الحكيم

منهج درس المرجع الحكيم “ره” الفقهي وسماته / الشيخ عبد الغني العرفات + تحميل الكتاب

الاجتهاد: يوثق سماحة الشيخ عبد الغني العرفات في كتابه الجديد ( المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم “ره”  (1354 – 1443) منهج درسه الفقهي وسماته) ملامح الدرس الفقهي للمرجع الراحل آية الله السيد محمد سعيد الحكيم “قدس سره” والذي حضر فضيلته درسه الفقهي سبع سنوات في النجف الأشرف ويقدم للقراء الكرام بعض السمات التي يتميز بها درس سماحته، فهي المساحة التي عرفها منه ولم يختبر غيرها. وهذه السمات منها ما يتعلق بمحتوى ومادة الدرس، ومنها ما يتعلق بطريقة أدائه.

وفي الفصل الثاني يتطرق إلى سمات درس المرجع الحكيم” ره” في محتواه:

1- منهج الاستنباط

أ- كانت طريقته في الاستنباط الفقهي أن يبدأ بذكر الآيات ثم الروايات في الاستدلال على أصول المسائل وكلياتها، ثم السيرة  القطعية، وأما في فروع المسائل فيبدأ بذكر إجماع الأصحاب.

ومثال ذلك على المسائل الكلية: ما ذكره في كتاب الرهن فقال: «الكلام في ذلك بعد الفراغ عن مشروعية الرهن وضعاً وتكليفاً، كما يشهد به الكتاب المجيد والسنة المستفيضة أو المتواترة والسيرة القطعية(1).

ومن أمثلة المسائل الفرعية: ما ذكره حول غصب العقار، فقال: “كما ذكره الأصحاب دون خلاف ظاهر، وظاهر بعض كلماتهم المفروغية عنه، وصريح التذكرة وظاهر المسالك الإجماع عليها بقسميه»(۲).

ب- وأما دور العقل في التشريع(3)، فقال: «من الظاهر أن العقل ليس من وظيفته التشريع، بل هو مما يختص به الشرع، فلا يتجه نسبة التحريم له مع الشرع بنحو الاشتراك… نعم ذكرنا في مبحث الملازمة بين حكم العقل والشرع من الأصول أن حكم العقل بالحسن والقبح في الشيء (تارة): يكون اقتضائياً قابلاً للمزاحمة بما يمنع من تأثيره في فعالية الداعوية العقلية أو لعروض ما يمنع من جعل الحكم الشرعي على طبقه، كحكمه بقبح إيذاء الغير أو أخذ ماله، و(أخرى): يكون علة تامة للحسن والقبح بحيث لا يقبل المزاحمة، كحكمه بقبح الظلم والعدوان.

والأول لا مجال الاستكشاف حكم الشرع به، لعدم الإحاطة بالمزاحمات والموانع، من فعلية الداعوية العقلية أو من جعل الحكم الشرعي على طبقه، ليقطع بعدمها، ولزوم حكم الشرع على طبقه.

والثاني وإن كان مستلزماً للحكم الشرعي، إلا أن تحقق العناوين التي هي موضوع الحكم العقلي المذكور في حق المكلف تابع للتشريع، فيكون إحرازه في رتبة متأخرة عن إحراز التشريع تحريما أو وجوبا. ويكون الحكم الشرعي معلوما في رتبة سابقة على إحراز الحكم العقلي بالحسن والقبح، ومعه لا ينفع الحكم العقلي المذكور في استكشاف الحكم الشرعي والاستدلال عليه. وبذلك يظهر أنه لا مجال للاستدلال بحكم العقل بقسميه على الحكم الشرعي، لأن الأول غير لازم للحكم الشرعي، والثاني متأخر ثبوتاً وإثباتاً عنه” (4).

«وما قاله صاحب الفصول: أن الأصل عدم المزاحمة لم نقبله، والعقل يدرك قبح الظلم لكن لا يدرك مصداق الظلم وتشخيصه.

وبناء على هذا كل ما ورد من عبارات الظلم أو التعدي أو غير ذلك، لا بد من حمله على فحش الجريمة أو العقاب وليس وارداً ورود التشريع كقوله تعالى: وإنّ الشرك لظلمٌ عظيمٌ” ، فهو من باب أهمية الظلم، فلا معنى للاستدلال على حرمة الشيء بكونه ظلماً.

وعنوان (الظلم) يرجع للحق، فإذا كان هناك حق كان هناك ظلم، فإذا جعل الله الحق كان التعدي عليه ظلما، لكن لا معنی للاستدلال بالظلم (5).

ج- كما أنه يرى أن خبر الآحاد يخصص القرآن الكريم(6)، فلا معارضة مستقرة بين الكتاب وروايات الأحاد، فإذا وجدنا روایات تخصص الكتاب أخذنا بها.

د- يرى “قدس سره” قبول بعض مضامين الرواية الواحدة ورفض بعض مضامينها إذا كانت المضامين مستقلة.(7)

والحديث حول هذه النقطة وهي منهج الاستنباط عنده (قدس الله سره) حديث طويل الذيل، يحتاج إلى بسط، ولكن أردنا أن نعطي صورة إجمالية عنه، عسى أن لا يكون هذا الاختصار مخلا بمعالم مدرسته المتميزة.

2 – البراعة اللغوية والنحوية:

ليس بدعًا أن تجد الفقيه مجتهدًا في النحو وعلوم اللغة فهو من أسس الفقاهة، ولكن تتفاوت هذه الملكة من فقيه إلى آخر، ويبهرك السيد الأستاذ بدقائق نحوية ولغوية تفوت الدارس الذي قد درس المتون عن قريب كيف بمن قد مضى عليه خمسون عامًا أو أكثر. 

ونحن هنا نذكر بعض الشواهد على هذه البراعة:

فاء العطف ودلالتها على التعقيب بلا مهلة

“قال: الفاء عند النحويين تدل على التعقيب بلا مهلة. لكن إذا تأملنا نجد أن الشرطية إذا كان جزاؤها طلب فإنه يقرن بالفاء ولكن هذه الفاء فاء التفريع وليس العطف كما في الرواية «فإن بليت بها فعرفها».

وفاء العطف مثل: جاء زيد فعمر وهي التي تدل على التعقيب بلا مهلة في قبال ثم التي تدل على التعقيب مع المهلة.

أما فاء التفريع فهي التي تكون بين العلة والمعلول أو بين الشرط والجزاء.

وفاء العطف تدل على الترتيب أيضا مثل: جاء زيد فعمر.

ومن أمثلة فاء التفريع التي لا تدل على التعقيب قوله تعالى «وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» “فأغرقناهم” فالفاء هنا فاء تفريع أي سبب إغراقهم هو التكذيب وفاء التفريع تكون بين علة ومعلول ولا تدل على التعقيب بلا مهلة كفاء العطف، فإن إغراقهم لم يكن مباشرة بعد التكذيب بل بعد سنوات.

ومن أمثلة عدم دلالة الفاء على التعقيب بلا مهلة قول الفقهاء ”إذا سافر وأفطر فعليه القضاء“ فعليه القضاء لا يدل على الفورية بل تدل على تفرع القضاء على الإفطار ولا تدل على أنه يجب عليه القضاء مباشرة”(8)

3 – ملاحقة الإجماعات:

يُدّعى الإجماع في كثير من المسائل ولكن بتتبع من السيد الراحل تنفصم عرى ذلك الإجماع.

ومن باب المثال: نذكر ما أشار إليه في باب إحياء الموات حول حريم العين، وهو المسافة التي ينبغي أن تكون بين عين وعين أخرى إذا أراد أحدهم أن يحفرها، فقد ذكر جمهور الفقهاء أن حریم العين في العين الرخوة ألف ذراع، وفي الصلبة خمسمائة ذراع.

وذكر ابن الجنيد أنه: «إذا استيقن الضرر بالعين المستحدثة على ماء العين القديمة لم يطلق له الحفر “، فابن الجنيد يرى أن المعيار هو الضرر الحاصل للعين القديمة، ثم علق السيد الأستاذ رحمة الله عليه حول النصوص التي تقول بتحديد المسافة والنصوص التي تذكر الإضرار بالعين الأخرى كصحيح محمد بن الحسين: “.. عن أبي محمد: .. على حسب أن لا تضر”، فقال: « ومن هنا لا يبعد الجمع بين النصوص السابقة المتضمنة للتحديد بالمسافة وهذه النصوص، بحمل التحديد بالمسافة في تلك النصوص على الحد الظاهري بلحاظ الغلبة، المستلزم لسقوط الحد المذكور عند ظهور الحال من تحقق الإضرار وعدمه، فيجوز تجاوز الحد المتقدم مع العلم بعدم الإضرار بالعين السابقة، ولا تكفي مراعاته مع ظهور الإضرار بها(9)”.

ومعنى كلامه أننا لو افترضنا وجود الضرر على بعد ۱۲۰۰ ذراع فلا بد من الابتعاد عن العين السابقة إذا أردنا حفر عين جديدة بأكثر من ۱۲۰۰ ذراع، ولو علمنا بعدم وجود الضرر بعد ۲۰۰ ذراع جاز حفر تلك العين الجديدة.

ثم قال السيد الأستاذ، رحمة الله عليه: “وقد أشار إلى ذلك في الجواهر لكنه قال: إن لم يكن ذلك إحداث قول على وجه يكون مخالفا للإجماع” ، وهنا توقف ليلاحق هذا الإجماع المدعى من صاحب الجواهر، فهل يوجد بالفعل إجماع؟

فقال: «لكن لم يتضح نهوض الإجماع المدعي بالمنع من مقتضي الجمع بين النصوص بعد ظهور اعتماد بعض أهل الحديث على هذه النصوص في الجملة، لروايتهم لها في الباب المناسب، وبعد رجوع كلام ابن الجنيد إلى مقتضى هذا الجمع، وقد استحسنه من استحسنه»(10)، فكيف يكون هناك إجماع وقد استحسن رأي ابن الجنيد جماعة، والذين استحسنوا رأي ابن الجنيد: المختلف حيث قال: إنه جيد، وفي المسالك قال: «إنه أظهر، وعن الكفاية: إنه قريب”.

فهنا رأينا كيف أن السيد الأستاذ فكك عُرى هذا الإجماع المدعي من صاحب الجواهر، رحمة الله عليهما.

ومثال ذلك أيضا: ما ذكره حول اشتراط الإقباض في الرهن الذي ادعى صاحب الغنية ومجمع البيان الإجماع عليه، فقال الطبرسي: «فإن لم يقبض لم ينعقد الرهن بالإجماع” (11).

قال السيد الأستاذ: “دعوى الإجماع.. من مجمع البيان والغنية.. لا مجال للتعويل عليها بعد ظهور الخلاف ممن سبق. وأما ما في الغنية من أنه لا يقدح في حجية الإجماع مع معرفة نسب المخالف. فهو لا يرجع إلى محصل معتد به. إلا أن يكون الخلاف متأخرا عن انعقاد الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم “علیه السلام” ولا طريق لإحراز ذلك في المقام» (12). 

4 – التتبع لتاريخ القواعد الفقهية:

القواعد الفقهية قد تكون مبنية على حديث نبوي مروي بطريق من غير مدرسة أهل البيت، فلماذا لم تبن القواعد الفقهية على أحاديث مروية من طريق أهل البيت؟ ألسنا نقول إن الحديث توقف عند المدارس الأخرى ولكنه استمر عند أئمة أهل البيت  250 سنة فلماذا نبني القواعد الفقهية على أحاديث لم ترو من طريقهم؟

اقتربت منه رحمة الله عليه وسألته(13) فقال: مثل ماذا؟ قلت مثل قاعدة «الطلاق بيد من أخذ بالساق» فقال:

1- ليس لأننا ليس عندنا أحاديث كثيرة فاضطررنا للأخذ بأحاديث نبوية لم ترو من طريق أهل البيت بل لأن العلامة كان يحشي ويعلق على بعض كتب أهل السنة وفي هذه الكتب تلك القواعد، فتأثر بمنهجهم فظن من جاء بعده أن العلامة استدل بتلك القواعد، بل كان العلامة يستعملها من باب المحاججة، لأن تلك الكتب كان أصحابها السابقون على العلامة من أهل السنة يستدلون بهذه القواعد فظن من جاء بعده من الشيعة أن العلامة يستدل بها أيضا، وهكذا دخلت هذه القواعد المبنية على أحاديث نبوية إلى يومنا هذا في كتبنا الاستدلالية.

2– كما أن هذه القواعد الفقهية عبارة عن مناشئ عقلانية يؤتى بها للتأييد وليست هي عمدة الدليل.

3- وعندنا في مصادرنا ما يشابه تلك الأحاديث التي صيغت كقواعد، بل ما عندنا وأكثر تفصيلاً، بالإضافة إلى أن تلك القواعد مختصرة ويسهل حفظها «وفيها من التسجيع أو التنغيم ما يسهل حفظها».

وهنا أنا أنقل ما أفاده بالمضمون في هذه النقطة -.

كان هذا مفاد جوابه والذي كان جوابًا على إشكال في إحدى «مجموعات التواصل الاجتماعي» العلمية وقد كلفني أحدهم بسؤال السيد الحكيم رحمته الله عليه وقد كان جوابًا شافيًا.

وقد رأيته أشار إلى هذه الفكرة بعد ذلك في أحد الدروس اللاحقة، كما وجدته يشير إلى هذه الفكرة في قاعدة اليد فيعبر عن ذلك أنها لم ترد من طرقنا أو أنها وردت بطريق مظلم. ومن يراجع كتابه مصباح المنهاج بجد الكثير حول موضوع القواعد الفقهية وسبب استعمالها دون الأحاديث المروية من طريق أهل البيت “عليهم السلام”.

ومن تلك القواعد:
۱) ما ذكره حول الحديث النبوي: “الزعيم غارم” حيث قال: إنه لم يرد من طرقنا وإنما ورد من طرق العامة، بل قد يظهر تكذيبه من معتبر الحسين بن خالد في رجوع الضامن على المضمون عنه(14).

۲) ومن تلك ” قاعدة اليد” حيث قال: إنه مروي بطريق مظلم، وليس من رواياتنا، والمتأخرون تمسكوا به والقدامى لم يكن عملهم على هذه القاعدة، وإنما عملهم على الأخبار الضعيفة الموجودة في البصائر والنوادر مثلاً وعملهم جابر، والخبر الضعيف حجة إذا أورد في مجاميع الأصحاب، و(قاعدة اليد) خبر لم يرو حتى عند العامة إلا في أوقات متأخرة، ولم يتضح احتجاج قدامی علمائنا به، والشيخ الطوسي استدل بالأصل ثم أورد رواية (قاعدة اليد)، ولا معنى لتقديم الأصل إلا أنه لا يعتمد هذه الرواية، بل كان احتجاجا على العامة، وهذه طريقة الشيخ إذ كان يقوم بعملية فقه مقارن(15).

۳) قاعدة “من أحيا ميتة في غير حق فهي له”: قال في مصباح المنهاج تعليقاً على استدلال العلامة به في كتاب التذكرة: «لكن الحديث لم يرو من طرقنا، وإنما من طرق العامة وفي كتبهم”(16).

واستدلال بعض أصحابنا به لا يكفي في جبره. لقلتهم وتأخرهم، ولعدم اقتصارهم في الاستدلال عليه، ولعل ذکر هم له لكونه مؤيدا، أو لبيان الوجه الذي اعتمده العامة الذين هم من جملة القائلين بذلك، كما سبق من التذكرة، أو لتخيل كونه من رواياتنا بسبب ذكر بعض أصحابنا له(17).

5- نُسَخ مصادر الروايات والمطبوعات:

لا يكتفي الأستاذ بنقل الحديث من نسخة مطبوعة، كالوسائل، بل يذهب أحيانا إلى النسخ التي اعتمد عليها صاحب الوسائل کالكافي والتهذيب ليجد التوافق والاختلاف بين الأصول، بل لا يثق أحيانا في الأصول المطبوعة من الكافي فيتحرى اختلاف النسخة الخطية للكافي والتهذيب.

وقد يقوم بعملية ترجيح كتاب على كتاب أو نسخة على نسخة.

مثال ذلك: في ضمان الراكب والقائد والسائق للدابة إذا أتلفت شيئا، وردت رواية وهي معتبر أبي مريم عن الباقر عليه السلام” : «قضی أمیر المؤمنين في صاحب الدابة أن يضمن ما وطأت بیدها ورجلها، وما نفحت برجلها فلا ضمان عليه إلا أن يضر بها إنسان»(18)،

وعن غیاث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه “عليهما السلام”: «إن عليّاً ضمن صاحب الدابة ما وطئت بيديها ورجليها وما نفحت برجليها فلا ضمان عليه إلا أن يضر بها إنسان» (19)،

وفي رواية إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه “عليهما السلام”: «إن علياً “عليه السلام” كان يضمن الراكب ما وطأت الدابة بيدها أو رجلها إلا أن يعبث بها أحد فيكون الضمان على الذي عبث بها (20)، ففي هذه الرواية ورد “بيدها أو رجلها”.

وهنا يبدأ السيد الأستاذ بتتبع السخ(21)، فقال: معتبر أبي مريم الذي رواه صاحب الوسائل عن الكافي والتهذيب بعبارة: (بيدها ورجلها) وجدنا النصوص عند الرجوع إلى التهذيبين خالية من كلمة (رجلها) !! بل الذي يظهر من الوافي للكاشاني أنه حتى الكليني لم يذكر (الرجل) !! لأن نسخ الكافي مختلفة، وصاحب الوافي عندما وجدناه يجعل رواية التهذيب کرواية الكافي فمعنی ذلك خلو الكافي من هذه العبارة (الرجل) فاختار الفيض الكاشاني من نسخ الكافي المختلفة النسخة الموافقة للتهذيب.

وكذلك معتبر غياث المذكور حيث رواه الصدوق في الفقيه من دون ذكر (الرجلين)، ولكن التهذيب رواها مع الرجلين.

وفي الوافي نسب الكاشاني رواية الصدوق التي رواها غياث للتهذيب ؟! فكأن صاحب الوافي يرى أن رواية الصدوق الخالية من الرجلين هي الموافقة لرواية التهذيب؛ لاختلاف نسخ التهذيب أيضا.

وليس لدينا احتمال أن تكون رواية غياث روايتين، بل هما رواية واحدة لاتحاد السند والعبارات إلا هذه العبارة (رجليها).

الجمع بين الروايات
وقال السيد الأستاذ: يمكن الجمع بين الروايات بأن نقول: إن الروايات التي تقول: (بيديها ورجليها) أي بيديها ورجليها مجتمعتين فيكون التأثير لليدين، أما لو كانت الإصابة بالرجلين فقط فلا ضمان، فليس كل من الرجلين أو اليدين سبباً منفصلًا، بل مجتمعة، ولو حصلت الإصابة باليدين والرجلين فعليه الضمان لكن التأثير هو لليدين، أما لو حصلت الإصابة بالرجلين فقط فلا ضمان على الراكب والقائد.

جمع آخر للروايات
حيث إن رواية أبي مريم ورواية غياث ورد فيهما (صاحب الدابة) و صاحب الدابة يشمل: الراكب والقائد والسائق، فقد يكون أريد من صاحب الدابة خصوص السائق وهو من يكون خلف الدابة فتكون هاتان الروايتان منسجمتين مع الروايات التي تضمن السائق ما أصابت الدابة بيديها ورجليها كما في رواية العلاء بن الفضيل: “وإن كان يسوقها فعليه ما أصابت بيدها ورجلها”، ولكن رواية اسحاق بن عمار لم يرد فيها كلمة الصاحب بل وردت كلمة الراكب: «إن عليّاً “عليه السلام” التي كان يضمن الراكب ما وطأت الدابة بيدها أو رجلها إلا أن يعبث بها أحد فيكون الضمان على الذي عبث بها، كما أوردها صاحب الوسائل عن التهذيب للشيخ الطوسي كما إننا عند مراجعة التهذيبين وجدنا عبارة: «بيديها ورجليها»، وليس بيديها أو رجليها.

ووجه الشيخ الطوسي رواية اسحاق بن عمار بأن الراكب يضمن ما أصابت الداية بيدها ورجلها إذا وقف عن المشي حيث تكون اليدان والرجلان تحت نظره.

والخلاصة التي انتهينا إليها: أن الراكب الماشي يضمن ما أصابت الدابة بيديها دون ما أصابت برجليها.

