في المدونات الفقهية على اختلاف مشاربها حديث عن الخادِم وأهميته وضرورته، حيث تعُدُّ هذه المدونات الخادم واحدًا من عناصر الحياة الأساسية التي لا تقوم الحياة بدونها.
الاجتهاد: نجد للخادِم في الزكاة حديثا في باب الزكاة في موضعين:
الموضع الأول : عند ذكر شروط وجوب الزكاة، وتحديدا عند شرط : الفضل عن الحوائج الأصلية، فالحاجات الأصلية عند الفقهاء لا تدخل في الوعاء الزكوي، أي يعفى عنها فلا تزكى، وهنا يتم التمثيل بعناصر هذه الحاجات الأصلية، فتجد فيها المسكن والغذاء واللباس، والخادم.
الموضع الثاني : عند ذكر أوصاف الفقر والمسكنة المسوغة لاستحقاق الزكاة، فهل يُعدُّ الإنسان فقيرا يستحق الزكاة إذا لم يكن عنده ما يكفيه حتى لو كان عنده خادم يخدمه، أم أن وجود الخادم في حياته دليل على الغنى المانع من الاستحقاق؟
وفي هذا الموضع تبرز أمامك النصوص التالية من مدوناتنا الفقهية :
“لا بأس بأن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله، وخادم، وفرس، وسلاح، وثياب البدن، وكتب العلم إن كان من أهله، فإن كان له فضل عن ذلك ما يبلغ قيمته مائتي درهم حرم عليه أخذ الصدقة.”
وقد سئل الإمام الحسن البصري عن الرجل تكون له الدار والخادم أيأخذ من الزكاة؟ فأجاب: بأنه يأخذ إن احتاج ولا حرج عليه. [الأموال لأبى عبيد ص 556]
وكتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى ولاته: أن اقضوا عن الغارمين، فكتب إليه من يقول: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث -أي وهو مع ذلك غارم-!
فكتب عمر: إنه لا بد للمرء المسلم من مسكن يكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته. نعم.. فاقضوا عنه فإنه غارم. [الأموال ص 556].
الخادم و الحج
كما تجد للخادم حديثًا في باب الحج، حينما يتحدث الفقهاء عن الاستطاعة المالية الموجبة للحج تحقيقا لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران: 97]
فيناقشون : هل تبدأ القدرة المادية بعد توفير أجرة الخادم؟ أم أن توفير هذه الأجرة من الترف الذي لا يُترك للإنسان، وهنا تجد هذه النصوص:
“ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه، وأن يكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه ، من مسكن، وخادم “. [المغني لابن قدامة (5/ 12) ]
فاعتبر صاحب المغني أن أجرة الخادم مثلها مثل المسكن، تترك للإنسان، ثم تبدأ بعدها مرحلة الغنى الموجب للحج.
ويفجؤك بعد أسطر ألا يُعامل صاحب المغني النكاح معاملة الخادم، فيقول :
“وإن احتاج إلى النكاح ، وخاف على نفسه العنت ، قدم التزويج ، لأنه واجب عليه ، ولا غنى به عنه ، فهو كنفقته ، وإن لم يخف ، قدم الحج ؛ لأن النكاح تطوع ، فلا يقدم على الحج الواجب .”[ المغني لابن قدامة (5/ 12)]
ومعنى العبارة السابقة أن الشاب يجب عليه أن يبدأ بإعداد رحلة الحج قبل إعداد تكاليف النكاح، إلا إذا كان يخشى على نفسه الزنا، فحينئذ يُسمح له بإعداد تكاليف النكاح قبل الحج.
والشاهد أن النكاح جاء في درجة متندنية عن الخادم في سلم الاحتياجات الاجتماعية، أي أن احتياج الإنسان إلى الخادم أشد من احتياجه للنكاح!
الخادم والزوجة
وفي باب النكاح حديث ضاف عن حكم توفير خادم للزوجة، وهل هذا واجب على الزوج لكل زوجة أم أنه واجب للزوجة التي خرجت من بيئة اجتماعية اعتادت على اتخاذ الخدم، خلاف بين العلماء حسب فهوم العلماء لقوله تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } [الطلاق: 7] الإفلاس
وفي باب الإفلاس حديث أيضا عن الخادم، فيتحدثون عن المدين إذا أعسر عن الوفاء بكامل مديونياته الحالة، تُباع ممتلكاته قهرا لقضاء ما أمكن من الديون، لكنه يُترك له ما لا يستغني عنه إنسان في الحياة، ومن ذلك ( الخادم) وهنا نجد هذه النصوص:
“ويجب على الحاكم أو أمينه أن يترك للمفلس من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم صالحين لمثله؛ لأن ذلك مما لا غنى له عنه فلم يبع في دينه كلباسه وقوته” [كشاف القناع عن متن الإقناع (3/ 433)]
أجرة الوظيفة
عن المستورد بن شداد، يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” من ولي لنا عملا وليس له منزل، فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال ” [ رواه أحمد ، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه ، مسند أحمد ط الرسالة (29/ 543) ]
والحديث يبين أن أجرة الموظف العام للدولة، ينبغي أن تكون كافية لتوفير ( المنزل + الزوجة + الخادم+ الدابة ] وهي عناصر الكفاية التي تضمن الحياة باحتياجاتها الضرورية والحاجية، وقد تحدث المعاصرون عن انسحاب ذلك على أجر الوظيفة الخاصة، هل يكون أو لا يكون؟
الأجير المشترك
يحار الفقيه اليوم وهو يقرر أحكام الأبواب الفقهية السالفة، هل يُدخل أجرة ( الخادم) في أساسيات الحياة، فلا يُدخلها في الوعاء الزكوي، ويفتي بجواز توفيرها قبل إعداد تكاليف الحج، ويتركها في يد المفلس، ويوجبها في عناصر الأجرة الواجبة للموظفين؟ أم لا يفعل؟
ينظر إلى المدونات الفقهية فيجد ما يسمح له باعتبار الخادم واحدا من أساسيات الحياة، لكنه ينظر إلى واقعه فيجده واحدا من علامات الترف والغنى!
والحق أن سبب هذه الحيرة هو عدم إدراك النمط الاجتماعي الذي قرر فيه الفقهاء فقه ( الخادم) واعتباره من أساسيات الحياة؛ ذلك أن النمط الاجتماعي لتلك العصور كان يحتم جعل الخادم من أساسيات الحياة؛ وذلك لعدم توسع الحياة الاجتماعية في تلك الأزمان في فكرة ( الأجير المشتَرك)
لم يكن وقتها يوجد مخبز لبيع الخبز، فكان لا بد لكل أسرة أن توفر احتياجاتها من الخبز بنفسها، وكانت معالجة الخبز ولا تزال من الأعمال الشاقة التي يُحتاج فيها إلى خادم مع الأسرة، يعينها في طحن الحبوب، ثم عجن الدقيق، ثم إيقاد التنور بجمع الحطب من مظانه، ثم خبز العجين…وهكذا.
فالخادم في هذا النمط الاجتماعي لا يمكن الاستغناء عنه، فهو أهم من الزوجة للعزب، فهو يصبر عن المرأة لكنه لا يصبر عن الأكل، وقل مثل ذلك في غسل الملابس حيث لم تكن تتوفر غسالات عادية ولا أوتوماتيكية، فلا بد من الغسل باليد، ولا تتوفر مغاسل عامة ( الأجير المشترك).
وقل مثل ذلك في إعداد الطعام بكل عناصره، فلا يوجد المطعم الذي يبيع الطعام جاهزا، ولا المحال التي تبيع بعض عناصره جاهزة.
أما النمط الاجتماعي الذي نعيشه في زماننا فقد ابتكر فكرة ( الأجير المشترك) في صورة المطعم، والمغسلة، ومخبز الخبز، ومحال الخياطة، ومحال الكي، وكل ما يحتاج إليه الإنسان.
فلم يعد توفير خادم في المنزل من أساسيات الحياة، بل كل الأجراء المشتركين يحلون مجتمعين للإنسان مشكلة ( الخادم الخاص) وما تبقى من أعمال مثل الكنس وغسل البلاط ونحو ذلك يمكن للإنسان غير القادر أن يفعله بنفسه، ويمكنه أن يستعين بخادم خاص وقت الاحتياج، فضلا عن أن هذه الأمور مثل ( غسل البلاط) أصبحت من الأعمال الموسمية.
وقل مثل ذلك في حديث الفقهاء عن ( الدابة ) باعتبارها من أساسيات الحياة؛ ذلك لعدم توفر الباصات الجماعية، وسيارات الأجرة، والتكاتك التي تتحرك بين البيوت، أما الآن فقد توفرت هذه الأشياء في صورة الأجير المشترك.
مراعاة الأنماط الاجتماعية
فإذا ذهب المجتهد ليُسقط فقه النمط الاجتماعي الغابر على زماننا الذي نعيشه، فإنه يكون قد أخطأ خطأ واضحًا، والسبب عدم إدراك تغير الأنماط الاجتماعية.
يقول القرافي : ” فهذه قاعدة لا بد من ملاحظتها، وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين، فإنهم يجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار، وذلك خلاف الإجماع وهم عصاة آثمون عند الله تعالى غير معذورين بالجهل لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلا لها ولا عالمين بمدارك الفتاوى وشروطها واختلاف أحوالها” . [الفروق للقرافي (1/ 46) ].
وقال : “والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين” الفروق للقرافي (1/ 191).
المصدر: اسلام اونلاين