الاجتهاد: إن توسيع دائرة الفقه لتشمل الأخلاق، ودراسة المسائل والموضوعات الأخلاقية من زاوية التكليف، يعود بالكثير من الفوائد على الأفراد والمجتمع، وإن وجود هذه المنافع يستدعي جواز ـ بل وضرورة ـ بحث الموضوعات الأخلاقية من زاوية علم الفقه والتكليف.
وإن أهمّ هذه الآثار والفوائد هي:
1ـ إن اتساع الفقه لدائرة الأخلاق ينتشل الأفعال والأخلاق الفردية والاجتماعية للناس من الهرج والمرج، وعدم القيود المحدّدة، ويؤدّي إلى إندراج الموازين الأخلاقية ضمن أُطُرها الشرعية الصحيحة.
ويعود السبب في ذلك إلى أن الأخلاق عندما تستند إلى المصادر المختلفة، والأفهام المتفاوتة، والمدارك المتنوِّعة، والآداب الاجتماعية المتضاربة، فإن كلّ شخصٍ سوف يعمل على تفسير الأخلاق والموازين الأخلاقية، ويعمل على تطبيقها استناداً إلى كلٍّ من تلك المصادر المختلفة، وهذا بدَوْره يؤدّي إلى ظهور أشكال متعدّدة من الأخلاق في المجتمع، ورُبَما تكون متضاربةً أحياناً؛
وأما عندما يتمّ بحث الأخلاق من قِبَل المتخصِّصين في الدِّين ـ الذين هم الفقهاء ـ، ويتمّ استنباط الإرشادات واستخراج التعاليم الأخلاقية من مصادرها الأصلية والكاملة، ونعني بذلك القرآن والسنّة، فإنه يمكن لها أن تكون أخلاقاً صحيحةً ومستندة إلى موازين الشرع والدِّين. وبالتالي فإن أخلاق الأفراد في جميع المجتمعات والأماكن سوف تكون واحدةً، وذات حدود واضحة ومتعيِّنة.
2ـ والفائدة الثانية التي تترتَّب على بحث الأخلاق فقهياً تكمن في تعرّف أفراد المجتمع على وظائفهم بشكلٍ دقيق؛ ببيان: إنه في بحث التعاليم والمفاهيم الأخلاقية فقهياً يتمّ تحديد مقدار اعتبارها بشكلٍ دقيق، ويتّضح ما إذا كان كلّ واحدٍ من هذه المفاهيم والتعاليم الأخلاقية هو من النوع الواجب أو الحرام أو المكروه أو المستحبّ أو المباح.
وقال أحد المحقِّقين المعاصرين في هذا الشأن: «إن الفائدة التي تُجنى من بحث المسائل الأخلاقية على المستوى الفقهي هي أنها سوف تتمتّع ببيانٍ قاطع ومحدَّد؛ فإن الفقه حيث يفيد حدوداً مختلفة، ويبيِّن لكلّ واحد من الأمور حدّاً معيناً، فإنه يُحْدِث مثل هذه الخصائص في المسائل الأخلاقية.
وبعبارةٍ أخرى: إن بحث المسائل الأخلاقية فقهياً سوف يُخرج المكلَّف من حالة الحَيْرة وانعدام التكليف؛ حيث يتبيَّن له بشكلٍ قاطع ما الذي يجب عليه فعله؟ وما الذي يجب عليه عدم فعله؟»([50]).
3ـ الفائدة الثالثة من هذه التوسعة هي أن الأخلاق تكتفي في الغالب بالإرشادات والتوصيات العامّة، ولا تبدي رأياً في مورد الجزئيّات وفروع الموضوعات المختلفة؛ وأما في الفقه فيتمّ بحث جميع جهات كلٍّ من الموضوعات الابتلائية، بواسطة الاستعانة بالأدلة الواردة في ذلك الموضوع بشكلٍ عامّ أو خاصّ، ثمّ يتمّ بيان حكم تلك المسألة ـ سواء في المورد العامّ لذلك الوضوع أو في كلّ واحدٍ من جزئياته ـ، وهذا يؤدّي بالأفراد إلى التعرُّف على وظائفهم في مقابل كلّ واحدٍ من الجهات والأنحاء المختلفة للمسائل الأخلاقية.
وقال مؤلِّف «فقه پژوهشي قرآني» في هذا الشأن: «إن التعاليم الأخلاقية تحتاج في بعض الأحيان ـ بسبب اختلاف حالات الإنسان في التعاطي معها ـ إلى البحث والتحقيق في مختلف جوانب وشرائط الموضوع والحكم.
ومن ذلك أن القرآن الكريم يُشير في قوله تعالى: ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ﴾ (المجادلة: 11) إلى عملٍ استحبابي، وهو التفسُّح للآخرين في المجالس، إلاّ أن ذات عملية التفسُّح لها شرائط مختلفة.
ولا شَكَّ في أن الأشخاص والحالات تختلف؛ كأنْ يكون الشخص في دعوةٍ أو لا يكون في دعوةٍ، أو يتناسب التفسُّح مع حضوره أو لا يتناسب، فهذه أمورٌ وحالات مختلفة.
فقد لا يكون هناك معنىً لهذا «التفسُّح» في بعض الموارد، ويؤدّي إلى إرباك المجلس، وتعمّ الفوضى بين الحاضرين، ورُبَما ينطوي عدم التفسُّح في بعض الأحيان على إهانةٍ أو إيذاء أو استهزاء، وبذلك يكون هذا العمل محرَّماً. فيجب مراعاة جميع هذه الحالات في هذه المسألة الأخلاقية.
وإن رعاية جميع جهاتها، وبيان أحكام كلّ واحدٍ من هذه الوجوه المختلفة، وموضع بحث جميع هذه الموارد والحالات، إنما يكون في علم الفقه»([51]).
4ـ أما الفائدة الرابعة المترتِّبة على بحث المفاهيم الأخلاقية فقهياً فهي إيجاد الحافز والمزيد من الاهتمام والعمل بهذه المفاهيم.
إن هذه الحوافز والاهتمامات يتمّ إيجادها على بُعْدين: البُعْد الأوّل: انتساب التعاليم الفقهية إلى الوحي والإله؛ بمعنى أن الأحكام والقوانين الفقهية ـ خلافاً لجميع التعاليم الأخلاقية ـ تنشأ من الدِّين والوحي الإلهي.
وعلى هذا الأساس عندما يدرك الأفراد في المجتمع أن هذا التكليف الذي تمّ بيانه يمثِّل الوظيفة الدينية وكلام الله يحصل لديهم دافعٌ أكبر للقيام به وامتثاله؛ والبُعْد الثاني: وجود الثواب والعقاب في التكاليف الفقهية. ومن هنا عندما يعلم المكلَّف أن القيام بالفعل الأخلاقي أو تركه يعود عليه بمثل هذه النتائج فإن الحافز لديه إلى العمل بهذه التعاليم الأخلاقية سوف يتضاعف.
5ـ والمنفعة الأخرى المترتِّبة على بحث المسائل الأخلاقية فقهياً، والتي يمكن عدُّها من أهمّ فوائد دخول الفقه إلى دائرة الأخلاق، هي أن توسيع الفقه ليشمل الأخلاق يؤدّي إلى العمل بالتعاليم الأخلاقية للدِّين، وعدم تجاهل هذه التعاليم الأخلاقية؛ والسبب في ذلك أن الكثير من المسائل الأخلاقية يتمّ تجاهلها ولا تحظى بالاهتمام الكافي؛ بحجّة أنها مجرّد مفاهيم أخلاقية، وأن امتثالها أو تركها لا يستتبع غير الثناء أو الشَّجْب الأخلاقي،
ولكنْ عندما يتمّ ربط هذه التعاليم بالشرع والدِّين، ويندرج كلٌّ منها تحت عنوانٍ من الأحكام الشرعية الخمسة، من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، فإن الأشخاص المتشرِّعين ـ في الحدّ الأدنى ـ سوف يُبْدُون تجاهها ذات الاهتمام الذي يُبْدُونه تجاه الصلاة والصوم ونظائرهما من التكاليف الشرعية، ويعملون بها. وبذلك فإن هذا الأمر سوف يُدخل التعاليم والمفاهيم الأخلاقية إلى مسرح الحياة العملية للناس.
يُضاف إلى ذلك أن الضمانة التنفيذية الموجودة في الإلزامات الفقهية، وعدم وجود مثل هذه الضمانة بالنسبة إلى المسائل الأخلاقية، يشكِّل مؤيِّداً آخر يمكنه أن يوجب الاهتمام والمزيد من العمل من قِبَل الأفراد بالتعاليم الأخلاقية في مثل هذه الحالة.
المصدر: مقتطف من مقالة بعنوان توسعة الفقه لاستيعاب الأخلاق / الضرورة والآثار/ بقلم
نصوص معاصرة