يجب ألا يختلط الحديث عن(الفقه الاجتماعي) في هذا المقام بالحديث عن علم الفقه بتجليه الشرعي (معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية).فالذي يقصد بالعلم الاجتماعي هو تلك التراتيب السلوكية(الشعورية و القولية والعملية)التي تضمنا جميعا
موقع الاجتهاد: يقر علم تاريخ الأفكار أن مؤسس علم الاجتماع هو الموسوعي العربي ( ابن خلدون ) . ابن خلدون أول من كتب دراسة ملاحظة لسنن قيام الدول والمجتمعات وانهيارها أو اضمحلالها . ولاحظ اختلاف أهل الوبر عن أهل المدر في طباعهم وخلائقهم وطرائق تصرفهم ، وتطور الدول في عهود التمكين عن عهود التأسيس ، وفي عهود الضعف والاسترخاء عن عهود التأسيس والتمكين .
واعتبر في كل ذلك ما يطرأ على طباع الفرد والجماعة من توحش أو أنس ، وما يحكم حياة الأفراد والمجتمعات من تغيرات وتبدلات مما يعتبر سننا قائمة من الصعب تجاوزها ..
كتب الكثيرون وما زالوا يكتبون عن علم الاجتماع . محاولين تقريب موضوع هذا العلم المتخصص للرأي العام ويشرحون أهميته ودوره ومنعكساته على سيرورة الحياة العامة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
يمتلك الكثير من أبناء مجتمعاتنا بوصفها مجتمعات حضارية عريقة رصيدا غير قليل من الفقه الاجتماعي ، دون أن يدرسوا اللغة الاصطلاحية التي تضبط معارفهم أو التي تعبر عنها . فلعلم الاجتماع قوانينه ونواميسه الثابتة والصارمة التي لا يسهل على الفرد ولا على الجماعة التحرر منها . بل إن في التجليات اللغوية المباشرة لمصطلحي ( المعروف… والمنكر) الشرعيين بعدا اجتماعيا لا يمكن لأحد أن يتجازوه . ففي نصوص الحديث النبوي : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن . والمسلمون هم المسلمون في مجتمع حي تراتبي في الزمان والمكان أو التاريخ الحيوي والجغرافيا البيئية .
وفي أصول الفقهاء اعتبر (العرف ) بأبعاده الاجتماعية والاقتصادية أصلا من أصول التشريع . وفي قواعدهم : ( المعروف عرفا كالمشروط شرطا ).
في استبطان عملي لدورعلم الاجتماع يقال بأنه هو العلم الذي يبحث عن الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن ما نمارسه أو ما نعتاده اجتماعيا أو اقتصاديا صحيح دون أن نملك القدرة للبرهان على صحته .
يشرح لنا علم الاجتماع لماذا نقف مغلوبين مستسلمين أمام عوائد ندرك في كثير من الأحيان عدم جدواها ، فترانا ننساق مع أمواج عادات مجتمعية مع اعتقادنا الضمني بخطئها أحيانا أو بعدم جدواها على الأقل . بل كثيرا ما يمارس الوالدِان العادة دون أن يجرؤوا أمام أبنائهم على انتقادها.
يجب ألا يختلط الحديث عن ( الفقه الاجتماعي ) في هذا المقام بالحديث عن علم الفقه بتجليه الشرعي ( معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ) .
فالذي يقصد بالعلم الاجتماعي هو تلك التراتيب السلوكية ( الشعورية و القولية والعملية ) التي تضمنا جميعا . وبعض هذا العوائد ذات طابع عام إنساني تارة ، وبعضها ذات طابع حضاري عمراني ثقافي أخرى ، وبعضها بيئي ومناخي وجغرافي ثالثة ، مع اختلاف جزئي في التفصيلات من دائرة إلى دائرة على مربعات الجغرافيا الحضارية الواحدة . بحيث كلما ضاقت الدائرة الجغرافية باتت المراسم الاجتماعية أكثر خصوصية وتحديدا .
في حياتنا الاجتماعية نجد الفروق واضحة بين الحي والحي في المدينة الكبيرة ، وبين المدينة الجامعة وبلداتها ، وبين البلدة والبلدة ، ونجد الجميع حريصا على لزوم هذه المراسم وتوقيرها واحترامها .
في المدرسة الاجتماعية المفتوحة يتعلم الإنسان أولا كيف ينظر إلى الآخرين ، كيف يشعر تجاههم متفقين ومختلفين ، ومن ثم كيف يحدد موقفه منهم ..
ويتعلم الفرد في المدرسة الاجتماعية كيف يدخل ويخرج ، وكيف يأكل ، وكيف يلبس ، وربما الأهم ماذا يلبس ، و كيف يمشي في الشارع وكيف يتعامل مع الناس، وكيف يجلس في مجالسهم ، وكيف يتصرف فيها ، كيف يتكلم وكيف يسأل وكيف يجيب .
يتعلم الفرد حقوق الوالدين وقواعد برهما وحقوق الأخوة وحقوق الرحم وقواعد العلاقات العامة وأساليب التواصل ونسج علاقات المودة والحفاظ عليها ( ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم …) يتعلم آداب الصداقة وطرق المحافظة على الصديق ، واستبقائه ، ويحفّظ ( ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث ..) ( وإذا كنت في كل الأمور معاتبا …) في مدرسة المجتمع يتعلم الفرد آداب الضيافة وحقوق الضيف ، كيف يسلم على الضيف وكيف يستقبله وكيف يودعه ، ويحفّظ قول العربي ( وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا .. )في كل ذلك يتعلم الصغير من الكبير بصرامة لا تقبل المراجعة والجدل كما يحصل ربما في الفصول المدرسية الحديثة .
في مدرسة المجتمع المفتوحة التي ينتمي إليها الجميع اضطرارا يقترن أو يختلط مفهوم ( العيب ) بمفهوم ( الحرام ) ويتقدم عليه في الالتزام بكثير من الأحيان عند طبقات من الناس. فيلقن الأب ولده حدود العيب بصرامة ، وتقف الأم فوق رأس ابنتها تعلمها كيف تلبس كيف تخرج ومتى تبتسم ..
في مدرسة المجتمع المفتوحة يتعلم الشاب المستشرف للحياة كيف يحضر حفلة العرس وماذا يقول في التهنئة بالميلاد. يتعلم ابن المجتمع من مجتمعه كيف يدخل مجلس العزاء ، وأي كلمة تقال في حضرة الموت الذي يقطع الخصومات ، تؤكد الأم على فتاها احذر وأنت تعيد فنجان القهوة لساقيها أن تقول ( دائمة ) . ويقول الأب لبنيه في مجلس العزاء : احذروا الابتسام ، تجنبوا الجدل والمراء والعتاب . وليكن الكلام بحجم المصاب . اذكروا المحاسن وتوقفوا حتى عن الصدق في التطرق إلى ما عداها …
في عمق المجتمع يتعلم الفرد كيف يصادق وكيف يخاصم وكيف يهادن . يلقنه علم الاجتماع أن قاتل أبيه حين يدخل بيته ، ويطأ بساطه يتحول إلى ضيف يجب له كل ما يجب للضيف من كرامة وإكرام ..
يقولون اليوم إن علم الاجتماع هو الأساس في سياسة الشعوب ، وفي إنتاج خطاب مؤثر في عقول وقلوب بنيها . في مجتمع تكسب صوت الناخب بالتلويح بالدولار ، أو بوعد بالانتصار على البطالة ، أو بتوسيع حزمة الإعفاء الضريبي ؛ بينما مجتمعات أخرى يسحرها الحديث عن القيم الجميلة والرجال العظام …
للدلالة على مكانة هذا الفقه العظيم في حياتنا أن الإنسان منا حتى وهو يودع أيامه ما يزال يقول : كانت أمي ..كان أبي …
ويا بؤسى من ورث الخطل عن والديه ..
زهير سالم
مركز الشرق العربي