الاجتهاد: من الملاحظ أن الكتابة حول تجديد أصول الفقه بهذا المسمى ضبطاً وتحديداً، قد تأخرت كثيراً في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، التأخر الذي يعكس طبيعة الوضعيات التي كان عليها الفكر الإسلامي بصورة عامة، والوضعيات التي كان عليها أصول الفقه بصورة خاصة، وهي الوضعيات التي ما كانت تقترب من نزعة التجديد، وما كانت هذه النزعة أيضا تلفت الانتباه كثيراً.
وإلى ما قبل ثمانينيات القرن العشرين، كانت الكتابة حول تجدید أصول الفقه، هي بحكم الغائبة أو النادرة جداً، والتي لا تكاد تذكر، وتكاد تحسب بعدد الأرقام الأولى لقلتها الشديدة، والتي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة .
وهذه ملاحظة شديدة الأهمية من الناحيتين الفكرية والتاريخية، وهي بحاجة إلى التوقف عندها، والنظر فيها، کشفاً وتحليلاً لطبيعة هذا المآل.
وعند بحثه عن قضية تجديد أصول الفقه، وجد الشيخ علي جمعة أن كلمة تجديد في هذا النطاق الأصولي، ظهرت عند الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه “القول السديد في التجديد والتقليد”، المطبوع بمصر سنة 1287هـ، في حياة المؤلف وقبل وفاته بثلاث سنوات، ثم يعقب الشيخ جمعة على هذا الكلام بالقول: «وإن كان هذا العنوان هو الذي ظهر في المقالات التي نشرها في جريدة الروضة، إلا أنه نشر في صورة كتاب تحت عنوان – القول السديد في الاجتهاد والتقليد»(1).
والذي استوقف الشيخ جمعة في هذه المحاولة للشيخ الطهطاوي، هي كلمة التجديد التي وردت في عنوان المقالات، واختفت في عنوان الكتاب، ولم يذكر شيئا عن طبيعة محتویات الكتاب، وفي ما إذا كانت هذه المحتويات لها صلة بالتجديد فكرة أو عنواناً أم لا؟
وإذا تجاوزنا هذا الكتاب الذي اختفت منه كلمة التجديد عند صدوره، فإن العمل الذي يمكن أن نؤرخ له بوصفه أول كتاب حمل في عنوانه كلمة التجديد، هو كتاب السيد محمد باقر الصدر “المعالم الجديدة للأصول”، الصادر سنة 1385هـ/ 1965م.
والميزة المهمة لهذا الكتاب، هي الجمع بين كونه كتاباً في أصول الفقه من جهة، وكتاباً عن أصول الفقه من جهة أخرى.
كتاباً في أصول الفقه، لأنه يتحدث عن الموضوعات والقضايا التي هي في صلب علم الأصول، وكتاباً عن أصول الفقه، لأنه احتوى على مقدمة طويلة حول تاريخ تطور الفكر العلمي لأصول الفقه.
وأهمية هذه الميزة وقيمتها تكمن نظراً إلى كون المؤلفات الأصولية، إما أنها مؤلفات تناولت موضوعات وقضايا علم الأصول، وتحددت بها، وعرفت بأنها مؤلفات في أصول الفقه، وإما أنها تناولت موضوعات وقضايا حول أصول الفقه وتحددت بها، وعرفت بأنها مؤلفات عن أصول الفقه، ونادراً ما نجد مؤلفات جمعت بين هذين النمطين، ومن هذه المؤلفات النادرة كتاب المعالم الجديدة للأصول للسيد الصدر.
مع ذلك فإن هذا الكتاب لم يؤرخ له من هذه الجهة، وسلبت منه صفة حق السبق والريادة في كونه أول كتاب حمل في عنوانه ما يشير إلى كلمة التجديد، وجاء في هذا السياق التجديدي، ولهذه الغاية.
وفي هذا النطاق، يمكن الإشارة إلى نمطين من المؤلفات :
النمط الأول: المؤلفات التي تجاهلت كتاب السيد الصدر ولم تؤرخ له، وتغافلت عن ذكره كلياً عند الإشارة إلى المؤلفات التي تحدثت عن تجديد أصول الفقه، ويصدق هذا الموقف على كتاب التجديد في أصول الفقه .. دراسة وصفية نقدية الصادر سنة 1999م، المؤلفه الكاتب المصري شعبان محمد إسماعيل، فعند حديثه عن التجديد بمعنى إعادة بناء هيكل أصول الفقه من جديد، وبصورة تتلاءم مع مقتضيات العصر، انتقل المؤلف من كتاب رفاعة الطهطاوي القول السديد في التجديد والتقليد، إلى كتاب الدكتور حسن الترابي تجديد أصول الفقه الإسلامي.
النمط الثاني: المؤلفات التي جاءت على ذكر كتاب السيد الصدر، لكنها خصته وصنفته في نطاق المؤلفات الشيعية، ومن هذه المؤلفات ما أشار إليه الشيخ علي جمعة في كتابه قضية تجديد أصول الفقه، فبعد أن انتهى من تتبع المؤلفات والكتابات السنية التي تطرقت إلى قضايا التجديد في أصول الفقه، وجد الشيخ جمعة أن هناك معنی آخر حدده الشيعة في تجديد علم الأصول، ورجع في هذا المعنى إلى کتاب السيد الصدر، ونقل كامل كلامه عن مصادر الإلهام للفكر الأصولي، وختمه بالقول: «استفضت في ذلك النقل، لقلة اطلاع الجمهور على ما كتبه ويكتبه الشيعة، ولما فيه تلخيص منهجي لقضية تطور تجديد أصول الفقه».
وأكثر ما لفت انتباهي في هذه الإشارة من الشيخ جمعة، إنه لم يأت على ذكر اسم کتاب السيد الصدر مطلقا ولا أدري لماذا ؟ مع ذلك فإني أحسن الظن كثيراً بالشيخ علي جمعة بحكم معرفتي به، أقول هذه الملاحظة حتى أقطع الطريق على التأويلات البعيدة.
ومن هذه المؤلفات أيضا، ما أشار إليه الدكتور حسن حنفي في كتابه من النص إلى الواقع، إذ خصص فصلا تحدث فيه عن السمات العامة لأصول الفقه الشيعي، وعندما وصل إلى محور تجدید علم الأصول عند الشيعة، ابتدأه بكتاب السيد الصدر المعالم الجديدة للأصول العنوان الذي وجد فيه الإحساس بالجدة .
ومع أن هذا التصنيف كان بعيدا عن سياقات الإشكاليات المذهبية، مع ذلك فليس من الإنصاف الاكتفاء بهذا الحصر والتصنيف المذهبي، وإخراج كتاب السيد الصدر عن سياق المؤلفات التي يؤرخ لها في المجال الإسلامي العام، خاصة وأن هذا الكتاب جاء في طليعة المؤلفات التي اتخذت من التجديد عنوانا واتجاها في حقل الدراسات الأصولية، وله من هذه الجهة حق السبق والريادة .
ومن بعد کتاب المعالم الجديدة للأصول، بقيت المؤلفات التي حملت عنوان التجديد واتصلت بهذا المنحى على تباعدها الزمني الطويل نسبياً، فبعد کتاب السيد الصدر بعشر سنوات، أصدر الشيخ محمد جواد مغنية سنة 1975م كتابه علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، وبعد خمس سنوات من هذا الكتاب، أصدر الدكتور حسن الترابي سنة 1980م كتابه تجديد أصول الفقه الإسلامي.
هذا التباعد الزمني الطويل نسبياً بين هذه المؤلفات، لا يجعلها تذكر بعضها بعضا، ويضع بينها فواصل زمنية تباعد بينها، ويفقدها عنصر التراكم المنصل، ويسلب منها وحدة السياق، ويكون من الصعب النظر إليها في إطار سياقات موحدة أو مترابطة أو متقاربة من الناحية الزمنية والتاريخية، ويحل مكان ذلك النظر إلى هذه المؤلفات بصورة مفككة، تتخذ من كل كتاب على حدة، ويكون بمفرده بمثابة حدث له سياقه الزمني والثقافي.
وفي تسعينيات القرن العشرين لم يتغير الحال كثيراً، فقد صدرت بعض المؤلفات لكنها ظلت على قلتها الشديدة، وتباعدها الطويل، ففي سنة 1993م أصدر الشيخ علي جمعة دراسته المنشورة من قبل، أصدرها في كتاب بالعنوان نفسه قضية تجديد أصول الفقه، وفي سنة 1999م أصدر الكاتب المصري شعبان محمد إسماعيل كتاباً بعنوان التجديد في أصول الفقه .. دراسة وصفية نقدية .
ولم يتغير الوضع كثيرة خلال العقد الأول من القرن العشرين، فقد صدرت بعض المؤلفات القليلة، ففي سنة 2004م أصدر الدكتور حسن حنفي الجزء الأول من كتابه من النص إلى الواقع.. محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، وحمل هذا الجزء عنوان تکوین النص، وفي سنة 2005م صدر الجزء الثاني بعنوان بنية النص.
وفي سنة 2005م أصدر الكاتب المغربي أبو الطيب مولود السريري كتاباً بعنوان تجدید علم أصول الفقه، وفي سنة 2006م أصدرت دار الفكر كتاباً حوارياً بين الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور أبو يعرب المرزوقي بعنوان إشكالية تجديد أصول الفقه.
وما بعد العقد الأول من القرن العشرين، أصدر الكاتب المغربي الدكتور حسان شهید کتابين، الأول بعنوان نظرية التجديد الأصولي .. من الإشكال إلى التحرير صدر سنة 2012م، والثاني صدر في السنة نفسها بعنوان الخطاب النقدي الأصولي.. من تطبيقات الشاطبي إلى التجديد المعاصر.
هذا عن المؤلفات التي عبرت في عناوينها عن قضية التجديد في أصول الفقه، وهناك مؤلفات أخرى تطرقت إلى هذه القضية بين الأبواب والفصول، إلى جانب الكثير من المقالات المنشورة في صحف ومجلات ودوريات.
وبنظرة عامة يمكن القول بأن هذه المؤلفات مثلت نسقاً مهماً في حقل الدراسات الأصولية، وهي التي نهضت بالمهمة النقدية، المهمة التي كان أصول الفقه بأمس الحاجة إليها، وهي التي كشفت أيضا عن حاجة أصول الفقه إلى التطوير والتجديد والتحديث، ليكون علماً فاعلاً ومؤثراً في مجاله الفقهي والأصولي، وفي مجال الدراسات الإسلامية بصورة عامة، وليستعيد كذلك فاعليته وتأثيره في بناء وتوجيه الفكر الإسلامي، وفي صياغة العقلية الإسلامية المعاصرة.
مع ذلك فإن هذه المهمة التي نهضت بها هذه الدراسات، ما زالت مهمة قائمة ولم تنته، وما زالت هناك حاجة إلى مزيد من هذه الدراسات، وإلى تتابعها وتراكمها وتجددها.
الهوامش
1- نصر محمد عارف وآخرون، قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، ص 353.
2- نصر محمد عارف وآخرون، المصدر نفسه، ص 385.
المصدر: كتاب “تجديد أصول الفقه – دراسة تحليلية نقدية لمحاولات المعاصرين” للمفكر والباحث زكي الميلاد