إنّ الاتفاق والاتحاد ليس من مقولة الأقوال، ولا من عالم الوهم والخيال، ويستحيل أن توجد حقيقة الاتفاق والوحدة في أمة مالم يقع التناصف والعدل بينها بإعطاء كلّ ذي حق حقه، والمساواة في الأعمال والمنافع، وعدم استئثار فريق على آخر.
الاجتهاد: عند إلقاء نظرة فاحصة في عمق تاريخنا العلمائي نجد أن هناك نجوماً زاهرة ومشاعل تنير طريق الجهاد المليء بالأشواك. وأن مما يحز في النفس أننا نجد الكثير من الشباب المؤمن لم يستوعب الخطوط العريضة للخط العلمائي بشكل واضح ودقيق في تاريخ المسيرة الجهادية، ولم يدرس هذا التاريخ بصورة متكاملة. لذا يمكن القول: بأن تاريخ علمائنا المجاهدين مترابط متسلسل؛ لأن تاريخ اللاحق مكمل للسابق رغم التفاوت في الظروف الموضعية التي اكتشفت حياة كلّ واحد منهم، فقد باعوا أنفسهم لله، ونذروا حياتهم للذود عن حضيرة الشريعة المقدسة فسجلهم الوضاء حافل بالمواقف البطولية الشجاعة.
فقد وقف الشهيد الصدر قدس سره مصراً على الشهادة حتّى ختمت بها حياته.
ورأينا بأم أعيننا كيف استطاع الإمام الخميني قدس سره أن يؤجج نار الثورة على نظام “الشاه المقبور” وأن يؤسس دولة الإسلام في عصرنا الراهن.
ونحاول في هذا البحث تسليط الضوء على حياة العالم الفقيد المجاهد الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء قدس سره، مستلهمين من نجاحاته الباهرة في هذا الإطار الدروس والعبر الوحدوية.
الإمام كاشف الغطاء في سطور:
ولد العالم المجاهد الشيخ محمّد الحسين سنة ١٢٩٤ هـ = ١٨٧٧ م) في النجف الأشرف، وهو ابن الشيخ علي، ابن الشيخ محمّد رضا، ابن الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء، ابن الشيخ خضر بن يحيى بن مطر بن سيف الدين المالكي، وأسرته معروفة ترجع في نسبها إلى قبيلة بني مالك [١].
وهو أحد مشاهير علماء الإمامية، وقد بزغ نجمه علماً في حاضرة النجف العلمية، حيث عاش فيها، ودرس متلمذاً على أيدي كبار علمائها: كالشيخ محمّد كاظم الخراساني، والملا رضا الهمداني والسيد كاظم اليزدي، والميرزا حسين النوري، وغيرهم حتّى شع نوره غرباً وشرقاً، وعمت بركة علمه وسيرته ربوع دنيا الإسلام، فكان له باع طويل في علوم الفقه، والأصول، والتفسير، والأخلاق، والثقافة، والأدب، والسياسة، فكتب وألف الكثير في هذه المجالات والأبواب.
وما يهمنا كثيراً في بحثنا هذا كونه رحمه الله أحد كبار الدعاة لوحدة المسلمين والتقريب بين مذاهبهم، وكانت له مواقف مشهودة، وكتابات وأفكار ورسائل تدور في هذا المضمار.
تحركه ونشاطه من أجل التقريب:
يمثل الإمام كاشف الغطاء الحركة الهادفة والمعطاءة من أجل تثبيت دعائم الإسلام وتركيز مفاهيمه في قلوب الناس، وكان يعتصر قلبه ألما وحرقة لما يعاني منه المسلمون
من الفرقة، والتناحر، والابتعاد عن الإسلام. ولم تكن تحركاته رحمه الله في نشر مفاهيم الإسلام والدعوة إلى الله مقتصرة على النجف الأشرف، بل امتدت إلى مختلف بقاع العالم الإسلامي، كما كان يتصل برؤساء الدول والسياسيين، ويزرع في نفوسهم روح الخير والفضيلة، والتأكيد على دور الإسلام في توحيد الصفوف ونبذ الخلاف والفرقة. وأما أهم أسفاره:
١ – رحلته في غرة شوال (سنة ١٣٢٩ هـ) إلى الحجاز، واجتماعه مع كبار علمائها.
٢ – رحلته إلى بلاد الشام، وقد التقى فيها مع الشيخ أحمد طبارة، والشيخ عارف الزين، وعبد الكريم الخليل، وعبد الغني العريس، وباتروباولي.
واتصل بالأديب أمين الريحاني، وحل ضيفاً على رشيد بيضون.
٣ – رحلته إلى القاهرة: وقد اجتمع بعلماء الأزهر طيلة ثلاثة أشهر قضاها في القاهرة، حيث ألقى عدة محاضرات على طلاب العلم في الأزهر الشريف، كما ألقى بعض الخطب في الكنائس مفنداً فيه مزاعم المبشرين [٢].
٤ – سفره لحضور المؤتمر الإسلامي في فلسطين (سنة ١٣٥٠هـ) الذي انعقد ليلة المبعث، وحضره كبار علماء المذاهب الإسلاميّة من أغلب الأقطار، واجتمع ما يقارب خمسين ألفاً من المسلمين، فخطب فيهم خطبة بليغة، ولما نزل من المنبر ائتم به في الصلاة جميع علماء المذاهب الأربعة وغيرهم، حتّى علماء الوهابية والخوارج، حيث طلبوا منه بأن يكون هو الإمام لهم في جميع الفرائض الخمس مدة بقائهم بالقدس.
وقد نشرت الصحف العالمية هذا الحدث العظيم الذي لم يتفق لأحد، ورجع من سفره، فاستقبله الناس بحفاوة بالغة، ونظمت القصائد بحقه، وقد أحصي ما قيل فيه فوجد أنّه يزيد على العشرة آلاف بيت موجودة في مكتبته [٣].
٥ – رحلته إلى سوريا ولبنان وباكستان إثر دعوة من حكومة باكستان لحضور
المؤتمر الإسلامي فيها، وخطب عدة خطب، كما شارك رجال المؤتمر في معالجة الأوضاع السياسية الراهنة في البلاد الإسلاميّة، وقام بفضح دسائس الاستعمار في هذا المؤتمر الذي عقد بدعم من الأوساط الشعبية الإسلاميّة [٤].
دوره السياسي وعمله الوحدوي:
لقد كان للإمام آل كاشف الغطاء حضور واسع وفعال في الساحة السياسية، حيث عرف رحمه الله أنّه كان متتبعاً لجميع الأحداث التي مرت على المسلمين من خلال مواقفه وكتاباته وأسفاره.
فيرى رحمه الله أن تدهور حياة الأمم وانحلال هيكليتها وتماسكها سببه الاستعمار، فهو يعمل على تمزق الأمة وتشتتها؛ لتسهل سيطرته عليها، وهذا العمل يقع ضمن دائرتين – في رأيه – هما:
١ – الإفساد الخلقي: فقد أكد على أن السبب الرئيسي للفساد الخلقي في بلاد المسلمين يعود إلى الاستعمار، لذا نجده يقول: (أفسدوا أخلاق كلّ قطر من الأقطار، وسلبوا كلّ عزة وكرامة ونبل وشهامة…. ) [٥].
٢ – زرع الاضطرابات والفتن داخل كلّ بلد مستعمر، ويقول بهذا الصدد: (وهكذا الدول الاستعمارية تصنع معنا – معاشر المسلمين – إذا اشتكينا إليهم يضربون بعضنا ببعض، ويلقون بأسنا بيننا، ثم يسلطون اليهود علينا…. ) [٦].
وقد أشار الشيخ المجاهد رحمه الله إلى المساعدات الحربية للاستعمار والتي تعتبر الأدوات لاقتتال الأخوة بقوله: (إنّ أمريكا تبذل الأسلحة الفتاكة لإسرائيل نقداً لا وعداً، تدفعها بلا قيد ولا شرط بأن لا ولو تقاتل بها العرب، بل على أن تقاتل بها العرب.
أما العرب فتبذل لهم الأسلحة الرمزية العاطلة وعداً لا نقداً، وبشرط أن لا تقاتل بها إسرائيل) [٧]. ويضيف قائلاً: (ما أدري، إذا لم تقاتل بها إسرائيل فمن نقاتل؟ وأي عدو لنا أمر وأدهى من إسرائيل؟ ! ومن خلق وأنشأ دولة إسرائيل؟ ! نعم، تقول أمريكا بلسان الحال الذي هو أبلغ من لسان المقال: أعطيكم السلاح على أن يقاتل بعضكم بعضا ً حتّى تهلكوا جميعاً) [٨].
نظرته للأمة وأسباب تدهورها وسر انتصارها:
نبه نظرته الشيخ رحمه الله الأمة الإسلاميّة على ضرورة الاستقلال وعدم الميل للشرق أو الغرب، حيث يقول: ٠فلسنا مع اليمين ولا مع اليسار، بل جعلنا الله (أمة وسطا [٩].
(شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ( [١٠]، وهذا من أهداف الإسلام ومثله العليا) [١١].
كما يشير الإمام كاشف الغطاء إلى ثلاثة شياطين أو عفاريت – حسب تعبيره – تكيد للإسلام والمسلمين، وتخطط لإمرار مشاريعها المنحرفة، وهذه الشياطين هي الشيوعية، والصهيونية والاستعمار.
يصرح الشيخ المجاهد بأن اختلاف كلمة المسلمين وعدم توحدهم هو السبب الرئيسي لتدهورهم على مر العصور، ويستشهد بالأمثلة التاريخية التالية:
١ – سبب حدوث الحرب الصليبية.
٢ – غلبة المغول والتتر على الممالك الإسلاميّة.
٣ – الاستعمار الأوروبي للبلاد الإسلاميّة.
٤ – (إنّ اختلاف دول العرب هو الذي أدى إلى الكارثة ولا يتمكن العرب من إيقاف نمو إسرائيل أو القضاء عليها إلاّ بتضامنهم واتحادهم…. ) [١٢].
ويلفت الشيخ انظار المسلمين إلى سر انتصار المسلمين بوحدتهم وتكاتفهم، فيقول: (عرفنا أن الداء العضال والمرض القتال إنّما هو: التفرقة الناشئة من توغل الأنانيات والعصبيات الباعثة على التفاخر، ثم التنافر، فالتقاطع، فالتدابر، فدك العنصريات، وسحق القوميات، واستهلاك العصبيات.
فصرح الوحي على لسان الرسول الكريم – صلى الله عليه وآله – (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم… (، ثم زاد وأوضح البيان: “الناس كلهم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى” [١٣]، “ليس منا من دعا إلى عصبية” [١٤] يعني: لا فخر بعجمية ولا عربية، ولا هندية، ولا تركية، وإنّما الفخر بالعمل الصالح والمزايا الطيبة، فالعصبية والأنانية هي كلّ الداء، والاعتماد على الفضيلة هو منتهى الدواء.
لقد كان الرسول – صلى الله عليه وآله – ينادي في كلّ ملأ ومجتمع “أما والذي نفس محمّد بيده، إنكم لن تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتّى تجتمعوا، ولن تجتمعوا حتّى تتحابوا…. ” [١٥].
ثم مضى على ذلك صحبه الكرام، فساروا على خطه ومنهجه واحداً بعد واحد، فكانوا إخواناً على صفاء….، حتّى خاضوا البحار وملكوا الأقطار، وهم أعراب بادية لا درس ولا مدرسة، ولا كتاب ولا مكتبة، وبنفس المضمون يقول الإمام علي – عليه السلام ـ: “إياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب، ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه” [١٦]، ويعني بهذا الشعار: شعار التفرقة.
يرى الإمام كاشف الغطاء رحمه الله أن هناك أفقاً أوسع للوحدة، يشمل الوحدة بين المسلمين وغيرهم من الكتابيين، حيث يقول: (وحدة الإيمان تدعو إلى وحدة اللسان، ووحدة اللسان واللغة رابطة، والرابطة إخاء، وأخوة الأدب فوق أخوة النسب، وهي التي توحد العناصر المختلفة والمذاهب المغاير، فالنصراني، واليهودي، ولمجوسي والصابئي الّذين يخدمون لغتنا وثقافتنا، ويسالموننا يواسوننا في السراء والضراء، ولا يساعدون الأعداء علينا، ويحامون عن أوطاننا، هم إخوان المسلمين، وداخلون في ذمتهم، ويلزمهم حمايتهم، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وتجمعنا معهم الوحدة القومية، والقرآن الكريم ينادي ويشهد بذلك كما في قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين [١٧] (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ( [١٨].
وينطلق الإمام كاشف الغطاء في ذلك إلى وحدة اللسان، ووحدة اللغة، ووحدة الإيمان بالله، حتّى لو كانوا يدينون بدين آخر، ينطلق بذلك من الرواية المأثورة عن الإمام علي – عليه السلام – في شأن النصراني، حيث تذكر الرواية: أنّه – عليه السلام – مر بشيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين: ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه نصراني، فقال الإمام: “استعملتموه، حتّى إذا كبر وعجز منتعموه، أنفقوا عليه من بيت المال”.
أما بخصوص مسألة تعميق الإيجابيات في الأمة فنلاحظ ما يأتي:
١ـ ركز على تطوير وجود المرجعية، وتجذيرها في الأمة من خلال أداء دورها العملي والحقيقي الكامل.
٢ – ركز على نشر مفاهيم الإسلام وأحكامه في أوساط الجماهير الإسلاميّة، وتوضيح المواقف من الأحداث الجارية في الساحة باعتباره متصدياً للمرجعية آنئذ.
٣ – التركيز على الجانب العملي والابتعاد عن إثارة الشعارات المجردة والأفكار النظرية، لذا نجد أن بعض ممارساته قد وصلت إلى مرحلة الصراع المسلح والسياسي، وذلك من خلال مشاركته في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الدولة العثمانية آنذاك ضد الدول المستعمرة والكافرة: كبريطانيا، وكذلك شارك في ثورة النجف ضد القوات البريطانية، بالإضافة إلى تأييده لحركة ما يس عام (١٩٤١ م) ضد الإنجليز.
٤ – الملاحظ في حياته رحمه الله سعة تحركه السياسي خارج العراق بشكل هادف، حيث قام بزيارة مختلف البلدان الإسلاميّة باتجاه تعميق الأهداف الإسلاميّة؛ وذلك لشعوره بأن العالم الإسلامي وحدة متصلة متداخلة ن وموقعه القيادي لا يعرف الحدود التي صنعها الاستعمار، فقام بزيارة المراكز المهمة والحساسة في الصراع السياسي، وكانت زياراته من أوليات اهتماماته رحمه الله. فقد زار كلا من: الجزيرة العربية، وبلاد الشام – سوريا ولبنا وفلسطين ـ، ومصر، وإيران، وباكستان، واتصل بأهل الحل والعقد، ورفض رحمه الله النظرية القائلة بضرورة ابتعاد رجل الدين عن السياسة، ولعل أول باب فتحه خارج النجف الأشرف كان عن طريق المراسلات التي جرت بينه وبين أمين الريحاني [١٩].
٥ – اهتم الإمام المجاهد بأسلوب الكتابة والتأليف، حيث نهج فيه نهجاً يختلف عما تعارف عليه العلماء الّذين سبقوه، فلم يقتصر في كتاباته على البحوث الفقهية، والأصولية، بل توجه في تحركاته ونشاطاته العلمية والفكرية، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأدبية إلى معالجة قضايا الأمة المعاصرة.
موقفه من حركة التبشير:
لقد حذر الشيخ المجاهد من خطر التبشير على الأمة الإسلاميّة، وله كتاب قيم بهذا الصدد موسوم بـ”التوضيح في بيان حال الإنجيل والمسيح” يرد به رداً علمياً دقيقاً وشاملاً على المبشرين، وكان يفتتح خطاب التحذير بجمل من قبيل [٢٠]:
(أيها المسلم، إذا وسوس لك المبشر بأباطيله، ودعاك إلى الإيمان بأناجيله، ودفع لك المنشورات والجزوات من أضاليله فارمها تحت قدميك، وقل له: أتدعوني إلى الإيمان بالكتب المشحونة بالأكاذيب…) [٢١].
ولم يقصد الإمام التهجم على المسيحيين، فهو يحترمهم بحكم احترام الإسلام لأهل الكتاب، ولكنه الدفاع عن النفس والواجب الشرعي.
دعوته إلى الاتحاد بين الدول الإسلاميّة، والى اتحاد المذاهب الإسلاميّة فيما بينها:
وكما يحذر الشيخ كاشف الغطاء الدول الإسلاميّة من توقيع المعاهدات مع الدول الاستعمارية والدخول في أحلاف معها فإنه في الوقت نفسه يؤكد على أن سمو الأمة الإسلاميّة ورفعتها هو في وحدتها، وبهذا الصدد يقول: (ولو أن هذه الشعوب والممالك أخلصت لله نيتها، وأحكمت وحدتها، ووحدت كلمتها، وسحقت الأطماع وسياسة الخداع ما بينها، عارفة حق اليقين أن مصارع العقول تحت بروق المطامع، وأن الاتحاد قوة، والاجتماع ثروة…) [٢٢].
وعلى صعيد آخر يقول الشيخ: (نعم، من الواجب واللازم إنشاء حلف صادق بين الدول العربية والإسلامية، مشروط بعدم دخول الدول الاستعمار فيه…) ٢.
لقد كان الشيخ كثيراً ما يؤكد على أهمية الاتحاد بين الجمهور والإمامية تحت لواء الإسلام ومبادئه الاسياسية الحقة، وللشيخ رسالة صغيرة سماها: “كيف يتحد المسلمون؟ ” بين فيها أفكاراً مهمة لتوحيد المسلمين منها:
١ – وحدة أبناء التوحيد تحت شعار: “لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله “.
٢ – الاتحاد من خلال العمل.
موقفه من حرية المذاهب والأديان
ودعا الشيخ في كتاباته إلى المحافظة على حرية المذاهب والأديان، حيث يقول: (إلى كلّ ذي حس وشعور يعلم أن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى الاتفاق والتآلف، وجمع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وأن ينضم بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص، ولا يدعوا مجالاً لأي شيءٍ مما يثير الشحناء، والبغضاء، والتقاطع والعداء) [٢٤].
ويجب المحافظة على حرية المذاهب والأديان كما قال تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق…. ( [٢٥]. ومن الحق أن ما يواجهه الحق من باطل يلزم المسلمين قطع أيادي السوء التي تعبث بإفساد البلاد، ومن الحزم، بل من الحتم إذا حصل بين أهل البلد الواحد شيء من الوهم سعى الحكماء والعقلاء فوراً إلى إزالته والمبادرة إلى الإصلاح.
ويتبع الشيخ القول بالعمل، فقد بارك وأثنى على أية خطوة تدعو إلى الاتحاد، ونذكر هنا موقفين وشاهدين على ذلك:
أوّلاً: مع دار التقريب في مصر:
أرسل الإمام رسالة لدار التقريب مشجعاً فيها فكرة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وفيما يلي مقتطف لبعض ما جاء في هذه الرسالة:
فضيلة العالم الجليل الشيخ “محمود شلتوت” أيده الله: (اطلعت على كلمة لكم في بعض الصحف كان فيها لله رضى وللأمة صلاح، فحمدناه تعالى على أن جعل في هذه الأمة وفي هذا العصر من يجمع شمل الأمة، ويوحد الكلمة، ويفهم حقيقة الدين، ويزيد الإسلام لأهله بركر وسلاماً، وما برحنا منذ خمسين عاماً نسعى جهدنا في التقريب بين المذاهب الإسلاميّة وتدعو إلى وحدة أهل التوحيد).
ثانياً: مع مؤتمر القدس:
إنّ مؤتمر القدس الذي ضم علماء المسلمين للتداول وبحث أوضاع المسلمين كان موضع أمل واستبشار الشيخ، وقد عبر عن موقفه بقوله:
(ودبت في نفوس المسلمين تلك الروح الطاهرة، وصار يتقارب بعضهم مع بعض، ويتعرف فريق لفريق، وكان أول بزوغ لشمس تلك الحقيقة، ونمواً لبذر تلك الفكرة: ما حدث بين المسلمين قبل بضعة أعوام في المؤتمر الإسلامي العام في القدس الشريف من اجتماع ثلة من كبار المسلمين وتداولهم في الشؤون الإسلاميّة…. ) [٢٦].
الأسلوب الأمثل لدى الشيخ في التقريب:
طلب الشيخ رحمه الله من المفكرين والعلماء والمثقفين بأن يبحثوا بحثاً علمياً موضوعياً بعيداً عن كلّ التراكمات والخلفيات النفسية التي خلقتها الفرقة المذهبية. كما طلب منهم أن يعملوا بكل جد وإخلاص على تهدئة الجوانب العاطفية المتأججة في المجال الشعبي التي تقف أمام الخلافات بحدة، وأن يوضحوا للأمة بأن الخلافات ما هي إلاّ اجتهادات اقتنع بها كلّ مجتهد من خلال اجتهاده، والمجتهد قد يخطىء وقد يصيب، ولا تكون الخلافات في الرأي مصدر تضليل، ولا هي العقدة، فهناك أكثر من رأي يتبناه الناس في هذه الدائرة الأخرى من دون أن يشعروا بالعقدة، فذلك عندنا في الدوائر الإسلاميّة وفي دوائر المذهب السني، أو الشيعي.
ب – موقفه من بعض المؤتمرات الإسلاميّة:
لقد كان الإمام كاشف الغطاء مدركاً أساليب ومآرب الاستعمار الجديدة، لذا فقد حدد الهدف الحقيقي منها، فكان له موقف حازم من مؤتمر “بحمدون”، وهذا المؤتمر قد خططت له أمريكا بواسطة “جمعية أصدقاء الشرق الأوسط”، وتهدف أمريكا من وراء هذا المؤتمر مد نفوذها إلى نقاط أعمق في الكيان الإسلامي من خلال تسخير “رجال الدين” المسلمين لمكافحة الشيوعية نيابة عن المعسكر الرأسمالي.
وقد رد الشيخ المجاهد على الدعوة التي وجهت إليه برسالة قال فيها: (وردني كتابكم تدعونني فيه إلى الحضور في المؤتمر الذي اعتزمتم على عقده آخر نيسان في “بحمدون – لبنان” ويتكون من خمسة وعشرين شخصاً من علماء المسلمين، ومثلهم من المسيحيين للمداولة في أهداف كلتا الديانتين، وقلتم، إنّ أبحاث المؤتمر ستكون محصورة في النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين، مبينة عقم الفلسفة المادية الفانية ثم ذكرتم جهات البحث في كلتا الديانتين، إلى أن وصلتم إلى الغاية المقصودة والناحية التي لعلها الغرض الوحيد من هذه الترانيم والأناشيد، فقلتم: خطر الشيوعية على المجتمع في عصرنا الحاضر، ويتلخص جميع ما ذكرتم من النواحي التي تريدون البحث عنها والنظر فيها من أعضاء المؤتمر الّذين يبلغ عددهم الخمسين وتبلغ موادها العشرين. نعم، تتلخص أبحاثها في أمرين:
١ – القيم الروحية والمثل العليا في الإسلام والمسيحية.
٢ – خطر الشيوعية على المجتمع، وطلب علاجها من الإسلام والمسيحية) [٢٧].
ثم يضيف الشيخ رحمه الله قائلاً: (إنّ معظم النكبات والشرور التي حلت بالعالم الإسلامي هي من المعسكر الاستعماري الغربي، ومن أمريكا بالذات. وإن حرص الأمريكان على القيم الروحية بعيد عن الصحة).
ثم يتساءل في موضع آخر: (هل أن هذا المؤتمر وأمثاله روعيت فيه القيم الروحية فسلطت الأضواء من خلالها على قضية الشعب الفلسطيني المشرد المظلوم؟ ) ومن هنا، فإن الشيخ كان يحدد أن أنجح الطرق لمكافحة الشيوعية في البلاد الإسلامية هو خروج الاستعمار منها [٢٨].
ثالثا: منهج الشيخ المجاهد في عرضه قضية الإمامية:
لقد تعرض الإمامية عبر التاريخ إلى الكثير من المعاناة من قبل بعض المسلمين إلى درجة أنهم أخذوا يكفرونهم، إلاّ أن الشيخ تصدى لإزالة الغبار عن هذه الحقيقة، فألف كتابه القيم “أصل الشيعة وأصولها”، إضافة إلى بحوثه ومقالاته التي عالجت نفس الموضوع وسنتعرض هنا – وبشكل مجمل – إلى منهجيته في عرض قضية الإمامية بما يلي:
١ – إنّ توضيح مفهوم الإمامية من قبله رحمه الله لا تعني: إثارة المسألة الطائفية بل هي حرب ضد الطائفية.
٢ – كانت كتابات الشيخ بهذا الصدد ضرورة استدعتها الظروف الملحة للرد على بعض الأقلام التي اخذت تطعن بالإمامية عن جهل، وعدم تريث ومراجعة دقيقة.
٣ – كان لأسلوبه الجيد ردود فعل واسعة النطاق لما اتسم به من روح المحبة والهدوء والابتعاد عن العاطفة والانفعال.
٤ – كان تبنيه لمختلف المسائل ذات العلاقة بالموضوع يتسم بالعلمية وعدم التعقيد، والرجوع إلى الدليل والعقل والإقناع، ومن هنا يقول في معرض شرحه لدواعي التأليف:
(إنّ جماعة من أبناء السنة في العراق لا يعرفون من أحوال الإمامية شيئاً مع دنو الدار وعصمة الجوار كتب إلي قبل بضعة أشهر شاب مهذب عريق بالسيادة من الإمامية في بغداد: أنّه سافر إلى لواء الديلم [٢٩] المتصل ببغداد الأنبار الحالية وأكثر أهاليها من السنة، فكان يحضر نواديهم فيروق لهم حديثه وأدبه، ولما علموا أنّه من الشيعة صاروا يعجبون، ويقولون: ما كنا نحسب أن في هذه الفرقة أدباً وتهذيباً، فضلاً عن أن يكونوا ممن له علم أو دين…، وكان هذا الشاب يستثير حميتي بقوارص الملام، ويحثني بالطلب المتتابع على أن أكتب عن الشيعة رسالة موجزة تنشر بين الأمم الجاهلة، وتعرفهم ولو بالنزر اليسير…. ) [٣٠].
رابعا: دعوته لفتح باب الاجتهاد:
تعتبر الدعوة لفتح باب الاجتهاد من الدعوات الإصلاحية للشيخ، وقد أثار هذه الفكره عندما كتب موضوعاً بعنوان “الاجتهاد في الشريعة بين السنة والشيعة”، وقد أشار فيه إلى ضرورة فتح باب الاجتهاد من جديد عند الجمهور، لذا نجده يقول: (ومن مفاخر الإمامية: أن باب الاجتهاد ما يزال عندهم مفتوحاً، ولن يزال – إنّ شاء الله – حتّى قيام الساعة…. ).
ولكن يرى وجوب الرجوع إلى المجتهد الأعلم والأفضل، وعلى المجتهد أن يراعي المصلحة العامة في الفتوى، وأن يميل إلى التساهل والتسامح، بخلاف المشهور عند جمهور المسلمين من: أنّه قد سد، وأغلق على ذوي الألباب….، وقد بين كثير من حذاق العلماء في مذاهب الجمهور: أن هذا زعم باطل وتضييق لا دليل عليه.
فمن المتفق عليه: أن المجتهد هو: من زاول الأدلة ومارسها، واستفرغ وسعه فيها حتّى حصلت له ملكة وقوة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي من تلك الأدلة، وهذا – أيضاً – لا يكفي في جواز تقليده، بل هناك شروط أخر:
أهمها: العدالة: وهي ملكة يستطيع معها الكف عن المعاصي والقيام بالواجب، كما يستطيع من له ملكة الشجاعة اقتحام الحرب بسهولة بخلاف الجبان.
وقصارى ما تحمل عليه: أنها حالة من خوف الله ومراقبته تلازم الإنسان في جميع أحواله، ولم تضيق رحمة الله ونعمته وتحجر على عصر دون عصر، أو تفرض على قوم دون قوم، أو توضع لها السدود والأقفال من الأزمان والحساب (٣١).
آراؤه التجديدية في الحياة:
يعد الإمام المجاهد أحد أهم الفلاسفة الّذين لهم آراء خاصة في الحياة، لأنه استفاد من التجارب واتعظ بالعبر. فقد أدخل في الفقه كثيراً من التطور، وأوجد كثيراً من القواعد الأصولية والفقهية، ورسالته الأخيرة “سؤال وجواب” كفلت في آخرها هذه الآراء. وكان الشيخ ينتزع كثيراً من الفروع وفق ذوق إسلامي سليم ارتكز على فهم النصوص والأخبار والروايات التي يبتني عليها المذهب.
ويمتاز رحمه الله بالجرأة في إعطاء الرأي الذي يراه قد ارتكز على الحجة ومساندة العقل.
فمن آرائه الفقهية السليمة التي عني بها: فتواه بصحة الزواج بالعقد الدائم من الكتابية، في حين أن غيره كان لا يقره إلاّ عن طريق العقد المنقطع، وقد أخذ بهذا الرأي في أواخر أيامه المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني.
ومنها أيضاً: إباحته الغناء المجرد عن الهوس والضوضاء كفن له قيمة، ولأنه أحد عناصر الحياة والمواهب التي يعسر على الكثير الوصول إليها، حيث قال:
(الغناء – سواء رافقته آلات الطرب “الموسيقى” أم لا – مباح مالم يستخفف السامع إلى حد يخرج معه عن الكمال، فهو إذ ذاك غير مشروع) (٣٢). وقد بسط هذا الرأي وشفعه بكثير من الشواهد التي تعززه عند العقلاء.
ومنها: أنّه أول من أخذ الحق – حق الطلاق المفروض أن يكون “بيد من أخذ بالساق” من الرجال – وطلق الزوجة دون أخذ موافقة الزوج عندما قال: (أنا أول من حكم بطلاق امرأة من زوج مسلول) (٣٣).
تقويم واستنتاج:
يظهر مما تقدم: أن أهداف الشيخ رحمه الله تنصب في هدفين أساسيين هما: مكافحة السلبيات عند الأمة الإسلاميّة أوّلاً، وتعميق الإيجابيات في الأمة الإسلاميّة ثانياً. وفيما يتعلق بالهدف الأول فقد ركز الشيخ على الأمور التالية:
١ – تخليص الأمة الإسلاميّة من النفوذ الاستعماري.
٢ – توحيد الأمة الإسلاميّة والعربية من خلال إقامة اتحاد إسلامي عربي يرتكز على التقريب بين المذاهب الإسلاميّة من الناحية السياسية والفكرية تحت لواء “لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله”؛ لأنه قل – من زعماء الدين – من تبنى الدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة بأسلوب يماشي عقلية العصر كالإمام كاشف الغطاء رحمه الله.
السعي بكل جد وإخلاص – بعيداً عن المذهبية – إلى توضيح خط أهل البيت – عليهم السلام – ومدرستهم للأمة، وما علق بها من تشويه، وتعزيز الواقع القيادي للمرجعية من خلال تصديه آنئذ.
أسلوبه ومنهجه في الكتابة والتأليف:
١ – الأسلوب الخطابي في عملية إيصال أطروحاته التغييرية للأمة، باعتبار أن هذا الأسلوب أكثر تأثيراً، بالإضافة إلى أنّه رحمه الله لم يكن يدعي ما ليس له، فقد كان يوازن، ويقارن، ويحلل ويستنتج ليعطي الآراء الصائبة الدقيقة والمواقف الحكيمة في العمل السياسي.
٢ – أما ما يتعلق بمبدأ الحياد الذي كان يدعو له – ويحذر فيه الدول الإسلاميّة من الانسياق وراء المعسكرات والدول الاستعمارية – فإنه يرجع إلى منهجين أساسيين هما:
أ – المنهج العقائدي: الذي يؤكد على أن الدين الإسلامي منهج متميز يستهدف قيادة الحياة والأمة حسب نظريته الإلهية، انطلاقاً من المبدأ الذي يقرره الإسلام، حيث يقول (: (لا شرقية لا غربية، بل أمة وسط).
ب – المنهج السياسي: الذي يؤكد على أن انحياز الأمم الضعيفة إلى أي معسكر سوف لا يخدم إلاّ الأمم المستكبرة القوية، ويجعل الدول الضعيفة مطية لتلك الدول الكبرى، لذلك فبدلاً من أن تتجه الدول الصغرى إلى الالتحاق بمعسكرات الشرق أو الغرب، ينبغي لها أن تمارس سياسة الحياد والتعاون فيما بينها.
٣ – حلل ووضح الشيخ رحمه الله الاستعمار كظاهرة نشأت أول مرة في نفس الأمة، وعلى شكل استغلال بعض أبناء هذه الأمة البعض الآخر، حتّى إذا تمكنت ظاهرة الاستغلال داخل الأمة انطلقت تلك الطبقة المستغلة إلى الأمم الأخرى الأضعف منها، ويضرب مثلاً لذلك: بريطانيا مع أبناء ايرلندا، وكيف أنهم قبل أن يقهروا الأمم الأخرى مارسوا قهر أبناء شعبهم من الايرلنديين. وهذا تحليل عميق، وبعد نظر في فهم طبيعة الظاهرة الاستعمارية.
٤ – يؤمن الشيخ رحمه الله بأن القيادة العلمائية: هي القيادة الحقيقية للأمة، وهذا ما تمثل بحلقات الجهاد المتواصلة للعلماء والفقهاء، كلّ حسب ظرفه ومرحلته، باعتبارهم الامتداد الطبيعي لخط النبوة والإمامة.
إنّ ما نلاحظه في أسلوبه هو: أنّه قل ما يذكر موضوعاً دون أن يشفعه بشواهد شعرية من أروع ما قيل، وكأنه قيل لهذا الموضوع، سواء كان الموضوع فلسفياً، أو علمياً، أو عقلياً، وبأسلوب قصصي يربط القارئ بالموضوع حتّى النهاية.
فهو يعد من الفلاسفة الّذين لهم آراء خاصة في الحياة، وهو أمير البيان، فقد كان رحمه الله أكتب العلماء، وأعلم العلماء في عصره، أسلوبه مشرق إلى أبعد الحدود، قد امتلأ بعناصر الأدب الرفيع.
ونجده في كتابه “الدين والإسلام ” يشير إلى ما حل بالإسلام بسبب اختلاف الكلمة، وتفرق الشعوب، وسيطرة الغرب الكافر والشرق الملحد على مصائر المسلمين، والتحكم باقتصادهم وأخلاقهم.
كما نلاحظ في فصول هذا الكتاب ما يلي: العبارات والكلمات المسجوعة، التضمين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، الاستدلال بالأمثلة الكثيرة السهلة والواضحة بأسلوب بلاغي رصين ومسبوك متين، يمتاز بجزالة اللفظ، والتضمين بقصص وأخبار السابقين.
والظاهرة الأخرى التي نجدها في أسلوبه هي: استعماله للكلمات بألفاظ مختلفة؛ لتدل على معنى واحد، إضافة إلى ذلك استخدامه للبراهين والأدلة العقلية والوجدانية للإفهام والتفهيم.
وعندما يتعرض إلى الوحدة بين طوائف الأمة يشير إلى: أن الخلاف في بعض الفروع لا يؤدي إلى التنافر والتناحر؛ لأن القرآن ينهى عن ذلك: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا… ( (٣٤).
لذا نجده يتحدث عن الفرق الإسلاميّة بلا استثناء؛ لأن هذه الفرق – وفق أسلوبه وحديثه – تنزل القرآن أحسن منازله، وتتخذه قبلة أحكامها، تحل ما أحله، وتحرم ما حرمه. وفيما يتعلق بالأفكار المادية: ناقش هذه الأفكار بأسلوب موضوعي وهادئ بعيداً عن العاطفة، كما نجد في أسلوبه: أنّه يضع العلاج للقضاء على التفرقة بين المسلمين، والابتعاد عن سموم الغربيين للنيل من الإسلام والمسلمين من خلال قيام الزعماء الدينيين، وقادة المسلمين الواعين في الدعوة إلى الله بطريقة الإقناع والإيضاح والإفصاح، إفصاحاً يغرس في النفوس أصول العقائد.
ويمكن استعراض بعض ما جاء في كتابه “الدين والإسلام” على النحو التالي:
١ – يحتوي الكتاب على مطالب فلسفية مننبتة، وقد ولج الشيخ ميادين العلم والمعرفة ببصره وقادة، فبدأ في أوله فيلسوفاً، وفي وسطه إماماً، وفي آخره مناظراً ورسولاً ومبشراً.
٢ – نجده في الجزء الأول من الكتاب: يشن حملة على التمدن الغربي، وخاصة مجالس اللهو والطرب؛ لأن المدنية الغربية لا زالت توجه الضربات العنيفة للدين العالمي.
٣ – في كثير من الأحيان يجمع بين دليل العقل ودليل النقل.
٤ – يحمل على مذهب النشوء المادي المحض، وهو الشائع آنذاك.
٥ – كان متأثراً في نثره بالقرآن، ونهج البلاغة، وآثار الكتاب البلغاء، فنثره قل نظيره في اللغة العربية وفي بلاغة البيان وحسن الأداء.
٦ – أما شعره: ففي المرتبة الأولى من الجودة والإبداع، فشعره يجمع بين الجزالة والسهولة، ورقة الشعور، وسمو الخيال، والمعنى البديع.
٧ – يلوح كثيراً في كتابه “الدين والإسلام” بأن الشرف ليس هو أن يكدح الإنسان في معركة الحياة، ويخدم المرء بمساعيه تلك الأمة خدمة تعود بالهناء والراحة عليهم، أو يدفع شيئاً من الشرور عنهم فحسب، بل الشرف أيضاً في حفظ الاستقلال، وتنشيط الأفكار.
ومن مؤلفاته المهمة والذائعة الصيت أيضاً كتاب تحرير المجلة “مجلة الأحكام” يقع في جزئين، وهو مادة سد فيها فراغاً كبيراً في مجال الفقه والقانون المقارن، وحرر فيه القواعد الفقهية المأثورة عن الرسول الكريم – صلى الله عليه وآله ـ، وهذب وشذب منها بعض الزوائد والإطالات، أفاد العلماء في مقام الفتيا والاستنباط، كما ناقش فيه القواعد العامة للمذهب الحنفي، معتمداً على الحجة والبرهان، ولما اطلع على “مجلة العدلية” التي كانت تدرس في بعض المعاهد والجامعات لبعض الدول الإسلاميّة، وجد مادتها غزيرة ومبوبة وغزيرة المحتوى فارتأى أن يسجل عليها ملاحظاته بشكل خواطر، وطرزها بمعتقدات وأفكار وآراء المذهب الإمامي وما يفترق به عن المذاهب الإسلاميّة الأخرى، كما يذكر هو رحمه الله في مقدمة كتابه “تحرير المجلة”.
٨ – لقد تأثر في الحكمة والفسلفة بآراء الحكيم”صدر الدين الشيرازي” عندما درس كتابه الأسفار بأكمله، وقد أيده في الزهد ووحدة الوجود.
وأما رأيه في الوجود: فهو أكثر موضوعية وعلمية من رأي الحلاج، والجنيد، والشبلي، والكرخي، والسهر وردي، وابن العربي؛ لأنهم يرون أن الموجودات والأحياء في الطبيعة ليس لها وجود حقيقي، بل هي: مظاهر لله بمثابة العرض من الجوهر.
٩ـ أما رأيه في الأخلاق: فهو يشبه رأي متصوفي الهند المعروفين بـ “الويدانت”، يشرح كتاب”غيتا” للسيد كرشناك:
(لنكن مثل أولئك الطيبين الذي يغرسون الأشجار، ليأكل ثمارها أبناؤهم أو أحفادهم بالسعي لإصلاح الإنسانية بإصلاح أنفسنا… ويجب القيام بالواجبات من دون أن يسمح لعواقبها أن تقلق هدوء البال، وطمأنينة القلب. والمواظبة على هذا السلوك هي: جوهر فلسفة “ويدانت”) (٣٥).
ومن هنا يتضح: أن الشيخ يعد من زعماء الدين القلائل الّذين يماشي أسلوبهم – الداعي إلى الوحدة الإسلاميّة – عقلية العصر، وقد لاقى الإمام المجاهد من أجل طبع كتابه “الدين والإسلام” المصاعب الجمة في بغداد، وقد أتلفته السلطات التركية آنذاك، فاضطر لأن يهاجر ويطبعه بصيدا في جزئين.
قد جمع الإمام كاشف الغطاء في كتابه هذا بين: العقائد والأخلاق والحكم، والأدب والفصاحة والبلاغة….، لذا كان يدعو بإخلاص إلى الله تعالى بعيداً عن إثارة العصبية والطائفية، أو إثارة روح الشقاق والمجادلة، أو القصد إلى إظهار الغلبة.
مقتطفات من أقواله وكلماته في الوحدة والتوحيد:
(إنّ الاتفاق والاتحاد ليس من مقولة الأقوال، ولا من عالم الوهم والخيال، ويستحيل أن توجد حقيقة الاتفاق والوحدة في أمة مالم يقع التناصف والعدل بينها بإعطاء كلّ ذي حق حقه، والمساواة في الأعمال والمنافع، وعدم استئثار فريق على آخر).
(قد بني الإسلام على دعامتين: توحيد الكلمة، وكلمة التوحيد. توحيد الخالق وتوحيد بين الخلائق).
(وحرام، وأفضع من كلّ حرام أن يحارب المسلم أخاه المسلم من أي عنصر كان، ومن أي بلاد يكون) (٣٦).
إنّ العناصر المختلفة والشعوب المتفرقة من: إيراني، أو تركي، أو هندي، أو صيني، أو غيرهم إذا دانوا بدين الإسلام، وحافظوا على لغة القرآن والحديث، فهم إخواننا بجامعة الإسلام، بل وبالوحدة القومية بمعناها الواسع. كما أن الواجب الأكيد على جميع المسلمين أن يلتفوا حول راية الإسلام، ويكونوا قلباً واحداً، ويداً واحدةً ولا يتركوا مجالاً للحزازات الطائفية والمذهبية في نفوسهم).
(أما آن لهذه الحكومات والشعوب أن تستيقظ من رقدتها، وتنشر من موتتها، وتتدارك أمرها؟ أما أيقنت وأذعنت أن هذا الاستعمار الأعمى الظالم، بل المجنون العارم يستحيل التخلص منه إلاّ بالاتحاد العميق والاتفاق الوثيق؟ ).
(تربط الأمة الإسلاميّة ثلاث أواصر: إله واحد، وكتاب واحد، وقبلة واحدة) (٣٧).
الهوامش
١ – حسب اعتقاد الكثيرين: أن “مالك” هو: مالك الأشتر النخعي صاحب الإمام علي – عليه السلام – وانظر شعراء الغري والنجفيات علي الخاقاني.
٢ – ماضي النجف وحاضره للشيخ جعفر محبوبة: القسم الأول ٣: ١٨٦.
٣ – ماضي النجف وحاضره القسم الأول: ١٨٦.
٤ – اصل الشيعة واصولها: ١٣.
٥ – المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون: ٤٠.
٦ – المصدر السابق: ٣٦.
٧ – المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون ١٥.
٨ – المثل العليا في الإسلام لا في يحمدون: ٢٠.
٩ – البقرة: ١٤٣.
١٠ – النور: ٣٥.
١١ – المثل العليا: ١٨.
١٢ – الحجرات: ١٣.
١٣ – الدر المنثور للسيوطي ٦: ٩٩.
١٤ – سنن أبي داود: ٥١٢١، الكامل في الضعفاء لابن عدي ٣: ٥…١.
١٥ – تفسير ابن كثير ٧: ٢٧٨.
١٦ – نهج البلاغة، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، الخطبة ١٢٧: ١٨٤.
١٧ – الممتحنة: ٨.
١٨ – التوبة: ٧.
١٩ – ماضي النجف وحاضره ٣: ١٨٦.
٢٠ – اصل الشيعة وأصولها: ٧٩.
٢١ – التوضيح في بيان حال الإنجيل والمسيح: ٣٩.
٢٢ – التوضيح في بيان حال الإنجيل والمسيح ٣٩.
٢٣ – هكذا عرفتهم: ١٧٦.
٢٤ – المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون: ١٥.
٢٥ – سورة ص ٢٦.
٢٦ – مقدمة الطبعة الثانية لكتاب اصل الشيعة وأصولها: ٦٠.
٢٧ – المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون: ٤٨.
٢٨ – التوضيح في بيان حال الإنجيل والمسيح: ٨.
٢٩ – ماضي النجف وحاضرها ٣: ٨٦.
٣٠ – ماضي النجف وحاضرها ٣: ٨٦.
٣١ – رسالة الإسلام: السنة الأولى، العدد الثالث.
٣٢ – رسالة سؤال وجواب: ١١٦.
٣٣ – من وحي الرافدين الأستاذ الحوماني ١: ٤٦.
٣٤ – آل عمران ١٠٣.
٣٥ – عن مجلة “ثقافة الهند” عدد حزيران (١٩٥١م).
٣٦ – الدين والإسلام: ٢٥٦.
٣٧ – مجلة العرفان السنة العاشرة عدد ٥.
المصدر: مجلة رسالة التقريب – العدد ٥