خاص الاجتهاد: ينتمي آية الله الشيخ محمد أمين المامقاني (حفظه الله) إلى أسرة علمية عريقة امتازت من بين العوائل العلمية أن جمعت بين شتى صنوف العلم خصوصاً الفقه والأصول والرجال والاخلاق وغيرها.
وقد برز من هذه العائلة عدد غير قليل من الشخصيات المرجعية والتي أخذت زمام المبادرة في البروز بقوة في العلوم المختلفة. وآية الله الشيخ محمد أمين المامقاني(حفظه الله)من أساتذة البحث الخارج في النجف الأشرف وهو من طلبة زعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد الخوئي (قدس سره) وقد عرف بتدريسه للدروس الخاصة بالفقه والاصول وقد ربّى عددا من الطلاب المميزين من اساتذة الحوزة العلمية.
التقينا سماحته قبل أشهر في النجف الأشرف حيث استقبلنا برحابة صدر وكان حوارنا معه في مجالات شتى.
عناوين الحوار
- تأثرت العائلات العلمية في العراق خاصة أبنائهم بسبب إنتشار الحزب الشيوعي.
- السيد الخوئي(قدس سره) تدخل في إقناع والدي ووالدتي للحصول على رضاهما كي أتعمم وأدخل في السلك الحوزوي.
- بعد سقوط صدام ضعفت العائلات العلمية كثيراً.
- لو أنّ مجتهداً غير السيد الخوئي (قدس سره) كان في فترة حكم الصدام لتهدّمت الحوزة.
- عندما كنّا نخرج من البيت لم نكن نتوقع الرجوع سالمين للبيت.
- كان السيد الخوئي(قدس سره) يحترم السيد الخميني في مجالسه الخاصة، وما قيل كان افتراء على السيد الخوئي.
- عندما أخبر السيد محمد الصادق الصدر، السيد الخوئي باستشهاد الشهيد الصدر(قدس سرهم)، بكى السيد الخوئي كثيرا وعطّل درسه ثلاثة أيام حداداً عليه.
وفي ما يلي نص الحوار (القسم الأول)
كل من تشرفنا بلقائه طلبنا منه بدايةً أن يذكر لنا سيرته الذاتية؛ يعني حياتكم الشخصية ودراستكم الحوزوية، وفي الختام أرجو أن نتحدث قليلاً عن أسرتكم العلمية الكبيرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
بدأت في السنة الخامسة من عمري بتعلّم القرآن الكريم حتى ختمته، وتعلمت أصول الدين وفروعه وتلك كانت عادة سائدة في البيوت العلمية في مدينة النجف الأشرف؛ يعني قبل ثلاثة وستين عاماً،
ثم دخلت المدرسة الإبتدائية التي أسسها الشيخ المظفر في الصف الثاني باعتباري تعلّمت الكتابة وتلاوة القرآن، وتدرجت في دراستي حتى الجامعة لأنهي بذلك دراستي الجامعية، ثم بعد ذلك انتسبت إلى الحوزة، صحيح أنني وقبل أن أتعمم كنت أدرس في الحوزة غير أنني أيّام الكلية أيضاً كنت أدرس في الصيف المسائل المنتخبة – فتاوي السيد الخوئي(قدس سره)- وما شابه ذلك، نعم كان لدي أنشطة حوزوية لكنّ قراري بالانتساب إلى الحوزة كان في سنّ الخامسة والعشرين وفي وسط السبعينيات من القرن الماضي.
أثناء دراستكم في الكلية وقبل ذلك في المدارس الحوزوية كان هناك جو عام في الأسر العلمية التي ترتدي الزي الديني، وهو العلاقة مع الحوزة.
صحيح، هذا ما أشرت إليه من أنّ تلك العلاقة تخلق تواصلاً بين الأوساط العلمية والدروس الحوزوية…فطالب الكلية يحضر عصراً في الدروس الحوزوية، وحتى مساءاً في بعض الأحيان.
وهل كان ذلك شيئاً سائداً في العائلات العلمية أم أنتم فقط؟
لا لم يكن سائداً، ففي الخمسينات عندما انتشر الحزب الشيوعي في العراق كان له تأثير على العائلات العلمية، وخاصة على أبنائهم الذين تأثروا قليلاً بالشيوعيين والبعثيين ليصبح لديهم ردة فعل سلبية تجاه الدراسة الحوزوية في النجف، يعني معظم أبناء العلماء والفضلاء تركوا الدراسة الحوزوية واتجهوا إلى الوظيفة، دون الدراسة والتدريس الحوزوي …
وأذكر شخصي – على سبيل المثال- سعيت للدراسة العالية وتواعدت مع خمسة من اصدقائي واتفقنا للذهاب إلى فرنسا للدراسة في جامعة السوربون، كانت جميع الأمور مهيّأة لكن نزلت إلى كربلاء وتوسلت بالحسين عليه السلام طالباً منه إن كان في هذا الأمر مصلحة دينية، فأنا أريد من سفري ودراستي الدعوة إلى الله وإلى دينه الحنيف ونشر مذهب أهل البيت عليهم السلام وأفكارهم، نشر العقيدة والفقه والأخلاق والأفكار والمفاهيم الإسلامية والشيعية بعيداً عن الأمور الحزبية والتحزّبات، فإذا كان في هذا السفر مصلحة أن ييسره لي وإلا فليمنع حدوث السفر يوم السبت وكان أثر التوسل واضحاً حيث أنه في يوم الخميس تعسّرت العملية ولم نسافر، ومن ثم شيئاً فشيئاً توجهت إلى الدراسة الحوزوية.
الدراسة الحوزوية متعبة خاصة في النجف حيث يحتاج الإنسان إلى إعداد نفسه والى تحمّل المكاره والآلام وتوطيد نفسه على ذلك حتى تحقيق ما يصبو إليه، فإذا كان جلّ همه الحصول على المال أو الأمور الدنيوية فلن يحظى بالتوفيق، هذا شيء ملموس وقد حصل في البداية تدخل من السيد الخوئي رحمة الله عليه لدخولي في الحوزة، حيث كان لبيتنا علاقة بالسيد الخوئي(قدس سره) عن طريق جد والدي ووالدتي الشيخ محمد حسن المامقاني الذي صار مرجعاً كبيراً في زمانه، أعطى منزلاً كبيراً إلى والده السيد علي أكبر الخوئي وأصبح مجتهداً في ذلك البيت، لم يكن لأيّ شخص في ذلك الزمان أن يحصل على بيت وقف أو ما شابه ذلك.
فالسيد الخوئي(قدس سره) تدخل في إقناع والدي ووالدتي للحصول على رضاهما كي أتعمم وأدخل في السلك الحوزوي وقد كانوا يخافون عليّ من سلطة البعثيين الحاكمة ومن صدّام ورجال الامن.
يعني أنتم تعممتم بعد توتر الأوضاع وأحداث الشهيد الصدر؟
لا، قبل ذلك بخمس سنوات.
قبل الإستشهاد لكن التوترات حدثت بعد اتّهام السيد الحكيم بالجاسوسية؟
نعم بعد عدة سنوات، وهذا كان بداية لتشديد النظر في الحوزة وبداية الملاحقة والإعتقالات في العطلة الصيفية وما شابه ذلك، فالسيد الخوئي(قدس سره) نصحني أن أتحمّل وأهيئ نفسي على تحمّل المكاره وطلب من والدي ووالدتي أن يرضوا بهذا الأمر.
فانه لما تعسر على إرضاء والدي توجهت الى السيد الخوئي”قدس سره” بحكم العلاقة العائلية من ناحية الأب والجد. فعرضت الأمر عليه وكان لتدخله دوراً كبيرا في رضا الوالدين والحمد لله.
وقد حضرتُ عند السيد الخوئي(قدس سره) عشر سنوات وقد بشّرني أكثر من مرة بأنّ لي مستقبل وشأن علمي، وأنني صاحب رأي وفراسة تماماً كجدي الشيخ عبدالله.
المهم أنني تحملت الكثير من البعثيين في سبيل ذلك إلى أن زال البعث بحمد الله، فنالني هذا التوفيق العظيم. وأنا أعتقد أنّ هذا هو عملي وواجبي. فطالب العلم إلى جانب تحمّله المكاره لابد له من التحلّي بالإستعداد النفسي لتحمل الأعباء العلمية، ولابدّ أن يكون دائم المناجاة والتوجه إلى الله كما أوصى صاحب الأمر ولي أمرنا عجل الله تعالى فرجه الشريف، حتى يناله التسديد وعون الله وتوفيقه وحراسته من الظالمين ومن النفس الأمّارة بالسوء.
سماحتكم عشتم في أصعب الظروف التي مرّت بها حوزة النجف العلمية، حبّذا لو تذكرون لنا بعض ما حصل معكم وما رأيتموه كشاهد عيان في ذلك الزمان من صعوبة العيش وقسوة الظروف المادية، أو الضغوط التي كان يمارسها حزب البعث؟
كانت السنوات الحرب مع إيران أسوأ و أشد مما تتصور، فهناك تشديد من قبل القوات الأمنية والمخابرات الصدّامية التي كنّا نعاني منها كثيراً في النجف. في السابق كانت النجف عبارة عن أزقّة صغيرة، ومن تلك الأزقة نذهب إلى مدرسة السيد الخوئي(قدس سره) ونحضر الدرس ونجلس للدراسة، وبعد ذلك ننتظر الأذان…كنّا نقضي الفريضة في المدرسة وفي أجواء مراقبة وشدة، ثم بعد الظهيرة بساعة عندما لا يلاحظ رجال الامن شيئا يذهبون للاستراحة ثم يعودون عصراً للمراقبة، في هذه الفترة كنّا نخرج من المدرسة عبر الأزقة الضيقة ونعود للبيت، كنا في محنة كبيرة.
كان هناك الكثير من العائلات العلمية من آل مامقاني…عائلات علمية في النجف وغيرها من العائلات الأخرى، كان من مخططات صدام حسين ضرب تلك العائلات فماذا فعل بها؟
لقد عانت تلك العائلات الأمرّين من مراقبة رجال الأمن، كما كانت أخبار أبناء العائلات تنتقل بسرعة، كانوا يهابون السيد الخوئي (قدس سره)وهو لم يكن يتنقّل كثيراً بل يخرج اربعة أيام في الأسبوع للتدريس، نعم كانوا يخشون منه ويعتبرونه عملة صعبة ضد السيد الخميني (قده). لكن الآن وبعد سقوط صدام ضعفت العائلات العلمية كثيراً، يعني كان في كل عائلة عدد من المجتهدين، لكن الآن هناك كثير من العائلات العلمية قد أصبح أبناؤها تجاراً أو موظفين؛ بل بعض العائلات المشهورة بالعلم لا يوجد فيها الآن أيّ مجتهد بل ولا طالب علم.
ماذا فعل صدّام بهذه العائلات العلمية الكثيرة في النجف؟
عندما انتشر الحزب الشيوعي ونشر افكاره في الخمسينات، ثم جاء البعثيون في الستينات والسبعينات ثم استولوا على السلطة والحكم ساهموا في إضعاف الدراسة في الحوزة وحاولوا اعتقال الطلاب بحجة أو بأخرى فقلّ أعداد طلاب العلم من البيوت العلمية.
يعني المحاربة الفكرية التي مارسها الحزب الشيوعي على العائلات العلمية كان لها تأثير على الناس بشكل عام، وعلى العائلات العلمية بشكل خاص؟
بالتأكيد كان لها تأثير على أبنائهم، لكن كان لصدّام تأثير أكبر على العائلات.
ما الذي نالته عاتلتكم- يعني عائلة مامقاني- من صدّام من ملاحقات وإعدامات؟
أخي الأصغر مني تم إعدامه؛ أخي حيدر رحمه الله أُعدم أمام الجميع وتأثرت له عائلتنا وكثير من العائلات العلمية.
في الإنتفاضة الشعبانية أخذوه وقتلوه؟
نعم قتلوه في الإنتفاضة الشعبانية. يُقال أنهم وضعوه في فرّامة اللحم، فقد نقل عنه بعض السجناء أنه وضع في فرّامة اللحم التي كان يستعملها عدي ابن صدام قرب أحواض السمك لبعض المعارضين كان يضعهم في فرّامة اللحم ويرميهم للأسماك. لقد انتهت فترة صدّام لكن الحوزة الآن تعاني من حب الاستيلاء وهذا ما يؤلمني.
حبّذا لو تتحدث عن هذا الجانب.
بصراحة هناك بعض الامور الانانية تحدث الآن بقيادة بعض المؤثرين على المرجعية ولا تقلّ فضاعة عن ممارسات صدّام ولكن لا أريد التحدّث عنها الآن.
إذاً لنعد إلى الحديث عن السيد الخوئي(قدس سره) لأننا لم نتحدث بما فيه الكفاية عن دور السيد الخوئي في حماية الحوزة بعد سقوط صدام.
كن على ثقة لو أنّ مجتهداً غير الخوئي(قدس سره) كان في تلك الفترة لتهدّمت الحوزة، فأكثر من مرة طلب من فضلاء النجف وهم أعداد قليلة ان لا يغادروا النجف، وأنا واحد منهم لم أخرج من النجف وعشت القلق الشديد وخوف الإعتقال في كل يوم لا سيما عندما يحصل هجوم عسكري في الحرب الظالمة، لقد قال السيد الخوئي لنا: يمكنني أن أخرج من النجف قبلكم، يمكن أن أخرج من النجف وأتخلص من عذاب صدام وضغوطاته لكن أخاف أن يقال: الشيخ الطوسي أسس الحوزة العلمية في النجف الاشرف ثم جاء الخوئي وهدمها. لقد اهتم السيد الخوئي بهذا الأمر.
وذات مرة كنّا نتحدث عن موضوع الحوزة وقد كان في بيتي اثنين من العلماء فاقترحت على أحدهما – أبو مجتبى- ان يرفع اقتراحا للسيد الخوئي(قدس سره) بانعاش طالب العلم مادياً: خصوص الذي يؤمل تمكنه من تحصيل الاجتهاد في النجف وفي قم، فاستجاب السيد الخوئي ونفذ الاقتراح بشكل شبه عمومي وقد استأنس السيد الخوئي(قدس سره) للاقتراح فسأل السيد الخوئي(قدس سره) من الشيخ الأراكي أبو مجتبى هل هذا الإقتراح لكم، فابتسم وقال لا، هذا للشيخ الماثل أمامكم- يقصدني وقال السيد انا أؤمل بهذا الشيخ خيراً عظيما واتوقع اجتهاده وقوة نظره باشد من نظر جده الشيخ عبد الله .
ماذا حصل بعد هذا الاقتراح؟
حصلت خطوات عديدة في النجف وفي قم ساهمت في تعزيز الحوزة وحمايتها، نحن نحاول تقوية الحوزة من خلال تربية المجتهدين وسدّ احتياجاتهم، يعني يجب أن يتفرغوا بشكل كلي للدراسة فلا يفكروا بأمور المعاش والعمل التي تشغل بالهم وتثنيهم عن الدراسة، وهذا الأمر قد حصل هذا في قم المقدسة خلال سنين الحرب الجائرة كما حصل بنحو آخر في النجف الاشرف.
هل هناك أشخاص حظوا بعناية السيد الخوئي(قدس سره) الخاصة وأصبحوا في المستقبل مجتهدين؟
تماماً هذا ما حصل…فقد تولى متابعة شؤون من يتوقع تشرفه بالاجتهاد فرواتب الحوزة لم تكن ميسورة ولولا السيد الخوئي(قدس سره) ما بقي أحد، فالسيد الخميني سافر، والسيد الصدر قُتل ولم يبقَ أحد، وفي فترات معينة كان السيد يوسف ابن السيد الحكيم يستفيد منه بعض الطلبة والبعض الآخر لا يستفيد.
يعني علاقة السيد الخوئي(قدس سره) معكم كشباب لم تكن علاقة منقطعة، فهو يستقبل الآراء والمقترحات، حبذا لو تذكرون لنا بعض تلك المصاعب التي كانت في تلك الفترة. إنني أؤكد على تلك المصاعب لأنها غير مذكورة؛ يعني عادة لا يُقال ماذا قاست الحوزة النجفية زمن صدام، فالجميع يعرفون بشكل كلي أن هناك مصائب ومحن، لكن لا أحد يعرف بشكل تفصيلي ما هي المحن السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت موجودة.
سأخبرك شيء وهو أننا كنا نعيش في حالة شديدة من القلق بحيث عندما كنّا نخرج من البيت لم نكن نتوقع الرجوع سالمين للبيت، كذلك حال العائلة إذا خرجت وكانت أيام التعطيل كيومي الخميس والجمعة وذكريات وفيات المعصومين راحة لنا وأمناً، وفي سنين ثلاثة كنت محصورا في البيت لايمكنني الخروج خوفاً من الاعتقال فكنت أخرج بعد صلاة المغرب في ظلام الليل وأذهب إلى مدرسة الآخوند القريبة من بيتي بقدر خطوات لكي أدرس طلابي السطوح وبعد ذلك يأتيني كاسيت بحث السيد الخوئي(قدس سره) إلى البيت…هكذا إذا ً كنا نخرج لا نتوقع الرجوع سالمين، هذه أشد معاناتنا وتبقى الأمور المادية مؤثرة قليلاً بل لا أثر لها بإزاء معاناة القلق.
يعني ليس الشدة على السيد الخوئي(قدس سره) فقط، بل كانوا يسجلون اسمائهم ويضعون بينهم الجواسيس على الطلبة ليسمعوا كلامهم واستنكاراتهم وينقلونه؟
نعم وهناك بعض الطلبة يحضرون بحث السيد الخوئي(قدس سره) يسجلونه ويعطونني اياه مع ضماني بارجاعه إليه.
يعني كان عليكم شخصياً مراقبة هناك؟
نعم، لست انا لوحدي بل الشباب من أهل العلم كانوا في محنة وشدة، يعني عندما يخرج أحد من البيت لا يتوقع الرجوع سالماً. فالشاب عندما يخرج من البيت فهذا يتوقع أن لا يعود إلى البيت، وبعضهم جلس في بيته ولم يخرج خوف الاعتقال وكم اعتقلوا أشخاصاً بشكل جماعي ولم يعودوا إلى أهاليهم .
*شيخنا أحياناً تصديق الشيء صعب وأحياناً تصوره أصعب.
هذا ما اشرت إليه في البداية، حيث قلت انّ تصور هذه الحالة الشديدة من القلق هو امر صعب، فضلاً عن حالة التضييق التي كنا نعيش فيها، يعني كنا نعيش هذا التضييق عندما نخرج ولا يُتوقع رجوعنا إلى البيت سالمين.
على سبيل المثال سأذكر لكم شيئاً؛ قبل الحرب بثلاثة أشهر جاء محافظ كربلاء إلى السيد الخوئي (قدس سره)ومعه أوراق ثلاثة كبيرة، الورقة الأولى فيها اسماء من حزب الدعوة وهم مطلوب إعتقالهم ومن بينهم اثنان من اولاد السيد جمال ابن السيد الخوئي وأنّ الرئيس قد عفى عنهم،
ثم ورقتان كبيرتان لأتباع السيد الخوئي (قدس سره)الذين يطلبونهم. إنهم يكنّون الإحترام للسيد الخوئي(قدس سره)ومن أتباعه ويعتبرونهم عندهم روح ثورية تشبه روحية السيد الخميني رضوان الله عليه، ومن بين تلك الأسماء كان اسمي واسم والدي رحمه الله؛ وبعد شهر وفي ساعة حارّة من شهر تموز جاء الأمن إلى بيتنا واعتقلوني، هكذا كانوا لا يقف في وجههم شيء ثم افرجوا عني احتراماً للسيد الخوئي .
وكانت محنة كبيرة على من يَدرسون ويدرّسون، وربما كان بعضهم في بغداد يعاني من وجود السيد الخوئي(قدس سره) لأنه يحمي طلاب العلم. صحيح أنّ والدي كان مع السيد الخوئي(قدس سره) لكنني كنت منعزلاً وليس لديّ أي ارتباط بأي حزب أو معارضة، بل كان همي الدراسة والتدريس وهم يعرفون هذا الأمر.
يعني كنتم منعزلين عن الأحزاب؟
نعم كنت منعزلاً عنها والامن يعرف هذا ويعرف كل اهتمامي للدرس والتدريس.
وكيف اعتقلت؟
اعتقلوني بطريقة غريبة، فقد كان هناك شخص مؤمن ومتدين يأتي دائما لمسجد السيد الخوئي(قدس سره) ليصلي قريباً مني خلف السيد الخوئي (قدس سره) ظهراً فيسألني عن بعض الأمور الدينية واشرحها له، واستمر على ذلك الحال سنتين أو ثلاث أو أربع سنوات، وقبل ذلك لم يكن يعرفني لأنني غيّرت اسمي من محمد أمين إلى علي، ولم يكن في النجف شخص من عائلة المامقاني غير هذا الشاب؛ لكن من شدة التعذيب عليه اعترف وذكر اسمي، فلما أخذوني إلى هناك قالوا له هل هذا هو؟ فقال لا ليس هو، لقد كنت ملتزماً بأهل البيت عليهم السلام ومداوماً على قراءة سورة ياسين حيث كنت أقرأها دائماً وأنذر قرائتها هدية للمعصومين اذا نجاني الله من هؤلاء الظلمة.
يعني جريمتكم كانت الإجابة على الأسئلة؟
نعم…وهو عضو في حزب الدعوة لكن علاقته بي مجرد التفقه وكانوا يعتقلون الأشخاص بحجج واهية.
سبق وتفضلتم أنّ زمن الحرب كان أصعب فترة تمرون بها، حبّذا لو تحدثنا بشكل وافي عن صدّام وماذا كان يريد من الحوزة ومن سماحة السيد الخوئي(قدس سره)؟
-حسناً، كان أهم شيء يريده من السيد الخوئي(قدس سره) فتوى بتحريم الحرب ويريد أن يتطوع طلاب العلم للدفاع، وكان موقف السيد الخوئي(قدس سره) سلبياً حيث كان يقول أننا لا نتدخل بالسياسة، فنحن لسنا موافقين على الحرب ولا نعطي فتوى بتحريم الحرب، هذا هو الموقف الذي أثار الغضب على الحوزة فأصبحت تتعرض للمداهمة ويأخذون منها بعض الأشخاص ويوجهون لهم التّهم..فأخذوا كثيرا من أتباع السيد الخوئي وقتلوهم في سبيل التضييق على السيد الخوئي حتى يصدر هذه الفتوى.
أنتم بصفتكم مقرّبين من السيد الخوئي(قدس سره) هل تتذكرون بعض المواقف له تجاه الحوزة العلمية في قم أو تجاه الامام الخميني؟
-كان السيد الخوئي (قدس سره)يحترم السيد الخميني في مجالسه الخاصة، وما قيل كان افتراء على السيد الخوئي(قدس سره)…كانوا يتكلمون بعض الكلام السيء بحق السيد الخوئي(قدس سره)، وقد سمعت ذلك بنفسي عندما كنت في منزل والدي حيث كان إلى جانب بيت والدي ينزل المرحوم الشهيد السيد مصطفى الخميني،
وحدث ذات مرة في يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله حيث كنا نقيم مجلس العزاء في بيتنا ثلاثة أيام، وكان يأتي المرحوم السيد مصطفى الخميني في كل يوم إلينا، وكان بعض الأشخاص ينالون من السيد الخميني، لكن السيد الخوئي (قدس سره)بشخصه كان يحتجب عنهم ولا يرضى عليهم وكان يحترم السيد الخميني كثيراً،
مثلاً أنا أذكر ذات مرة أنّ الحديث قد دار عن الإستفتاءات وذُكر السيد الخميني ولكنّ الحديث كان فيه نوع من الإستهزاء، وكان بعضهم يقول: في الجمهورية الاسلامية الإيرانية وعلى رأسها الولي الفقيه السيد الخميني، وإلى جانب ذلك هناك صوت موسيقى ينبعث من الإذاعة، فأصبح البعض يقول إنّ هذا غناء والغناء حرام والخميني يرضاه ونحو هذا من الخزعبلات.
لكنّ السيد الخوئي(قدس سره) قال أنّ هذا الموجود في الإذاعة موسيقى غير محرّمة، والسيد الخوئي (قدس سره)يدافع عن بعض الأمور الحسّاسة، وكان رضوان الله عليه لا يجامل في تلك الأمور.
لقد كان هناك احترام للأساتذة، لقد كان السيد يعرفني بأنني مشغول بالدرس والدراسة وكان يهتم بذلك كثيراً، وعلى هذا الأساس كان يحترمني لأنّ عقلية السيد الخوئي(قدس سره) هي عقلية علمية قبل أن تكون عقلية إدارية أو عقلية مرجعية، وعلى الرغم من أنني كنت في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر وهو شيخ كبير وربما أكبر من والدي ومع ذلك كان يحترمني ويحترم ما كنت اعرضه عليه من اشكال في بحثه.
على سبيل المثال اقترحت ذات مرة أن يتصدى السيد الخوئي (قدس سره)لإنعاش حال طلاب العلم في النجف وفي قم، وأن يعيّن فيها مجتهداً لأن مدينة النجف كانت خالية تماماً من المجتهدين، وأنا شخصياً كنت أعاني عندما أريد أيّ درس؛ حيث لم أجد درساً ينفعني سوى درس السيد.
وكان السيد الخوئي(قدس سره) بإمكانه أن يخرج إلى الكويت أو سورية عند السيدة زينب وينقل المرجعية إلى هناك، ويذهب معه أصحابه لكنه أبى ذلك وكان يقول: أخشى أن يُقال أنّ الشيخ الطوسي قد أسس الحوزة العلمية في النجف الاشرف والسيد الخوئي(قدس سره) قام بهدمها، وكان يخاطب المقربين اليه مراراً: أتمنى عليكم أن تكونوا معي ولا تخرجوا من النجف، تحمّلوا الأذى قليلاً من هؤلاء حتى يبلغ الأمر كما يريد سبحانه .
هل كان صدام يسمح بخروج السيد الخوئي(قدس سره)؟
لا، لم يكن يسمح بخروجه، أخبرتكم سابقاً أنه كان يقول أنّ الخوئي(قدس سره) عملة صعبة مقابل الخميني. هكذا كان صدام ينظر إلى السيد الخوئي(قدس سره)، وذات مرة جاء مسؤول كبير من قبل صدّام وأكد عليه أن يصدر فتوى أو أي شيء ضد الحرب، كان ذلك في السنة السادسة من الحرب حيث الانتصارات الإيرانية. وعندما رفض السيد إصدار تلك الفتوى انتقى صدّام فوراً من ثلاثة من أهل العلم فاعدمهم .
عندها جمع السيد الخوئي(قدس سره) جوازات سفره وجوازات سفر أبنائه وأرسلها إلى المحافظ وقال له هذه الجوازات اختموها حتى نخرج إلى الكويت أو إلى سورية لننقل حوزتنا إلى هناك، فلما بلغ الأمر إلى صدّام .لم يرضَ بذلك وأرسل إليه مستفسراً.
يعني أن السيد الخوئي(قدس سره) قد جعل من عدم سفره وتركه النجف، وفي الواقع عدم انتقاله إلى حوزة أخرى بمثابة حرب على صدام لحماية الحوزة العلمية في النجف.
-نعم كان موقفا عظيما في سبيل المحافظة على حوزة النجف حتى تبقى وتستمر.
لقد عشتم انتفاضتين كبيرتين على الأقل: انتفاضة في زمن الشهيد الصدر والسيد الخوئي (قدس سره)والسيد الشهيد الصدر(قدس سره)، والإنتفاضة الشعبانية، فحبذا لو تحدثوننا عن بعض ذكريات تلك الإنتفاضة وما الذي حدث وكيف قامت المرجعية بدورها؟
-عندما حُكم بالإعدام على الشهداء السبعة رحمة الله عليهم تدخّل السيد الخوئي (قدس سره)مباشرة لتخفيف الحكم أو طلب الاسترحام، فطلبوا من السيد الخوئي (قدس سره)في حينها أن يكتب ورقة استرحام عنوانها أن ترحم الحكومة هؤلاء المحكومين بالإعدام والمحكومين بالمؤبد، فكتب الورقة باسم الحوزة وليس باسم السيد الخوئي لأنه كان يعتبر ذلك بمثابة إهانة له وللمؤمنين الاطيان المحكومين . ولكن تلك الورقة لم تنفع، لقد أرادوا إذلال السيد الخوئي لكنه لم يوقع أو يضع ختمه على الرسالة.
يعني لم يقبلوا الرسالة باسم الحوزة؟
-نعم لم يقبلوا تخفيف الأحكام وأعدموا من أعدموا وبقيت أحكام السجن المؤبد على حالها، أعدموهم على الرغم أنهم من حزب الدعوة والسيد الخوئي كان يعرف أنهم من حزب الدعوة وقد حاول تخفيف الأحكام عنهم لأنهم كانوا رجالاً ملتزمين.
تتذكرون عندما تم احتجاز السيد الشهيد الصدر (قدس سره)وقد كان يعيش في بيتكم في محلة العمارة وكانت تربطه علاقة بسماحة والدكم، ها هذا صحيح؟
لا، لم يكن له علاقة بوالدي الذي كان محسوباً على السيد الخوئي(قدس سره) .
من الذي أعطاه المنزل؟
البيت كان جالسا به خالي الشيخ محي الدين المامقاني فلما أراد أن يسافر أعطاه لصهره السيد باقر الحكيم، وفي أول عامين جاء بالسيد محمود الشاهرودي الهاشمي جلس في البيت، بعد ذلك قدّمه للسيد محمد باقر الصدر إلى أن استشهد وهُدم البيت، هُدمت محلة العمارة كلها لأجل هذا البيت الذي خرجت منه تظاهرات ضد البعثيين .
لم أفهم، منطقة العمارة هُدمت؟
-نعم منطقة العمارة التي فيها بيت جدّنا هدمت بكاملها .
ولماذا هُدم البيت؟
لأن السيد محمد باقر الصدر كان يعيش فيه وكان قد أصدر فتوى بتحريم الإنتماء إلى حزب البعث وجاءه التأييد من محافظات العراق ، فقاموا باعتقاله ثم اطلقوا سراحه وفرضوا عليه الإقامة الجبرية، أخذوه إلى بغداد ثلاث مرات وعذّبوه… ثم هدّموا المنطقة كلها، تملكوها وهدّموها.
تتذكرون مواقف الحوزة تجاه هذه القضية حيث مدرسة الشهيد الصدر الذي كان مفكراً كبيراً ولم يكن يتوقع أن يستشهد، حبّذا لو تذكرون لنا ما حدث حينها حيث ينقلون لنا ان السيد الخوئي (قدس سره)كان في درسه عندما سمع بخبر استشهاده.
-بقي السيد الشهيد محتجزاً في بيته لمدة تسعة أشهر، الجميع كان متأثراً لحاله، قد يكون البعض يختلف معه في بعض الأمور أو لا يرضى بطريقة السيد الصدر، على كل حال كلٌّ مسؤول عن عمله، وفي الاعتقال الرابع أعدم وفي ليلة مظلمة لانه أُطفئت أنوار الكهرباء في النجف، وأخذ المرحوم السيد محمد صادق الصدر أبو السيد محمد الصدر وفي اليوم الثاني عرف السيد الخوئي(قدس سره) بخبر إعدامه ..لم يكن أحد يعلم بالإعدام في ذلك اليوم، الجميع كان يعلم أنه اعتقل، لكنّ الإعدام لم يكن يعلم به أحد، أول من علم به السيد محمد الصادق الصدر، وقد جاء إلى مسجد الخضراء للدرس وأخذ بيد السيد الخوئي وقبّلها ثم أخبره فبكى السيد الخوئي كثيرا .
هل كان تلميذاً للسيد الخوئي(قدس سره)؟
في السابق كان السيد الصدر تلميذه ومنحه إجازة الاجتهاد وهو ابن العشرين عاماً، وكان يحترم استاذيته ويقبل يده كلما دخل عليه، وكان السيد الخوئي(قدس سره) يحترمه كثيراً ولذا لما بلغه خبر اعدامه بعد أن انتهى السيد الخوئي(قدس سره) من البحث نزل عن المنبر بكى السيد الخوئي(قدس سره) عليه كثيراً بمأى من الحضور، لقد فهم مغزى هذا البكاء بعد ما أخبره السيد صادق الصدر بأنني أمس أشرفت على تجهيز السيد محمد باقر الصدر رحمه الله فبكى السيد الخوئي(قدس سره) بمرارة و تألّم كثيراً بحيث رأى جميع تلاميذه .
هل كنت سماحتك حاضر في ذلك اليوم؟
-نعم
هناك من يقول ان السيد الخوئي(قدس سره) عطّل درسه ثلاثة أيام حداداً على السيد الصدر وهذا عمل سياسي محسوب عليه.
– نعم وطبعاً هذا كان محسوباً عليه واوجب انتقاد البعثيين له والنيل منه .
نريد أن نعرف من حضرتكم ماذا كان رأي البعض تجاه ما حدث للسيد؟
-البعض شتمت قليلاً؛ وكما تعرف هناك بعض الأشخاص يريدون استغلال حوزة النجف ولديهم حساسية ممن يعلو ويبزغ نجمه وهم معقدون بعقدة النقص .
كما تعلم فإن البعض يحبون النفع المادي والاستفادة من الخلاف فيقولون فلان هو الأعلم، وفلان الأتقى، لكنني شخصياً لا اوافق على التفرقة والحساسيات.
سماحة الشيخ، نفهم من ذلك أن المسألة لم تكن مسألة فكرية بل نفسية؟
– نعم، هؤلاء جهلة، معظمهم من الجهلة قليلي العلم أو فاقديه.
ما التيار الذي كان سائداً في الحوزة؟
-كان هناك عدد لابأس به يثير تلك الإنقسامات، الفضلاء يكونوا مؤدبين حتى لو لم يرق لهم طريق السيد الصدر رحمه الله فإنهم كانوا يحترمونه، لأنه عالم، لأنه مفكر ولديه خطة سياسية، فهم يعلمون أنه يوجد اختلاف بين فقيه وفقيه، بين سياسي وسياسي، هذا ليس مشكلة عندهم، الجهلة فقط هم من يتبعون تلك الأمور.
شيخنا الجليل ما بين فترة انتفاضة صفر والإنتفاضة الشعبانية هناك حرب صدام، فهل هناك فترة أخرى مهمة؟
-لا، أهم شيء تلك الفترة الممتدة من عام السبعة وسبعين حتى عام التسعين؛ فترة الثلاثة عشر عام التي تشمل الحرب وكل تلك الفترة كنّا نعيش في محنة تلو المحنة، استمر الوضع هكذا قبل الحرب وأثناءها وحتى في بداية انتصار الثورة الاسلامية حين بدأ الناس يحتفلون ويهنئون بعضهم بعضا ويوزعون الحلوى، كان المؤمنون يقولون مبارك للسيد الخميني نجاح الثورة الإسلامية ومبارك لنا احبابه .
هل تذكرون ما فعل السيد الخوئي(قدس سره ) عند ارتحال السيد الخميني؟
– كان يتحاشى أن يفعل شيئاً ولكنه تألّم كثيراً لهذا الأمر واعتبره فاجعة .
هل عطّل درسه أم لم يكن مسموح بذلك؟
-لم يكن باستطاعة أحد أن يتكلم أو يفعل شيئاً.
بإمكانكم أن تتذكرون تلك المضايقات التي حصلت خلال حكم صدام آنذاك؟
كنا نعيش أقصى درجات المحنة والملاحقة خاصة حين بدأت الحرب مع إيران، واستمر ذلك حتى وفاة السيد الخوئي(قدس سره)، كلها معاناة لا توصف، أمّا المحنة الأشد والتي لا يمكن وصفها باللسان فهي حالة التضييق التي كنّا نعيشها سنين الحرب.
القسم الثانی من الحوار سینشر قریباً
السلام عليكم ورحمة الله
امل الحصول علي المساعدة في تحميل مجلة صلاة الجمعة
ولكم كل الشكر