خاص الاجتهاد: تحدث المرجع الديني آية الله الشيخ جعفر السبحاني في حفل إطلاق العام الدراسي الجديد 1404-1405ش، للحوزات العلمية في إيران، الذي عُقد اليوم في المدرسة الفيضية بمدينة قم، عن احتفالات المولد النبوي الشريف التي تُقام في معظم الدول الإسلامية.
احتفالات المولد النبوي: بين الشبهة والدليل
وأكد آية الله السبحاني أن المهرجانات التي تُقام في العالم الإسلامي – ما عدا المناطق التي يتواجد فيها أتباع الوهابية – هي احتفالات بمناسبة ذكرى مولد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وأشار إلى أن معارضي هذه الاحتفالات يصفونها بأنها “بدعة” غير موجودة في عهد النبي، وأنهم يسعون جاهدين لوقفها.
وتابع المرجع الديني: يجب علينا أولاً توضيح معنى “البدعة”. وأوضح أن البدعة هي ما “ليس له دليل في القرآن والسنّة”، وهذا هو الشرط الأول. أما الشرط الثاني فهو أن يُعتبر هذا الفعل “دينًا” ويُمارس كحكم ديني. ولذلك، فإن بعض الأفعال كالألعاب الحالية التي أنها مباح وحلال قد تُعد “بدعة” من الناحية اللغوية، لكنها لا تُصنف كبدعة شرعية لأنها لا تُمارس كجزء من الدين.
وأكد أنه يجب الأخذ بالشرطين معاً: ألا يكون للفعل أصل في القرآن والسنّة، وأن يُعتبر جزءاً من الدين. وأضاف: لحسن الحظ، فإن احتفالات مولد النبي (ص) لها أصل قرآني وسند روائي.
وفي إشارة إلى الصفات العشرة للنبي الأكرم (ص) الواردة في القرآن الكريم، استشهد آية الله السبحاني بالآية 157 من سورة الأعراف: “فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ”. وأوضح أن معظم المفسرين يعتبرون كلمتي «عَزَّرُوهُ» و «نَصَرُوهُ» مترادفتين، في حين أن هذا غير صحيح. فالآية تبدأ بـ «عَزَّرُوهُ» التي تعني التعظيم والاحترام، ثم تأتي «نَصَرُوهُ» التي تعني التأييد والدعم. وتساءل: سؤالي هو: ألا تُعدّ هذه التجمعات الإسلامية في مختلف البلدان بمناسبة المولد النبوي -حيث تُقرأ آيات القرآن والأحاديث المتعلقة بالنبي، ولا يُرتكب فيها أي محرم- مصداقًا لهذه الآية؟ بلا شك إنها كذلك. وأشار إلى أن ابن فارس، اللغوي الشهير، يؤكد أن لكل أصل لغوي معناه الخاص، وأن «نَصَرُوهُ» تختلف عن «عَزَّرُوهُ».
وأضاف سماحته: الله تعالى يقول في آيات أخرى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَکَ صَدْرَکَ، وَوَضَعْنَا عَنْکَ وِزْرَکَ الَّذِی أَنْقَضَ ظَهْرَکَ، وَرَفَعْنَا لَکَ ذِکْرَکَ» (ألم نُعلِ اسمك؟). وتابع: اسم النبي يُنادى به خمس مرات يوميًا في الأذان. إذا قُرئت في هذه التجمعات آيات وأحاديث عن النبي (ص)، فماذا تعني سوى تحقيق هذه الآية «وَرَفَعْنَا لَکَ ذِکْرَکَ»؟ الأمر لا يقتصر على الأذان فحسب؛ فهذه المجالس أيضًا هي من مصاديق إعلاء شأن النبي. فكيف يمكن القول إن هذا العمل لا أصل له في القرآن، وهو مصداق واضح لذلك الوعد الإلهي؟
تأصيل محبة النبي (ص) في القرآن والسنة
واعتبر المرجع الديني أن “حب النبي” من الأصول الأساسية في الإسلام، مؤكدًا أنه إذا عمل شخص بالقرآن والشريعة، ولكن كان في قلبه بغض للنبي (ص)، فهو كافر. وحتى إن لم يكن لديه بغض، ولكنه غير مبالٍ بالنبي الأكرم (ص)، فإنه لا يُعد مؤمنًا حقيقيًا.
وأوضح أن محبة النبي هي أحد أركان الإيمان. وأضاف: عندما نقرأ الآيات والأحاديث التي نزلت في حق النبي (ص)، فإننا في الحقيقة نُظهر محبتنا الباطنية. فالمحبة لا يجب أن تبقى كامنة في القلب فقط؛ إن إظهار المحبة عبادة في حد ذاته.
واختتم حديثه بالقول: لهذا، فإن هذه الأنواع الثلاثة من الآيات والأحاديث الصحيحة هي أفضل دليل على أن هذا العمل ليس بدعة، بل هو عين الشريعة، وله أصل في القرآن والأحاديث.
وأضاف المرجع الديني: في الآية الكريمة «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ»، ذكر المفسرون ثلاثة معانٍ لها. وأوضح أن مرجع الضمائر في كل هذه المعاني غامض، وقد حاولوا تفسيرها بثلاث طرق، لكنهم لم يتمكنوا من إرجاع جميع الضمائر إلى مرجع واحد.
وأشار إلى أن بعض الأحاديث تشير إلى أن لهذه الآية معنى رابعًا. وأوضح أن الكثيرين يعتقدون أن هذه الآية تتعلق بأهل المدينة المنورة، لكنها في الحقيقة لا تتعلق بهم، بل تشير إلى المناطق خارج المدينة مثل الطائف ومكة.
وأضاف: إذا اعتبرنا أن الآية تتعلق بالمناطق خارج المدينة، فإن الضمائر الثلاثة ترجع إلى مرجع واحد، وبذلك تُحل إشكالية المفسرين. فالآية لا تختص بالمدينة والنبي فحسب، بل تشمل مناطق مثل الطائف ومكة، وفي زمننا الحاضر، مدنًا مثل كرمان وبم. أي أن مجموعة من أهل تلك المناطق يجب أن تهاجر لتتفقه في الدين، ثم تعود إلى قومها لتنذرهم. واختتم: لقد أنعم الله علينا بهذه النعمة العظيمة؛ حوزات علمية قوية وثابتة، فيها أساتذة بارزون. هذه نعمة كبيرة وعلينا أن نُقدّرها حق قدرها.
الحوزات العلمية: تجربة ألف عام وإحياء التقاليد والسنن
وفي إشارة إلى تاريخ الحوزات العلمية الذي يمتد لألف عام، ذكّر آية الله السبحاني بأن الحوزات كانت موجودة حتى قبل زمن الشيخ الطوسي. وأضاف أن هذه الحوزة العلمية العريقة هي رصيد ضخم من الخبرة بالنسبة لنا.
وأوضح أن الاستفادة من هذه الخبرة أظهرت أن المناهج والتقاليد السابقة كانت مثمرة وفعالة. وشدد على أنه لهذا السبب، يجب أن نسعى -سواء الإدارة الموقرة أو الأساتذة الأجلاء- للحفاظ على تلك التقاليد السابقة لتكون سائدة في الحوزة
وتابع سماحته: إذا حاولنا استخدام أساليب غير معروفة، فإن هذه الأساليب لم تُجرب بعد ولا يوجد ما يضمن نجاحها. أما إذا استفدنا من التقاليد والسنن السابقة، فإنها ستكون مثمرة بلا شك.
وأوضح أن التقليد الأول كان أن جميع أهل الحوزة في الماضي كانوا مدرسين ومتعلمين في الوقت نفسه. وأضاف: عندما جئنا إلى قم، كان الأمر كذلك؛ كنا جميعًا نتعلم وفي الوقت نفسه ندرس. كنا نأخذ دروسًا عند الإمام الخميني (قدس سره) والمرحوم آية الله الكلبايكاني (قدس سره)، وهما كانا يتعلمان عند آية الله البروجردي (قدس سره). أي أن كل طبقة علمية كانت تستفيد من الطبقة الأعلى منها.
وقال: يمكننا القول إن الحوزة بأكملها كانت، بمعنى من المعاني، مُدرّسة ومتعلمة في آنٍ واحد، فكان يُربَّى فيها المدرسون بشكل طبيعي دون عناء كبير. يجب أن يُراعى هذا التقليد حتى في المدارس الحالية؛ أي أن الطبقة الأعلى تُدرّس الطبقة الأدنى، لتكون الحوزة بأكملها شبكة تعليمية حية. هذا التقليد الذي يمتد لألف عام هو تجربة ثمينة، ويجب أن نسعى لإحيائه.
النموذج القرآني للحوزة: الفقاهة والخطابة
وفي إطار توضيحه للنموذج القرآني للحوزة العلمية، أشار المرجع الديني إلى الآية الشريفة: «لِیَتَفَقَّهوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِروا قَومَهُم…»، مؤكدًا أنها تقدم لنا نموذجًا واضحًا. وأوضح أن “التفقه في الدين” لا يعني مجرد نقل رواية، بل هو التعمق في الدين والوصول إلى مرتبة الاجتهاد والأستاذية. أما “ولینذروا”، فتعني القدرة على إرشاد الناس وهدايتهم.
وأضاف سماحته: لذلك، يجب أن تُبنى الحوزة على أساسين: الأول هو تربية الفقيه، والثاني هو تربية الخطيب. وشدد على أن هذين الأساسين ضروريان ويكمل كل منهما الآخر؛ فالفقيه جامع للعلوم الدينية، بينما الخطيب هو المبلّغ والمرشد للمجتمع.
وأشار إلى وجود نقص في مجال الخطابة اليوم، وأن عدد الخطباء المهرة قليل. وأضاف: وعدت الإدارة الموقرة بتخصيص قسم لتربية الخطباء وإعداد مجموعة لهذه المهمة. وتابع: يجب الانتباه إلى أن الفقاهة والخطابة هما برنامجان مختلفان؛ فالفقيه له برامجه الخاصة، أما الخطيب، فيجب أن يحفظ -إضافة إلى علمه الديني- آيات القرآن ونهج البلاغة، وأن يعرف آلام الناس، ويعرف علاجها، ويكون على دراية بقضايا المجتمع. واختتم بالقول: هذا هو البرنامج الثاني، ونأمل أن تظهر ثماره قريبًا.
مقترحات لتعزيز التعليم في الحوزة: العربية، الانضباط، والتخصص
وفي إطار تأكيده على ضرورة توسيع نطاق الكتابة باللغة العربية في الحوزات العلمية، صرّح آية الله السبحاني: النقطة الثالثة هي أن معظم السادة الذين يكتبون موادهم الدراسية يكتبونها باللغة الفارسية، وهم ضعفاء في الكتابة باللغة العربية.
وأضاف: أنا أفرض عليهم واجبًا أسبوعيًا ليكتبوه في يومين. هذا الأسلوب هو طريقة لتربية المجتهدين، ولكن يجب أن يكون هناك برنامج لتعزيز الكتابة الصحيحة والسليمة باللغة العربية، لأننا نعاني من ضعف في هذا المجال حاليًا وعلينا تعويضه.
وفي سياق بيان ضرورة الحفاظ على شأن طلبة العلوم الدينية، أكد سماحته: النقطة الرابعة هي أن نحافظ على روح طلب العلم. الطالب هو جندي الإمام المهدي (عج)، ويجب أن يكون أنيسًا للقرآن ونهج البلاغة. كما يجب أن يكون مظهره لائقًا بشأنه كطالب علم، من حسن المظهر إلى اللباس المناسب، بحيث يُقال في كل حال: هذا جندي الإمام المهدي.
واختتم حديثه: إذا تحققت هذه الأمور -وهي بفضل الله قيد التحقق- فبلا شك ستكون لها نتائج قيّمة.
وفي إطار تأييده لمبدأ التخصص والتخصصات الدقيقة في الحوزة، أثنى المرجع الديني على المرحوم آية الله الفاضل اللنكراني (قدس سره)، ووصفه بأنه “مؤسس التخصص في الحوزة”.
إلا أنه أشار إلى أن التخصصات يجب أن تكون محدودة ولا تتجاوز الحد الضروري، لأن مواردنا البشرية قليلة والاحتياجات كثيرة. وأوضح أن العديد من التخصصات هي من قبيل النوافل، بينما يجب أن نركز على الفرائض.
واستشهد بحديث النبي الأكرم (ص): يا علي، إذا اشتغل الناس بالنوافل فاشتغل أنت بالفرائض. وأضاف: اليوم، حيث تنهال الشبهات على المجتمع من كل جانب، يجب أن نعطي الأولوية للفرائض.
كما استدل بحديث الإمام الصادق (ع): “بَادِرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَكُمْ الْمُرْجِئَةُ”. وأوضح أن فرقة المرجئة كانت آفة كبيرة في ذلك الزمان؛ حيث كانوا يقولون: «لا يضرّ مع الإيمان المعصية»؛ أي أن الإيمان كافٍ ولا تضرّ معه المعصية. ووصف هذه العقيدة بأنها نوع من التحلل العلمي والعملي الذي انتشر في المدن. واختتم حديثه بالقول: لذلك، يجب أن نوجه التخصصات نحو الفرائض، وأن نصبر على النوافل حتى تزداد كوادرنا.
وفي ختام كلمته، شدد آية الله السبحاني على ضرورة المتابعة الجادة للدروس الحوزوية، وقال: أيها السادة، ابدأوا دروسكم من الغد، وإن شاء الله قلّلوا من الإجازات. إحدى مشكلات الحوزة هي كثرة العطل.
وأثنى على جهود الإدارة، قائلاً: لحسن الحظ، اتخذت الإدارة الموقرة هذا العام إجراءات في هذا المجال، وعوّضت جزءًا من العطل الكثيرة. أهنئهم على ذلك، وآمل أن يستمر هذا التوجه