مناهج الاستنباط

فقه ما قبل الدولة وفقه ما بعد الدولة

لدينا تجارب كثيرة في أنّ ما يستنبطه الفقهاء من فتاوى في كتبهم الاستدلالية قد يتراجعون عنه بعد مدّة بفعل متغيّرات كثيرة طرأت على المجتمع وحياة الانسان.  كتبه: وفي المنصوري

الاجتهاد:  كان الفقهاء سابقاً يكتبون فقههم بعيداً عن متناول الناس بعيداً عن الأضواء الاجتماعية, بل في خصومة مع المحيط, وفي تصورهم أنّ الفقه يخص آحاد الناس ولا يخص المجتمع الكبير أو أي تشكيل آخر كالدولة مثلاً.

الدولة بمفهومها المعاصر كيان حديث لم يكن مورداً لنظر النصوص الشرعية, وأغلب فتاوانا غير ناظرة إلى ذلك الكيان, فعندما ألف النائيني كتابه (تنبيه الامة وتنزيه الملّة) تعرّض لانتقادات كثيرة من البيئة الدينيّة التي كان يعيشها؛ لأنّ ما طرح في الكتاب كان يختلف أو لا ينسجم أو لا يشبه مع ما كان يطرحه في كتبه (فوائد الاُصول) و(منية الطالب) و(كتاب الصلاة) وغيرها,

فطبق المباني الفقهية لا شأن للفقيه أو الاُمة بما يحصل في المجتمع على المسار السياسي أي الحركة الدستورية في ذلك الزمان والتي يقودها اناس غير مجتهدين, لكن النائيني تناول الموضوع من زاوية جديدة واستعان بقاعدة فقهية مغمورة وهي قاعدة (رعاية المصلحة ووجوب حفظ النظام) وأدخل مفاهيم جديدة في النظرية السياسية كالحديث عن رعاية المصلحة وضرورة حفظ النظام بقدر ما يمكن ذلك وعن الدكتاتورية الدينية.

ورأينا الإمام الخميني

في فقهه ما قبل الدولة هو ذاك الفقيه الذي يكتب فتاواه طبق القواعد العامة التي ورثها كابر عن كابر من جواز تفخيذ الرضيعة إلى عدم جواز صلاة الإمامي خلف المخالف, بل جواز غيبتهم والوقيعة فيهم, وكانت تلك حصيلة دروسه في المدرسة الفيضية وفي دهاليز النجف الأشرف.

أمّا بعد الدولة فنراه يدعو لتطبيق الفقه أو استنباطه وفق نظرية الزمان والمكان, وأكيد فإنّ هذه النظرية غير موجودة بل وخلاف ما هو السائد لدينا في المتون الفقهيّة والاُصوليّة, ويصرّح بأنّ موضوعات الأحكام الشرعية تختلف بسبب عامل الزمان والمكان,

وطبيعي أن الحكم الشرعي يتبع موضوعه, فإذا تغير الموضوع وفقاً لهذين العاملين سوف يتغيّر الحكم الشرعي, ويذكر مثالاً لذلك:

المثال الأول: حمل السلاح أمر جائز شرعاً في كلّ زمان, أمّا بعد تشكيل الدولة فينبغى حصر السلاح بيد الدولة, ويعدّ اقتناء السلاح جرماً في حدّ ذاته ونضيف له السلاح الكاتم الذي ما يستعمل في الغالب في الجرائم الخطرة بعيداً عن عيون الدولة.

المثال الثاني: طبق القواعد الشرعية إنّ تناول المخدّرات أمر محلّل طبق المباني القديمة إذا لم يتسبب منه الضرر, لكن في ظل الدولة الحديثة التجارة بالمخدّرات بواسطة التهريب من قبل مافيات وعصابات تستغل ذلك لأهداف ربحيّة على حساب مصلحة المجتمع وما تسببه المخدّرات من كوارث على سلامة الفرد والاسرة من الامور المحرّمة ويعاقب عليها القانون بسلب الحياة.

إنّ لتطبيق الفقه طبق عاملي الزمان والمكان يفتح آفاق كبيرة لفقه حديث ينسجم مع فقه الدولة يختلف هذا الفقه عمّا كان يسطّره في كتابه البيع والمكاسب المحرّمة أو أي كتاب آخر.

ونضيف إلى ما ذكره من أمثلة الأمثلة التالية:

1- إيمانه بالدولة الحديثة باشراك سلطات الفقيه سلطات اُخرى كسلطة البرلمان مثلاً أو سلطة رئيس الجمهورية الذي ينتخب من الشعب مباشرة, وهذا خلاف نظريته في ولاية الفقيه التي كانت تركّز على أن جميع السلطات هي بيد الفقه.

2- يحث لصلاة الإمامي خلف غير الإمامي في مراسم الحج وهو صاحب كتاب كشف الاسرار الذي فيه ما فيه من الاسرار.

3- الحدود الشرعية, فهو لم يطبّق الحدود الشرعية, بل ظلّت القوانين الوضعية هل السارية في مجال العقوبات والحقوق المدنية, ما عدا بعض المحاولات التي بذلت من أجل صياغة قانون عقوبات إسلامي أو قانون مدني إسلامي وفق متغيّرات جديدة.

وغير ذلك من عشرات الأمثلة ليس نحن في صدد استقصاءها الآن.

فالدولة تعني العلن وساحة لتطبيق الأحكام الشرعية, فالفقيه إذا كان يحرّر في فقهه مسائل يراها فيما بعد غير صالحة للتطبيق في الدولة عليه أن يبرز المبررات الفقهية لذلك, وهي ممكنة بطبيعة الحال, لكن في ظل وضع جديد وشروط حديثة لمنهج الاستنباط الفقهي.

والمشكلة اليوم تتعاظم يوماً بعد يوم, فليس كلّ ما نجده في المتون الفقهيّة نجرأ أن نصرّح به في العلن, فلو أخذنا مثالاً على ذلك فتوى اعتبار أموال الدولة من مال مجهول المالك وجواز الاستيلاء عليه وتطبيق أحكام مجهول المالك عليه,

فإنّه لا يجرأ أحد أن يتفوّه بذلك في العلن أمام الناس والرأي العام وإن كان يعمل بها سرّاً, لأنّها فتوى مستهجنة بحسب المعطيات الحديثة, وتفتح الباب واسعاً أمام السرقات واستباحة المال العام والتصرفات الكيفيّة خصوصاً بعد تعدد المرجعيات الدينية الصغيرة والكبيرة واختلاف انظارها في استخدام هذا المال.

إن وظيفة البحث الخارج ينبغي أن تسير في إطار البحث الحر الذي يستوعب الافكار الجديدة ويوجد التخريجات الفقهيّة الجديدة لهكذا أفكار, وهذه هي الفلسفة الحقيقة من وجود حلقة دراسية بعنوان البحث الخارج, فهي لا تخضع لفكرة ما أو منهج ما أو متن ما, لكن ما نراه اليوم هو العكس,

فإنّ بحوث الخارج تبحث في فروع قد حرّرها الفقهاء في القرن الرابع أو الخامس الهجري, ويخال إلي أنّ معظم بحوث الخارج تسير في نهج طرق المطروق واستنباط المستنبط, وكأننا في واد وما يجري حولنا في واد آخر.

إنّ اتقان مباحث اُصولية كالمعنى الحرفي ومسالك الوضع وحقيقة الطلب والإرادة واجتماع الأمر والنهي واستصحاب الكلي والاستصحاب القهقرائي لن يسعفنا في زمان ضعفت فيه حجّتنا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky