فقه المتون .... وفقه النظرية .. أيهما يناسب العصر؟

فقه المتون …. وفقه النظرية .. أيهما يناسب العصر؟

إن السير وفق فقه المتون تبقى فيه مساحة الاجتهاد ضيقة, ويفقد فيه الاجتهاد ضوابطه, لأنّه مجرّد اجتهاد ترجيح يسير طبق وظيفة طرق المطروق واستنباط المستنبط. / إن السير وفق منهج فقه النظريّة يجعل الاجتهاد واسعاً, يجعل الفقه من نوع جديد من المسائل, وعليه أمّا يخلق فقهاً منتوجاً للنظريّة الفقهيّة العامّة أو لا أقل من تكييف ذلك مع فقه النظريّة. وهذا في الحقيقة هو جوهر الاجتهاد الفقهي.   كتبه: وفي المنصوري
الاجتهاد: لدينا فقهان كلّ منهما له نهجه الخاص في التعامل مع مسائل الفقه

الأول معروف ولا زلنا منذ اثني عشر قرناً وإلى اليوم ندرس ونكتب طبق هذا المنهج, وأغلب تراثنا الفقهي هو شرح وتعليق على متون محدّدة, كشرائع الإسلام والمختصر النافع وقواعد الأحكام وإرشاد الأذهان وتبصرة المتعلّمين وكلّ هذه المتون ترجع إلى القرن الثامن الهجري, وهي ترجع بدورها إلى متون سبقتها كانت تسمّى بالاُصول المتلقّاة في القرن الخامس الهجري, وهي انعكاس لما هو موجود من الفقه الحديثي المدّون لدينا في الكتب الحديثيّة الأربعة.

أمّا سيّد المتون اليوم فهو كتاب (العروة الوثقى) للسيد محمد كاظم اليزدي (ت 1337 هـ) ويمتاز بسعة الفروع وشموليّتها, والفقه الاستدلالي في الوقت الحاضر يدور حول فلك هذا الكتاب, وكلّ الرسائل العمليّة هي انعكاس لمتن العروة الوثقى, لكن يبقى أنّ هذا الكتاب نتاج للتحليل الافتراضي لفروع الفقه وليس طبقاً لفقه الحاجة.

أمّا المنهج الثاني فهو منهج مغمور لم يعمل به إلا الأفذاذ من الفقهاء, فهو غير مضطرّ أن يمارس فيه الفقيه ملكته الاجتهادية طبق الفروع التي ورثها من تلك المتون بسبر تلك الفروع والاستدلال لها فرعاً فرعاً, بل إنّ ممارسة الاجتهاد في فروع اجتهد فيها المجتهدون يضيّع حقوق الأجيال الحاضرة في خلق اجتهاد في مسائل حياتيّة وملحّة وترتقى إلى سلّم الأولويّة القصوى من مسائل قديمة ليس فيها فائدة كبيرة من الاجتهاد فيها.

إنّ فقه المتون له خصائصه, وهي ما يلي:

1- السير طبق متون معيّنة قد أعدّها لنا فقهاء سابقون, وبالتالي نحن نسير في سكّة وطريق رسمها لنا فقهاء أوائل, ومن الطبيعي أنّ تلك المتون تعكس حاجة تلك الأزمنة من فروع فقهيّة لا يلامون عليها على الإطلاق, لكن يبقى أولويّة الأجيال الحاضرة في معالجة فروع جديدة, تناسب العصر الحاضر.

2- في فقه المتون تكون وظيفة الفقيه شرح تلك المتون والاستدلال لها, وطبيعي أن يسبر الفقيه تلك الأدلّة واحداً واحداً فيختار أقواها في رأيه, وهي في الغالب أدلّة قد سطّرها الأوائل في موسوعاتهم الفقهيّة.
3- طبيعي إنّ فقه المتون لا يعالج مسائل مستحدثة, وإنمّا يضعها جانباً في ملحق خاص بها, وقليلاً ما نجد استدلالاً على مسائل مستحدثة, كما هو الحال في (بحوث فقهيّة) للشيخ حسين الحلّي, و(مسائل مستحدثة) للسيّد الروحاني و(بحوث فقهيّة هامة) لناصر مكارم الشيرازي.
4- في فقه المتون نحن نسير طبق منهج محدّد رسمه لنا أصحاب تلك المتون ولا مجال للاجتهاد في ذلك, لأنّ المنهج معدّ سلفاً والتزم به الفقيه الشارح مقدّماً.
5- فقه المتون يركّز على الفروع الفقهيّة بشكل مباشر ولا يركّز على القاعدة أو النظريّة الفقهيّة إلا عرضاً, ولذا تراه يتمسّك بهذه الفروع رغم تقادم زمنها, كما في مثال الدابة والبئر والتصرية وشوب اللبن بالماء وتدليس الماشطة.
6- في فقه المتون التبويب الفقهي ثابت لم يتغيّر إلى اليوم, وهو بطبيعة الحال تبويب قديم وغير منظّم في كثير من جوانبه.
7- إن السير وفق فقه المتون تبقى فيه مساحة الاجتهاد ضيقة, ويفقد فيه الاجتهاد ضوابطه, لأنّه مجرّد اجتهاد ترجيح يسير طبق وظيفة طرق المطروق واستنباط المستنبط.

أمّا فقه النظرية فله خصائص تختلف عن فقه المتون, وهي كتالي:

1- يسير بالفقه طبق الحاجة, فهو مطالَب بأن يضع الحلول لمسائل هي موضع حاجة الناس, باعتبار الشريعة الإسلامية دستور المسلم والمنهاج الذي يسير عليه.
2- فقه النظرية يصنّف حكماً فروع الفقه إلى فروع موضع حاجة وابتلاء جيلنا الحاضر وإلى فروع ومسائل موضع ابتلاء أجيال سبقتنا, وطبق هذا التقسيم سوف يركّز بحثه الفقهي في المسائل من النوع الثاني.
3- فقه النظريّة يركّز على الفكرة الكلّية أو القاعدة الفقهيّة بغضّ النظر عن المثال الذي نشأت فيه, بل المثال ما هو إلا ظرف زماني أو مكاني طبّقت فيه هذه النظريّة أو القاعدة.

4- فقه النظريّة يعالج مشكلات كبيرة وحادثة, وتتولّد النظريّة الفقهيّة من الحاجة, ممّا يعني بالمشرّع أن يفتش في نصوص الشارع لا أقلّ من خلق التبرير الفقهي لما ينهج إليه من نظريّة.
5- فقه النظريّة يسير وفق منهج استنباطي متوائم تماماً مع مخرجات النظريّة, وذلك عن طريق تفاعل الفروع مع الفكرة الكلّية, وللفروع الفقهية الأثر الكبير في خلق النظريّة الفقهيّة.
6- إن السير وفق منهج فقه النظريّة يجعل الاجتهاد واسعاً, يجعل الفقه من نوع جديد من المسائل, وعليه أمّا يخلق فقهاً منتوجاً للنظريّة الفقهيّة العامّة أو لا أقل من تكييف ذلك مع فقه النظريّة. وهذا في الحقيقة هو جوهر الاجتهاد الفقهي.
7- طبقاً لفقه النظرية يمكن لنا إيجاد تبويب جدية لأبواب الفقه العامة طبق نظريّاته الخاصّة المستخرجة, كباب الضمان وباب الحقوق وباب الأموال العبادية وغير ذلك من العناوين الانتزاعيّة التي تكشف بالضرورة عن مدلولها الفقهي.

إنّ الشهيد الصدر سار في بداية أمره وفق منهج فقه المتون بالتعليق على مسائل العروة الوثقى لكنّه أدرك بفعل مستجدات طرأت في عصره نتيجة احتدام الصراع الرأسمالي الاشتراكي أنّ هذا الأمر ليس فيه فائدة كبيرة, فأراد أن يبرز للإسلام نظريّته في هذا المجال كما يقول هو في كتبه, فأدرك أنّه لا جدوى من البحث كثيراً في الماء المطلق والمضاف الذي كتب فيه حوالي 200 صفحة والماء المتغيّر وماء البئر وماء الحمّام والعصير العنبي وغير ذلك من المسائل التي أشبعها شيوخ طائفة الإماميّة وغيرهم بحثاً وتحقيقاً على مدى 12 قرن أو أكثر من ذلك, وما أهمّية تلك النتائج التي يخرج بها من تلك البحوث.

فألف كتاب (اقتصادنا) و(البنك اللاربوي في الإسلام) وغيرهما والتحدّي في هذين الكتابين أنّه يبرز نظريّة خلاف النظريّة الاقتصاديّة التي يرتكز عليهما العالم الغربي في ذلك الوقت, كذلك يطرح فرضيّة لبنك لا ربوي في ظلّ نظام مصرفي قائم على الربا, فالرجل باعتباره فقهياً من الطراز الأوّل بذل جهداً مضاعفاً في خلق هكذا نظريّات استخلصها من تلك الفروع الفقهية المتناثرة هنا وهناك فأراد أن يولّف منها نظريّاته العتيدة, لجأ السيّد الصدر إلى العمل في فقه النظريّة بدل شرح المتون, فحرّر نظريّته الاقتصاديته بدل أن يشرح كتاب المكاسب ويضح حاشية عليه, وحرّر نظريّته البنك اللاربوي في التعويض عن التعامل بالربا بدل أن يشرح كتاب الربا في متوننا الفقهيّة التي لا زالت تركز على مثال الحنطة والشعير في الربا, ونواجه أثر ذلك مشاكل كبيرة في تعاملاتنا اليوميّة.

لكن يبقى أنّ التحدّى الأكبر في مواصلة هذا الجهد, فهل أعددنا أنفسنا لتحدّيات مماثلة, فإذا كان السيد الصدر قد بذل جهده ونجح في وقته هل أكملنا ما بدأ به, أشكّ في ذلك في ظلّ الوضع الموجود.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky