خاص الاجتهاد/ الأمة الإسلامية و ضرورات استعادة المبادرة الفقهية في تحقيق العدل العالمي

تمهيد في إشكالية العلاقة بين الفقه والزمن

من مضاعفات الفقه السلبية هي هيمنة الاتجاه الفردي على أغلب المناهج والمدارس المألوفة فيه وتجاهل الأبعاد الاجتماعية والسياسية فضلا عن الحضارية في الأنساق المعرفية الفقهية و الأدوات المنهجية في صناعة الفتوى والحكم الشرعي.حيث لا ينظر الفقهاء المسلمون في الأعم الأغلب إلا من إطار تأريخي و يقللون الاهمية والاهتمام بالمنهج الكفيل بوضع حلول فقهية لخروج البشرية مما هي واقع فيها في كل زمن. الفقيه  غير المنخرط في الزمن لن ينفعه انخراطه في الفقه. لأن المفاسد والإشكاليات و حسب التعبير القرآني، الظلمات التي يقع فيه الإنسان والمجتمع تختلف صورها و أشكالها من عصر إلى عصر و الغافل عن هذه الأنماط والصور و حقيقة العلاقات المتجددة في العالم بين الشعوب والدول لا يكونمتمكنا من استحصال الحلول واستنباط الأحكام الصالحة والفعالة، أؤكد على هاتين الصفتين التين تضمنان التأثير العملي والواقعي للتغيير والإصلاح.

ضعف الرؤية السياسية والاجتماعية في الفقه والمنطق التبريري للظلم

لأسباب تأريخية كثيرة جدا، نجد أن الفقه القائم في المسلمين لا يشتبك مع المستجدات السياسية و قد يكون من أهم المسببات لهذه المعضلة هو العلاقة التأريخية بين أغلب المدارس الفقهية وأنظمة السلطة، والتي انتهت في الأخير بانتصار مدوي للسلاطين والحكام في ترويض الفقه والفقهاء في العالم الإسلامي والسيطرة على الاتجاه الفقهي و هي قد تمثلت في تحول المؤسسات الفقهية والدينية جزءاً تابعاً لمؤسسات الدولة أو الحكام فبما أن أغلب الحكام كانوا من الظلمة والفاسدين وأن الأنظمة السياسية في تأريخ المسلمين تأسست واستمرت على ممارسة القمع والظلم والاضطهاد، لم يكن بمقدور الفقهي المعتاش في جهاز السلطة والمنخرط في مصلحته مع السلطان أن يفكر بمواجهة الظلم والجور بل الأسوء هو أنه تحول في حقب كثيرة إلى المانح للغطاء الشرعي للحاكم الفاسد على حساب المقاصد الأساسية للشرع والشارع و على حساب مصالح الناس والمؤمنين. ظاهرة وعاظ السلاطين لم تك ماضية في طبقة الوعاظ ولكن في طبقة الفقهاء والمفتين أيضا. لنا تجاربة حية أمامنا، انظروا إلى طبقة الفقه و الإفتاء في السعودية و الغطاء الرخيص الشرعي الذي ينتحلونه و يفبركونه للطبقة السياسية السعودية في تدمير العراق واليمن وسوريا و كل مكان. هذا هو الدور التأريخي الذي لعبه أغلب جهاز الفقه. عليه فأصبح الفقه على منهجية خطيرة و هي إما الصمت والتجاهل واللامبالاة أو والعياذ بالله إلى جهاز الاتجار بالحكم الإلهي و تزويره لأجل التستر الشرعي على جرائم الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين و غيرهم من الأجهزة السياسية. كتاب الأحكام السلطانية و غيره شاهد على تشكّل ثقافة فقهائية تتصالح مع الولي الحاكم والسلطان بل تبرر له كل ما يفعله من جرائم. وإنّ الأدوات المنهجية لذلك هي شبكة معقدة يحتاج تبيينها إلى تأملات و فرصة ملائمة ولكن ظواهر الاختلاق للنصوص، الغطاء السياسي للفقيه، الرؤية الحديثية القابلة للتأويل والتبرير، ممارسة الضغوط السياسية على الذي يقاوم،الخوف من بطش الحاكم فممارسة التقية وتجنب الانخراط في الشأن السياسي، الانحراف في أبحاث فكرية و أصولية تسمح بجريان منهجية انحرافية في فهم الإسلام، تحييد الأئمة وأهل البيت الأمناء على المناهج الصحيحة في فهم الاسلام و تفسير القرآن الكريم،شن حملات إعلامية و حروب نفسية في وجه التيار الصالح من العلماء والتشهير بهم بأجهزة السلاكين الإعلامية و العشرات من الوسائل الأخرى كانت من جملة ما أدت في الأخير إلى تكريس فقه لا يدعو إلى مكافحة الظلم والظالمين على المستوى السياسي والدولي بل يبرر الظواهر التعسفية والمجرمة على مستوى السلاطين والحكام. يصل الانهيار الخلقي والانحراف المنهجي ببعض هذه المدارس الفقهية إلى درجة أنهم يقفون في وجه أي حركة ثورية أو دعوة إصلاحية حتى لو كان المصلح والداعية إلى الإصلاح هو سيد الشهداء ضد يزيد بن معاوية مبررين ذلك  بأشياء لا تمت إلى الإسلام و مقاصده بصلة و لعل ابن خلدون يُعتبر من الأصوات الواضحة والكارثية في تغليط حركة الحسين و تخطئته باعتبارها ثورة أتت في غير محلها فساهمت في إضعاف الدولة و شوكتها من جهة و لم تكن لها المقومات الدولية والتي من أهمها توافر ما يسميه صاحب المقدمة بالعصبية!

