرق الشيعة، النوبختي، الحسن بن موسى، ص39، ط1 منشورات الرضا “عليه السلام” .
[33] وقد أيَّد به السيِّد البدري استدلاله بكلام ابن أبي الحديد (الحسين في مواجهة الضلال الأموي، البدري، سامي بن جابر، ص17).
[34] الجمل، المفيد، محمد بن محمد، ص423، ط2 دار المفيد.
[35] الجمل، المفيد، محمد بن محمد، 422.
[36] قاموس الرجال، محمد تقي بن محمد كاظم، ج8، ص620-621.
[37] حيث قال في ترجمة لوط: “مات قبل السبعين ومائة” (لسان الميزان، العسقلاني، أحمد بن علي، ج6، ص431).
[38] وقعة الطف، الأزدي، لوط بن يحيى، ص40-81، ط3 المجمع العالمي لأهل البيت ^.
[39] معجم الأدباء، الحموي، ياقوت، ج5، ص2252-2253، ط1 دار الغرب الإسلامي.
[40] لاحظ -مثلاً-: إكسير العبادات في أسرار الشهادات، الدربندي، آغا بن عابد، ج3، ص59، 62-65، 103، ط4 ذوي القربى.
[41] لاحظ -مثلاً-: ناسخ التواريخ (حياة الحسين ع)، سپهر، محمد تقي بن محمد علي، ج1، ص235، ج2، ص253، 266، ط1 انتشارات مدين.
[42] اللؤلؤ والمرجان، النوري، حسين بن محمد تقي، ص167، ط2 دار البلاغة.
[43] راجع: مجلة “كتابهاى اسلامى”، العدد 17، مقال “منابع تحريف گستر در حادثه عاشورا”، الفاطمي، السيد حسن، ص64-68.
[44] اللؤلؤ والمرجان، النوري، حسين بن محمد تقي، ص167.
[45] الكنى والألقاب، القمي، عباس بن محمد رضا، ج1، ص199، ط3 مؤسسة النشر الإسلامي.
[46] مؤلفو الشيعة في صدر الإسلام، شرف الدين، عبد الحسين، ص41-42، ط مكتبة الأندلس.
[47] تحقيق درباره اول أربعين حضرت سيد الشهداء، القاضي الطباطبائي، السيد محمد علي، ص222، ص572، ط2 مطبعة شفق.
[48] وقعة الطف، الأزدي، لوط بن يحيى، ص34-39.
[49] مقتل الحسين، منسوب إلى: الأزدي، لوط بن يحيى، ص31، ط4 انتشارات المكتبة الحيدرية.
[50] المصدر السابق.
[51] مقتل الحسين، منسوب إلى: الأزدي، لوط بن يحيى، ص 32.
[52] مقتل الحسين، منسوب إلى: الأزدي، لوط بن يحيى، ص 34.
[53] المصدر السابق.
[54] مقتل الحسين، منسوب إلى: الأزدي، لوط بن يحيى، ص 42.
[55] مقتل الحسين، منسوب إلى: الأزدي، لوط بن يحيى، ص 44.
[56] مقتل الحسين، منسوب إلى: الأزدي، لوط بن يحيى، ص 45.
[57] مقتل الحسين، منسوب إلى: الأزدي، لوط بن يحيى، ص60.
[58] وقعة الطف، الأزدي، لوط بن يحيى، ص34-39.
[59] مجلة “كتابهاى اسلامى”، العدد: 17: 64-68.
[60] اللؤلؤ والمرجان، النوري، حسين بن محمد تقي، ص167.
[61] الكنى والألقاب، القمي، عباس بن محمد رضا، ج1، ص199، ط3 مؤسسة النشر الإسلامي.
[62] تحقيق درباره اول أربعين حضرت سيد الشهداء، القاضي الطباطبائي، السيد محمد علي ، ص222، ص572.
[63] وقعة الطف، الأزدي، لوط بن يحيى، ص34-39.
[64] اللؤلؤ والمرجان، النوري، حسين بن محمد تقي، ص167.
[65] فنخا، درايتي، مصطفى، ج31، ص171، ط1 سازمان اسناد وكتابخانه ملي جمهوري إسلامي إيران.
[66] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص18.
[67] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص21.
[68] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص27.
[69] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص16-17.
[70] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص20-21.
[71] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص37.
[72] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص34-35.
[73] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص37-38.
[74] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص17.
[75] نسخة الظاهرية (الخطية)، ص36.
[76] فنخا، درايتي، مصطفى، ج12، ص720.
[77] فنخا، درايتي، مصطفى، ج12، ص726.
[78] دنا، درايتي، مصطفى، ج17، ص84، ط2 انتشارات الجواد توس.
[79] نسخة السيلاوي (الخطية)، ص1.
[80] نسخة السيلاوي (الخطية)، ص9، 10.
[81] نسخة السيلاوي (الخطية)، ص20.
[82] نسخة السيلاوي (الخطية)، ص92.
[83] نسخة السيلاوي (الخطية)، ص94.
[84] نسخة السيلاوي (الخطية)، ص98.
[85]) (A medieval muslim scholar at work.. Ibn Tawus and his library, Etan Kohlberg, p44.
[86] نسخة ليدن (الخطية)، ص3-4.
[87] نسخة ليدن (الخطية)، ص224.
[88] نسخة ليدن (الخطية)، ص192.
[89] نسخة ليدن (الخطية)، ص193.
[90] نسخة ليدن (الخطية): ص3.
[91] لاحظ مثلاً: تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج5، ص358، ط2 دار المعارف بمصر.
[92] لاحظ مثلاً: تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج5، ص361.
[93] لاحظ مثلاً: تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج5، ص 364.
[94] لاحظ مثلاً: تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج1، ص120، 124، 133.
[95] الفهرست، النديم، محمد بن إسحاق، ج1، ص303.
[96] سير أعلام النبلاء، الذهبي، محمد بن أحمد، ج16، ص202.
[97] مقاتل الطالبيين، الإصفهاني، علي بن الحسين، ص98-99، ط1 دار الزهراء.
[98] مقاتل الطالبيين، الإصفهاني، علي بن الحسين، ص99.
[99] مقاتل الطالبيين، الإصفهاني، علي بن الحسين، ص111.
[100] المصدر السابق.
[101] مقاتل الطالبيين، الإصفهاني، علي بن الحسين، ص99.
[102] مقاتل الطالبيين، الإصفهاني، علي بن الحسين، ص102.
[103] تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج5، ص363.
[104] مقاتل الطالبيين، الإصفهاني، علي بن الحسين، ص88-98.
[105] تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج 448.
[106] مقاتل الطالبيين، الإصفهاني، علي بن الحسين، ص 102.
[107] تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج5، ص364.
[108] الإرشاد، المفيد، محمد بن محمد، ج2، ص32، ط2 دار المفيد.
[109] ذكره الشيخ في فهرسته (الفهرست، الطوسي، محمد بن الحسن، ص278.
[110] ذكره النديم في فهرسته (الفهرست، النديم، محمد بن إسحاق، ج1، ص317).
[111] كأحمد بن عبدون والحسين بن عبيد الله، لاحظ: الفهرست، الطوسي، محمد بن الحسن، ص278، 381. ورجال النجاشي: النجاشي، أحمد بن علي، ص434، 320.
[112] الإرشاد، المفيد، محمد بن محمد، ج2، ص107.
[113] وقعة الطف، الأزدي، لوط بن يحيى، ص280.
[114] تاريخ الطبري، الطبري، محمد بن جرير، ج5، ص449.
كتب المقاتل ومقتل أبي مخنف .. آية الله السيد موسى شبيري الزنجاني
كتب المقاتل عند الشيعة .. دراسة نقدية / العلامة المحقق الشيخ علي دواني
تساؤلات في السيرة والمقاتل الحسينية / حوار مع الشيخ محمّد هادي اليوسفيّ الغروي