الاجتهاد: من خصائص حوزة النجف: العمق العلمي والاهتمام البالغ بالبحث العلمي. حلقات الدرس في النجف صغيرة لأن هنالك عناية فائقة وأرجحية للدرس الذي يقدم للطلبة فرصة السؤال والحوار بينهم وبين أستاذهم./ الحوزة في تأثيرها السياسي وعمقها الشعبي أقوى من الكيانات السياسية./ التحدي السياسي والاجتماعي يجعل الحوزة أن تبادر إلى تحديث بحوثها ومراجعة المسائل المعاصرة الملحة التي لابد من بحثها./ ما شهدته الحوزة من ظلامات كبرى في العصر الصدامي، أدى إلى ضعفها، لكنها اليوم رجعت بجذورها القوية.
موقف المرجعية وفتوى الدفاع نجحت حيث فشلت السياسة وفشلت الحكومة، فانطلق الناس وحتى العزل منهم، يقاتلون بضراوة حتى تمكنوا من تغيير المعادلات”.. هكذا عبر العلامة الحكيم لـ”شفقنا” عن تأثير الحوزة العلمية في النجف الأشرف واستقلاليتها، وفيما أكد إنها تنأى بنفسها عن تحمل مسؤولية التجربة وأخطاءها الكبيرة التي حصلت مثل عدم الالتزام بالنزاهة، وعدم المحافظة على المصالح العليا، بين أن حوزة النجف حريصة جدا على تبيين موقفها السلبي مما يجري ولكن ليس بطريقة تؤدي إلى هدم كل شيء وتحطيم التجربة، وإنما محاولة إصلاحها بشكل أو بآخر، داخليا، ضمن الأطر الدستوري.
يعتبر حجة الإسلام والمسلمين السيد حسين الحكيم من أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف وقد أسس سماحته مدرسة الإمام الكاظم عليها السلام، ولد وترعرع في عائلة غنية عن التعريف اشتهرت بالعلم والفقاهة والجهاد والشهادة، وقد حاورناه حول واقع حوزة النجف الأشرف ومستقبلها، وخصائصها والتحديات التي تواجهها في المرحلة الراهنة.
وحول خصائص حوزة النجف، بين العلامة الحكيم إنها ذات خصائص عديدة، قد تكون بعضها أو عمومها مشتركة مع بعض الحوزات العلمية الأخرى أو كلها، ومن أهم هذه السمات هي العمق العلمي والاهتمام البالغ بالبحث العلمي.
وقال إن العمق الذي امتازت به حوز النجف في الدراسة والبحث له أسباب عديدة من أهمها وجود علماء كبار، فضلا عن أدوات بحثية شائعة في أعراف الحوزة النجفية، منها ضرورة قيام الطالب بكتابة وتسجيل ما يذكره الأستاذ وما يطرح في الدرس. لكن هذا الأمر، وللأسف، لم يعد اليوم كما كان في أيام دراستنا في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف، أي قبل حوالي ثلاثين عاما.
وتابع إن ظاهرة المباحثة هي أيضا من الأمور المهمة في هذا الشأن. وكان المتعارف عندنا في أولى أيام نشوءنا، مراجعة الكتب الدراسية كلها بعد مدة من شروع الدرس لمدة طويلة، أي حوالي ستة أشهر أو أقل أو أكثر، فيقوم الطلبة المتباحثون بتدارس الكتاب فيما بينهم فيأخذ كل واحد دور الأستاذ فيستمع الآخرون إليه كالتلامذة ولكن بمستوى علمي قريب منه، فيكون إقناعهم ومناقشتهم من الناحية العلمية، أصعب إليه من إقناع الطلبة الذين لم يدرسوا ذلك الكتاب، وهذا يعطيه درجة عالية من الخبرة والقوة العلمية في التدريس وفي التحقيق.
وأضاف السيد الحكيم: “كان المتعارف عليه أن يتم تباحث الكتب الدراسية المهمة مرتين، المرة الأولى مع من هو أعلى مستوى من الطالب نفسه، والمرة الثانية مع من هو أدنى مستوى منه. وهذا يجعل الطالب يمر على المادة الدراسية أكثر من مرة، فأولا وهو يدرس، ثانيا وهو يقرر الدرس، ثالثا وهو يتباحث الدرس، وربما رابعا وهو يتباحثه مرة أخرى.
ثم إن حلقات الدرس في النجف، هي حلقات صغيرة في الأعم الأغلب، لأن هنالك عناية فائقة وأرجحية للدرس الذي يقدم للطلبة فرصة السؤال والحوار بينهم وبين أستاذهم، فعندما تكون الحلقة كبيرة فإن الفرصة هذه لا تتسنى إلا بحدود ضيقة، ولهذا فإن من المرجحات في اختيار الدروس هو ألا تكون الحلقة كبيرة جدا”.
وأكد أستاذ حوزة النجف إن هذا يجعل موضوع البحث يمر على الطالب مرارا باهتمام بالغ للوصول إلى التصديق به وليس مجرد فهم تصوراته وحفظها، لأنه في معرض النقد ونقد النقد والمناقشة، أضف إلى ذلك انتشار مجالس المذاكرة في الحوزة العلمية وهي موجودة حتى يومنا هذا، ومنها عديد الأسئلة التي تطرح في مقام المذاكرة العلمية في بيت المرجع الحكيم بعد انتهاء الزيارة العامة لسماحته، حيث تناقش تلك الأسئلة، وعادة ما تطرح الأسئلة المشكلة فقط ومن ثم تؤخذ الإجابات النوعية، فلا نشاهد توسعا في استحضار مواد البحث وإنما ذكر العقد الصعبة في الأبحاث لمناقشتها في مجالس المذاكرة هذه”.
البعد المعنوي البحثي يؤسس للموضوعية العلمية البحثية
وحول الجانب الروحي في الدراسة الحوزوية، قال السيد الحكيم إن الجانب الروحي والمعنوي مساند للجانب العلمي، وهذا لا نقصد منه معالي الأخلاق ومكارمه واستحضار أسباب الخشية والبكاء بين يدي الله سبحانه وتعالى مثلا، مع احترامنا الكبير لها، بل إنما نركز على الجانب المعنوي الذي يرتبط بالشأن الحوزوي، فالتربية الحوزوية وثقافتها تترك تأثيراتها على الطالب الحوزوي شيئا فشيئا.
وأوضح إن الهدف الأساسي في التربية الحوزوية هو أن يكون طلب العلم تقربا إلى الله وأن يكون الهم الأول الوصول إلى الحقيقة، فمن يماحك ويماري في المناقشة يقل الارتباط به، ومن يصر على رأيه ويتعصب له لا يكون محمودا ومقبولا في العرف الحوزوي تدريجا. ولكن من يعترف بخطئه حتى إذا كان أستاذا أمام طلابه، سيكون له الاحترام الأبلغ لهذا الشأن، كما إن هناك أهمية لمن لا يستنكف التعلم من أي أحد كان.
وأكد حجة الإسلام والمسلمين السيد الحكيم إن هذا هو البعد المعنوي البحثي الذي يؤسس للموضوعية العلمية البحثية بدرجة عالية، حيث ينصب الاهتمام على الوصول إلى الحقيقة وليس الوصول إلى نتائج معينة يميل الطبع والرغبة إليها، فـ الهدف هو معرفة الحق للحق لا غير. كما إنني لا أدعي إن هذا الأمر موجود، لكنه معلم من معالم المدرسة الرئيسة التي يقاس الإنسان بها من حيث الاستفادة والانتفاع منها بالشكل الحقيقي.
وتابع سماحته إن مجموع هذين الأمرين بشكل طبيعي لربما ينتج اجتهادات مختلفة في ظل اختلاف القناعات، كما ينتج في الوقت نفسه احتراما لهذه الاجتهادات فيما بين المجتهدين. وهذا ما شهده التاريخ، فالحوارات التي دارت بين رموز المدرسة الإخبارية والأصولية في مدينة النجف الأشرف فيها أعاجيب في هذا الشأن، فرغم الاختلاف الكبير في النتائج والمضامين كانت هناك حالة من الحوار،
كما إنني لا أنفي بعض التصادمات والتوترات التي أسفرت عنها الاجتهادات والنتائج المختلفة في بعض الأحيان، لكن هذه التوترات والتصادمات تعرف بأنها خروج عن الطريقة الحوزوية وزيه، كما هو الحال في الرياضة والخروج عن روحها وطبيعتها بالنسبة لمن يمارس العنف والقسوة في اللعب الرياضي.
الحوزة حريصة على النأي عن الانسياق مع الجهات السياسية، والحفاظ على استقلاليتها
وحول استقلالية الحوزة، قال السيد الحكيم إن هناك سمة أخرى لحوزة النجف العلمية تتمثل في كونها حوزة عاشت في ظل حكم أنظمة مخالفة لها، وهي حريصة جدا على أن تحتفظ بمسافة بينها وبين أي نظام سياسي، وقد أدى هذا الأمر إلى ظهور تصادم في بعض الأحيان بينها وبين الحكومات التي حكمت العراق منذ الخلافة العباسية مرورا بالحكم العثماني حتى الأنظمة الأخرى في المرحلة المعاصرة، وعادة ما وجدت الحوزة نفسها في موقف المعارضة من تلك الأنظمة، وأحيانا كانت معارضة مباشرة أو معارضة نأت بنفسها عن توجيه السلطة والحكم والسياسة، وقد دفعت الحوزة في بعض المراحل دماء زكية من أجله، ومنه ما حصل في أيام مرجعية السيد الخوئي رحمه الله عندما أراد النظام توجيه حوزة النجف بطريقة معينة في ضمن صراعه مع إيران والحرب القائمة.
وأشار العلامة الحكيم إلى إنه قد حصل التصادم مرارا في هذا الشأن مع النظام وأدى إلى قتل وتصفية عدد من كبار رموز الحوزة العلمية. واليوم لا تجد الحوزة العلمية في النجف بأن الحكومة قمعية واستبدادية وفردية مثل الحكومات السابقة، لكن الاتجاه الحوزوي العام حريص جدا على أن ينأي بنفسه عن الانسياق مع الجهات السياسية، ويحافظ على استقلاليته في القرار، فالحوزة في تأثيرها السياسي وعمقها الشعبي أقوى من الكيانات السياسية، كما هو واضح الآن، فموقف المرجعية وفتوى الدفاع نجحت حيث فشلت السياسة وفشلت الحكومة فسلمت الأسلحة إلى الأعداء، فانطلق الناس وحتى العزل منهم، يقاتلون بضراوة حتى تمكنوا من تغيير المعادلات.
مبينا إن الحوزة العلمية تنأى بنفسها عن تحمل مسؤولية التجربة وأخطاءها الكبيرة التي حصلت مثل عدم الالتزام بالنزاهة، وعدم المحافظة على المصالح العليا، والصراع الحاد بين الفرقاء السياسيين وغيرها من الأمور، وفي إطار علاقتها مع السلطة في بغداد، نجد أن الحوزة العلمية في النجف حريصة جدا على تبيين موقفها السلبي مما يجري ولكن ليس بطريقة تؤدي إلى هدم كل شيء وتحطيم التجربة، وإنما محاولة إصلاحها بشكل أو بآخر، داخليا، ضمن الأطر الدستورية.
مضيفا “لهذا هناك في الحوزة نزعة فيها مخالفة للوضع القائم، لكنها ليست نزعة ثورية لإسقاط التجربة مثلما كان الأمر بالنسبة للأنظمة السابقة التي حكمت العراق”.
ادعاءات المرجعية في الوسط الحوزوي محدودة
يقول السيد حسين الحكيم أن مستقبل النجف يمكن قراءته إذا لاحظنا الخط البياني للحوزة العلمية منذ سقوط نظام صدام حتى الآن. فالذي حصل بالفعل نجد من خلاله أن المؤشرات متجهة نحو توسع الحوزة من حيث العدد بالشكل التدريجي، فضلا عن بطء التطور العلمي الذي تقتضيه طبيعة هذا التطور.
ويقول إن ادعاءات المرجعية في الوسط الحوزوي المقبول، محدودة. نعم هناك في الهامش ادعاءات فظيعة وزعم مراتب علمية عالية لكنها في الأعم الأغلب ليست من الحوزة في شيء، وربما لا يمكن اعتبار بعض من يدعى ذلك، طلبة حقيقيين في الحوزة بالنظر العام.
ويتابع سماحته “بغض النظر عن هذه الحالات التي هي أشبه بالطفيليات التي تكون على النهر، هنالك تطور محدود على المستوى الكمي، فضلا عن النمو على المستوى النوعي البطيء لكنه قوى، كما إن هناك درجة عالية من الجدية في الحوزة العلمية، فما نشاهده في أيام التحصيل الدراسي بالنجف لا نظير له في أي حوزة أخرى رغم أن النجف تعاني من أزمات حادة من ناحية الخدمات“.
ويؤكد السيد الحكيم إن هناك تطور في مستوى التفاعل الحوزوي مع الجمهور العام، فبعض مشاريع الحوزة تستقطب المئات بل الآلاف من طلاب العلم للتبليغ في المواسم الدينية، مثل الأربعين الحسيني وزيارة الإمام الكاظم في بغداد، وغالبا ما يقوم بمهمة التبليغ أبناء الحوزة الحقيقيون من علماء وأساتذة وطلاب في جزء من هامش وقتهم، خلافا للتبليغ الذي كان في الظروف السابقة يمارسه عموما الأشخاص الذين قد نشأوا في الحوزة من خطباء محترمين، لكن لم يجدوا أنفسهم مسؤولين عن القيام بالمهام الحوزوية التدريسية.
مبينا “لا ننسى إن المنبر يشهد اليوم حالة من التطور والتقدم مقارنة بما كان عليه في الأجيال السابقة. كما إن لنمو التبليغ الحوزوي العام أثر كبير في المحافظة على معادلة الأولويات والأهم والمهم مما يدرس في الوسط الحوزوي بعيدا عن التوسعات الزائدة التي كانت تغري الباحثين أحيانا بالاندفاع نحو توسعات كبيرة في ظل انشغالهم بالعلم وحده دون غيره”.
ويشدد السيد الحكيم إن “اليوم لعله بات إيجابيا أن تكون الحوزة من قلب المجتمع، فأكثر أفرادها من المجتمع نفسه الذي تعيش فيه، مما يجعلها تنفتح عليه بدرجة أكبر باعتبار أن أكثرهم من العراقيين أنفسهم فيحفظون الأولويات ولا ينزلقون نحو اغراءات البحث العلمي في بعض الأمور التي ليس لها آثار عملية مباشرة”.
وحول التحدي السياسي والاجتماعي الذي تواجهه الحوزة العلمية بشكل أو بآخر، يبين سماحته إنه “يجعلها أن تبادر إلى تحديث بحوثها ومراجعة المسائل المعاصرة الملحة التي لابد من بحثها، وربما عندما تراقبون الكتاب الذي يصدر من الحوزة فقلما تجدون اهتماما واضحا وبارزا بالمسائل المعاصرة، ولكن عندما تدخلون الدرس الحوزوي ستجدون أن هذه الأمور واضحة، فالحرص على إصدار شيء غير ناضج تماما هو الذي يؤخر صدور كثير من الكتب، مع أن بعضها موجود فهناك بحوث في أمور مستحدثة صدرت من بعض المرجعيات الدينية والأساتذة الذين قطعوا شوطا كبيرا في الشأن الحوزوي”.
غياب العباقرة من العلماء ومستقبل المرجعية الشيعية
يؤكد السيد حسين الحكيم إن “الوصول إلى درجات علمية عالية بحاجة إلى طويل من الزمن، فالتطور والتقدم العلمي لا يتحقق في خمس أو عشر سنوات وإنما يتحقق بعقود من الزمن. والحوزة العلمية الآن فيها أرضية إنجاب كبار العلماء على غرار ما حصل سابقا لأنها حافظت على قوى بناءها وإحكام منهجها.
والسبب في هذا الفتور يعود إلى ما شهدته الحوزة من ظلامات كبرى في العصر الصدامي، فقد قتل الكثير من العلماء، فضلا عن تشريد وإبعاد ومضايقة وسجن الآخرين مما أدى إلى ضعفها، لكنها اليوم رجعت بجذورها القوية مثل شجرة نبتت على جذور قديمة بقيت محفوظة وعندها مقومات العطاء”.
وفيما يتعلق بمستقبل المرجعية الدينية، يقول العلامة الحكيم إن “هنالك شخوص بمستوى متقدم من العلم، فالحالة التخصصية والعلمية التي تكفلها الحالة النجفية وحوزتها ما تزال موجودة وبإمكانها أن تنجب العلماء، ولعله سيتأخر شيئا ما، لكن الأفق ليس منغلقا، والأرضية صلبة تؤهلها أن تؤتي بكبار الشخصيات بالمعنى الحقيقي”.