الانهيار المبكر للمرجعية القرآنية المعرفية في الإسلام

مما يؤسف له هو أن أحداثاً مبكرة في التأريخ الإسلامي أحدثت فجوة خطيرة في مناهج العلم والعمل الإسلاميين و هي تحييد الثقافة والمنهجية القرآنية عن حركة الفكر والفقه بل عن غيرها من الحركة العلمية في الاختصاصات الأخرى كالكلام والعقيدة والأخلاق. و معلوم أن القرآن الكريم هو المصدر المعني بوضع المعائير والموازين الكلية التي لو ضاعت أو تم التستر عليها و كتمانها حسب التعبير القرآني نفسه فإنه يؤدي إلى التخلل المنهجي و فقدان التعادل والتوازن والتناغم الفكري. و الاختلال المنهجي بدوره يسبب منح الفرصة الكافية للمستغلين المبتزين المترصدين ليفعلوا ما يريدون دون رادع أو عائق بل يتمتعون بما يشتهون من الحجج والذرائع والمبررات لمواصلة الجريمة والظلم و أجنحة الفتوى الصائنة الحامية الداعمة له ترفرف فوق رأس الحاكم و لعله يتوهم أنه بقتله خير الناس و تدمير البلاد يقوم بالأمر المستوجب للأجر والثواب! و هذا الانجاز الكبير كله تحقق على يد طبقة من العلماء والفقهاء الخاضعين لأدبيات التطميع والتهديد.

إن القرآن الكريم تحول إلى كتاب يُقرأ و يُتلى بأروع الصور والحديث في الصحاح أصبح المرجعية الأساسية لصناعة الفقه و الأدوات النصية الأساسية لدى الفقيه المتنعم بألطاف السلطان و آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم كما تشاهدون. الفقهاء والحكام هم شركاء المشروع والنتيجة هي خراب الأمة.

والحال أن القرآن الكريم هو كتاب واضح معالم خطابه في استهداف الاستكبار والظلم والهيمنة على البشرية و ممارسة الظلم في حقهم وأن قيام الناس بالقسط من أولى وأهم المقاصد القرآنية الأساسية في إرسال الرسل وإنزال الكتب فيجب أن يكون استهداف الظلم والظالمين و إعزاز المجتمع بكل أطيافه ومكوناته، من الغايات المركزية لحركة صياغة الفقه والحكم الشرعي وأن يتم إماطة اللثام عن كل حكم يسمح بتسلّل الظلم والعتو والطغيان تحت عناوين زائفة عليها أمارات صورية للشرع.

سيرة الأنبياء العظام والرسل في أولوية مواجهة الطواغيت والجبابرة والسلاطين الفاسدين قد اتخذت حيزا لافتا كبيرا من النص القرآني الذي لا يأتي الباطل من بيد يديه ولا من خلفه و هو نص مرجعي تأسيسي حاكم على جميع الأدلة والمصادر الأخرى. من أهم هذه العناوين هو الصراع الإلهي المكشوف الواضح مع الذين كانوا يحتلون بيوت المؤمنين و يخرجونهم من ديارهم حسب التعبير القرآني، والأمر الإلهي على قتال المعتدين بكل مظاهر الاعتداء كان أمرا مباشرا و هو الفلسفة الأساسية لكل الغزوات والحروب التي خاضها النبي  ضد الكفار والمشركين. لم يكن شيئ من تلك الحروب والمعارك سببه يعود إلى الاختلاف العقيدي لأسباب يقينية تكتشفونها لو راجعتم الآيات بل كان الأمر بالحفاظ على السلم والأمن والوئام مع الجميع بما فيهم المشركين أمرا واضحا في القرآن الكريم ولكن الحرب والقتال كان مشروعا لردع الظالم عن ظلمه و لمنع إخراج الناس من بيوتهم و عرقلة حركة الاحتلال في حق المدن والبيوت و هي ظاهرة لا تزال مستمرة ولكن الفقيه والفقه اليوم ساكتون أو يدينون الاحتلال بخجل و تواضع و بصوت خافت. كيف أجهزة الفقه التابعة للأنظمة التي تلهث وراء التطبيع والوفاق مع المحتل والمستكبر والمستبد الديكتاتوري يمكن أن ينتج فقهاً و يؤهلا فقيهاً يقوم بصياغة النظريات والأفكار والفتاوى الرسمية لمكافحة الاحتلال والاستكبار والاستبداد و الفقيه نفسه له الارتباط العضوي الرسمي مع تلك الأجهزة؟ هذا ما تطلب من العالم المنخرط في فساد الدولة أن يترك القرآن الكريم جانبا منذ أزيد من ألف سنة إلى اليوم لأن القرآن الكريم فيما يتصل بمواجهة الظلم محكم والأحاديث المتراكمة باتت متشابهة فلو أخذ الفقيه بمحكم القرآن و ترك متشابهات النصوص يملك القدرة على القول الصريح إلا أن هذا غير متيسر له فالنتيجة كانت إقصاء القرآن الكريم إلا للتجويد والقراءة و تزيين المجالس في السعودية و مصر و غيرهما من الدول العربية و غيرها.

طبعاً لو نظرنا إلى المقلب الآخر من الأمة أي الاتجاه الشيعي في الفقه نجد أن مواجهة الفساد والظلم أمرا أساسيا ولكن الإمام الخميني هو في الآونة الأخيرة من تأريخنا الاسلامي الأول ممن وضع بابا في الفقه أسماه بباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و نظّر فقهيا بصورة محكمة و ممنهجة لفقه العدل و عدالة الفقه السياسي و ضرورة أن يكون الفقه هو الخط المتقدم لمواجهة الطغيان. مما يمكن التأكد من أنه حتى في فقه الشيعة و لكن لأسباب أخرى يختلف عن الاعوجاج الفقهي السني،لم يعد الكفاح ضد  الهيمنة والاستكبار والاستبداد والظلم من مقاصد الفقه و قواعده السياسية والاجتماعية. هنا أيضا في الأعم الأغلب كان و لا يزال إلى حد كبير الفقه لا ينخرط في الشأن الاجتماعي السياسي ولا اهتمام لهم كما ينبغي بالتنظير والتقعيد الفقهي لأجل تمكين الدولة الإسلامية من القيام بمهامه رغم وجود طفرة مدهشة في الفقه السياسي الشيعي في جانب مكافحة الفساد والظلم. ولا ننسى أن الفقه السياسي السني متقدم على الفقه السياسي الشيعي ولكن الفقه السياسي في المدارس السنية لم يكن يستهدف التغيير الجذري في المشروع السياسي بل كان قد ترعرع في أحضان السياسة و تحول حاميا لها ولكن الثاني كان قد حمل دلالات مختلفة في المشروع السياسي ارتبطت بمفهوم الإمامة و شروطها الأخلاقية و بخاصة شرط العدالة فباتت الحكومة السياسية بدون تحقق شرط العدالة حكومة باطلة في الفكر الشيعي. على كل حال و بعيدا عن منطق التفاضل والتقارن إن الاشكالية في النتيجة سائدة في العالم الاسلامي اليوم علينا العمل الفكري والمنهجي على الإصلاح و تقدم الفقه والفقيه في الصف الأمامي لمواجهة الظواهر الفاسدة الكوينة و الحؤول دون المزيد من خراب الإنسانية في العالم المعاصر.

المفکر و الباحث الإسلامي/ محمد علي میرزائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky