الاجتهاد: كتاب الأمن والمخابرات في الفقه الإمامي نافذة فتحها الكاتب على عالم الأمن والمخابرات الرحب، مسلّطاً ضوء الشريعة الإسلاميّة عليه، ومحلّلاً نماذجه بمختبر الفقه الإمامي؛ لمعرفة الوجه الناصع له وبيان الموقف الشرعي إزاءه.
هناك مصطلحات قد هجرت معناها الحقيقي وصارت تُعرف بأضدادها، مثل (الاستعمار) الذي يعطي معنى البناء، التطوّر، التوسّع والرقي، لكن كلمة الإستعمار عندما تُذكر الآن ينصرف الذهن إلى الدمار والخراب والجهل والظلام.
كذلك (رجل الأمن) عندما يُذكر يأتي معه القتل، الدماء، الإهانة والاعتداء على الأعراض وغيرها، أمّا عند ذكر (رجل المخابرات)، فبدل أن تشعر بالراحة والطمأنينة إلى جنبه، تراك تتلوّى ألماً وخوفاً مادام قريباً منك.
مصطلحا الأمن والمخابرات وخاصّةً في العصور المتأخّرة دخَلا في ضبابية المفاهيم، فبدلاً من أن يشير هذان المصطلحان إلى حالة الأمن والاستقرار التي تسعى له المجتمعات لتحقيق رفاهيتها وازدهارها، بدأ المصطلحان يقتربان شيئاً فشيئاً من مفهومٍ آخر لدى عامّة الناس ومرعب في الوقت نفسه، ألا وهو مفهوم (إرهاب الدولة) والذي لا يعني إلاّ الدكتاتورية التي تمارسها الدولة بحقِّ رعاياها وإعدام الحرّيات الفرديّة والحقوق الشخصيّة وانتشار الظلم والطغيان والعنف،
فأخذ الناس ينفرون من العمل الأمني والمخابراتي؛ لأنّهم يرونه عملاّ لا ينسجم مع الأخلاق، ينطلق من المبدأ سيء الصيت (الغاية تبرّر الوسيلة)، والقائمين عليه هم أناس قد نزعت الرحمة والشفقة من قلوبهم، فلا توجد في حياتهم إلاّ الشدة والقسوة، وبذلك تحوّل العمل الأمني والمخابراتي من وسيلة يستعين بها الإنسان لتوفير الأمن والاستقرار له ولمجتمعه إلى خطرٍ قد يداهمه في أيّة لحظةٍ فيفقده حرّيته واستقراره، بل وربّما حياته أيضاً.
و كتاب الأمن والمخابرات في الفقه الإمامي نافذة فتحها الكاتب على عالم الأمن والمخابرات الرحب، مسلّطاً ضوء الشريعة الإسلاميّة عليه، ومحلّلاً نماذجه بمختبر الفقه الإمامي؛ لمعرفة الوجه الناصع له وبيان الموقف الشرعي إزاءه ،
فتناول أوّلاً: تعريف الأمن والمخابرات مبيّناً الفرق بينهما، والجذور التاريخيّة للعمل الأمني والمخابراتي، ثمّ تعرّض إلى مسألة الأعمال الرقابية ونظرة الشريعة الإسلاميّة لها، ثمّ بحث بعدها بعض مفردات العمل الأمني والمخابراتي والموقف الشرعي منها، كالتجسّس والتحرّي والاستجواب والتفتيش والتحقيق والاعتقال والاغتيال.
مقتطفات من كتاب : الأمن والمخابرات في الفقه الإمامي
الموقف الشرعي من التحرّي وجمع المعلومات
أوّلاً: في الكتاب الكريم
الآية الأولى: قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُّوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
وجه الاستدلال: إنّ يعقوب (ع) قد طلب من أبنائه أن يتحسّسوا ويبحثوا عن يوسف (ع) وأخيه، وفي هذا إقرار من أحد أنبياء الله في جمع المعلومات عن الآخرين، ويعتبر جمع المعلومات من العناصر الأساسيّة في علم الاستخبارات، ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات {وَلاَ تَيْأَسُوا}.
الآية الثانية: قوله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}.
وجه الاستدلال: إنّ الآية الكريمة ذكرت مبدأ من مبادئ الاستخبارات وهو مبدأ جمع المعلومات، حيث إنّ الظروف التي جمعت فيها المعلومات هي ظروف حرب بدليل قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}.
نلحظ في هذه الآية تطبيق عناصر الاستخبارات التي هي:
1- إقرار مبدأ الحصول على المعلومات؛ إذ أقرّ سليمان (ع) الهدهد، ثمّ أرسله مرّة أخرى: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، ثمّ قال: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}.
2- عرض المعلومات المجمعة قال تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ…}.
3- تقييم المعلومات المعروضة وتقرير مدى صحتها: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.
4- إمداد المسؤولين وإطلاع القادة على المعلومات: فالهدهد كجندي من جنود سليمان رأى أنّ من واجبه أن يأتي بما حصل عليه من معلومات إلى مسؤوله وهو سليمان (ع): {وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}.
5- المباغتة والمفاجأة في جمع المعلومات وتوصيلها وغير ذلك من الدروس والعبر.
ومنها: قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
نلحظ في هذه الآيات الكريمة أنّ المعلومات السابقة لا تقتصر على بني البشر، فقد يستفيد منها الحيوان والطير، إذ استفاد النمل من المعلومات السابقة، فاستعمل وسائل الإنذار المبكر، إذ قالت نملة بلغة جنسها حسب ما وصلت إليه من معلومات: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} حفاظاً على حياتكم؛ لأنّ سليمان (ع) وجنوده ربّما يدوسون بأرجلهم فوقكم فتحطمون بغير قصد، فقد بيّنت السبب في توجيه هذا الإنذار إلى جماعتها من النمل بفضل المعلومات المسبقة التي حصلت عليها.
الآية الثالثة: قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}.
ونلحظ في الآيات الآتي:
1- استخدام أُمّ موسى مبدأ جمع المعلومات والحصول عليها في حفاظها على ابنها: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} والتقصّي إنّما هو تتبع الأثر وجمع المعلومات.
2- اختيار العنصر الأمين والحريص في جمع المعلومات لتكون صحيحة وموثّقة وأمينة، وقبل ذلك حريصة على تلك المعلومات: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ}.
فأُمّ موسى لم تختر غير أخته، لأنّ الأخت تعتبر من الحريصين والأمناء على تلك المصلحة، وهي تندفع من ذاتها في جمع المعلومات وتحصيل الأخبار، والمهم بمكان أن يكون العنصر المرسل في عملية الاستخبارات مندفعاً من ذاته حريصاً على المصلحة المرسل إليها.
3- التقصّي والتتبع بدون إشارة أو جلب أنظار: {قُصِّيهِ}؛ إذ نفهم من كلمة التقصّي الانتباه وعدم إثارة الأنظار، ودليل ذلك أنّها بصرت به دون أن يشعروا بها.
4- دقة الملاحظة وقوّة الفراسة أثناء جمع المعلومات {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
5- استعملت أُخت موسى شكلاً من أشكال الاستخبارات العصريّة وهو التخريب الفكري، فبعد أن نظرت إليهنّ وهن غير قادرات على إرضاعه: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}.
وظهر لنا ممّا تقدم من هذه الإشارات القرآنيّة: إنّ السعي للحصول على المعلومات عن العدو الداخلي أو الخارجي حتى يكون التخطيط على أساسٍ من أسباب القوّة ومظاهرها التي أمر الإسلام بإعدادها من أسباب التمكين التي ذكرت في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
هذه بعض الإرشادات القرآنيّة إلى الأخذ بهذا المبدأ والإعداد له والاهتمام به، ومن المعروف أنّ المخابرات الناجحة هي التي لديها القدرة الفائقة على تحليل المعلومات والتحرّي واستخلاص النتائج، ثمّ الاستدلال على نوايا العدو وتحرّكاته، وتقدير قوّته وعددها من خلال معلومات حتى ولو كانت بسيطة أو صغيرة أو عابرة قد لا يعيرها بعض اهتماماً.
ثانياً: في السنّة الشريفة
وقد استعمل النبيّ (ص) التحرّي، فقبل بدر استطاع المسلمون أن يعرفوا موعد وصول قافلة أبي سفيان من حديث عابر لجاريتين سمعهما عينان من عيون المسلمين، وكانت إحداهما تطالب الأخرى بدفع ما عليها من نقود، فقالت التي عليها الدَّين: إنّما تأتي العير غداً أو بعض غد فاعمل لهم ثمّ أقضيكِ الذي لكِ، فعاد عينا المسلمين وأخبرا النبيّ (ص) بذلك.
وأيضاً في حادثة بئر معونة قتل أهل نجد سبعين من قرّاء المسلمين غدراً، وبعث النبيّ (ص) عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمّد بن عقبة العوفي الأنصاري ليستبينا الأمر، فما دلهما على القوم إلاّ وجود الطير تحوم حول العسكر، فقالا: والله إنّ لهذه الطير لشأناً، فأقبلا ينظران، فإذا القوم في دمائهم، وإذ الخيل التي أصابتهم واقفة.
وفي ليلة بدر استطاع المسلمون أن يستدلوا على فزع قريش وخوفها من لقاء المسلمين على إسكاتهم للخيل ومنعها من الصهيل، فقد أرسل رسول الله (ص) عمّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود، فعادا فقالا: يا رسول الله القوم مذعورون فزعون، إنّ الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه . (كتاب : الأمن والمخابرات في الفقه الإمامي ، ص : 158 )
اسم الكتاب: الأمن والمخابرات في الفقه الإمامي
تأليف: حسين الخزاعي
تقويم النصّ: أسعد التميمي
المراجعة العلمية: نائل الحسيني
الإخراج الفني: علي الأسدي
الناشر: منشورات المحبين
المطبعة: الكوثر
العدد: 3000 نسخة
الطبعة: الأولى 1434هـ.ق2013 م