هدم المراقد

هدم المراقد بألسنةٍ محسوبة على الشيعة هذه المرة ! / الأستاذ الشيخ حسن عطوان

الاجتهاد: الدعوة لهدم مراقد أئمة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) ومراقد بعض العلماء والصالحين دعوة قديمة أُغلق باب البحث فيها ؛ لبداهة بطلانها، اذ ردَّ عليها الكثير من علمائنا بل وبعض علماء المدرسة الأخرى، لاسيما الصوفية منهم،

وقد كُتبتْ فيها الكتب، وصارت من الوضوح بمكان، بل بات الإشكال العقيم عليها من التراث السحيق، ولم يبق ممَن يكرر النبش فيها سوى بعض مرضى الوهابية وامتداداتهم !

الجديد في الأمر أنَّ المطالبة بذلك جاءت هذه المرة بألسنةٍ تنتسب للشيعة !!
اذ ظهر علينا شاب يُلقي كلمة مكتوبة في حضور ، يُقال أنَّ ذلك كان في صلاة جمعة !

يدعونا في كلمته تلك لهدم مراقد أئمتنا، مُستدلاً بحديث يُنسب الى الإمام علي ( عليه السلام ) ، لم يُشر الى مصدره .
ولعله يقصد الحديثين التاليين .

ونقول:

أولاً :

أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، اذ جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رواية معتبرة السند، أنّه قال: (كل شيءٍ فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) (1)، ولا نرفع اليد عن هذا الأصل إلّا بدليل معتبر .

بعبارة أخرى: أنَّ الذي يحتاج الى الدليل ليس نحن، إنما القائل بالحرمة، ولا يملك هؤلاء دليلاً معتبراً، اذ عجز حتى إبن تيمية عن الإتيان بمثل هذا الدليل.

وأمّا ما أشار له الخطيب من رواية، فهي عبارة عن روايتين :

الأولى: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
(قال أمير المؤمنين عليه السلام بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله في هدم القبور وكسر الصور) ( 2) .

الثانية: علي بن إبراهيم، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال :
(قال أمير المؤمنين عليه السلام: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبراً إلّا سويته، ولا كلباً إلّا قتلته ) (3) .

والأولى منهما ضعيفة السند بجعفر بن محمد الأشعري، اذ الظاهر أنّه جعفر بن محمد بن عبيد الله الأشعري، وهو مهمل لم يوثق .

هذا اذا أغمضنا النظر عن سهل بن زياد المختلَف في توثيقه من عدمه، ولم يثبت عندي توثيقه .

وأمّا الرواية الثانية فهي أيضاً ضعيفة السند، على الأقل من جهة النوفلي [الحسين بن يزيد] ، وأمّا السكوني [ إسماعيل بن أبي زياد ] فهو عامي المذهب، وقد أختلف رجاليونا في إعتماد رواياته .

نعم نحن نذكر له دليلاً أقوى، وهو مارواه الصدوق بإسناده عن سَماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): (عن زيارة القبور وبناء المساجد فيها ، فقال: أمّا زيارة القبور فلا بأس بها ، ولا يبنى عندها مساجد) ( 4 ) .

وهذه الرواية وإنْ كانت موثقة السند ، ولكنّها كسابقتيها لا تقوى على معارضة الأدلة التالية .

ثانياً:

أستدل الكثير من علماء المسلمين على نفي حرمة إعمار المراقد، لا سيما مراقد الأنبياء والأوصياء والصالحين بعدة وجوه، منها :

1. قوله جلَّ وعلا : ( فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى‏ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ( 5 ) .

فالآية الكريمة تتحدث عن أصحاب الكهف، وهم أؤلئك الرجال الذين آمنوا بربّهم وتركوا أهلهم وهجروا المواقع والمناصب حفاظاً على إيمانهم .

وهذه الآية تكشف عن خلاف وقع بين المؤمنين يومذاك وآخرين في ما يجب فعله بأصحاب الكهف بعد موتهم، فقال البعض: ( ابنوا عَلَيهِم بُنيانًا رَبُّهُم أَعلَمُ بِهِم ) ، أي ضعوا بنياناً على باب كهفهم .

وقال الذين أمنوا: ( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَسجِدًا )، أي إنّنا سوف نتّخذ هذا المكان، مكاناً لعبادة الله، والتقرب إليه سبحانه، تبركاً بموقعٍ ضم رفات أؤلئك الفتية ، وحصلت فيه معجزة نومهم وبقائهم أحياءً لما يزيد عن ثلاثة قرون .

ووجه الإستدلال بهذه الآية الكريمة :

أنّه لو كان البناء على القبور محرّمًا لكان الله سبحانه قد أشار لحرمة هذا الفعل ، وعدم إشارته يدل على الأقل على جواز ذلك ، لا سيما وأنَّ الآية الكريمة فيها قرينة على أنَّ أصحاب إقتراح بناء المسجد هم الفئة المؤمنة يومذاك ، اذ إقتراح بناء مسجد لا يصدر إلّا ممَن يريد إقامة شعائر الإيمان ، والمولى أقر بصحة إقتراحهم بدلالة سكوته .

2. سيرة جميع المسلمين منعقدة على الإهتمام بمراقد أهل البيت، بل بمراقد فقهاء المذاهب ورواتهم، فمرقد الشافعي في القاهرة بمصر، وأبي حنيفة والگيلاني في بغداد، والبخاري في (اوزبكستان) الحالية، وغيرهم من رواة وصالحين من أهل السنّة، هذه المراقد لم تزل ماثلة، وهي خير شاهد على شذوذ الرأي الذي تبناه نواصب الأمس واليوم .

بل نفس البناء على مرقد الرسول الأكرم وبقاءه وعجز الوهابية عن هدمه خشية ما سيحصل من إنكار عموم المسلمين على ذلك لهو خير شاهد على أنَّ القول بحرمة إعمار تلك المراقد ما هو إلًا بدعة إبتدعها النواصب لشدة حقدهم على آل بيت الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلًَم .

3. ومضافاً لما سبق أستدل علماء الشيعة بالروايات الكثيرة التي دلت على التأكيد على ثواب زيارة مراقد المعصومين وتعاهدها ورعايتها .

فاذا قلنا بوجوب هدم تلك المراقد ، فأيُّ شئٍ سيُزار وأيّ شئ سيُتعاهَد ويُراعى ؟!!

فهل نترك كل تلك الأدلة والروايات الكثيرة جداً لأجل رواية بل حتى لو كانت أكثر، ولكنها لا تعدو عن كونها أخبار آحاد وأكثرها ضعيفة السند ، وقد حملها العلماء :

على كراهة تجديد القبور التي لا يترتب على تجديدها أي أثر للدين ولا للمتدينين ،
أو أنَّ المراد البناء على نفس القبر وليس حوله ،
او أنَّ المراد إتخاذ نفس القبر مسجداً يسجد عليه للصلاة ولغيرها ،
او أنَّ بعضها صادر على نحو التقية ،
او أنّها في أحسن الأحوال لا تقوى على معارضة أدلة الجواز بل الندب ؟!!

4. بل يمكن جداً القول: أنَّ مراقد المعصومين والصالحين كانت ولم تزل من أماكن الدعوة الى الله سبحانه ، ومراكز تشييد الدين وجذب القلوب اليه ، فخرجت عن عنوان كونها مجرد قبور .

بل وصارت تلك المراقد محط أنظار الشيعة وشعاراً لهم بإعتبارها من مراكز قوتهم .

 ولذلك ليس من المُسْتبعَد أنْ يكون توقيت هذه الدعوة (هدم المراقد) يأتي ضمن سياق مخطط العدو بإسقاط كل مواقع القوة عند الشيعة، ومراقد أئمتنا هي آخر مراكز المَنَعة والقوة عندنا ، وآخر ما لم نزل موحَدين بشأنه .

5. في بعض الروايات حثٌ على إعمار تلك المراقد (6)، وأفضلية الصلاة عندها، وهي روايات كثيرة، لا يتسع الوقت ولا مقالة على الواتساب لذكرها وبسط الكلام حولها .

ولكن لابأس بنقل كلام للشهيد الأول في المقام ، فهو بعدما نقل الأخبار المشار اليها في أولاً، والتي أستند الخطيب الى أحدها ، قال ونعم ما قال :

” هذه الأخبار رواها الصدوق والشيخان وجماعة المتأخرين في كتبهم ، ولم يستثنوا قبراً ، ولا ريب أنَّ الإمامية مطبقة على مخالفة قضيتين من هذه: أحداهما البناء، والأخرى الصلاة … فيمكن القدح في هذه الأخبار لأنها آحاد، وبعضها ضعيف الاسناد، وقد عارضها أخبار أشهر منها ، وقال ابن الجنيد : لا بأس بالبناء عليه ، وضرب الفسطاط يصونه ومن يزوره .

أو تخصص هذه العمومات بإجماعهم في عهود كانت الأئمة ظاهرة فيهم وبعدهم من غير نكير، وبالأخبار الدالة على تعظيم قبورهم وعمارتها وأفضلية الصلاة عندها ، وهي كثيرة ” (7) .

بقي شئ :

⁃ أنا لا أميل الى الطريقة التي تمت بها معالجة الأمر، فليس من الصحيح أنْ تعالج قضية ذات بُعْدٍ عقائدي بيد جهاز أمني لا يعرف غير لغة القوة (8) .
نعم اقترح تشكيل جهاز أمني مختص بمثل هذه الأمور، له من الدراية الفكرية ما يمنحه القدرة على الإصلاح وليس الضغط والترهيب ، الأمر الذي قد يدفع هذه الجهات، او نفس الشباب المُغَرَر بهم الى العمل تحت الأرض، لا سيما ونحن نعرف أنَّ الكثير من شبابنا إنما تُغرر به هذه الجهات بسبب قصور في معلوماته، وتقصير منّا في كيفية التعامل معه بشأن ذلك .

⁃ كذلك لا أميل الى السماح لتجمعات مجتمعية بنحو فوضوي غير مُسيطَر عليه لحرق مساجد بل حتى لإغلاقها ، ونحو ذلك ؛ لأنَّ إعطاء صلاحية ومشروعية لتحرك العقل الجمعي بهذا النحو ، يمكن أنْ يعطي الذريعة في قابل الأيام لتحريك مثل هذا العقل للوقوف ضد مبادئ وأفكار حقة ، قد لا تكون تلك الأفكار حينها ممثلة لرأي الأكثرية ، مضافاً الى أنَّ التحرك الجمعي الفوضوي قد يذهب بها عريضة فيتجاوز الخطوط الحمراء ، ويدخل في المحاذير الشرعية .

 

الهوامش

(1) الشيخ الحر العاملي، محمد بن الحسن،(ت: 1104 هج)، وسائل الشيعة، ج 17، ص 88، ح1، باب عدم جواز الانفاق من الكسب الحرام ، الناشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم .
(2) الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، (ت: 329 هج)، الكافي،ج6، ص528، باب تزويق البيوت،ح 11، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران .
(3) المصدر نفسه ، ح 14 .
(4) الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، (ت: 381هج)، مَن لا يحضره الفقيه، ج1، ص178، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة .
(5) الكهف : 21 .
(6) في قضية الإعمار لا أميل للمبالغة في التذهيب خاصة؛ كي لا يكون ذلك ذريعة بيد الخصوم للتثقيف ضد الإعمار برمته، لاسيما وأنَّ لدينا من بين صفوفنا من يتأثر جداً بذلك الإعلام .
(7) الشهيد الأول، الشيخ محمد بن جمال الدين مكي العاملي، (ت: 786 هج)، ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ج2، ص37، الناشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم. 

(8) الغريب أنَّ شخصاً ولغرض ما يوزع ” چكليت ” في الشارع في ( 7 ) نيسان إحتفالاً بتأسيس البعث المجرم ، ومع أنَّ الدستور يُجَرّم مدح وتمجيد هذا الحزب النازي فلم نسمع أنَّ الأجهزة الأمنية أعتقلت هذا الشخص الذي أستفز جراح عوائل شهداء المقابر الجماعية ، وكل الشهداء والسجناء وضحايا إجرام البعث .

 

المصدر: قناة الأستاذ الشيخ حسن عطوان على التلجرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky