إِنَّ التوكُّل على الله تعالى لتحقيقِ المشروعِ الاصلاحي أَمرٌ ضروريٌّ، فللغيبِ هنا دورٌ في تحقيقِ ذلك خاصةً اذا كان المشروعُ الاصلاحي إِلهيٌّ يتصدّى لهُ مصلحٌ حقيقيٌّ كالإمامِ الحُسينِ (ع) سيّد شباب أهلُ الجنّة. بقلم: نزار حيدر
موقع الاجتهاد: ليسَ من حقِّ المُصلحِ أبداً أَن يلجأ الى الاكراهِ مثلاً لفرضِ مشروعهِ، كما انّهُ ليس من حقِّهِ ان يستخدم العُنف والارهاب والعصا الغليضة والابتزاز لفرْضِ مشروعهِ الاصلاحي، وكذلك التّرغيب بالمال والرّشاوي، أو بالكذِب والتّضليل والدّجل، فانّ كلّ ذلك بحدِّ ذاتهِ يُعتبرُ فساداً او خللاً بحاجةٍ الى الاصلاحِ.
إِنّ أدوات الاصلاح جزءٌ لا يتجزّأ من المشروع العام، ولذلك ينبغي ان تكون أدواتٍ صالحةٍ لمشروعٍ صالحٍ، وأدواتٍ طاهرةٍ لمشروعٍ طاهرٍ، ولهذا السّبب فعندما إِتَّفق هانئ بن عروة، وَكَانَ من رموز الشّيعة في الكوفة ومن أخلصهِم وأصدقهِم ومن أنصار الامام الحُسين (ع) لمّا اتّفقَ مع سفير الامام الى الكوفةِ مُسلم بن عقيل على ان يغتالَ والي الطّاغية يزيد الجديد على الكوفةِ (عُبَيْد الله بن زيادٍ إِبنُ أبيه) عندما يزورهُ في بيتهِ لعيادتهِ بسبب مرضٍ أَلمّ بهِ، لم يفعل بن عقيل ذلك، مُعتبراً الفعل نوعٌ من الاغتيال بعد منح العدوّ الأمان وقبول الضّيافة، وعندما سأَل مِنْهُ هانئ بن عُروة مُستغرِباً تضييعهُ فرصةً ذهبيّةً للتخلّص من عدوِّه اللّدود بثمنٍ بخسٍ وبِلا عناءٍ أَجابهُ مُسلم (ع) بحديثِ رَسُولِ الله (ص) {الإيمانُ قَيْدُ الْفَتْكِ فَلا يَفْتُكُ مُسْلِمٌ}.
لقد قدَّمت نهضة سيّد الشّهداء (ع) نموذجاً في كلّ شيء، ومن ذلك في الأَخْلاقِ والمناقبيّات، كما في التّضحيةِ والفِداء.
ومن ذلك انّهُ عليهِ السّلام كانَ واضحاً وصريحاً مع كلّ مَن صَحبهُ في مسيرتهِ منذُ مغادرتهِ مدينة جدّهِ رَسُولُ الله (ص) المدينة المنوّرة وحتى ليلة عاشوراء، ومن ذلك مثلاً انّهُ لم يكُن يُخفي أَيّة معلومة تؤثّر في قناعات النّاس، وهو ما يُسمّى اليوم بحرّيّة الحصول على المعلومة الصّحيحة.
لم يشأ الامام (ع) أبداً ان يضعَ أحداً أَمام الامر الواقع، فيورّطهُ بموقفٍ او قناعةٍ لم يرغب اليها او فيها او يتمنّاها، ففي وصيّتهِ التي تركها عند أخيهِ محمّد بن الحنفيّة قالَ بعدَ ان حدّد هدف رفضهِ البيعة للطّاغية الارعن يزيد بن مُعاوية وفحوى نهضتهِ المباركة على وجه الدّقّة بلا لفٍّ أو دوران وبلا إخفاءِ شَيْءٍ ممّا نوى فعلهُ {وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هذا أَصْبِرُ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْني وَبَيْنَ آلقَوْمِ بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ آلحاكِمِينَ}.
فهو لَمْ يُهدّد بانّ أبواب جهنّم ستُفتح على الأُمّة اذا لم تخرجْ معي! ولم يتوعّد المتخلّفين عَنْهُ بسيّاراتٍ مُفخّخةٍ وأَحزمةٍ ناسفةٍ وتسقيطهم واغتيالهم ولو سياسيّاً إِن لم يكن جسدياً أو أَنّهُ سيشنُّ ضدّهم حرباً شعواءَ تلحق بسابعِ ظهرٍ منهم! أبداً وبذلك يُقدِّم الامام (ع) درساً رائعاً لزُعماء الحركات الاصلاحيّة مفادُهُ؛ انّ أَيّة حركةٍ لا تفرض نفسها في المجتمع بقيمِها ونماذجِها وأخلاقِها وأهدافِها، قد يقبلها النّاس مُرغَمين ولكنّها لن تكونَ خيارهُم الحقيقي، وبذلك ستكون سبباً في إِشاعةِ ظاهرة النّفاق في المجتمع، وهي رؤية قرآنية رائعة نقرأها في الآية المباركة بقولِ الله غزّ وجلّ {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} فلا ينبغي الإيمان بشيءٍ في ظلّ التهديدِ والوعيدِ، او بالكذبِ والتّدليسِ والتّضليلِ أو باخفاءِ المعلومةِ الصّحيحةِ، فانّ كلّ ذلك شُعبةٌ من النّفاقِ لا يستقيمُ معها المشروع الاصلاحي أبداً!.
وعندما وصلَ خبر استشهاد السّفير مسلم بن عقيل (ع) الى الامام وهو في منطقةٍ تُسمَّى [الزُّبالة] لم يُخفِ الخبر عمّن كانَ معهُ، لانّهُ خبرٌ مهمٌّ يؤثّر في اعادة صياغة قناعات النّاس، وقد يغيّر البعض موقفهُ ورأيهُ من كلّ القصّة فيترك الامام ويعود أَدراجهُ من حيثُ أتى.
يروي القصّة الطّبري في تاريخهِ (٢٢٦/٦) وابنُ الأثير (٣/ ١٧-١٨) وابنُ كثيرٍ (٨/ ١٦٨-١٧١) [كانَ الحُسينُ لا يمرُّ بأهلِ ماءٍ الّا آتّبعوهُ حتّى آنتهى إلى (زَبالةِ) وفيها جاءهُ خبر قتل إِبنُ زيادٍ، عبد الله بن يقطُر وَكَانَ سرَّحهُ إلى أَهْلِ الكوفةِ، فأَخرجَ لِلنَّاسِ كتاباً فقرأهُ عليهم {بسمِ الله الرّحمن الرّحيم أمّا بعدُ، فانّهُ قد أتانا خبرٌ فظيعٌ، قَتلُ مسلم بن عقيل وهاني بن عُروة وعبد الله بن يقطُر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبَّ منكُم الانصراف فلينصرِف ليسَ عليهِ مِنّا ذِمام، فتفرَّق النَّاسُ عَنْهُ يميناً وشِمالاً حتّى بقِيَ في أَصحابهِ الَّذِينَ جاؤا معهُ من المدينةِ، وانّما فعلَ ذَلِكَ لانَّهُ ظنَّ انَّما اتَّبعهُ الأعرابُ لأنَّهُم ظنّوا أَنّهُ يأتي بلداً إِستقامت لهُ طاعة أهلهِ فكرِهَ أن يسيروا معهُ الّا وهُم يَعْلَمُونَ على ما يقدِمونَ وقد علِم أَنَّهم إذا بيَّنَ لهم لَمْ يصْحبهُ الّا مَن يُرِيدُ مواساتهُ].
إِنَّ التوكُّل على الله تعالى لتحقيقِ المشروعِ الاصلاحي أَمرٌ ضروريٌّ، فللغيبِ هنا دورٌ في تحقيقِ ذلك خاصةً اذا كان المشروعُ الاصلاحي إِلهيٌّ يتصدّى لهُ مصلحٌ حقيقيٌّ كالإمامِ الحُسينِ (ع) سيّد شباب أهلُ الجنّة.
يستنطقُ العلماءُ قول الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فيستنبطونَ مِنْهُ فكرة انّ الجهاد سببٌ من أسباب التّسديد الالهي، وهو من علاماتِ الاحسان، وكذا الامرُ بالنّسبة الى الاصلاح، فعندما يَكُونُ من أَجل الله تعالى، أَي من أَجل الانسان، كما هي نهضة الحسين السّبط (ع) في كربلاء في عاشوراء عام ٦١ للهجرة، فانّه سيكون من مصاديقِ الاحسانِ، بل هو قِمّةُ الاحسانِ،
ولذلك حفَّت يدُ الغيبِ في هذه النّهضة الرّسالية الربانيّة المُباركة في كلّ لحظاتِها والى يَوْمِ يُبعثون، والّا بالله عليك قُل لي ما الذي بقِي من ذكرٍ وذكرى لنهضاتٍ عِملاقةٍ شهدَها التّاريخ الانساني تعرّضت لمعشارِ ما تعرّضت لهُ النّهضة الحسينيّة من حربٍ شعواء وتضليلٍ وقلبٍ للحقائق ومحاولات طمسٍ ونسيانٍ وتناسي على مرّ العصور والأزمان، وظّف فيها [الصّديق قبل العدوّ] كلّ الوسائل والادواتِ المشروعة وغير المشروعة، كما وظّف لها الطُّغاةِ السّيف والدّولار لشراءِ جيوشٍ من المرتزقة والأبواق والطبّالين والوصولييّن! ومع كلّ ذلك تزداد النّهضة أَلقاً ونوراً وضياءً وذكرى تعيشها البشريّة على مرّ الأيام وخاصّةً في شهرَي محرّم الحرام وصفر الخير، ذكرى النّهضة وشهرَي التّضحية السخيّة من أَجل الانسان والكرامة الانسانيّة.
انّ كلّ ذلك دليلٌ على انّ يد الغيب تحتضن هذه النّهضة الانسانيّة العملاقة كمِصداقٍ واضحٍ جداً من مصاديق قولِ الله تعالى في الآية المباركة المذكورة.
فعندما يُضحّي السّبط وسيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنّة عليه السّلام بكلّ شَيْءٍ فلماذا لا يُعطيهُ الله تعالى كلّ شَيْءٍ؟! ومن ذلك الخلود وتحدّي مساعي النّسيان أَو التّناسي؟!.
ولذلكَ لم تقُل عبثاً الحوراء زينب (ع) عندما تحدَّت الطّاغية (المنتصر جداً) يزيد بن مُعاوية بقولِها {فَكِدْ كَيْدَكْ وَناصِبْ جَهْدَكْ فَوَالله لا تَمْحو ذِكْرَنا ولا تُمِيتَ وَحْيَنا} لانّها كانت تنظر بعينِ الله تعالى وكانت على يقينٍ بحمايةِ يدِ الغيبِ للنّهضةِ وتضحياتها ونتائجها وانّ الله تعالى ناصرُ الحُسينِ (ع) رغماً عن أنفِ الطّغاة! والّا لما جازفت وأقسمت في مجلس الطّاغية المتجبّر لو لم تكن تعرف حقّ المعرفة لدرجةِ اليقينِ انّها لجأت الى مَلِكٍ مُنتقمٍ جبّارٍ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
كان ذلك في عاشوراء عام ٦١ للهجرة، فهل يُمكن ان يتكرّر مفهوم الآية اليوم في القران الواحدِ والعشرين؟!.
بالتأكيد نعم وبِلا أدنى تردّدٍ، فالآية لم تحدِّد زمناً مُعيناً ولا مكاناً محدّداً، فكلّ مصلحٍ يُخلِصُ نيّتهُ ويتوجَّهُ بجُهدهِ الى الله تعالى يُمْكِنُ ان يكونَ بعينِ الله تعالى مُسدَّداً ومنصوراً رغماً عن كلّ إِرادةِ أَهْلِ الأَرْضِ، أولم يقل ربّ العالمين {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} وفي قولهِ تعالى يُصوِّر لنا ربّ العالمين دور الغيب وفاعليّته في تمكين
العبدِ وحمايتهِ رغماً عن إِرادةِ الطُّغاةِ {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} {وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ}.
كما يُحدّثُنا القرآن الكريم عن قِصّة الرّضيع الذي حاولَ الحاكم المستبدّ قتلهُ والقضاء عليهِ، الا انّ الغيب الذي قرّر أَن ينتصر عليهِ، حماهُ ودافعَ عَنْهُ ليشبّ ويترعرع ويكبر بعينِ الله تعالى في بيتِ الحاكم المستبدّ نَفْسَهُ.
يَقُولُ تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}.
انّ ارادةَ الغيبِ لم ولن تتغيّر وهي موجودةٌ قائمةٌ لنصرةِ المصلحين الحقيقيّين باستمرار، الّا انّ الذي تغيّرَ هو الانسانُ، الذي لم يَعُد يؤمن بالغيبِ ولم يثِق بنصرِ الله تعالى، ويخلط عملاً صالحاً وآخرَ باطلاً!.
أّمّا الحُسينُ (ع) فلقد كان متيقِّناً بذلك ويتبيّن ذلك بدعائهِ الذي دعا فيه ربَّهُ في يَوْمِ عاشوراء بقولهِ (ع) {اللّهُمَّ اَنْتَ ثِقَتي في كُلِّ كَرْبٍ وَرَجائِي في كُلِّ شِدَّة وَاَنْتَ لي في كُلِّ اَمْرٍ نَزَلَ بي ثِقَةٌ وَعُدَّة كَمْ مِن هَمٍ يَضْعُفُ مِنهُ الفُؤاد وَيَقِلُّ فِيهِ الحِيَل وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّديق وَيَشمَتُ فِيهِ العَدوُّ اَنْزَلتُهُ بِك وَشَكَوتُهُ اِلَيْك رَغبَةً مِنّي اِلَيْك عَمَّنْ سِواكَ فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفتَهُ وَاَنْتَ وَليُّ كُلِّ نِعْمَةٍ وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ وَمُنْتَهىٍّ كُلِّ رَغبَة}.
امّا العقيلة زينب (ع) فهي الأُخرى كأخيها االحُسين (ع) كانت واثقةً وعلى يقينٍ من انَّ الغيب معها ولن يتركَها أَبداً، ولذلك فعندما سأَلها الطّاغية عُبيد الله بن زياد شامِتاً؛ كيفَ رأيتِ صُنع الله فيكِ وفي أَخيكِ الحُسين؟! لم تهُن ولم تنكُل ولم تتردّد وإِنّما إجابتهُ جواب الواثق المتيقّن {ما رأيتُ الّا جميلاً} وبهذا الجواب هزمَت الطّاغية ومرّغت أَنفهُ بالوحلِ.
انّ النّهضة الحُسينيّة حملت كل معاني وشروط النّهضة الاصلاحيّة الحقيقيّة والواقعيّة بشكلٍ واضح؛
١/ فشخصيّة الامام (ع) كان يتجلّى فيها التّطابق الدّقيق بين القولِ والفعلِ، فلا تجد تناقضاً او تخالُفاً في سيرتهِ قيدَ أَنمُلةٍ أَبداً، ولهذا السّبب قال [أَنا أَحقُّ مَن غيَّر] لأنّهُ الأوضح من بينِ الجميع في منطلقاتهِ واهدافهِ، والأصدق مع الله ونفسهِ واصحابهِ والنَّاس، والاشجع والأقدر على التمسّك بمنطلقات وأَهداف النّهضة الى نهايةِ المطاف، فلقد تحقّقت الاستقامة في سيرتهِ ومسيرتهِ على مستويَين؛
الاوّل؛ هو الثّبات على الادواتِ والاسبابِ، فلم يدع الظّروف القاسية مهما بلغت قساوتها عليهِ وعلى أَهْلِ بيتهِ وأَصحابهِ ان تفرض عليه أسلوباً لم يرغب فِيهِ او أَداةً لا يرى فيها تتناسب وموقفهُ الشّرعي.
الثّاني؛ هو الثّبات على المنهج، فلم يسمح لأيِّ كان او لأيِّ ظرف ان يغيّر هدفهُ او وجهتهُ سواء على صعيد عقيدة الاصلاح او نتائجهُ التي يتوخّاها.
لقد ورد في الحديث عن رَسُولِ الله (ص) انّهُ قال {الاعمالُ بخواتيمِها} وذلك بالاستناد على قول الله تعالى {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
ولانّ الامام الحسين الشهيد (ع) كان يرمي ببصرهِ وبصيرتهِ أَقصى خاتمةٍ لنهضتهِ، لذلك استقامَ على كلّ المستويات حتى النّهاية العظيمة التي انتهى اليها وهي الاستشهاد بعزٍّ وكرامةٍ وإِباء في كربلاء في عاشوراء عام ٦١ للهجرة.
كذلك استقام من كان معهُ، فلم تغرَّهم سلطة او أمانها ولم تغرّهم علاقة سببيّة او نسبيّة، ولذلك انتهت بهم الخاتمة العظيمة الى ما انتهى اليه سيّد الشّهداء (ع).
فهذا العباس بن علي (ع) قمر العشيرة وقمر بني هاشم حامل لواء الحسين (ع) في يوم علشوراء رفض أمان الطّاغية ابْنُ زياد المزيّف، فآثر الاستقامة على ان ينهارَ في اختبار السّلطة.
كما ان القائد الفذ الحرّ بن يزيد الرّياحي نجحَ نجاحاً باهراً في لحظة الاختيار التّاريخيّة، عندما اختار الآخرة على الدُّنيا والجنّة على النّار والحقّ على الباطل.
انّهم جميعاً ظلّوا يتميّزون بأعلى وأَرقى الاخلاق والمناقبيّات على الرّغم من صعوبة الموقف وعِظَم البلاء.
انّ من أَعظم البلاءات التي يُمتحن فيها المصلحون الرساليّون هي تلك المتعلّقة بأخلاقيّات الحوار والاختلاف والسُّلطة والقتال وكل ما يتعلّق بالشّأن العام، فقليلون هُمُ الذين يستقيمونَ عليها ولا يتغيّرون عندما تضغط عليهم الظّروف وتقسو عليهم المتغيّرات، فلقد رأَينا كيف انّ بعض من يدّعي انّهُ صاحبُ مشروعٍ إصلاحيٍّ ينقلبُ على أَبسطِ أَخلاقيّات الاختلاف ليشنّ حملة تسقيط ضد الآخر! وكيف انّهُ انقلبَ على كلّ مبادئهِ حال وصولهِ الى السّلطة! بالرّغمِ من انّهُ مازال يُتاجرُ بتاريخهِ وشهدائهِ و (زعيمهِ ومؤسّس تيّارهِ)! فما بالك اذا كان في ساحةِ حربٍ ضدّ عدوّه؟!.
ان الاستقامة لا تعني ان تواصل المشروع فقط وانّما تعني بالدّرجةِ الاولى مواصلة الالتزام بأخلاقيّات الاصلاح والتغيير والحربِ على الفسادِ!.
فلمّا غلبَ أصحابُ مُعاوية أصحاب الامام أَميرُ المؤمنين (ع) على شريعةِ الفرات بصفّين ومنعوهم الماء خاطب الامام اصحابهُِ بقوله {قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّة، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّة، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالمَوْتُ في حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ} وبالفعل فهذا ما كان.
ولكن هل عاملَ الامامُ أعداءهُ بنفس المنهج وبنفس الطّريقة عندما غلبهُم على الماء وسيطرَ على الشّريعة؟! أَبداً فَلَو فعل ذَلِكَ فما الذي سيميّزهُ عن مُعاوية وهو القائل يشرح الفرق بينهما {وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غَدْرَة فَجْرَةٌ، وَكُلُّ فَجْرَة كَفْرَةٌ، وَلِكُلِّ غَادِر لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
امّا في كربلاء وقد جاءَ القومُ زُهاءَ ألفِ فارسٍ معَ الحُرِّ بن يزيدَ الرّياحي التّميميّ حتّى وقفَ هو وخيلُه مُقابلَ الإمام الحسين (ع) في حَرًّ الظّهيرةِ، و الامام وأصحابُه معتمُّونَ متقلِّدوا أسيافِهم، فقالَ عليهِ السّلام ُلفتيانِه؛ {أُسقوا القومَ وأرْوُوْهُم منَ الماءِ، ورَشِّفُوا الخيلَ ترشيفاً؛ ففعلواوأقبلوا يملؤُون القِصاعَ والطّساسَ منَ الماء ثم يُدنونَها منَ الفَرَسِ، فإِذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أَو خمساً عُزِلَتْ عنه وسَقَوا آخرَ، حتّى سَقَوْها كلَّها.
لذلك حقّ للحسين (ع) ان يكتبَ في وصيّتهِ التي تركها في المدينة المنوّرة عند أخيهِ محمّد بن الحنفيّة {أُريدُ ان أسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي علي بن أبي طالبٍ (ع)} فالمنهجُ واحِدٌ والمنطلقُ واحِدٌ والهدفُ واحِدٌ لم يتغيّر مِنْهُ شيئاً ابداً وبذلك يكون أهل البيت (ع) آية الاستقامة ونموذجها وأسوتها وقدوتها، قولاً وفعلاً والتزاماً وأخلاقاً وفي كلّ شَيْءٍ، يتّبع آخرهم [الحُجَّةُ القائم (عجّ)] أوّلهم [رَسُولُ الله (ص)] فمَن قبِلهم بقبولِ الحقّ فالله أولى بِالْحَقِّ، فليلتزم بمدرستهِم.
نزار حيدر
نزار حيدر
مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن
المصدر: مركز نور للدراسات