وجمهور الأصحاب ألحقوا القائد بالراكب فيضمن ما أصابت بيديها دون ما أصابت برجليها، وهو معقد الإجماعات، ويشهد بهذا موثق السكوئي وصحيح الحلبي: “وإن كان قائدها فإنه يملك بإذن الله يدها يضعها حيث يشاء».

وأما رواية خالد بن سليمان – كما في الوسائل -: «فإنه يملك بإذن الله رجلها يضعها حيث يشاء»، فذكر الرجل بدل اليد، لكن في التهذيب ذكر اليد وليس الرجل، وهذا اشتباه من صاحب الوسائل وسهو قلم.(22)

وأنت ترى عزيزي القارئ مدى التتبع الذي بذله هذا الفقيه الورع من أجل مسألة واحدة فرعية فكم سهر وتعب من أجل أن يصل إلى الجواب الأقرب للصواب.

ويرى السيد الأستاذ أن الكليني أضبط في نقل الروايات من الصدوق مع أن الصدوق يتابعه في الرواية(23).

6- الاعتماد على العرف والمرتكز العقلائي:

في كثير من القضايا التي لم يحدد الشارع موضوعها على نحو التعبد الصرف، فتراه يكثر من ذكر الجهة الارتكازية. ولا يخلو درس من دروسه الفقهية دون الإشارة إلى العرف والمرتكزات العرفية، بحيث يمكننا الإشارة إليه بالفقيه العرفي، رحمة الله عليه.

ومثال ذلك: ما ذكره حول ثبوت حق التحجير إذا حجر الأرض، فما هو الدليل على ثبوت حق التحجير ؟ ذكر الفقهاء عدة أدلة من بينها: الإجماع كما قال صاحب الجواهر “ومع ذلك كله فالإنصاف أن العمدة: الإجماع المزبور»،

ثم علق السيد الأستاذ على هذا الإجماع بقوله: “نعم من القريب جدا ابتناء الإجماع المذكور على قضاء المرتكزات المتشرعية والعقلائية بثبوت الأولوية بالتحجير، بحيث يكون التجاوز على التحجیر تعديا عرقا وشرعاً.

ويناسب ذلك عدم تيسر الإحياء بوجه دفعي، بل هو يبتني عادة على تعيين الأرض التي يريد الإنسان حيازتها وإحياءها أولًا بنصب العلامات عليها من المرور ونحوها من أجل منع الآخرين عن إحيائها، لئلا تضيع جهوده في تهيئة مقدمات الإحياء البعيدة، كنقل آلات البناء وغيره إليها.. ولو كان البناء على عدم الأولوية بذلك لاضطربت الأوضاع واشتد النزاع.

فالدليل في الحقيقة هو المرتكزات المذكورة التي جرى عليها المجمعون بطبعهم، بنحو يظهر منهم مفروغيتهم عن ذلك، لا نفس الإجماع، لما تكرر منا الإشكال في التعويل على الإجماعات المستحدثة في عصر تدوين الفتاوى (24)

ومثاله أيضا: ما ذكره في بحث الحجر، فقد اختلفت كلمات الفقهاء في بيان ما يستثنى للدين فذكروا أنه: لا يحل مطالبة المعسر ولا إلزامه بالتكسب إذا لم يكن من عادته وكان عسرا عليه، ولا بيع دار سكناه، ولا عبد خدمته، ولا غيره مما يعسر عليه بيعه.

فما هي الأمور المستثناة أيضا غير الدار والخادم التي لا يجب على المعسر بيعها لوفاء دينه مما لم يرد فيه نص من الشارع؟

قال: «وقد جعل في الجواهر المعيار: العسر والحرج في بيعه، كما جرى عليه سيدنا المصنف “قدس سره”. وقد يظهر من الجواهر الاستدلال عليه بعموم نفي العسر والحرج»(25).

وهنا يتوقف سیدنا الأستاذ حول قاعدة نفي الحرج، فهي قاعدة امتثانية، وهذا الامتنان من الله تعالى يتنافى مع حق الغرماء، ولو افترضنا أن المعسر کان يملك ثمن هذه الأشياء ولم يملك أعيانها فهل يمكنه استثناء ثمنها وعدم دفعه للغرماء لأن في دفعه ووفاء دينه به مع حاجته عسرا عليه !!

فالأولى الاستدلال بظهور التعليل في صحيح الحلبي: «قال: لا تباع الدار ولا الجارية في الدين. وذلك أنه لا بد للرجل من ظل يسكنه وخادم يخدمه”(26)، في عدم بيع كل ما من شأن المدين الحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه. ثم قال: “وعلى ذلك لا مجال لتحديد الأمور المذكورة، بل يتعين إيكالها للعرف، لأنها تختلف باختلاف الظروف والأشخاص، بنحو غير منضبط “(27).

ومثاله أيضا: ما ذكره في بحث اللقطة حول المبادرة من الملتقط بالتعريف باللقطة، فما هو الدليل على وجوب المبادرة؟

قال: «دليلنا على المبادرة أن التعريف كان من أجل الوصول للماك، والمناسبات الارتكازية تقتضي المبادرة لإيصال المال للمالك لمناسبة الحكم والموضوع، وطبيعة المالك أن يبادر في تحصیل ماله، فمناسبة الحكم للموضوع تقتضي المبادرة، فإذا بادر الملتقط للتعريف كان أقرب لإيصال المال للمالك.

فليس التعريف قضية تعبدية محضة كأمر الشارع بالصلاة، بل هو قضية ارتكازية. بالإضافة إلى أن في المبادرة احتمال تعجيل إيصال المال وعدم حبس المال عند الملتقط الذي هو خلاف الموازين الشرعية … نعم لا يقصد من الفورية الفورية الدقية بل الفورية العرفية التي تشهد بها السيرة.” (28)

 

الهوامش

1- مصباح المنهاج، كتاب الرهن ص ۷.

2- مصباح المنهاج، کتاب الغصب ص ۱۸۳.

3- للمزيد حول هذه النقطة يراجع كتابه المحكم في أصول الفقه ج ۲ ص 164 – ۱۸۳.

4- مصباح المنهاج، کتاب الغصب ص ۱۸۲. ودرس الأحد 1435/4/10 .

5- درس يوم الاثنين 1435/4/10 في الغصب.

6- درس يوم الأربعاء 1440/۷/۱۳ هـ.

7- درس الثلاثاء 1436/۱۱/9 بحث الحجر.

8- بحث اللقطة بتاريخ 16 محرم 1435.

9- مصباح المنهاج، كتاب إحياء الأموات، ص ۲۷6.

10- مصباح المنهاج، كتاب إحياء الموات، ص ۲۷6.

11- مجمع البیان ج ۲ ص ۲۲4.

12- مصباح المنهاج، كتاب الرهن، ص ۱۱.

13- سألته يوم السبت ۲/ ۳/ 1435.

14- مصباح المنهاج، کتاب الضمان ص ۲4۲.

15- درس يوم الأربعاء 12 /4 / 1435 بحث الغصب.

16- صحيح البخاري ج:۳ ص: ۱۳۹ – 140، سنن البيهقي ج:6ص: 142.

17- مصباح المنهاج، كتاب الإحياء ص ۲۵۸.

18- الوسائل، باب ۱۳ من أبواب موجبات الضمان ح3.

19- الوسائل ج۱۹ ص ۱۸۵، باب أن الدابة الموطئة لا يضمن صاحبها.

20- الوسائل، باب ۱۲ من أبواب موجبات الضمان ح ۲.

21- درس يوم الأحد 15/ 1/ 1436.

22- درس الاثنين 16/ 1/ 1436. وراجع كتاب مصباح المنهاج، كتاب إحياء الموانت ص ۳۳۲.

23- درس الأحد 1440/۱۰/۲6.

24- مصباح المنهاج، كتاب إحياء الموات ص ۳5۰.

25- مصباح المنهاج، کتاب الحجر ص ۱۷۸

26- وسائل الشيعة ج ۱۳، باب ۱۱ من أبواب الدين والقرض، ح ۱.

27- مصباح المنهاج، کتاب الحجر ص ۱۷۹.

28- بحث اللقطة يوم الأربعاء 16 محرم 1435.

 

تحميل الكتاب

السيد-محمد-سعيد-الحكيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky