الاجتهاد: نص الكلمة الملقاة في الندوة العلمية التي نظمتها مؤسسة الشهيد مطهري في قم بعنوان “المنهج الفقهي للأستاذ الشهيد مطهري“
كثير من الفقهاء والمفكرين يولون اهتماماً كبيراً لقضية: كيف يمكن للشريعة أن تغطي العالم المتحول في سياق الزمن، وكيف يمكن للفقيه أن يُفعّل هذه التغطية الشرعية في منهجه الفقهي.
للمسألة مرحلتان من البحث:
الأول: ما هي الآلية التي وضعتها الشريعة لتغطية التحولات الزمنية؟
الثاني: ما هي المنهجية الفقهية لاستخدام تلك القدرات المدمجة؟
من بين هؤلاء المفكرين الشهيد مطهري، الذي تناول كيفية تغطية الشريعة للتحولات الزمنية بمظلة إيجابية، وتقديم منهجية اجتهادية لتفعيل هذه التغطية.
سنتناول فيما يلي عرضاً ودراسةً لهذه الرؤية (بكلتا المرحلتين) التي قدمها الشهيد مطهري.
المرحلة الأولى: ما هي الآلية التي وضعتها الشريعة لتغطية التحولات الزمنية؟
يُطرَح هذا السؤال لأننا نعلم أن الشريعة جاءت في وقت محدد، والزمن قد مضى في مسار التحولات إلى الأمام، وكلما ازدادت التحولات جاءت تحولات أخرى وأزالتها. إذن، كيف يمكن للشريعة التي جاءت في وقت محدد أن تواكب هذه التحولات؟ ببيان آخر، ما هي الآلية التي وضعتها الشريعة لكي تبقى وتستوعب القضايا المستجدة وتتناولها بشكل إيجابي ومجيب؟
يجيب الشهيد مطهري على هذا السؤال بأن الشريعة وضعت آلية لضمان بقائها واستمراريتها، وهذه الآلية تتمثل في القواعد الفقهية. وفقًا لرؤيته، فإن الشريعة تحتوي على عنصر ديناميكي بذاتها، وهو قواعدها الفقهية التي تسمح لها بالتكيف مع الظروف الجديدة وتقديم الحلول المناسبة للأحداث المستجدة.
ربما يتساءل البعض: لماذا يتم تخصيص هذا الاهتمام بالشهيد مطهري تحديدًا في هذا المجال، رغم أن الفقهاء بشكل عام لديهم هذا الاهتمام؟
السبب يعود إلى ميزة تفرّد الشهيد مطهري في هذا المجال، فعلى الرغم من اهتمام العديد من الفقهاء بالقواعد الفقهية، إلا أن رؤية الشهيد مطهري حول طاقات وإمكانيات القواعد تتميز بـ:
1. ديناميكية الشريعة للاستيعاب: يعتقد الشهيد مطهري أن الشريعة من خلال قواعدها تمتلك ديناميكية كامنة يجب اكتشافها وتفعيلها.
2. إزالة القيود: يرى الشهيد مطهري وجود قيود تقليدية تعيق تطبيق الديناميكية الفقهية المتجسدة في القواعد الفقهية، ويجب إزالة هذه القيود.
3. تقديم آلية منهجية قوية: يُقدّم الشهيد مطهري آليةً قويةً لفهم واستخدام ديناميكية الشريعة.
وصفوة القول أن القواعد الفقهية في نظر الفقهاء التقليديين لا تحقق المعجزات في تغطية المستجدات، لأنهم لم يمتلكوا نظرة فلسفية شاملة لهذه القواعد قبل تناولها وتطبيقها، ولم يحددوا إطارها وحدودها بدقة في مواجهة المستجدات.
بينما الشهيد مطهري قدّم رؤية جديدة حول ديناميكية الشريعة من خلال امتلاكها للقواعد الفقهية، مسلّطًا الضوء على دور هذه القواعد في مواكبة التغيرات.
المرحلة الثانية: ما هي المنهجية الفقهية لاستخدام تلك القدرات المدمجة؟
عرض الشهيد مطهري في باب استخدام المنهج عدة ضوابط منهجية حول موضوع القاعدة، يتمكن الفقيه بها من تفعيل تلك القدرة الديناميكية للشريعة.
الضابطة الأولى: التركيز على روح الموضوع:
الشهيد مطهري قال إن للأحكام الإسلامية روحًا وهدفًا لا يتغير، لذا فإننا لا نتبع الشكل والظاهر.
هذا التركيز على الروح في نظر الشهيد مطهري يتكون من ثلاث طبقات:
الأولى: بقاء روح الموضوع حتى وإن تغير الشكل والقالب وأصبح جديدًا.
الثانية: زوال الروح للموضوع حتى وإن لم يتغير الشكل والقالب.
الثالثة: تسري روح الموضوع إلى غير ما جاء في النص.
وإليك التوضيح:
الطبقة الأولى: نرى روح الموضوع باقية رغم تغير الأشكال. بمعنى أن الكيان الذي قدمته الشريعة يظل قائماً بناءً على فهمنا لروحه، فحتى مع تبدل الأشكال، تظل الروح ثابتة. والامثلة التي ذكرها الشهيد مطهري هي ثلاثة كما يلي :
أ- الربا: يقول: حتى وإن تغيرت الأشكال، تظل روح الربا موجودة. فلا يمكننا التخلي عن هذه الروح بسبب تغير الأشكال.
ب- التسول:
يرى أن تغير الأشكال والمظاهر لا يغير من روح التسول التي ينكرها الإسلام.
ج- السرقة:
هي تحتفظ بروحها الخاصة رغم تغير أشكالها إلى أشكال حديثة، ولا يمكننا التخلي عن هذه الروح.
الطبقة الثانية: الروح الخاصة بموضوع ما قد تتغير ويأتي موضوع آخر يحل محلها، حتى وإن لم يتغير الشكل الخارجي. أي أن الموضوع في ظاهره يبدو كالموضوع القديم، ولكن روحه قد تغيرت. في هذه الحالة، يمكننا استنباط حكم جديد لهذا الموضوع لأن الكيان قد اكتسب طابعاً جديداً وتغير.
ضمن هذا الإطار، إذا رأينا موضوعاً في النص حكمه التحريم، ولكن نجد أن روحه قد تغيرت في الواقع، فإنه يصبح موضوعاً جديداً ولا ينطبق عليه حكم التحريم القديم.
مثال على ذلك هو النص القرآني الذي يقول: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل”، والذي كان من تطبيقاته بيع الدم في الماضي، حيث كان يُباع لاستعمالات غير مشروعة مثل أكله. هذه الآية كانت تشمل بيع الدم في ذلك السياق. لكن اليوم، عندما أصبح للدم فوائد كبيرة واستخدامات طبية مشروعة، فإن الآية لم تعد تشمل مثل هذا البيع، رغم أن الشكل الخارجي (بيع الدم) بقي كما هو. هذا يعني أن روح الموضوع قد تغيرت، وبالتالي، لا ينطبق الحكم التحريمي القديم على الحالة الجديدة.
الطبقة الثالثة: هذا يأتي فيما إذا نكتشف أن روح موضوع ما يمتلك شمولية تتجاوز النص لتشمل مواضيع غير مذكورة فيه. الشهيد مطهري قدم في هذا السياق طريقا للكشف عن شمولية روح الموضوع، يتمثل في مبدأ يمكن تسميته بالأصل والذيل،
توضيحه: أنه إذا رأينا نصًا يتكون ويظهر معناه في ظل نص آخر، فإن النص الرئيسي يعمم موضوع الذيل، أي يبرز أن الروح لها الشمولية.
المثال الذي يقدمه هو استحباب السبق والرماية في سباق الخيل ورمي السهام القديمة.
هو يعتقد أن نصوص السبق والرماية تأخذ معناها في ضوء آية إعداد القوة.
فنفهم من ذلك أن السبق والرماية مرتبطان بإعداد القوة، واليوم يتجلى إعداد القوة في غير سباق الخيل ورمي السهام. فنفهم أن روح النصوص المتعلقة بالسبق والرماية تتعلق بإعداد القوة، وبالتالي ينتقل الاستحباب إلى الأنواع الحديثة والمعاصرة من الرماية أو السبق أحياناً.
ببيان آخر، إن في الفقه قاعدة تنص على أنه من المستحب لكل مسلم أن يتعلم ركوب الخيل، وحتى القيام بالشرط المالي في هذا السباق جائز وليس قماراً؛ في الوقت الحاضر، ركوب الخيل لم يعد له نفس الفعالية كما كان في السابق، وكذلك الرماية؛ فيعتقد أن هذه القضايا ترتبط بالآية الكريمة “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ”.
الشهيد مطهري قدم هذا التحليل بناءً على رأيه القائل “أمسك بالروح واترك القالب”.
الضابطة الثانية: امتلاك بعض القواعد الجوانب التعديلية والتحكمية بالنسبة لمجموعات قواعدية أخرى:
يرى الشهيد مطهري أن استخدام القواعد الفقهية يتطلب شرطًا مسبقًا وهو معرفة العلاقة بين النصوص. بمعنى أن الفقيه يجب أن يفهم الروابط بين النصوص وأن يمتلك آلية لفهمها. وقد أشار إلى هذه العلاقة في عدة مواضع. ومن جملة هذه العلاقة بين النصوص، هي كون مثل قاعدة “لا حرج” و”لا ضرر” ذات الطابع التعديلي؛ اي: يجب مراجعة القواعد الأدنى في ضوء القواعد الأعلى من أجل تعديلها.
الشهيد مطهري، الذي يتمتع بنظرة فلسفية، يرى أن دور بعض القواعد هو التعديل والتحكم. ووفقًا لهذه الرؤية، لابد أن نتابع الجانب التعديلي والتحكمي لهذه القواعد. صحيح أن جملة عظيمة من الفقهاء يعتقدون بحكومة “لا ضرر” و”لا حرج” بالنسبة إلى قواعد أخرى، إلا أن النقطة التمايزية للشهيد مطهري تكمن في تركيزه على الجوانب التعديلية والتحكمية في تفسيره لحكومة هذه القواعد تجاه القواعد الأخرى. هذه الجوانب التعديلية تساهم في جعل القواعد الأخرى منسجمة مع “لا ضرر” و”لا حرج” في إطار هذا التعديل.
بمعنى أننا إذا تابعنا هذه القواعد بالجوانب التعديلية، فإننا في الحقيقة نريد أن نتبنى مشروعاً يشمل جميع القواعد، ونملأها بروح “لا حرج” و”لا ضرر”.
بعبارة أخرى، يجب أن نسري روح “لا ضرر” و”لا حرج” في جميع المضامين الأخرى التي تمتلكها القواعد الأخرى. وهذا يحقق انسجامًا أكبر بين القواعد بشكل ملحوظ، مما يجعلها أكثر اتساقًا وملاءمةً لما قصده الشارع، مقارنةً بما لدى الفقهاء الآخرين.
الضابطة الثالثة: تحديد المصداق الجديد للموضوع بالرجوع إلى العلم والعقل:
يمكننا تحليل مصداق الموضوع استنادًا إلى العقل والعلم. إذا تم قبول هذا الأمر، سيفتح لنا باب واسع من تطبيق القواعد. يقول إن مسألة تدخل العلم والعقل في الاستنباط لها أهمية كبيرة؛ يرى أن العقل هو دليل لفهم الصلاح والفساد، ثم قال إن هذه القاعدة التي قالتها العدلية، قابلة للتوسيع: كلما حكم به العقل حكم به الشرع.
ولم يات هو بمثال هنا ولكن يمكننا ان نذكر مثالا كالاتي؛
لدينا قاعدة مهمة مثل “لا ضرر” التي تطبيقاتها تقليدية وكانت موجودة منذ القدم، مثل ضرر الصيام على صحة الإنسان أو الضرر المالي وغيرها؛ اليوم، العلم يذكر مصاديق للضرر لم تكن موجودة في الماضي. يقول العلم إن الإنسان اليوم قد يضر بالبيئة، وهذا من أعلى مصاديق الضرر، لذلك يمكننا تطبيق قاعدة “لا ضرر” في هذه القضية بناء على التوجيهات العلمية وعدم التركيز فقط على تلك الأضرار التقليدية (الضرر بين شخصين أو ما شابه ذلك).
هل حقًا الإسلام يهتم بالضرر بين شخصين ولكن لا يهتم بالضرر على البيئة والأجيال القادمة وما إلى ذلك؟
إذا حصلنا على المصاديق بشكل متخصص، فإن نطاق التطبيق سيكون أوسع بكثير من السابق.