علم أصول الفقه

علم أصول الفقه ومديات التغيير والتحوّل.. آية الله السيد أحمد المددي

الاجتهاد: لم يقبل الشيعة لزمنٍ طويل حجية التعبُّد بالخبر. إذاً وافق الشيعة على حجية التعبد بالخبر من زمن العلاّمة، وبقوا خمسمائة سنة على ما هم عليه، ومن ثم بعد ذلك تغيَّر الوضع. وقد اعتمدوا هذه الطريقة لحلّ هذه المشكلة، وبعد ذلك جعلوها بحثاً أصولياً

بما أنّ علم أصول الفقه ليس علماً تاريخياً، وهو تابعٌ للقواعد العقلائية، فهل أنّ جذور قضاياه قابلةٌ للتغيير؟ وكيف يمكن عمل التغيير فيه؟

بما أن علماء الأصول قد تناولوا الموضوع من وجهات نظر وزوايا مختلفة خلال 1400 سنة فلو أخذنا ـ على سبيل المثال ـ أحد الآراء التي طرحت على الساحة، وظهرت في القرن الخامس والسادس، ولم تكن موجودة من قبل، يكون بإمكاننا أن نجمعها.

وعندما تتضح هذه الرؤية، ويصبح معلوماً من أيّ زاوية قد تناولها علماء الإسلام قاطبة، فإنه يصبح بإمكاننا أن نفهم المسائل جيداً، ونرى إذا كانت من القواعد أم لا، وعندها نصل إلى التغيير والتأسيس والابتكار.

وأنا شخصياً أعتقد أننا إذا أردنا أن نقوم بتغيير أساسي وواقعي في الفقه لا يمكننا أن نحصل على نتيجةٍ إذا لم تتَّضح هذه الميادين، ويحصل التطوُّر في الفقه والأصول.

مثلاً: في مسألة اجتماع الأمر والنهي، والتي قد طرحت بهذا الشكل: هل أنها تركيب اتّحادي أم انضمامي؟ وما هو المقصود من التركيبين: الاتّحادي؛ والانضمامي؟

وهل أنهما جنس وفصل، وما شاكل ذلك؟ يقول السيد الخوئي: إن الوضوء في الإناء المغصوب لا ينضوي في مسألة النهي في العبادات، ولا هو في مسألة اجتماع الأمر والنهي؛ لأنك عندما تأخذ كفّاً من إناء ماء يفترض أنه مباح فهذا يعتبر تصرّفاً في الإناء، لا أنه وضوء، ولكن عندما تغسل به وجهك عندها يعدّ وضوءاً، لكنّه ليس تصرفاً بالإناء.

لذا يقول: إن هذه المسألة خارجة عن مسألة اجتماع الأمر والنهي، وعندها بطريق أولى تكون خارجة عن مسألة النهي في العبادات.

لهذا فإنهم لبثوا طويلاً لم يتناولوا في الأصول الإسلامية الأمر من هذا الاتّجاه. مثلاً: يقول ابن حزم: إن كلمة ﴿أَقِمْ الصَّلاَةَ﴾ لا يوجد بها إطلاقٌ، وأقم الصلاة وإنْ كانت الأرض مغصوبة، أما كلمة «لا تغصب» فبها إطلاقٌ، ويقول: لا تغصب، أي إنه لا تنَمْ في الأرض المغصوبة، ولا تأكل، ولا تصلي.

فبهذه الطريقة الكثير من بحوث الأمر والنهي سوف تحلّ، وسوف لن تحتاج أصلاً في هذه البحوث إلى التركيب الاتحادي والانضمامي.

أما الآن فقد أصبحت مسألة اجتماع الأمر والنهي من المسلّمات، وأن الدليلين لديهما إطلاق، وبما أن لديهما إطلاق ماذا يمكن القيام به في مسألة الاجتماع؟ لذا ليس هناك من حاجة إلى جميع هذه البحوث المطروحة.

فابن حزم يعتقد كذلك في موضوع الوضوء في هذا المثال ببطلانه؛ لأنه بما أنك لا يجب أن تتصرّف بالإناء المغصوب فهذا يعني أنك تحتفظ به في منزلك فلا تستخدمه في شرب الماء، ولا في الوضوء.

وبهذه الطريقة ينشأ الاختلاف في الأصول، فما هي المدة التي تحتاجها في دراسة الأصول كي تعرف ماذا قال الشيخ ضياء في مسألة التركيب الاتّحادي، وماذا قال الشيخ النائيني؟ وأصلاً لم يتمّ تناول التركيبي، ولا الانضمامي.

لا نريد أنْ نقول: إنّ وجهة نظره صحيحة، وإذا حقّقت تجد أن هذا البحث لم يتمّ تناوله في خارج الأصول، ولم يكتبه السيد الخوئي، ولا الآخرون.

وعندما نقوم بتحليل هذه المسائل وتجزئتها نجد أن أمثال الفخر الرازي والمتكلِّمين قد جاؤوا بهذه البحوث في علم الأصول.

هناك مناقشات مفصلة قد جاؤوا بها على أنها تحقيقات علمية، وقد دخلت ضمن أصولنا من السنّة الأربعمائة والخمسمائة، وتقريباً في زمان السيد المرتضى والشيخ الطوسي.

وبالطبع ليست كالطريقة التي يتناولها أهل السنّة حسب معرفتهم؛ لأن عدداً من متكلِّميهم لديه كتاب مسهب، كالقاضي عبد الجبّار، حول هذا الموضوع. ففي كتبهم الكلامية تناولوا البحوث الأصولية مرة واحدة، وعندما أصبحت مادّة للبحث جعلوها عقلية؛ وبالطبع العقل الكلامي.

وقد أوضحنا للوهلة الأولى بناءً على بعض روايات الشيعة أنّ لأهل السنّة الحقّ أن يسلكوا نفس الطريق. فقد أصبح من المعلوم أن مقابل رواية عمار الساباطي أننا نقول بالاجتماع حتّى في الأماكن التي تنبئ عن فاصلة بعيدة، ولا يوجد هناك وجه للالتقاء، ولا يوجد علاقة بينهما إطلاقاً.

ونقول: إن قلَّمت أظفارك بالحديد فإن وضوءك باطل، وذلك طبق بعض الروايات التي تقول: لا يجب أن تقلِّم أظفارك بالحديد؛ لأن الحديد نجس! فما علاقة نجاسة الحديد ببطلان الوضوء؟!

فقد كتب يقول(1): لأن الحديد لباس أهل النار. ولا يوجد هنا مكانٌ للاجتماع بالمرّة، بل هو أشدّ أنواع الامتناع. ومع ذلك قيل بالاجتماع، وقالوا ببطلان الوضوء.

وقد قمنا بالبحث المسهب حول هذه الرواية، وبالطبع هناك روايةٌ أخرى، والذين جاؤوا بها هم الأخباريّون، وقد تعرَّضنا لها كذلك.

ومن الجائز أن مدرسة أهل البيت تتّخذ نفس الطريق غير الناظر إلى كلمة «صلِّ» على أنها «لا تغصب»، أما كلمة «لا تغصب» فناظرةٌ إلى «صلِّ». عندها ترى أن هذا البحث في بحوث الشيخ النائيني عبارة عن مسألة أصولية!

وفقاً لهذا الرأي فإن الشهرة الفتوائية كذلك سوف تواجه تحدّيات جدّية. فما هو تحليلكم عن الشهرة، طبق المبنى المذكور؟

على سبيل المثال: لقد جاء في الأصول أن الشهرة جابرة، وكثيراً ما طبق هذا الكلام في الفقه. ولكنّ جابرية الشهرة لا تجبر سند أهل السنة، ولا تعني شيئاً لأي فرقة من الفرق الأخرى. والمعروف أيضاً أن حجية الشهرة غير موجودة في أيٍّ من بحوث أهل السنة، وإنما هي من مميزات أصولنا.

لقد كان جبران الشهرة نقطة تاريخية في حديث الشيعة. ويعمل علماء الشيعة إلى عصر الشيخ ببعض الروايات الضعيفة، وفقاً لسلسلة من المعايير. ثم إن الشيخ أول مَنْ تناول بحث التعبُّد بحجية خبر الواحد، أما بعد ذلك فقد انبرى له العلاّمة.

كان القدماء سابقاً، أمثال: الكليني والطوسي، يعملون بالحديث الضعيف، أما المتأخِّرون فقد وضعوا له اصطلاحاً جديداً، ثم إن أمثال الشهيد الأول والشهيد الثاني وصاحب المدارك قالوا؛ من أجل حلّ هذه المسألة: إن الشهرة جابرة، أي ما دام القدماء يعملون بالرواية، وإنْ كانت ضعيفة، فيجب علينا أن نقبل بها؛ لأنهم وجدوهم يعملون هذا العمل.

وهذا الجدل التاريخي موجودٌ في الفكر الشيعي. ولم يقبل الشيعة لزمنٍ طويل حجية التعبُّد بالخبر. إذاً وافق الشيعة على حجية التعبد بالخبر من زمن العلاّمة، وبقوا خمسمائة سنة على ما هم عليه، ومن ثم بعد ذلك تغيَّر الوضع. وقد اعتمدوا هذه الطريقة لحلّ هذه المشكلة، وبعد ذلك جعلوها بحثاً أصولياً.

وكان الأصحاب القدماء يقومون بهذا العمل لقاء الفهرسة، أي إن أكثرهم يعملون بالرواية في الكتاب على أنها معتبرة، وإنْ كان راوي تلك الروايات ضعيف؛ وذلك من أجل أن الكتاب معتبر؛ حيث إن هناك نسخاً أخرى يقومون بمقابلتها معها. ومن الجائز أن هناك عشرات الروايات الآن في كتاب الكافي قد نقلت عن محمد بن عليّ الصيرفي.

وهو أيضاً(2) معروفٌ بالكذب، حتّى أنه يعدّ من أشهر كذّابي الشيعة، ومع هذا جاء ذكره في الكافي. لهذا فإن العلماء حلَّلوا الأمر بهذا الشكل، وهو بما أنه جاء ذكره في الكافي، وحظي بالشهرة، وعُمل بأحاديثه، إذن لأحاديثه حجية التعبد.

تعبُّد على ماذا؟ أحد الخلافات الأساسية التي بيننا مع علماء الشيعة أو السنّة هي هذه. فأنا قدر المستطاع بذلتُ جهدي في أن أقلِّل الرجوع إلى العمل بالتعبّد. وفي كثير من الأماكن يرجع علماؤنا إلى مسألة التعبّد.

فإذا كان القدماء يعملون برواية أمثال محمد بن علي الصيرفي، الذي لم يسمع مباشرةً من الإمام(ع)، وإنما هو راوٍ فقط، لهذا ففي تاريخ الشيعة في مرحلة انتقال الثقافة الشيعية من الكوفة إلى قم هو عبارة عن ناشر، ومثله مثل أيّ ناشر عادي لا يهتمّ بما يكون المنشور، أو يهودي يطبع قرآن.

جيء بنسخةٍ من الكتاب إلى قم، وأخضعت للتحقيق، ورأوا أن روايات منه لا تطابق النسخ الباقية، فإثبات الكذب لا يؤثِّر على جميع روايات الكتاب؛ حيث يوجد في الكتاب مئتي حديث منها عشرون رواية غير صحيحة، أما البقية فقد كانت كذلك.

كانوا يقارنون، ويسألون الشيوخ أيضاً. وبإلقائهم نظرة على النسخ التي بين أيديهم ينقلون ما يجدونه؛ كي لا يحصل كذب. لقد كانت كل كتب الشيعة بهذه الطريقة، والبعض من الكتب كانت تحتوي على ثلاثمائة حديث.

وعلى سبيل المثال: كان كتاب حفص بن غياث يحتوي على 270 حديثاً، وكتاب مسائل علي بن جعفر ـ والذي يعدّ من الكتب المهمة ـ كان يحتوي على 400 حديث. المحقِّقون يقومون بتنقيح هذه الأحاديث، وبعد ذلك من الطبيعي أنهم يختلفون حول حجية أحد أحاديث كتاب مسائل عليّ بن جعفر. وأحياناً يورد الكليني حديثاً من أحاديث علي بن جعفر لم يورده الصدوق أو الطوسي. وهذا لا يعدّ شهرة وتعبّداً، فنحن نستطيع أيضاً أن نقوم بتنقيح عمل العلماء.

عندما يكون لديك وصفٌ كامل عن الحديث بإمكانك أن تحقّق بكل سهولة. والآن كلّ حديث أقرأه في الدرس فإن الإخوان تقريباً يعرفون أن هذا الحديث كوفي، من بغداد أو قم، وأصله من أين؟ ومَنْ هو الواسطة في نقله؟

أصلاً منذ متى بدأت هذه المشكلة؟ لقد جاءت تركة الكوفة إلى قم في أواخر القرن الثاني الهجري، وفي السنين ما بين 210 ـ 220هـ. وأكثر الذي ورثناه من العلم كان من الكوفة. فقد كان أهمّ ما لدينا من تراث تحوّل إلينا من الكوفة بين سنة 80 إلى سنة 150هـ. ثم في سنة 150هـ تحوّل إلى بغداد.

وبطبيعة الحال قد بقي أصل ذلك التراث في الكوفة، حيث كان هناك في بغداد كبار الصحابة، أمثال: ابن أبي عمير وهشام بن سالم وهشام بن الحكم وصفوان والبزنطي، إلى آخره. بقي الحال على ما هو عليه في بغداد إلى ما بين سنة 180 ـ 190هـ. في سنة 200هـ هناك خطّ واحد تحول إلى قم، وهو عبارة عن مجموعة من الروايات العراقية.

ولتكن من أيّ مكان كان، الكوفة أو بغداد، حتّى أن كتب ابن أبي عمير كانت تذهب من بغداد إلى قم. وفي تلك الفترة ظهر اتجاه لتصفية الروايات في المدرسة القمية، واستمر حتّى ما بين سنة 310 ـ 320هـ. بعد ذلك لم يكن في قم مدرسة واضحة. وفي سنة 329هـ توفي الكليني في بغداد، ومن غير الواضح دقيقاً هل هناك مدرسةٌ جديدة إلى زمان الشيخ الطوسي في سنة 450 تقريباً؟ وهي الآن المصدر الرئيس لأفكارنا وأحاديثنا، وقد تمّ توضيحها باختصار.

وأعتقد أن التعبّد حسنٌ للناس الكسالى. هذا السند موثَّق، هذا ضعيف، هذا ينقض الآخر، وأخيراً يقبلون أحدها. فالقصة لا تنتهي بهذا الشكل.

 

——

(1) محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار الساباطي، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، «…عن رجلٍ إذا قصّ أظفاره بالحديد أو أخذ من شعره أو حلق قفاه؟ قال: …ويعيد الصلاة؛ لأن الحديد لباس أهل النار» (تهذيب الأحكام 1: 425 ـ 426).

(2) وذكر الفضل في بعض كتبه: «الكذّابون المشهورون: أبو الخطّاب ويونس بن ظبيان ويزيد الصائغ ومحمد بن سنان، وأبو سمينة (محمد بن علي الصيرفي) أشهرهم» (رجال الكشي: 546).

 

المصدر: جزء من مقابلة مع سماحة الأستاذ المددي بعنوان” مناهج الاجتهاد  وطرائق المحدّثين”

موقع دروس و آثار سماحة آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky