تأثير البيئة المحيطة في اجتهادات الفقهاء.. مسفر بن علي القحطاني

تأثير البيئة المحيطة في اجتهادات الفقهاء .. مسفر بن علي القحطاني

الإشكال الذي سيتم تناوله في هذه السطور؛ يتناول مدى صحة التسليم بثبات النص، وهل من اللازم أيضاً ثبات جميع مخرجاته المستنبطة منه؟ كما أن هناك سؤالاً آخر؛ يتعلق بالفقهاء المجتهدين، فعلى رغم تحريّهم طرق الوصول للحقيقة، هل تأثروا بالبيئة التي حولهم وتشكّلت بناءً عليها استنباطاتهم؟ وإذا سلّمنا بتأثرهم بالبيئة الطبيعية، فهل كان تراثهم الفقهي نتاج هذا التأثّر؟

الاجتهاد: تأثّر الإنسان بالمحيط الذي يعيش فيه لا يحتاج إلى دليل أو برهان؛ لأن الواقع المشاهد يثبت كيف ساهمت الطبيعة في تشكيل الحياة من حولنا والسيطرة على أنماط الأحياء في أشكالهم وألوانهم وطبائع سلوكهم وتفكيرهم. ومع تسليمنا بهذه الحقيقة؛ نجد هناك فرعاً منها يحتاج إلى إثباتٍ بسبب حجج الإنكار التي تثبت عكسه، وتؤكد في شكل حاسم بقاء هذا النسق من دون تأثّر وتغيّر لارتباطه بثابتٍ أو جوهرٍ لا تجرى عليه طبيعة الأشياء المتغيرة.

وهذه المسألة هي المتعلقة بقراءة الوحي والاستنباط منه؛ فالوحي المنصوص من القرآن والسنة الثابتة منزّل من الله تعالى، وثبوته وصلاحيته لا يتعلقان بالزمان ولا بالمكان ولا بطبائع الأشياء، والإشكال الذي سيتم تناوله في هذه السطور؛ يتناول مدى صحة التسليم بثبات النص، وهل من اللازم أيضاً ثبات جميع مخرجاته المستنبطة منه؟

كما أن هناك سؤالاً آخر؛ يتعلق بالفقهاء المجتهدين، فعلى رغم تحريّهم طرق الوصول للحقيقة، هل تأثروا بالبيئة التي حولهم وتشكّلت بناءً عليها استنباطاتهم؟ وإذا سلّمنا بتأثرهم بالبيئة الطبيعية، فهل كان تراثهم الفقهي نتاج هذا التأثّر؟

وبمعنى آخر أقرب للمقصود، هل يحق لمن بعدهم أن يراعي تأثير البيئة في فقههم ويفصل بين ما كان نتاجاً من طبيعة البيئة ومؤثراتها فيعيد النظر فيه، وما كان من النص الثابت بالوحي فيجب البقاء عليه؟

مناقشة هذه التساؤلات تفتح الباب للنقد والمراجعة لكثير من مدوناتنا التراثية، وتشرع باب الاجتهاد في بحثها مرة أخرى عند تغير ظروف الحال والزمان والمكان، كما أنها تفتح الباب أيضاً لمقولات “تاريخية النص” وعدم التسليم بالوحي كنص صالح لكل زمان ومكان، فالخطاب الحداثي العربي المعاصر يريد قراءة النص الديني الإسلامي (الوحي) من زاوية الحداثة الكلاسيكية، ويوظّف “التاريخيّة” بوصفها آلية من آليات القراءة؛ لأنها تقضي بجعل النص مرهوناً بتاريخه، ساكناً فيه، متوقفاً عند لحظة ميلاده.

ويسوّغ الحداثيون (أركون، نصر أبو زيد، شحرور) هذا الموقف بالنظر إلى نتائج اللسانيات الحديثة وغيرها من نتائج العلوم الإنسانية، ولست بصدد مناقشة هذا الإشكال الحداثي في هذا المقال، بقدر ما نحتاج إلى فهم النص الديني وعلاقة الاجتهاد الفقهي بالبيئة الطبيعية التي عاشها الفقهاء، ومن خلال هذه السؤال، أحاول تقديم بعض الآراء في ما يلي:

أولاً: هناك علاقة قوية بين صناعة الأفكار ومصانع البيئة والطبيعة، وعلاقة اكثر قوة بين الأخلاق الراسخة والموروثة ومنتجات الأفكار، وكل هذه العلائق تتمازج في ذات الإنسان بطريقة يصعب الفصل بينها، وللنبي عليه الصلاة والسلام شاهد على ذلك جاء في قوله: “… والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم” (رواه البخاري، رقمه 4388).

ولابن خلدون في مقدمته كلام نفيس متقدم حول هذا التأثير يتجاوز ما قاله جالينوس والكندي، من خلال مقدمته التي أثبت فيها بالوقائع التجريبية أثر الهواء (المناخ) والجغرافيا في أخلاق البشر، وتبعاً لذلك تفكيرهم وسلوكهم وطبائعهم الحياتية، (انظر: المقدمة تحقيق درويش 1/ 194).

وهذا الجانب من العلاقة استفاض في بحثه ودراسته علماء الاجتماع المعاصرون وفي ضوئه تأسس علم الاجتماع البيئي، الذي يدرس تلك العلاقة التفاعلية بين البيئة الطبيعية وبين الإنسان وتأثيراتها العميقة في حياته.

ثانياً: عندما نُسقط تفاعل الإنسان ببيئته على المجال التشريعي، نجد أنواعاً من العلاقات التي توضّح مدى تأثر الفقيه بالبيئة، ويمكن بيان بعض أنواعها بما يقتضيه المقام، فالفقيه المفتي يجب عليه اعتبار تغير الزمان والمكان والحال في فتواه التي هي إسقاطٌ حكمي على حالة معينة مشخّصة تتطلب من المفتي اعتبار المحيط البيئي للمستفتي قبل الإجابة عن سؤاله، وقد قرر ذلك عدد من العلماء، كابن القيم الذي عقد فصلاً في تغير الفتوى واختلافها وفق تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وقال: “هذا فصل عظيم النفع جداً وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه”(اعلام الموقعين 3/11).

ولما تكون الفتوى مرتبطة بعرف الناس اللغوي والاجتماعي، فإن تأكيد مراعاة ذلك متعين، وإلا أصبحت الفتوى غلطاً وتجنياً على الشريعة القائمة على تحقيق المصالح وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها.

ثالثاً: الوجه الآخر من تأثير البيئة في اجتهاد الفقهاء، وهو النوع الصامت الذي لا يُعلن عنه، ولكنه يطرح التساؤل حول اختلاف الموقف من بعض القضايا وفق المكان والحال.

فالكل يعلم أن الإمام الشافعي كان له فقه في العراق معروف، فلما استقر بمصر بدا له رأي آخر وتغيرت بعض اجتهاداته، ولا يخفى أيضاً على القارئ في كتب التراث أن فقهاء الحجاز لهم توسّع في المأكولات فأباحوا أكل الثعلب (انظر: الكافي في فقه أهل المدينة 1/ 437) مقابل تضييقهم في المشروبات، ولأهل العراق توسع في المشروبات فأباحوا النبيذ ما لم يسكر واشترطوا في وصف الخمر ما كان عنبا فحسب، (انظر: بدائع الصنائع 5/112)، بينما رأيهم التشديد في الأطعمة فحرموا الخيل والضب، هذه الأمثلة التي أردت من ذكرها تقريب صورة الاختلاف بين مدرستين عريقتين في الاجتهاد كانتا تتبنيان آراء مختلفة قد يكون لبلوغ الأحاديث والآثار ودلالات اللغة أثر في هذا الاختلاف، ولكن هل كان للبيئة تأثير يُضاف على ما تقدّم من أسباب؟

هنا يصعب الجزم بهذا التأثير كما يصعب النفي أيضاً، ولعلي أميل لدور تأثير البيئة في الخلاف، فتباين المدرستين في مجال الأشربة والأطعمة ظاهر في طبيعة المجتمعين، وقد حاول ابن خلدون في مقدمته تعليل السبب في تمذهب أهل المغرب بمذهب الإمام مالك وليس مذهب أبي حنيفة، مرجعاً الأمر إلى الجغرافيا، مقرراً بأن رحلتهم كانت غالبًا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذٍ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولـم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة، كما أنه أضاف سبباً اجتماعياً آخر، وهو أن البداوة كانت غالبة على أهل المغرب، ولـم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، ولهذا لـم يزل المذهب المالكي غضًّا عندهم (انظر: المقدمة تحقيق درويش 2/172).

وبناءً عليه ربما كانت الأشربة والتفنن بها مظهراً للثراء والرخاء في العراق، فكان المجتمع أحوج وأرغب فيها، بخلاف مجتمع الحجاز الذي كان الشظف وقساوة البيئة سببين ربما في تجويز التوسع في الأطعمة البرية، حتى لو كانت من ذوي الناب والمخلب. وعلى العموم، فابن خلدون فيلسوف الفقه والاجتماع يُرجع تقدم العلوم والصنائع في أهل المشرق أكثر منه في أهل المغرب لغلبة سكنى الحضر وتطور العوائد فيهم واكتسابهم الفنون والتأنق في الإبداع المعاشي، ما جعل هناك فارقاً حقيقياً ينعكس على جودة العلوم والمعارف وحتى اختيارات الفقهاء، وهو ما استنتجه من أن غالب علماء الأصول والكلام كانوا من العجم الذين عاشوا في العراق وما وراءها.

رابعاً: يظهر أثر البيئة والطبيعة أيضاً في ثراء العلم وتنوعه وجودة تصنيفه، وكما سبق أن نقلنا عن ابن خلدون تقريره هذا الأمر في أكثر من موضوع في مقدمته، نضرب على ذلك شواهد من تراثنا القديم والجديد، فالدارس التراث الفقهي يلحظ تقدم الفقه السياسي في العراق من خلال مؤلفات (السيِّر) لمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ومؤلفات الأحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى الفراء، لأن العراق وقتذاك حاضرة الخلافة وهو على الثغور ويقود الفتوح، فالحاجة والبيئة أبرزتا تقدماً تصنيفياً في هذا العلم بسبب كثرة النوازل والمستجدات، بخلاف المغاربة والحجازيين والمصريين من حيث البدء والأسبقية في التصنيف،

واليوم نلحظ جودة التأليف وعمقه في الأطروحات العقلية ذات العلاقة بالدين عند المغاربة أكثر من المشارقة؛ ربما بسبب الاحتكاك المعرفي مع المدارس الفلسفية الأوروبية أثناء فترة الاستعمار التي أثّرت في بناء المنهجية العقلية للباحث والمثقف، بينما تجد قوة علوم العربية وفنونها أعظم في المشرق بسبب تمجيد القومية العربية لهذه الفنون ومدارسها منذ منتصف القرن الماضي، بما لم تزاحمه كثيراً علوم الاستعمار الغربي ولغاتها.

خامساً: لو رجعنا لحالة التشدد والغلو في الخطاب الديني والتصنيف الفقهي وسبب بروزه في بعض البيئات من دون بعضها الآخر، لربما قادتنا الأسباب ذات في اعتبار دور البيئة في صناعة الفقه المتشدد وتناميه، فالبيئة المتعددة التي تلاقحت فيها الثقافات وتنوعت، وتعارفت فيها اللغات والحضارات، بيئةٌ لا يمكن أن تكون خصبةً للرأي الواحد والفقه القطعي والتعصب على الموروث بلونه الصامد لعقود من الزمن، لهذا كانت بيئة الصحراء ومناطق شظف العيش والبعد من الحواضر المتعددة الثقافات، مُسهمة بشكل كبير في خلق الآراء المغالية أكثر من غيرها، سواء في التشدد، أو في المفاصلة مع المخالف والميل للقطعي في العقيدة والشريعة، ولعل بيئة الجزيرة العربية وبعض مدن الصحراء الغربية في القرن الماضي مثال على هذا النوع من الحواضن البيئية التي ينمو فيها الغلو والتشدد.

سادساً: هناك بيئات مؤثرة جداً في الصناعة الفقهية وليس للجغرافيا والطبيعة دور فيها، لكنها تصنع فقهاً مختلفاً له طبيعته التي قد يتميز بها نشازاً وخروجاً عن المألوف، وأقصد بيئة البلاط السلطاني التي تحكمها أعراف السياسة وحزم التعامل وضرورة الهيبة وسد ذرائع الفكر الحرّ بكل وسائل القمع، وهذا النوع من الفقه المتكوّن في تلك البيئة حضر في لحظات تاريخية كثيرة، كانت تمثّل نوعاً من التجاوز والانحراف،

ويضرب قتادة بن دعامة التابعي الجليل مثلا على ذلك بقوله: “إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث” (انظر: شرح كتاب الإبانة عن أصول الديانة لابن بطة 4/ 37)، فبعد ثورة ابن الأشعث وقضاء الحجاج عليها برزت في الأمة فكرة الارجاء بحيث يكفي التصديق في ثبوت الإيمان من دون الحاجة الى العمل ويسمى بإرجاء الفقهاء تسويغاً للإستبداد السياسي فقهياً وعقدياً، كما أن هناك بيئة أخرى حاضنة للجنوح الفقهي، وهي التي يعيش فيها الفقيه تحت ضغط الجمهور أو أضواء الإعلام ويصبح مرتهناً لمطالبهم وانعكاساً لرضاهم وباحثاً في شكل فاقع عن تصفيقهم وتجميعهم خلفه، وهذا النوع المعاصر من التلون الفقهي الفاضح وفق موجات المجتمع وتقلبات الجماهير، مآلاته متناقضة ومسيئة على ذاته وعلى الشريعة حتى لو حمل في قلبه نية طيبة، وقد تكلم عن هذه الظاهرة الباحث الفرنسي باتريك هايني في كتابه المعروف (إسلام السوق 86-95).

وختاماً، يظهر مما سبق أن للبيئة الحاضنة للفقيه دوراً كبيراً في اختياراته وتصنيفاته الاجتهادية، وحتى لا تضيع بوصلة الشريعة تحت ضغط البيئات المتنوعة التي سبقت الإشارة إليها، فإن العاصم من هذا الجنوح الفاتن باسم الشريعة هو العودة لمقاصد الشريعة وتحقيق أهدافها، لأن الفقيه لا يصادم نصاً صريحاً أو إجماعاً قطعياً؛ بل الغالب أنه يسير في فهمه الاجتهادي وفق مؤثرات البيئة الضاغطة بنعومة أو بقسوة، والتي هي بلا شك خلاف منهجية الاستدلال العلمية، ومقاصد الشريعة حينئذ ستكون هي الضمانة للتأكّد القبْلي والبعدي من صحة الاجتهاد وسلامة منهجه؛ بحيث لا يخرج عن الأهداف الغائية التي قامت عليها الشريعة من جلب المصلحة ودرء المفسدة وبيان العدل ورفع الحرج وإصلاح الخلق.

 

 

المصدر: الحياة

* باحث وأكاديمي سعودي، حاصل على دكتوراه في أصول الفقه الإسلامي، أستاذ أصول الفقه بقسم الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة الملك فهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky