الاجتهاد: إن الأئمة “عليهم السلام” محدَّثون، أي أنهم بالإضافة إلى ما هو مكتنز عندهم من علم رسول الله “صلى الله عليه وآله” في كتاب علي “عليه السلام” هم ملهمون محدثون. وظاهرة التحديث ليست ظاهرة مذهبية قال بها الشيعة فقط، وإنما هي ظاهرة إسلامية، فقد روت كتب أهل السنة أن بعض الصحابة نالوا شرف هذه المنقبة، وأشارت إلى أنها موجودة في أمم الأديان السابقة، أي أنها ظاهرة دينية عامة.
في ما يلي هو تقديم الدكتور عبد الهادي الفضلي “ره” لكتاب “في رحاب الإمام الجواد “عليه السلام” لمؤلفه الشيخ علي بن محمد بن حسين العساكر.
ويعود ابن عساكر -والعود أحمد- (إنما قال ليعود، لأنه قدم قبل ذلك لكتابي في رحاب آية التطهير، كما قدم بعده لكتبي: دروس من واقعة كربلاء، وعقيلة الوحي، وقبسات من حياة الشيخ الغريري، الذي قام الأستاذ سلمان الحجي بجمع مادته، وقمت أنا بإعداده) ليكون مرة أخرى مع أهل البيت “عليهم السلام” في كتاباته الموفقة، وفي طريق دراسة سيرة عَلَمٍ من أعلامهم هو الإمام محمد بن علي الجواد تاسع الأئمة الاثني عشر.
وفي سيرة الإمام الجواد “عليه السلام” أبعاد مهمة تتطلب عند تناولها بالبحث التحقيق والتدقيق بأناة وعمق، لأنها ترتبط ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بعقيدة الإمامة عند الإمامية.
ومن أهمها:
• صغر سن الإمام عند توليه مهام الإمامة.
• علم الإمام وهو صغير السن.
وتتمثل خطوات البحث في المسألة الأولى بالإجابة عن التساؤلات التالية:
1. هل العقل -وهو الحَكَمُ الفيصل في تقرير إمكان أو امتناع الشيء المرتبط بالواقع التكويني- يمنع إسناد وممارسة وظائف الإمامة للإنسان الصغير السن، لعدم قدرة صغير السن من حيث تكوين خلقته على القيام بالمهمة، أو أنه يقول بإمكانه لامتلاك صغير السن القدرة ـ تكويناًـ على ذلك.
2. وعلى تقدير إمكان ذلك عقلياً، هل النصوص الشرعية الواردة في الإمامة تشترط سناً معيناً يلزم الإنسان بلوغه حتى يصح إسناد ممارسة وظيفة الإمامة إليه، أو أنها لا يوجد فيها ما يشير إلى هذا الشرط.
3. وعلى تقدير إطلاق النصوص وعدم اشتراطها الشرط المذكور، هل حدث هذا في تاريخ الأديان؟
وبتعبير آخر: هل هذه ظاهرة دينية وقعت كمقتضى من مقتضيات الحكمة الإلهية؟
وللإجابة عن السؤال الأول -ومن منطلق فلسفي وكلامي في طريقة معالجة أمثال هذه الفكرة- نقول: إن المقصود بالعقل -هنا- المبادئ العقلية التي هي من معطيات الفكر الفلسفي والكلامي، والتي تتمثل في القاعدة الأساس القائلة: إن أية قضية نظرية لا تصطدم مع مستحيل من المستحيلات البديهية هي ممكنة، أي بحيث لا يلزم من ذلك الدور أو التسلسل، أو أنها تتناقض مع نفسها إيجابا وسلباً.
والقول بإسناد ممارسة وظيفة الإمامة إلى من هو صغير السن مع توافر شروطها فيه التي هي العلم والعصمة والكفاءة، لا يلزم منه أي محذور عقلي إذن هو أمر ممكن.
وعن السؤال الثاني: أشبع المؤلف الكريم البحث فيها بما أوفى وأغنى، وكذلك في الإجابة عن التساؤل الثالث، فقد ذكر ظواهر تاريخية مماثلة حدثت في الأديان الأخرى.
ثم أدار البحث -كلامياً- حول نقطة فاصلة تتلخص في العنصرين المتكاملين التاليين:
1. توافر شروط الإمامة في هذا الإنسان المرشح لها وهو صغير السن.
2. ثم إجراء التجربة لمعرفة مدى توفره على شروطها، وذلك بامتحانه بما يكشف عن ذلك.
فجمع بهذا بين العنصر الفلسفي النظري والعنصر العلمي التجريبي، والتجربة -كما يقولون- أكبر برهان، ولو قُدّرَ لها أنها فشلت في حينها لكان ذلك سلاحاً قوياً يشهره سلطان الزمان بوجه عقيدة الشيعة، فيعفي نفسه من الاضطرار إلى محاولة القضاء على الإمام بالسم غيلة، وفي تدبير سري شديد السرية.
إننا إذا نفضنا الغبار الإعلامي السياسي الذي كثفته الأنظمة المعاصرة لأئمة أهل البيت سلام الله عليهم على حقيقة إمامتهم لوصلنا -ومن غير شك- إلى الحقيقة دونما عناء.
هذا موجز ما يرتبط بقضية سن الإمام، وسيرى القارئ الكريم تفصيله في محتويات الكتاب.
وأما علم الإمام فالرأي فيه هو:
1- إن علم أئمة أهل البيت عليهم السلام هو بتعلّم من النبي محمد “صلى الله عليه وآله” للإمام علي “عليه السلام” ومنه لولديه الحسنين، ثم من السابق للاحق، يستقونه من كتاب علي، ذلك الكتاب الذي أملاه رسول الله “صلى الله عليه وآله” عليه، وفيه كل ما يرتبط بشؤون الإسلام كدين وبشؤون المسلمين كأمة.
فهم -في هذه الحالة- رواة عن رسول الله صلى الله عليه وآله.
ووصول صغير السن -إذا كان على مستوى أعلى من الوعي- إلى ما هو مكنون في هذا الكتاب المكنون غير عزيز ولا مستغرب، وقد ذكر المؤلف الفاضل نماذج من أولئكم العباقرة الذين نبغوا وهم في مقتبل العمر فاستوعبوا -وهم على صغر سنهم- مشكلات المسائل العلمية وتوصلوا إلى حلولها الصائبة.
2- إن الأئمة “عليهم السلام” محدَّثون، أي أنهم بالإضافة إلى ما هو مكتنز عندهم من علم رسول الله “صلى الله عليه وآله” في كتاب علي “عليه السلام” هم ملهمون محدثون.
وظاهرة التحديث ليست ظاهرة مذهبية قال بها الشيعة فقط، وإنما هي ظاهرة إسلامية، فقد روت كتب أهل السنة أن بعض الصحابة نالوا شرف هذه المنقبة، وأشارت إلى أنها موجودة في أمم الأديان السابقة، أي أنها ظاهرة دينية عامة.
يقول الشيخ الأميني في كتاب (الغدير) 5/42 و43 ط3: (أصفقت الأمة الإسلامية على أن في هذه الأمة لدّة الأمم السابقة، أناس محدثون -على صيغة المفعول- وقد أخبر بذلك النبي الأعظم كما ورد في الصحاح والمسانيد من طرق الفريقين العامة والخاصة.
والمحدَّث: مَن تكلمه الملائكة بلا نبوة ولا رؤية صورة، أو يُلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه.
فوجود مَن هذا شأنه من رجالات هذه الأمة مطبق عليه بين فرق الإسلام، بَيْدَ أن الخلاف في تشخيصه، فالشيعة ترى علياً أمير المؤمنين وأولاده الأئمة صلوات الله عليهم من المحدثين، وأهل السنة يرون منهم عمر بن الخطاب،
واليك نماذج من نصوص الفريقين:
أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج2 ص 194 عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر.
وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي عليه وآله السلام: قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فـإن عمر بن الخطاب منهم.
وأشار رحمه الله إلى أحاديث التحديث التي رويت في كتاب (الكافي) لثقة الإسلام الكليني، ومنها بإسناده عن عبيد بن زرارة قال: أرسل أبو جعفر عليه السلام إلى زرارة أن يُعلم الحَكَمَ بن عتيبة أن أوصياء محمد عليه وعليهم السلام محدثون.
وبإسناده عن محمد بن إسماعيل قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: الأئمة علماء صادقون مفهمَّون محدَّثون.
وكلا الحديثين صحيح سنداً، صريح دلالة.
وعندما يثبت القرآن الكريم وجود هذه الظاهرة في الأنبياء السابقين لما يمتلكون من أهلية تلقي العلم مع صغر السن فيما اقتصه من خبر النبي يحيى عليه السلام حيث قال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً} سورة مريم 13، لا نستبعد ولا نستغرب وجودها في الأوصياء المصطفين الأخيار، إذا ثبت هذا بنص معتبر أو بنقل تاريخي موثق.
أما الظواهر الأخرى التي تناولها المؤلف بالبحث، أمثال الكرامات والمناقب فإنها ترجع إلى هذا وترتبط به وتعتمد عليه، وقد بحثها المؤلف من حيث دلالاتها عن طريق المقارنة بينها وبين ما وجد في الأديان الأخرى مما يماثلها، ولم يتعرض لأسانيدها، لأنه في صدد ذكر كل ما ذكر مما له علاقة بسيرة الإمام الجواد ومحاولة تحليله وتعليله، وان كنتُ وددتُ لو أنه بحثها من حيث السند أيضاً لتتكامل بين يديه متطلبات البحث العلمي.
وفي حدود اطلاعي:
يتميز هذا الكتاب عما سواه من الكتب التي تصدت لتدوين سيرة الإمام الجواد “سلام الله عليه” وأخباره المذكورة في كتب التاريخ والحديث بالشمولية المستوعبة إلى حد كبير.
يضاف إليه نهجه طريقة المقارنة فيما يعتّد من الظواهر الدينية مما ألمحتُ إلى شيء منه في هذا التقديم المتواضع، بين ما ذكر للإمام الجواد من هذه الظواهر وبين ما وجد منها في سير السابقين من أولياء الله وأصفيائه.
وهذا هو المائز الذي أهله لنيل الجائزة الأولى من لجنة مسابقة الغدير الثالثة في الأحساء لسنة 1415هـ، وهو فارق يسجل له بالتقدير.
وفق الله عزيزنا ابن عساكر ليكون دائماً مع أهل البيت في ولائه وعطائه إنه تعالى ولي التوفيق وهو الغاية.
الدكتور/ عبد الهادي الفضلي.
وكتاب “في رحاب الإمام الجواد “عليه السلام” عبارة عن ستة فصول و في 417 صفحة و هي كالتالي:
1-مولد الإمام الجواد و نشأته عليه السلام.
2-قبسات من أنوار حياته عليه السلام.
3-الإمام الجواد عليه السلام و الإمامة.
4-مع الإمام الجواد عليه السلام في معاجزه.
5- الإمام الجواد عليه السلام و ملوك عصره.
6- رحيل الإمام الجواد عليه السلام.