الشيخ أحمد مبلغي

عنصر الاحتجاج في عاشوراء، ودوره المفتاحي في فهم عمق حقائقها

عنصر الاحتجاج في عاشوراء، ودوره المفتاحي في فهم عمق حقائقها (دراسة خاصة لعاشوراء الحسين (ع) من زاوية القرآن)

الاجتهاد

بسم الله الرحمن الرحيم
الاحتجاج هو مبدأ قرآني قوي ومتكرر ومتسق، ومفاهيمه ومبادئه ومحتوياته موجودة وفعالة في جميع أنحاء القرآن. وأهمية الاحتجاج في القرآن تبلغ حدا إذا ذهب التفسير والتحليل للكشف عن أبعاد هذا المبدء في القرآن ، فسوف يفتح عالما جديدا من الفكر أمامنا. وتوضيح ذلك موكول الى محله وفرصته.

من أبرز عناصر عاشوراء هو “عنصر الاحتجاج” الذي حضر بكل قوة في هذا الحدث التاريخي.
يجب أن نعترف بأن دراسة هذا العنصر في عاشوراء أصبحت مهملة إلى حد كبير.

النظر في عنصر الاحتجاج في يوم عاشوراء مهم للغاية، إنه يجعل من الممكن مقارنة ومقاربة حجج الحسين (ع) مع خط الاستدلال في القرآن واكتشاف مدى قرب هذه الحجج من المنطق القرآني.

هنا نريد فقط ذكر آية تتعلق بالاحتجاج وتطبيقها على عاشوراء. هناك العديد من الآيات الأخرى ذات الصلة بالاحتجاج وكلها تنطبق على عاشوراء ، وهنا نريد فقط تقديم مثال ونموذج.
وهذه الآية:
“وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم” (سورة غافر: 28.)

هذه الآية تعطينا منطقا قويا يمكن ترجمته بالصورة التالية:
إن الإنسان (فردا كان أو مجموعة) اذا وجد نفسه تجاه النداء الذي يركز على الله ويقدم معه البينات (… يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ…) يجب عليه -على الأقل- وضعان اثنان:
》1. أن يضع نفسه في وضع سلوكي إنساني بعيد عن العنف (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا …)
》2. أن يجري حساباً تفكيريا فطريا في تقييمه (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم)

السؤال هو: هل انعكس هذا المنطق الاحتجاجي القرآني في احتجاجات الحسين (ع) يوم عاشوراء؟
أذكر نقاطا يتبين بها جواب هذا السؤال:

النقطة الاولى: عاشوراء الحسين (ع) كان كل كيانها ووجودها “يقول ربي الله”.
كم هو جيد لو يقوم الكتاب الباحثون بتحليل وتبيين أنه كيف كان كل وجود الحسين وعاشوراءه قولا واحدا وهو كلمة “ربي الله”، والتمحور حولها.
أنا اذكر هنا فقط بعض كلمات الحسين (ع) كنماذج مما يدل على التركيز الشديد للامام الحسين (ع) على الله سبحانه:

الحسين (ع) يوم عاشوراء أخذ مصحفاً ونشره على رأسه، فقال:
“يا قوم إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله”.

من قوله يوم عاشوراء أمام القوم:
” إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين”.

في صبيحة عاشوراء، رَفَعَ يَدَيْهِ وَ قَالَ :
“اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي‌ فِي‌ كُلِّ كَرْبٍ ؛ وَأَنْتَ رَجَائِي‌ فِي‌كُلِّ شِدَّةٍ ؛ وَأَنْتَ لِي‌ فِي‌ كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي‌ ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ… فَأَنْتَ وَلِي‌ُّ كُلِّ نِعْمَةٍ ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ ، ومنتهى كل رغبة”

النقطة الثانية: إن الحسين (ع) قد جاء للقوم بالبينات:

وكان تركيز حسين (ع) على اعطاء البينات للقوم (الذي هو منطق قرآني) بارزا وشديدا في يوم عاشوراء وهو أحد الفصول الجميلة التي أنشأها الحسين (ع) في هذا اليوم إلا أن قراءة هذا الفصل أمر محزن ومحرق للقلب.

وفيما يلي جملة من البينات التي عرضها الحسين (ع) على القوم بكل صدق ونصح وصفاء وخلوص:

قوله امام القوم:
“فانسبوني فانظروا من أنا، ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟”

قوله امام القوم:
“الستُ ابن بنت نبيّكم…”.

قوله امام القوم:
“أو لم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: (هذان سيدا شباب أهل الجنة)”.

ركوبه فرس رسول الله يوم عاشوراء:
ركب الحسين (ع) فرس رسول الله صلّى الله عليه وآله المترجزْ وجاء الى القوم.

خاطبهم يوم عاشوراء:
“أما ترون سيف رسول الله (ص) ولامة حربه وعمامته عليّ، قالوا: نعم. قال: لم تقاتلوني، فلم يجيبوا …”.

النقطة الثالثة: التجاوز عن الخطوط الحمراء:

إن كلمات الحسين (ع) أمام القوم وذكره للبينات لهم، أكثر من أن تكون عَرْضاً وكشفاً للحقائق لأول مرة، كانت إشارة إلى حقائق كان القوم يعرفونها؛ بل حتى كانت جملة منها بارزة لهم شدة خطورتها.

وهكذا، فإن ما فعله الحسين (ع) كان تذكيرا لهم بهذه الخطوط الحمراء ، وتسليطا للضوء عليها وإبرازها أمام أعينهم ، وتحذيرا لهم عن الوقوع فيها، وايقاضا لضمائرهم نحو خطورتها، واستكمالا واتماما للحجة عليهم.

وهذا الادعاء إذا كان صحيحا، فهو يعني أنه كانت للقوم تجاه الحسين (ع) يوم عاشوراء تصرفات خطيرة للغاية، وأنهم قد وقعوا في نكسة كبيرة بسبب عبورهم عن الخطوط الحمراء.

الخطوط الحمراء التي انتهكها القوم تجاه الحسين (ع) يمكن تقسيمها إلى فئتين:
خطوط حمراء انسانية، انتهكوها.
خطوط حمراء دينية، انتهكوها.

الخطوط الحمراء الانسانية التي، انتهكها القوم:
والمقصود من الخطوط الحمراء الانسانية ما لها الاوصاف التالية:
أ) هي حمراء، سواء كان هناك دين ام لم يكن هناك دين.
ب) ان كونها خطوطا حمراء لا يختص بقوم دون قوم وبزمان دون زمان، ومكان دون مكان.
ج) وقوعها مما يكسر ويجرح قلب الانسان ايا كان هو هذا الانسان.

والواقع أن هذه الخطوط الحمراء التي تم التجاوز عنها يوم عاشوراء كثيره جدا، وفيما يلي بعض ما يحكي عن ذلك وهو لا يعدو كونه كنماذج:

() منع القوم الحسين (ع) ومن معه عن شرب الماء:

والحكايات التاريخية عن ذلك متظافرة وكثيرة، وبلغ حدا أصبح من قطعيات تاريخ عاشوراء، وأذكر على سبيل المثال بعض النصوص التي تنعكس فيها ابعاد من ذلك:

أ. قول بريرُ بن خضير للقوم:

” يامعشر الناس … وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه ، وقد حيل بينه وبين إبن بنت رسول الله ، أفجزاءُ محمد هذا ؟
فقالوا: … فوالله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله”….

ب. قول الحر بن يزيد الرياحي للقوم:

“…وحلاتموه وصبيته ونساءه وصحبه عن مـــاء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه وها هم قد ، صرعهم العطش ، بئسما خلّفتم محمداً في ذريته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ”.

ت. ونادى رجلٌ الحسينَ (ع) : يا حسين ألا ترى الفرات كأنه بطون حيات ؟ فلا تشرب منه حتة تموت عطشا.

ث. … سمع العباس الأطفال ينادون العطش العطش، فركب….

ج. قول ام كلثوم: إن هذا الطفل – أي: الرضيع- له ثلاثة ايام ما شرب الماء.

ح. قول هلال بن نافع : كنت واقفاً نحو الحسين فرأيته يجود بنفسه ، فوالله ما رأيت قتيلاً قط مضمخاً بدمه ، أحسن منه ولا أنور وجهاً !!!! وقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله !!!! فاستسقى في هذا الحال ماءاً فأبوا أن يسقوه !!!!

() قتل الاطفال:

١. قتل الرضيع:
لما رأى ولده عبد الله الرضيع يجود بنفسه من العطش أتى به نحو القوم يطلب له الماء، وقال: «إن لم ترحموني، فارحَموا هذا الطفل»، فاختلفَ العسكر فيما بينهم فصوب إليه حرملة بن كاهل السهم وهو في حِجر أبيه، فذبحته من الوريد إلى الوريد.

٢. قتل الغلام غير المراهق:
خرج عبد الله بن الحسن وهو غلام لم يراهق من عند النساء يشتد حتى وقف إلى جنب الحسين (ع)، فضربه أبجر بالسيف فاتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة فإذا يده معلقة، ونادى الغلام: يا أمتاه! فأخذه الحسين (ع) فضمّه إليه فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه.

وموارد اخرى

() تجريد الابدان ومنها بدن الحسين (ع):
طلب قبل استشهاده ثوباً عتيقاً لا يرغب فيه أحد، فخرّقه، ولبسه تحت ثيابه؛ لئلا يُجرّد منه. فلمّا قُتل ، جرّدوه منه، وتركوه عرياناً على وجه الصّعيد.

() الهجوم على النساء:

أ. قول الحسين (ع) لهم عند هجومهم على النساء: “ويحكم إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم”.

ب. حالوا بينه وبين النساء، فصاح بهم: «أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جُناح”.

ت. بعد قتل الحسين (ع) قاموا بنهب وسلب خيام الحسين (ع) ثم أضرموا الخيم ناراً، ففررنَ بنات رسول الله من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء.

🔵 عبور القوم في عاشوراء اعظم وأقدس خط أحمر
1. 🔶 حرم كل شخص هو الخط الأحمر له. من هذا المنظور ، فكل صاحب حرم يهتم بحرمه ويهتم بعدم انتهاك حرمته، بحيث إذا أصبح معرضا لهتك، فسوف يواجه هذا الهتك بكل حساسية وعدم ارتياح وغضب ودفاع.

2. 🔶 قد ركّز القرآن على العناية الصارمة بقدسية النبي الأعظم (ص). وهذا يستفاد من آية: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (الفتح: 9) وآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(الحجرات:2)، فحسب هاتين الآيتين -كما معلوم – إن احترام النبي (ص) أمر مهم للغاية بحيث لم يسمح الله برفع الصوت على صوته (ص) والجهر بالقول له (ص) وجعل ذلك سبباً لإحباط الأعمال.
3. 🔶 إذا أرفقنا إحدى الحقيقتين المشار اليهما (أي 1 و 2) إلى الآخرى، نستنتج أن لحرم رسول الله (ص) حرمة كبيرة يُعتَبر خرقه تجاوزاً عن أعظم خط أحمر ديني يمكن تصوره بعد الشرك بالله، بمعنى أن رفع الصوت فوقه اذا كان جريمة توجب حبط الاعمال فما حال هتك حرمه الذي بطبيعته يجرح القلب والذي بذاته خرق لكل الاحترامات؟
4. 🔶 في عاشوراء قد تجاوز القوم هذا الخط الأحمر الديني العظيم عن طريق ارتكابهم المكرر لأعمال غير إنسانية ووحشية ودامية ضد حرم رسول الله وعترته.
5. 🔶 في يوم عاشوراء ، حذر الإمام الحسين (ع) مرارا وتكرارا القوم من خطورة تجاوز هذا الخط الأحمر الخطير، سواء قبل الحرب، أو في بداية الحرب أو في منتصفها، أو في نهاية الحرب (قبل الاستشهاد). وكلامه الشهير في ذلك الذي كان يقوله بصوت عال، هو: أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله (ص)؟
6. 🔶لماذا استشهاد الأصحاب قبل أهل البيت؟ قد يقال أحيانا لماذا استشهد الأصحاب أولا، ثم استشهد أهل البيت (ع)؟
الجواب: أن النقطة الأصلية تكمن في هذا، الكارثة في يوم عاشوراء هي هتك حرمة أهل البيت (ع)، وكان الأصحاب يريدون أن يعلنوا أنهم بوجودهم واستشهادهم ندافع عن حرم رسول الله (ص).
ببيان، كانت الحرب تتمحور حول حرم النبي (ص) فجيشٌ ضخمٌ كان يهجم على حرم رسول الله (ص) بكل وحشية وقسوة، وكان جيش صغير يذب عن هذا الحرم مع كل نقاء وخلوص وبكل وجوده.
7.🔶 عاشوراء مليئة بأدبيات الحماية، مما يبرز هذا المعنى أن حرمة حرم رسول الله (ص)، أهم موضوع كانت تدور حوله الأحداث الدامية؛ أما الهجوم الوحشي عليه أو الدفاع عنه باليد وعبر الايثار والاستشهاد.
وفيما يلي اشارة الى بعض هذه الادبيات: ▪قول الحسين (ع) نفسه عندما دخل المعركة وحمل على القوم: انا الحسين بن علي * آليت ان لا أنثني أحمي عيالات أبي * امضي على دين النبي. ▪
ولما فرغ الحسين من الصلاة قال لأصحابه : … فحاموا عن دين الله ودين نبيه، وذبّوا عن حرم الرسول فقالوا : نفوسنا لنفسك الفداء ، ودماؤنا لدمك الوقاء ، فو الله لا يصل الى حرمك سوء وفينا عرق يضرب.

8. 🔶️ في يوم عاشوراء، لم یکن أي احد مثل الحسين (ع) يدور حول حرم رسول الله (ص)، فهو بكل كيانه، بكل نظراته، بكل كلماته، بكل مشاعره، بكل احاسيسه وبكل لحظاته كان منتبها ومتوجها الى الحرم ومتمحورا حول خيام الحرم. فالامام على الرغم من أنه نفسه من حرم رسول الله بل كان سيدهم وانه الامام وكان الجميع يستعدون بل يعشقون أن يبذلوا أنفسهم له الا أن الحسين (ع) هو أشد دفاعا عن حرم الرسول(ص).
وقد بلغ ذلك حدا ترك لذلك شرب الماء عندما تسنى له ذلك مرة، فقد جاء في المقتل: “فحمل من نحو الفرات فكشفهم عن الماء ، وأقحم الفرس الماء، ولما مد الحسين يده ليشرب ناداه رجل : أتلتذ بالماء وقد هتكت حرمك ؟؟؟!!! فرمى الماء ولم يشرب وقصد الخيمة ….”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky