تقسيم أبواب علم الأصول ومناقشتها .. الشهيد السيد محمد الصدر

تقسيم أبواب علم الأصول ومناقشتها .. آية الله الشهيد السيد محمد الصدر

خاص الاجتهاد: يذكر الشهيد آية الله السيد محمد الصدر في كتابه” أصول علم الأصول “بعض الأشكال والأطروحات للأصوليّين المتأخرين في ترتيب وتقسيم أبواب علم الأصول ، منها تقسيم الآخوند الخراساني والعلامة المظفر وتقسيم الشهيد محمد باقر الصدر ثم يناقشها ويذكر المختار لترتيب علم الأصول أخيراً.

يعتقد جملة من الأصوليين المتأخرين أنَّ من الأفضل ترتیب أبواب علم الأصول وتقسيمه تقسيماً منطقياً صحيحاً (1)؛ وذلك أننا في أي علم لا ينبغي لنا أن نذكر أبوابه بشكل مشوش ومشتّت، بل إننا لو التفتنا لوجدنا له بالدقة نظاماً خاصاً يسير عليه، فيتعين أن ننظم أبوابه بذلك النظام، وهذا معنی يشمل أكثر العلوم بل كلها، بما فيها علم الأصول.

وهذه القاعدة وإن كانت قابلة للمناقشة في بعض تفاصيلها، إلا أنه مما لا ينبغي إنكاره أنَّ من الأفضل تطبيق ذلك إلى حد الإمكان، فإئه خير من العدم، أي: من التشويش الذي يضلل المؤلف والقارئ معاً.
وقد حصل للأصوليّين المتأخرين عدة أشكال من الترتيب، يعتبر كل منها اقتراحاً أو أطروحة في إمكان ترتيب علم الأصول بالشكل المقترح..

ومن هنا قد تكون تلك الأطروحة قابلة للمناقشة، مما يؤدي إلى رجحان تغيير الترتيب.

ونحن فيما يلي نذكر بعض الأطروحات، ثم نجد أنها قابلة للمناقشة أم لا؟ ثم ندخل في المعنى المختار لترتيب علم الأصول:

تقسيم الآخوند الخراساني رحمه الله

الأطروحة الأولى : ترتيب الكفاية، حيث قسم مباحث علم الأصول أساساً إلى قسمين: مباحث الألفاظ والمباحث العقلية. ويراد بمباحث الألفاظ : كل قياس دخلت فيه مقدمة ظهورية صغرى أو کبری، سواء كانت الأخرى ظهورية أم عقليّة.

ويراد بالمباحث العقلية: ما يقابل ذلك، وهو كلّ قياس تخلو مقدماته من الاستدلال بالظهور، بل تكون كل المقدمات عقلية محضة.

ثم قسّم كل قسم من هذين إلى أقسامه المعروفة.(2)

مناقشة تقسيم الآخوند الخراساني لـ أبواب علم الأصول:

إلا أن هذا التقسيم قابل للمناقشة من عدة جهات:

أولا: أنه يحتوي على مباحث غير أصولية قطعاً، كما عرفنا في تعريف علم الأصول، كموضوعات العلوم والوضع والمعنى الحرفي واتحاد الطلب والإرادة وغيرها.
ثانيا: أن غالب المباحث العقلية فيها مقدمات ظهوريّة، كالبحث عن حجية الظهور أو ظواهر الكتاب أو خبر الواحد أو البراءة الشرعية أو الاستصحاب. فكيف أمكنه إدراج هذه المباحث ضمن المباحث العقلية؟

ثالثا: أن البحث في كثير من موضوعات مباحث الألفاظ عقلي خالص، کالبحث عن بساطة المشتق أو الواجب المعلق أو الشرط المتأخر، وكذلك الملازمة بين الأمر بالشيء وحرمة ضده أو وجوب مقدمته.

رابعاً: إلحاق باب الاجتهاد والتقليد بالأصول مع أنه فقهي محض.
خامساً: إهمال البحث في عدد من المباحث التي ينبغي إلحاقها بعلم الأصول، مما حذفه المشهور، کالبحث عن حجية السيرة بأنواعها والقياس بأقسامه

تقسيم العلامة المظفر لـ أبواب علم الأصول

الأطروحة الثانية: ترتيب الشيخ المظفر “قدس سره” في أصوله (3)، حيث قسم علم الأصول إلى أربعة أقسام، هي: مباحث الألفاظ و مباحث الملازمات العقلية و مباحث الحجة ومباحث الأصول العملية. و زاد في بحث الملازمات على الأسلوب المشهور، البحث في المستقلات العقلية، كما زاد في مباحث الحجة البحث في القياس.

مناقشة تقسيم العلامة المظفر لـ أبواب علم الأصول

وهذا الترتيب وإن كان أدق في الجملة من سابقه، إلا أنه مع ذلك۔ يواجه جملة من الإشكالات:
أولا: أن مثل هذا التقسيم يحتاج إلى تعريف كل قسم بشكل كامل؛ لئلا يلزم منه – ولو احتمالا – تداخل الأقسام أو شمول عناوين بعضها لما ذكره في القسم الآخر.
ثانياً: أنَّ الترتيب الداخلي لكل قسم – أعني: الحصص المندرجة فيه – غير مرتبة ترتيباً منطقياً، بل مذکورة على منهج المشهور..
ثالثاً: أنّ التقسيم الرباعي اختیاری؛ باعتبار اندراج كل الموضوعات المبحوثة مشهوريّاً فيها، وليس بنحو القسمة الحاصرة.

رابعا: أنه ” قدس سره” أدخل في علم الأصول ما ثبت أنه لا دخل له في الاستنباط، ولا يندرج في التعريف قطعاً، کالوضع والمعنى الحرفي والمشتق وغيرها.

خامسا: أنه زاد في علم الأصول مالا ينبغي إدراجه فيه، وهي المستقلات العقلية، لو قلنا أنه لا يندرج فيه إلا ما ثبت أثره فعلا؛ لأنّ الصحيح هو عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

سادساً: أنه ذكر من الأدلة التي يمكن الاستدلال بها خارج نطاق علمائنا، ذكر القياس فقط، وترك الأدلة الأخرى، كالمصالح المرسلة وسدّ الذرائع ومذهب الصحابي وغيرها، مع أن الملاك فيها واحد، وهو احتمال دخلها في الاستدلال، وكون الحديث في القياس أكثر فائدة لا يبرر الاقتصار عليه.

سابعاً: ذكر الدليل العقلي في مباحث الحجة، في حين أنه أنسب ببحث المستقلات العقلية كما هو واضح ممن يفكر .

ثامناً: كان اللازم التعبير بالأمارات بدل مباحث الحجة، فإنّ الأمارات هي التي تثبت لوازمها، وأما معنی الحجة فهو أعم من ذلك.

تاسعاً: التعادل والتراجيح لفظ خاطئ لغوياً؛ إذ لم يرد جمع الترجيح على تراجيح.
والمهم الآن أنه يشمل معارضة أي دليلين، كالأمارتين أو الأصلين أو الأصل مع الأمارة، فلماذا اقتصر على أحدها متابعة للمشهور؟

عاشرة: الحديث عن النسخ استطرادي أكيدة. إلى غير ذلك من الإيرادات

تقسيم أستاذنا الصدر لـ أبواب علم الأصول

الأطروحة الثالثة: ترتيب وتقسيم أستاذنا الصدر لعلم الأصول (4)، ويمكن أن نعرضه کما يلي:
إنَّ الحكم إما معلوم تفصيلاً أو معلوم إجمالاً أو غير معلوم أصلاً، وعلى الأخير إما أن يكون الدليل عليه محرز أو لا يكون محرز، والدليل المحرز إما أن يكون شرعياً أو عقلياً، والشرعي إما أن يكون لفظية کالمفاهیم، أو لبي كالإجماع، والدليل العقلي هو الملازمات العقلية بأنواعها، کملازمة الأمر بالشيء لوجوب مقدمته أو لحرمة ضده.

والدليل غير المحرز هو الأصول العمليّة، وقد ذكر فيها: مباحث البراءة والعلم الإجمالي، ودوران الأمر بين المحذورين، وبين التعيين والتخيير، وكذلك الاستصحاب. تم ذكر صور التعارض بين الأدلة مطلقاً، يعني بكل أصنافها.

مناقشة تقسيم أستاذنا الصدر

ويمكن المناقشة في هذه الأطروحة بعدّة أمور :

أولاً: أنه ذكر القطع عدّة مرات: مرة في مبحث القطع، ومرة في الأسباب التي توجب القطع کالتواتر والإجماع المحصّل، و مرة في العلم الإجمالي، خلال عنوان الأصول العمليّة.

ثانياً : أنه ذكر العلم الإجمالي مرتين، مرة مع القطع وأخرى مع الأصول العملية.
ثالثاً: أن مبحث القطع إن كان يشمل كل أسبابه، إذن فهو يشمل جميع أبحاث الملازمات العقلية، مع أن المفروض خلاف ذلك مشهورياً، وهو أيضا لا يعترف به.

وبتعبير آخر: إن كان المطلوب في مبحث القطع الاقتصار على عنوانه. إذن فينبغي إخراج كل أسبابه حتى التواتر والإجماع، وإن كان يشمل الحديث عن أسبابه دخلت مباحث الملازمات.
رابعاً: أنه ذكر أموراً لا دخل لها في الاستنباط، کا عرفنا مکررة، مثل: المعنى الحرفي ومداليل الجمل الخبرية والإنشائية ووضع الهيئات.

خامساً: أنه تأثّر بالمنهج المشهوري؛ أنه ذكر الواجب المشروط والواجب المعلق والتّوصلي والتعبّدي والتخييري في مبحث مقدمة الواجب، مع أنها جميعاً لا ترتبط به حقيقة؛ بل ينبغي کتابتها بعناوین مستقلة.
سادسا: أنه ترك مبحث المشتقّ بعنوان لأنّه لا أثر له في الاستنباط، مع أنه دخيل احتمالاً، وكل ما كان كذلك لزم ذكره؛ لأنّ الشقّ الآخر للاحترال هو كونه دخيلاً في الاستنباط، هذا مع العلم أنه ذكر أمور لا دخل لها قطعا فيه كما أشرنا.

سابعاً: أنه ترك بحث النواهي بلا مبرر، مع وضوح دخله في الاستنباط.
ثامناً: أنه لم يرتب كثيرة من أبحاثه – بل كلها- بأسلوب حاصر بالقسمة الحاصرة المنطقيّة. وأوضح ما جاء مشوّشاً من هذه الناحية” الأصول اللّفظية والأصول العمليّة.

التقسيم المقترح لمباحث علم الأصول

الحصر المقترح: الدليل إما أن يكون موجوداً أو أن لا يكون موجوداً، فإن كان موجوداً فهو إما قطعي أو غير قعطي، والدليل القطعي إما منتج للقطع التفصيلي أو للقطع الإجمالي أو العلم الإجمالي.

والدليل غير القطعي إما عقلي أو شرعي، والشرعي إما لفظي أو غير لفظي، واللفظي إما مباشر أو غير مباشر (وهو المفاهيم)، والمباشر إما له محركيّة أو لا، وما له محركية إما أمر (وهو الأوامر) أو نهي (وهو النواهي)، وما ليس له محركية إما له شمول أو ليس له شمول، وما له شمول فشموله إما بمقدمات الحكمة (وهو الإطلاق) أو بأدوات العموم (وهو العموم) وما ليس له شمول، فإما أن يكون بيّن المعني (وهو المشتق) أو لا يكون بيّن المعنى (وهو المجمل).

والدليل الشرعي غير اللفظي (وهو اللبّي) إما ناتج من عمل العقلاء وهو السيرة العقلائية) وإما من المتشرعة (وهو سيرة المتشرعة) أو ارتکاز أحد الاثنين، أو ناتج من العلماء، وهم إما خاصة (وهو الإجماع) أو أشمل من ذلك (وهو إجماع علماء المسلمين).

والدليل العقلي إما مباشر أو غير مباشر، والمباشر إما مدرَك بالعقل النظري (كاشتراط القدرة في التكليف) أو بالعقل العملي (كالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع) أو غير مباشر، والأخير إما بحث عن الواجب نفسه أو عن مقدمته أو عن ضده.
والمقدمة إما للوجوب أو للواجب، ومقدمة الواجب إما متقدّمة عليه أو مزامنة له أو متأخرة عنه، كما أن المقدمة قد تصدق قبل فعلية الوجوب وقد تصدق بعدها، فالأخير هو المقدمة المتعارفة، والأولى هي المقدمات المفوتة.

وأما عند عدم الدليل، فإما أن يكون للشيء حالة سابقة أو لاً، فالأول مجرى للاستصحاب، والثاني مجرى للبراءة العقلية أو الشرعية.
والأصول إما ساذجة أو متعارضة، والتعارض إما بين طرفين متساويين أو غير متساويين، والمتساويين إما محصوران (وهو الشبهة المحصورة للعلم الإجمالي) وإما غير محصورین (وهو الشبهة غير المحصورة)، أو بين حكمين متضادين (وهو الدوران بين المحذورين).. وغير المتساويين إما ارتباطيان أو لا، وعلى الثاني يكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، كما قد يكون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

فهذا هو حاصل التقسيم، وبه أسقطنا ما ينبغي إخراجه عن علم الأصول، وهو ما لا ارتباط له قطعا بفراغ الذمة، كما سبق أن ذكرناه.

ويمكن ملاحظة أن التقسیم کان بلحاظ الدليل، ولكن يمكن أن يقال: إنه تقسیم غیر منحصر، بل يمكن أن يكون بلحاظ الموضوع، فإذا اخترنا أن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة – وسيأتي التعرض لذلك – أمكن تقسيم الحال إلى فرض وجودها تارةً و إلى فرض عدمها أخرى.

فمورد عدمها هو مورد الأصول العملية التي قد تكون شرعية وقد تكون عقلية، و مورد وجودها يلحقها الحكم الخاص بها، كالبحث عن ظواهر الكتاب أو عن حجية خبر الواحد وهكذا. وكذلك يقع الكلام في فرض تعارضها، إلى آخر التقسيم.

كما يمكن التقسيم من حيث الهدف، وهو تشخیص الوظيفة. فإنًّ الوظيفة إما أن تكون حكماً واقعياً أو ظاهرياً أو عقليةً، أو لا يوجد حکم إطلاقاً، والحكم الواقعي إما معلوم تفصيلاً أو إجمالاً، والحكم الظاهري إما أن يقع الكلام عنه كبر أو صغری، فالكبرى مثل حجية الظواهر وحجية خبر الواحد، والصغرى ما كان صغرى لذلك؛ كالمفاهيم والإطلاق والعموم والأوامر والنواهي.

وإذا انعدم الدليل كان مورد الأصول العملية، وهي إما محرزة أو غير محرزة، وغير المحرزة إما شرعية أو عقلية.
تمَّ الحديث عن صور التعارض بين الأدلة.

وبذلك يمكن أن نعرف أن تقسيم علم الأصول – بل أي علم- لا ينبغي أن يقع من وجه واحد، بل يمكن أن يكون على وجوه مختلفة، وكلها تقع صحيحة، بشرط أن تكون من وجهة تسلسلها وانقسامها ذات شرطين:

أولا: أن تكون بنحو القسمة الحاصرة.
وثانيا: أن تكون الأقسام جامعة مانعة، فلا تدخل في العلم ما ينبغي إخراجه، ولا تخرج ما ينبغي إدخاله.

الهوامش

(1) وهو مختار المحقق الكبير آية الله العظمى الشيخ محمد حسين الأصفهاني ” قدس سره” ،وتلميذه آية الله العلامة المحقق الشيخ محمد رضا المظفر ” قدس سره”، راجع أصول الفقه ۵۲:۱، تقسيم أبحاث علم الأصول.

(2) لم يتطرق إلى ذلك التقسيم بالصراحة، غير أن ذلك واضح من خلال مقاصد
الكفاية وفصولها. راجع على سبيل المثال: المقصد الأول من الكفاية، مبحث الأوامر : 59، والمقصد الثاني، مبحث النواهي: ۱۶۷، والمقصد الثالث: ۱۹۱، والمقصد الرابع: مبحث العام والخاص : ۲۱۵، و المقصد الخامس: مبحث المطلق والمقيد: ۲۶۳، والمقصد السادس: مبحث الأمارات: ۲۵۷، وهكذا.

(3) أنظر: أصول الفقه ۷:۱، المدخل، تقسيم أبحاثه .

(4) راجع بحوث في علم الأصول ۱: ۵۷، تمهید: تقسیم علم الأصول، المقترح في
تقسيم علم الأصول، ودروس في علم الأصول 3: ٣۷، وما بعدها، الحكم الشرعي وتقسيماته.

 

المصدر: الصفحة 100 من كتاب” أصول علم الأصول” لآية الله الشهيد السيد محمد صادق الصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky